|
عبد
القاهر الجرجاني وأسرار البلاغة
الجرجاني
قمة النقد العربي القديم وهو صلة الوصل بينه
وبين الحديث
يوسف
سامي اليوسف
أسرار
البلاغة
أخذ النقد الأدبي التراثي ينمو
ويتطور ابتداءً من أواخر القرن الثاني الهجري
(الثامن الميلادي)، ولاسيما بفضل جهود رجل
موهوب يسمى عبد الملك الأصمعي. ومع أن القرن
التالي قد أضاف الكثير – بل كان الطور الذي
بَلْوَرَ النقد الأدبي ورسَّخه على نحو غزير
الحضور – فإن هذا الإيقاع الثقافي لم ينضج
تمام النضج إلا في القرن الرابع الهجري (أو
العاشر الميلادي)، يوم نضجت الثقافة العربية
كلُّها، وبإيقاعاتها كافة على وجه التقريب.
ففي ذلك القرن عاش الآمدي، صاحب كتاب الموازنة،
والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، صاحب الوساطة،
الذي أراه أفضل كتاب عن المتنبي حتى يوم الناس
هذا. كما عاش في ذلك القرن نفرٌ من جلة النقاد
التراثيين، كالمرْزباني والعسكري وابن
طباطبا وسواهم. بيد أن النقد التراثي قد ثابر على
نموِّه حتى زمن ابن خلدون المتوفى سنة 1406.
ولكنه بلغ ذروة شاهقة في القرن الحادي عشر
الميلادي، وذلك على يد عبد القاهر الجرجاني
الذي توفي عام 471 هـ/1078 م والذي أنجز كتابين
نادرين في مضمار الدراسات الأدبية، أولهما دلائل
الإعجاز وثانيهما أسرار البلاغة في علم
البيان؛ هذا فضلاً عن كتبه في النحو، وكذلك
عن اشتغاله بموضوعة إعجاز القرآن التي اهتم
بها القرن الرابع أيَّما اهتمام. الينبوع
الأول
ومما هو جدير بالملاحظة أن عبد
القاهر كان شديد التأثر بالقاضي صاحب الوساطة،
وكذلك بالقاضي عبد الجبار الجرجاني، شيخ
المعتزلة في القرن الرابع الهجري. ومما هو
معلوم أن المعتزلة قد انهمكوا إلى حد بعيد
بتأويل القرآن على ضوء العقل. وبلغ هذا
التأويل العقلاني أوجه في كتاب الكشاف
للزمخشري المتأثر ببلاغة عبد القاهر،
والمتوفى بعده بستين سنة على وجه التقريب.
فمما هو مؤكد أن دراسة القرآن الكريم قد
حرَّضت الدائرة العربية الإسلامية على دراسة
الشعر العربي، وذلك بوصفه الينبوع الأول
للُّغة العربية. كما أن دراسة العرب للقرآن
والشعر كليهما قد أفضت على نحو تلقائي إلى
تطوير معرفتهم بالبلاغة وبالنقد في آن واحد.
فليس من قبيل الصدفة البتة أن تكون الدائرة
العربية هي الأسبق إلى تأسيس حركة نقدية
أدبية في التاريخ، بدلاً من ظهور مقالة نقدية
هنا وأخرى هناك، كما كان عليه الحال في
الدائرة اليونانية–الرومانية. مزايا
عبد القاهر
لقد كان موقفاً عشوائياً غير
مسؤول ذاك الذي راح يجعل من عبد القاهر مجرَّد
ملحق ثانوي بأرسطو. أقول هذا مع قناعتي التامة
بأن صاحب أسرار البلاغة شديد التأثر
بالفيلسوف اليوناني. وربما ضارعه في ذلك حازم
القرطاجني وحده من بين جميع النقاد الذين
كتبوا باللغة العربية. فللحق أن مناخ كل من
الرجلين – أقصد الجرجاني وأرسطو – يختلف عن
مناخ الآخر إلى حد التمايز والتباين. ومما هو ناصع لكل نزيه أن عبد
القاهر يتمتع بجملة من المزايا لم يقتبسها من
أحد. أما المزية الأولى فهي ذلك الأسلوب
الرشيق المترع بالحيوية والاخضلال. والأسلوب
شأن فردي مثل بصمة الإبهام، لا يقبل التعلُّم
ولا التعليم إلا في المستوى الأولي وحسب. وثمة
مزية أخرى لم يعرفها سواه من النقاد أو
الفلاسفة الذين سبقوه، وهي تأسيس البلاغة
ومعايير النقد الأدبي على أسس نفسية، أو
داخلية، وذلك لأول مرة في تاريخ النقد كله. بيد أن أهم مزاياه على الإطلاق
تتلخص في نزوعه إلى الربط أو إلى التوحيد.
ولعله في هذا أن يكون قد صدر عن الصوفية التي
كانت قد نضجت إلى حد بعيد في القرن الخامس
الهجري. إن المقولة المذهبية السيدة في الفكر
الصوفي كله هي وحدة الوجود. ومعنى هذه
المقولة أن الماهية هي العلاقة، وأن
الكائنات لا فِصال بينها بأي حال من الأحوال. العلاقة
أو محو المسافات
ذهب الناقد الفني الإنكليزي جون
رَسْكِن (1819-1900) في الجزء الخامس من كتاب له
عنوانه الرسامون المحدثون إلى أن التنافر
أو الصراع هو داء الأرض، وأن التناغم أو
الوئام هو الخلاص من كل بؤس. ويرى ذلك الناقد
أن كل تناغم ينجزه الإنسان هو فعل فداء،
أو درب إلى خلاص البشرية. أما عبد القاهر فيقول في أسرار
البلاغة 9/5 (حسب ترتيب ريتر): "وأما الصنعة
والحذق والنظر الذي يلطف ويدقُّ، في أن تجمع
أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة،
وتعقد بين الأجنبيات معاً في نسب وشبكة."
كما سبق له أن صرَّح بهذا القول (9/5): "وهكذا
إذا استقريتَ التشبيهات وجدت التباعد بين
الشيئين كلَّما كان أشد كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها
أطرب، وكان مكانها
إلى أن تحدث الأريحية أقرب. وذلك أن موضع
الاستحسان ومكان الاستظراف... أنك ترى بها
الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين..." ومن هذين المقبوسين الصغيرين
يتَّضح بنصوع أن نظرية الجرجاني تستهدف صلح
الأضداد، تماماً كما تفعل الصوفية في نزوعها
صوب التوحيد. وهو يفهم الشعر كما فهمه جون
رَسْكِن من بعد. وفي هذا آية على أن الذهن
البشري له بذرة واحدة مشتركة. فالشاعر في
نظر الرجلين روح لا يتحمل الفوضى والتنافر،
لأن الفوضى والتنافر من فصيلة الغيبوبة أو
الظلمة؛ أما الوحدة والتناغم فهما من فصيلة
الحضور أو النور. وإذ ينيط بالشعر وظيفة
التوليف بين المتنائيات، فإنها وظيفة سلمية
تدعو إلى الإخاء بين جميع الكائنات الحية. إنها نظرية يُبهِظُها عبء المسافة، ولا
هَمَّ لها سوى إزالة الفاصل
وتوتراته. وكل طيٍّ للمسافة هو تعبير غير
مباشر عن المحبة، وكذلك عن هدأة البال. ويقول الكاتب (9/6) بأن الشعر يفعل
فعل السحر في "تأليف المتباينين حتى يختصر
لك بعد ما بين المشرق والمغرب... ويعطيك البيان
من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد، ويريك
التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت
مجموعين..." فمما هو شديد النصوع أن
الجرجاني قد أناط بالشعر وظيفة محو الفاصلة
بين المتباعدات؛ إذ لقد بلغ إلى عين الجمع،
تاركاً الفرق وراء ظهره، فقال بالتئام
الأضداد. إذن، لقد زالت المسافة التي تفصل بين
العاشق والمعشوق. إن شئت أن تجد لعبد القاهر – وهو
رجل فارسي – أصلاً موغلاً في القدم، فإن في
ميسورك أن تعيده إلى قادة الثقافة الفارسية
الوثنية القديمة، أو حصراً إلى ماني، الذي
يسعك أن تردَّه هو الآخر إلى زردشت الذي عاش
في القرن السابع قبل الميلاد. وربما تيسَّر
للباحث النزيه أن يعود بزردشت نفسه إلى
الثقافة البابلية، ثقافة الفلك والنور
والخصب والمحل والتموزية، أو الصراع بين
الحياة والموت. البصر
والبصيرة
كان الجرجاني إفرازاً تلقائياً
للتيار الذي راح يدرس القرآن، ولاسيما من حيث
هو نص يتحمل التأويل، وكذلك بوصفه أسلوباً
محكماً أُترِعَ بالجماليات الفنية. وبفضل هذه
السمة الثانية جاء كتاب أسرار البلاغة
ليكون إنجازاً جمالياً بالدرجة الأولى. ولكن النزعة التأويلية هي التي
مكَّنت الجرجاني من التمييز بين مقولة "المعنى"
ومقولة "معنى المعنى" وذلك في كتاب له
عنوانه دلائل الإعجاز. والحقيقة أن هاتين
المقولتين أشبه بمقولتي الظاهر والباطن، أو
البصر والبصيرة. فالمعنى والظاهر من اختصاص
البصر، ومعنى المعنى والباطن من اختصاص
البصيرة. وهكذا وصل إلى القول جهراً بأن
الفنان إنسان متخصص بما وراء البصر، أي بما هو
من مملكة البصيرة، بالدرجة الأولى. وفي الحق
أنه نسب هذا الاختصاص للناقد أيضاً. فالناقد
عنده هو من يبحث عن تأويل، أي عن مستورات. يقول:
"ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للممثل،
ولم تتصادف هذه الأشياء المتعادية على
المشبِّه، إلا لأنه لم يراعِ ما يحضر العين،
ولكن ما يستحضر العقل، ولم يُعنَ بما تنال
الرؤية، بل بما تعلق الرؤية، ولم ينظر إلى
الأشياء من حيث توعى فتحويها الأمكنة، بل من
حيث تعيها القلوب الفطنة." (9/16) لعل من شأن هذا المقبوس أن يجعل من
الجرجاني ناقداً حديثاً، أو في منتصف الطريق
بين الناقد التراثي والناقد الحديث. فالتشديد
على البصيرة (التي سماها "الرؤية" ههنا)
هو شأن حَداثي تماماً. ولعل مما هو سهل على
الذهن أن يستوعي ما فحواه أن هذه النزعة هي
نتيجة تلقائية للجهد الذي بذله التراثيون في
مضمار تأويل القرآن الكريم. ولا بأس في أن
تلاحظ دعوته إلى وجوب الانطلاق من مبدأ
الاستبصار: "إن هناك مشابهات خفية يَدِقُّ
المسلك إليها. فإذا تغلغل فكرك فأدركها فقد
استحققت الفضل. ولذلك يشبَّه المدقِّق في
المعاني بالغائص على الدرِّ." (6/18). خاتمة
لابدَّ من التوكيد على أن هذه
العجالة لم تستعرض أسرار البلاغة الذي
أراه درَّة من دُرَر النقد الأدبي كلِّه. ولا
ريب في أن مذهب عبد القاهر يحتاج إلى ما لا يقل
عن مجلَّد ضخم إذا ما أريد له أن يُعرَض على
نحو تفصيلي. ولكنني آمل أن يكون من شأن هذه
العجالة أن تقدم بذرة أولية لتوجُّه موضوعي
يحاول أن يقارب هذا الرجل العملاق. ولئن
استطاعت أن تؤشِّر إلى هذا الغرض فإنها سوف
تكون قد أنجزت الهدف المنشود. *** *** ***
|
|
|