الذوق الصوفي...

الذوق الشعري...

 

عبد الكريم الناعم

 

منذ البداية – وبلا مقدمات – لنقل إن في تضاريس الشعر العربي ما في الأرض العربية وما في نفس الإنسان العربي من صخور، وأعشاب، وجبال، وسهول، وبحار، وشجر، وحالات، وفصول... فليُدخَل إليها من هذا الباب. وإن هي إلا استجابة لحالة "ذوقية"، بعضها مكتسب، وبعضها الآخر يتولَّد عبر عملية التنقيب في الداخل – داخل الذات، وداخل النص. و"الذوق"، كما هو معروف، يختلف باختلاف الأشخاص، وباختلاف "الأحوال". ولا بأس من إيراد معاني "الذوق" في المصطلح الصوفي، ومحاولة إشاعته، في جريان خاص، عبر النص، لا كمنهج وحيد، بل كواحد من الطرق السالكة؛ خاصة وأن بين الشعر والصوفية وشيجة من نوع خاص.

الذوق

تقول د. سعاد الحكيم في الحكمة في حدود الكلمة: المعجم الصوفي: "الذوق، على بساطته، له خطورة كبرى في بنيان العرفان الصوفي." وأقول بأن له نفس الخطورة في بنيان العرفان الشعري. فهو يختلف، كأثر، ويتعدد بتعدد الذائقين، لأن مفردة كـ"العشب"، أو "البحر" ليست واحدة في التذوق، لخضوع هذا الأمر للتجارب والخبرات والذكريات. وينسحب هذا، بشكل ما، على الصورة وعلى التعبير الجُمَلي. وبحكم هذا الاختلاف، تختلف الكتابة عن النص الواحد بتدرُّجات وتموُّجات صادرة عن تلك الأعماق، بما فيها من ثقافة أو ثقافات.

تقول د. الحكيم في كتابها السابق: "... لا يمكن معرفة ما ينتج عن الذوق إلا بالذوق." وهي حالة تصعب ترجمتها بدقة كافية، وإنما من الممكن مقاربتها. وتلك هي المسافة الفاصلة، عند الفنان المبدع، بين الأحاسيس المتكوِّنة في جَوَّانيَّته والعجز الذي تشكو منه الأدوات المعبِّرة. وبذا تصبح معرفة الذوق بالذوق مقيَّدة بذاتية الذائق وفردانيَّته. وذلك مظهر من مظاهر فرادة البصمة.

يقول ابن عربي في الفتوحات المكية: "الذوق أول مبادئ التجلِّي." ويمكن القول عنه، في الشعر، بأنه أول وأهم مبادئ استجلاء النص.

ويقول ابن عربي في الفتوحات أيضاً: "لكل تجلٍّ مبدأ هو ذوق لذلك التجلِّي." وبتطبيق هذا القول على الشعر يمكن أن نجعله في الصيغة التالية: لكل نص شعري مبدأ هو "ذوق" لتجلِّيه، بمعنى أن النص تجلٍّ شعري، بحكم أن "التجلِّي" ظهور وكشف. والظهور لا يعني القدرة على الإحاطة، بل هو الترائي في مجال الإقدار على الرؤية. وتلك هي بعض رحابات خفائية النص التي تصبُّ في محيطات الذوق كما ترجع المياه إلى البحار الزرقاء الواسعة.

ولأن العلاقة عضوية بين التجلِّي – الذي هو كشف وظهور – والذوق، وكلا التجلِّي والذوق أحدهما مقرون بالآخر، فلا كشف بلا ذوق، كما لا ذوق بلا كشف، في مجال النص الشعري. لذا نتتبَّع ما قاله ابن عربي عن التجلِّي فيما يلي: "... وهذا [الذوق] لا يكون إلا إذا كان التجلِّي الإلهي في الصورة، أو في الأسماء الإلهية أو الكونية مبدؤه: عينُه... ."

لنأخذ هذا المفهوم الصوفي ولنتعامل معه، وبه، مع الشعر، بعد تحويله إلى عملة النقد الشعري؛ فيصبح كما يلي: وهذا [الذوق] لا يكون إلا إذا كان الكشف في الصورة، أو في المفاهيم، أو الكونيات.

فالصورة، بأنواعها، تُعتبَر مفتاحاً وأداة من أدوات الشعر الحديث؛ و"المفاهيم" والمجردات تأتي بحكم كونها كما هي عليه، أو "بالإحالة". فالنسر، مثلاً، قد يأتي نسراً طائراً بدلالته الطيرية، وقد يتحول إلى رمز، في الشعر، كما في الحلم. أما "الكونيات" فيمكن أن تمدَّ مظلَّتها لتتسع للشموليات المادية والروحية، من تعداد المفردات المحيطية، من أنهار، وبحار، وغابات، وسحب، ووعول، وورود، إلخ، حتى الاشتعال الجَوَّاني والإبحار بأشرعة تلك النار في سماوات الله الكبرى.

ويكاد ابن عربي، في نفس المصدر، يتكلِّم عما يليق بالشعر العظيم، والحداثوي منه بخاصة، فيقول: "فإن كان التجلِّي في الصور فالذوق خيالي، وإن كان في الأسماء الإلهية والكونية فالذوق عقلي." وبتحويل هذه العملة يمكن أن تصبح كما يلي: فإن كان الكشف أو الظهور في الصور فالذوق خيالي، وإن كان في المفاهيم والمجردات والكونيات فالذوق عقلي. وهكذا يصبح "الذوق إشارة إلى تنظير التجربة، أو المذهب الناتج عن تجربة صوفية معينة، أو كل ما يمتُّ إلى العلوم التي حصلت بهذا الطريق [الذوق]. فالذوق: لغة علم مشترك بين أصحاب التجربة الواحدة. وكل علم لا يكون عن تجلٍّ يبدأ بالذوق فليس من العلوم الذوقية." (سعاد الحكيم، المصدر المذكور)

عند هذه النقطة يفضَّل أن نتنبَّه إلى أن ابن عربي يقدم لنا إمدادات لها مواصفات سبقية حين نأخذها، بعد تحويلها، كمعايير شعرية. فهو يضع في أيدينا هذه المفاتيح:

التجلِّي: الكشف أو الظهور في:

الصورة – الصورة الشعرية

الأسماء الإلهية – المجرَّدات والمفاهيم

الأسماء الكونية – التعداد المحيطي

ومن بعدُ يخطو خطوة أخرى هامة في مجالها التنظيري فيعتبر التجلِّي – الكشف بالصور – ذوقاً خيالياً، وفي الأسماء الإلهية والكونية عقلياً. وقد سبق أن قال: "فإن كان التجلِّي في المعنى فعين مبدئه: عينُه." فأيُّ تطابق بين هذا النص الفكري الصوفي وبين التنظير أو النظم الشعري؟

التجلِّي والصور

إنني أجد تطابقاً ما بين هذا الكلام الصوفي المأخوذ من المجاهدة والدخول في التجربة (الخلوة) وبين النظر العميق والثقافة العالية؛ أجد تطابقاً ما مع ما يتفق والرؤية الحديثة للشعر، في جوانب متقدمة منها. على أن هذا الرأي الذي أسوقه يحتاج إلى شيء من البرهان؛ إذ كيف يُعتبَر التجلِّي–الكشف بالصور ذوقاً خيالياً والصورة منظور، أو مكوَّن، أو صياغة حسية؟ فمن أين جاء هذا الاقتران، في مصداقيَّته، بين ما هو حسِّي، صوري، وبين ما هو خيالي؟ وكيف يُعتبَر تجلي المجرَّدات والمفاهيم (الأسماء الإلهية والكونية) عقلياً؟ وكيف يكون التجلِّي في المعنى عين مبدئه: عينه؟

من أجل هذا الإيضاح لابدَّ من ملاحظة ما يلي: النص، في كشفه، – ولا أعني بساطة تقريرية مباشرة، بل أعني تجلِّي النص، ظهوره الذي يعني وجوده – هذا النص حين يعتمد على البناء الصوري فهو "خيالي"، بالدرجة الأولى، و"عقلي"، بدرجة ثانية.

هو خيالي، لأنه يصوغ صور النص بحيث يحسب، أو يظن، أنه يقترب، أو يقترب فعلاً، من خلق نص شاعري إبداعي يضع التجربة التي تعنيه قريبة من المتلقِّي – حتى ليكاد يكلِّمه بموحيات خاصة شيفروية يبثُّها على موجات خاصة بالمتلقِّي – خصوصية بصموية، إن شئت. وعبر عملية البث والتلقي يتولَّد وسيط فني، روحي، يسمح بالمزيد من التواصل – حتى ليصبح القارئ في تلقِّيه، في شحنه، في انفعاله، هو، بشكل ما، الشاعر. وهو سرُّ ذلك التوحُّد في درجاته العليا بين الشاعر في نصِّه، والقارئ في "شاعريَّته": نزوعه الشاعري إلى الالتحام بشاعرية النص. هذه الحالة تشبه إلى حد كبير بلوغ السالك مرحلة من قبول الفيض، حتى ليشطح، فيزعم، أو يقول، إنه "عين المُفيض".

بمثل هذا التوحُّد بين النص والمتلقي تتم الشهادة لكليهما ببلوغ درجة عليا: هذا في إيقاظ وإشاعة الحياة الفنية، الساحرة، المدهشة في ذاك، وذاك في تطابقه الرفيع المشتعل.

إن ما هو عادي، أو شبه عادي، لا يخلق مثل هذه الحالة. وهذه – التي هي التوحُّد – قد تتحقق بواحدة مما ذكرناه (خيالي، عقلي، عيني)، أو باثنتين، أو بثلاثة.

إن بناء الصورة، في أصله، خيالي؛ إذ يلعب الخيال المبدع دوراً كبيراً في تركيبها مما هو محسوس، لتتحوَّل إلى محسوس ساحر. وهي النقلة التي يتحول فيها الطين، كمادة أولى، أساس، إلى جسد حارٍّ ينبض بالعواطف والاحتراق.

لنأخذ هذا المقطع من قصيدة للشاعر محمد عمران من مجموعته الأزرق والأحمر:

القمح، صوتك، لم يعد أخضرْ

فلِمَ البطاقات التي تدعو العصافيرا

ولِمَ السفارات التي أنشأتَ عبر عواصم

الأعناب والسكر؟

ولِمَ القناديل التي أشعلتَ،

تجتذب المزاميرا

القمح، صوتك، لم يعد أخضر

فاجلس إلى شفتيك يابستين،

وانتظر المساميرا

الصورة تتجلَّى هنا في القمح الذي هو أخضر، والذي صار، بقدرة شاعر، صوتاً أخضر؛ والبطاقات تدعو العصافير؛ والسفارات المنشأة عبر عواصم الأعناب والسكر؛ والقناديل تجتذب المزامير... هذه التراكيب التي جرت صياغتها خلقاً جديداً، فجاءت حاملة مادة الواقع خارجة في صورة غير مألوفة، فيها من الجاذبية والإدهاش والسحر ما يُبهِر؛ وهي من نشاط الخيال الذي يؤلف بين هذه التراكيب بحساسية فنية خاصة. ولست أعني الإغراب؛ إذ يستطيع شاعر ما أن يقول: "القمح اسمك"، أو "البطاقات تدعو الأصحاب"، أو "السفارات أنشئت عبر عواصم تحبُّ الإقعاء على ذيلها تحت ماء المطر البرتقالي"، مثلاً؛ كل هذا ممكن. غير أن جَوَّانية الشاعر هي التي تختار هذه أو تلك؛ موهبته هي التي تتجلَّى. أما تركيب الصورة التي يتم جلاؤها في أفقها الشعري الخاص فهي، في قسم منها، نشاط خيالي. وذلك هو التجلِّي بالصور.

هنا يجدر بنا الانتباه إلى أن كل الصور التي هي فوق واقعية هي نشاط، أو تأليف خيالي، كالحصار الذي له جناحان، أو الحجر الذي يقبِّل ثغر أرنب بنفسجي. ولستُ هنا بصدد مشروعيَّة الصياغة وقيمتها – فذلك أمر آخر. بيد أن هذا كله من فعالية النشاط الخيالي.

المفاهيم والمجردات، سواء أكانت قائمة في الذهن كالبياض، والحق، والخير، أو جرى تحويلها وتصعيدها لتدخل في ساحة التجريد شعرياً، هي قائمة في "الصور"، و"ما لا صورة له يوشك أن يكون عدماً"، كما يقول الإمام الصادق جعفر بن محمد، كالشجر، والبحار، والثورة، والحب. فهي نشاط عقلي بدرجة كبيرة، لأنها، في إطلاقيَّتها، ترفع إلى ذلك الموقع بالعقل.

أما العيني فهو التركيب الذي يحمل تساوي المعادلة حين تبقى الصورة أو المعنى أو المفردة في حدود التعبير عن الحالة، ساوَتْها أو قصَّرت عنها؛ كأن يبقى الحجر حجراً، والقمح قمحاً، والعصفور عصفوراً. وحينئذٍ، كمعنى، يكون عين مُبدئه: عينه، في حالة من الحرص على تساوي الكفتين.

ثمة هنا سؤال: ما العلاقة بين ما هو خيالي، وما هو عقلي، وما هو عيني؟

ثمة علاقة وجودية، إيجادية، بينها. فلكل تركيب منها وجوده الخاص، وثمة استمدادات. فما هو عيني مشاهَدٌ بالعين؛ وما هو في تجلِّيه عين مُبْدئه يرفع مشاهداته البصرية إلى ما هو عقلي بنشاط تجريدي خاص؛ وما هو عقلي يرفع مفاهيمه ومجرداته الكونية إلى ما هو خيالي. وإذن: من عين الشيء، إلى مجرَّداته، إلى الصورة التي هي أعقد تركيباً وأشفُّ وأعلى تعبيراً.

والاتجاه ليس ذا جهة واحدة، بل هو في امتداده يحمل جهتي الصعود والهبوط، بما في ذلك من درجية متوفرة. وبذلك تكون المقاربة العليا، في مستوى واحد، تتقابل مع الحركة التنازلية؛ وذلك هو صورة الضدية في هذا المقام. فالمقامات متداخلة، ولها علاقاتها العضوية – ولا أقول الجدلية؛ فكما يُصعَّد النسغ والتوق والإفصاح، وكما يجري المدَدُ والإلهام ويهطل المطر في حركة هبوطية من حيث الاعتبار، كذلك شأن المقامات.

الذوق والانطباع

ثمة نقطة تستوجب طرح هذا السؤال: هل الذوق، أو الذوقية، هي الانطباعية بشكل ما؟

ثمة تلاقٍ، وثمة افتراق بين الذوقية والانطباعية:

أما التلاقي فهو أن كليهما يتأثر بـ:

-       الحساسية الذوقية للمتلقي

-       الخبرات الشخصية

-       الثقافة

-       البيئة الجغرافية والتاريخية

بهذا المعنى تكون الحساسية طريقاً فنياً، وسلوكاً تذوقياً يتعامل مع الأثر، فتتولَّد المعاني، أو تُثار، أو تنطبع، في ذات المتلقي؛ ومن ثَمَّ يتعامل معها، فهماً أو تشكيلاً كتابياً. وبالتفاعل بين النص والمتلقي حين يكون ناقداً، يشكِّل النص، بمعانيه وموحياته، الأرضية الضرورية؛ وما ينتج فيما بعد يجيء على واحد من الضروب التالية:

-       إما أن يقصِّر عن النص، أو يتعمَّد صنع العيوب فيه، فيسيء إليه، باستحقاق، أو بافتئات؛

-       وإما أن يوازيه، فيواكبه، شرحاً أو تفسيراً أو إضاءة؛

-       وإما أن يتغلغل في ثناياه، بجدارة، فتكون الإضافة تأليفاً جديداً يُعتبَر النص مفتاحه الأول.

أما الاختلاف فهو أن الذوقية التي أعنيها تحتاج إلى استيعاب مخصوص للتجربة الصوفية الجَوَّانية، كحالة نفسية – شعورية ولاشعورية – باعتبار الذوق نقطة بؤرية مشتركة بين الشعر والصوفية.

عند هذه النقطة تتخلَّف الانطباعية وتتأخر، فيحدث التباعد بينهما بالمفارقة. وهكذا تتكشف بالذوقية آفاق إضافية تُزاد على النقاط المشتركة؛ وهو أمر، في بعض ما هو فيه، ينتج عن القرار المعتقدي، الحالوي. فمثلما تُحيل بعض المدارس الأدبية النص على العلاقات الاجتماعية وحدها، أو على بنيوية ما، فإن الذوقية، في أهم جوانبها، تستكشفه من جانبه الذوقي في بلوغه درجة من الاحتراق والحضور المتوهج. ويمكن القول إن في الذوقية إشعاعاً من الانطباع؛ على أنها أوسع منه. كما يمكن القول إنها، في الزمان والمكان، نصٌّ. وهي، خارجهما، ذوق، كأي أثر إبداعي عظيم يقارب المطلقات، إن لم يقتنصها. وهنا لابدَّ من التأكيد على أن الذوقية يمكن تطبيقها وإشاعتها في كل المناهج النقدية، دون أي تعارض؛ بل هي موجودة لدى كل ناقد يتعامل مع النص بذاتيَّته التذوقية.

ثمة سؤال هام لابدَّ من طرحه وهو:

هل الصوفية التي يتردَّد ذكرها هي تلك النماذج الشكلية والفِرَقية والطقوسية التي تحدَّرت إلينا من عصور الظلام، كخيار فردي، أو كظواهر ارتدادية مجتمعية؟ الجواب بكل تأكيد: لا. بل نحن بصدد الذوقيَّة منها، كنقطة روحية مشتركة في ذوقيَّتها، بين كل من الصوفية في حالتي التجلِّي والوجد وتذوُّق الشعر في حالة من امتلاك قدرات خاصة على استكشاف النص وخلْق، أو تخلُّق، عالم جديد ينبثق من ثنائية النص والتلقي وتوحِّدهما.

عند هذه النقطة تجب الإشارة إلى العلاقة الخاصة القائمة بين التجلِّي (الكشف، الظهور) والذوق؛ إذ العلاقة عضوية، ديناميَّة. فلحصول الذوق يُشترَط التجلِّي (ظهور النص)، ولاكتشاف خصوصية وسِرَّانية النص يُشترَط الذوق كمفتاح خاص. ولا نزعم أنه مفتاح وحيد، بل هو خاص بدرجة عالية.

هذه العلاقة الدائروية بينهما تُذكِّرنا بالدائرة الكونية:

-       الكون كروي.

-       الدائرة أكمل الأشكال الهندسية وأكثرها قلقاً.

-       النور كروي، كما يقول أحد العارفين.

هذه العلاقة الدائروية، الكروية، تحمل مؤشرات كمالها وقلقها معاً. فنحن في هذه الدائرة نبدأ من علاقة عضوية مشتركة، تردُّدية، اكتمالية؛ نبدأ من إحدى نقاط محيط الدائرة، أو من نقطة تمتد قطراً فيها، تنطلق من المحيط لتصبَّ فيه، حتى إذا أخرجنا القطر خارج دائرة الأرض يبدأ انحناءه الجديد لتلتقي المتوازيات بعيداً عن المركز، ربما لتدخل في مركزية جديدة من أجل أن تكتمل دائرتها. واكتمال هذه الدائرة، فنياً، هو في تلاقي التذوُّق العظيم مع النص العظيم.

تكبر الدوائر وتختلف اتساعاً، وتظل درجاتها واحدة، من الذرة الدنيا وحتى قبة الفلك. ولعل في الشعر ما "يشبه" ذلك – ولا أقول إنه "يتطابق" معه. فكل ومضة تمتلك إدهاشها الساطع: دائرة في ذلك الفلك الإبداعي، المثير، المدهش، سواء أكانت شاعرية شاعر كالمتنبي وأبي نواس وابن الفارض ونيرودا، أو كانت قصائد لدى شاعر أو مقاطع أو مقطعاً في قصيدة (فامرأة لا تمتلك من جمال الوجه سوى عينين جميلتين لا يقال فيها إنها جميلة، بل يقال هي غير جميلة الوجه ولكن عينيها جميلتان.)

الذوق كمفهوم فني

لمزيد من الإيضاح، نذكر شيئاً من المطابقة بين الذوق بمعناه الصوفي وصلاحيَّته كمفهوم فني.

تقول د. سعاد الحكيم في كتابها: "الخلق في مذهب ابن عربي ليس إيجاداً من العدم بل هو ظهور وتجلٍّ إلهي..." (ص 889). يمكن لهذه الجملة أن تصبح على الشكل التالي: "الخلق الشعري ليس إيجاداً من العدم بل ظهورٌ وتجلٍّ إبداعي".

أما عن العلم والذوق فنورد عن الفتوحات لابن عربي قوله: "فإنه قد يُتخيَّل في الإنسان أنه إذا علم شيئاً فهو صاحب ذوق له؛ وليس الأمر كذلك. فالذوق لايكون إلا عن تجلٍّ، والعلم قد يحصل بنقل الخبر الصادق الصحيح."

وهذا الكلام ينطبق بدقة نادرة على الناقد. فأنت واجد – ولابد – رجلاً حفظ الكثير، درس الأدب ومدارسه، وهو قادر على أن يرتجل محاضرة قيِّمة في هذا الميدان؛ حتى إذا تعرَّض لاستجلاء نص شعري من ذلك الشعر الذي يُكتَشَف ويُهتدى إليه بمفاتيح الذوق والبصيرة وجدتَه وقد طفح عجزه عن استجلاء جمالية النص وسِرَّانيَّته. إن معرفة مثل هذه علم وتجميع وتكديس، ينقصه الذوق، الحاسة الجَوَّانية، الموهبة.

لاشك أن العلم يؤهِّل صاحبه للتصنيف ولاستخراج بعض النتائج والظواهر والإحصائيات. ولكنه غير مسؤول عن فقدان الذوقية التي تتكوَّن في سماوات الموهبة، حتى لترفَّ في كثير من الأحايين بأجنحة الشعر. والذوق، كما قال عنه ابن عربي: "حالٌ يفجأ العبد في قلبه." ومثل هذا "الحال" يصعب تعريفه بقدر ما يصعب تعريف "الموهبة"؛ فهما مشتركان في خفائهما وفي ظهور آثارهما.

ثمة جانب أخير، وهو أن الذوق لا يحيط، حكماً، بكل جوانب ما هو "ظهور"؛ فهو يستجليه، ويقاربه، ويلتحم به، ويقتبس منه. غير أن النص، الشكل، أو المعنى، في كشفيَّته، يظل منبعاً من جهة، ومنيعاً من جهة ثانية. فهو منبع حين يكون النص–التجلِّي عظيماً لكل راغب في ارتياده، قابل للتعدُّد بتعدد وُرَّاده (ولو لم يكن كذلك لاستنفد هذا النص أول وارد عليه). فلكل وارد، بما يحمله من موهبة، وفردانيَّة، قدرة محدَّدة، وانجذاب خاص. فهو مشدود إلى الكشف–النص بميوله، وتلاؤماته، وقدرته على الاستبصار، ومن أية زاوية، زماناً ومكاناً. فما من شيء خارجهما في حضورهما الروحي.

ولقد قال ابن عربي في الفتوحات: "... ولكن ليس من شرط كلِّ مقام إذا دخله الإنسان ذوقاً أن يحيط بجميع ما يتضمَّنه من جهة التفصيل."

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود