فقير في بلاط الحمراء

الأسرار السبعة في الحسِّ والخيال والإبداع*

 

خوسيه ميغيل بويرتا

 

سقامٌ من الدنيا وزخرفها، هذه علَّتي.

ابن جعفر القونجي

الصورة 1: مشهد الحمراء من حارة البيازين فجراً.

أثناء صعود مُضْنٍ إلى تل السبيكة كان أبو جعفر القونجي غارقاً في حالة من الحيرة تلاحقه منذ أن عاد ليلة الأمس من رحلة إلى أقطار المشرق كادت تقتلعه من مسقط رأسه إلى الأبد. اقتصرت استراحة ابن جعفر على ساعتين قضاهما على تخت في فندق سوق المدينة. أيقظ حاجبُ مولانا الحاجَّ العائد فجراً ليقوده إلى حضرة أمير المسلمين. بعد ثلاثة عقود ونيِّف من الغياب لم يعد القونجي ذلك الشاب الذي غادر يوماً إقليم غرناطة بحثاً عن عين الشمس والبهاء – وربما هرباً من تفاهة السلطات وعسف تصرفاتها. شعر الآن، وهو يمتطي بغلة حاجب السلطان في اتجاه السبيكة، بأن العالم من حوله أشد غرابة مما كان في أي وقت مضى. ما جدوى العودة إلى مدينة تغيرت إلى حاضرة تفور في أحيائها الضيقة المسوَّرة أسرابٌ هائلة من الأرواح أتت من كل أنحاء المعمورة فارَّة من الوباء الأسود اللعين الذي امتد ظلُّه في الآونة الأخيرة كذلك إلى معقل بني نصر، حسبما أُخبِر عنه القونجي في إفريقية ساعة ركوبه البحر نحو الأندلس؟ ما أتعس الإنسان الذي لا يتحرر من الحنين الدائم إلى الأصل والجذور!

أذهلته الحركة الجنونية التي عمَّت مدينته القديمة. فبالإضافة إلى ذهاب الناس وإيابهم في الأسواق، وهرولة الرجال والنساء والأطفال ناقلين المرضى إلى البمارسطانات، وحالة استنفار البيوت القصوى التي تم الإعلان عنها في المملكة كلِّها لمجابهة الوباء، تهُبُّ أفواج غير معهودة من الجنود والرجال المسلَّحين في كل زوايا غرناطة. فاجأه أيضاً انتشار أعمال البناء في المدينة، ولا سيما في السبيكة التي لا يعرف لها منذ شبابه إلا بروج القصبة وأسوارها وبعض المباني اللاحقة المتواضعة. في هذا الصباح البارد، باغته تراكمُ البروج المرتفعة في نقاء السماء [الصورة 1]، وخالج قلبَه إحساسٌ يتضارب فيه الخوف والاعتزاز، بما يومئ إلى عظمة مدينته الصغيرة التي كانت قد استنزفت نفسها في أوحال الفتنة مراراً. توقفت البغلة لاسترداد أنفاسها عند عتبة باب الشريعة، واختلس راكبها العجوز نظرة تعجُّب واندهاش إلى المبنى [الصورة 2].

 

الصورة 2: باب الشريعة وفوقه الكتابة التأسيسية.

ينبس حاجب جلالة مولانا بكلمة لأول مرة: "نحن نستعجل استكمال البوابة العظيمة للاحتفاء بديننا المجيد في عيد مولد النبي – صلى الله عليه وسلم – الوشيك." تمادى القونجي في مطالعة الكتابة المنحوتة بخط عربي أنيق على ثلاثة لوائح رخامية عريضة، بينما عكف ثلاثة عمال على تعليقها على مقربة من صورتي الكفِّ والمفتاح المنقوشتين فوق قوسي الباب حمايةً للمكان وتقديساً له:

أمر ببناء هذا الباب المسمَّى بباب الشريعة، أسعدَ الله به شريعةَ الإسلام، كما جَعَلَه فخراً باقياً على الأيام، مولانا أمير المسلمين السلطان المجاهد العادل أبو الحجَّاج يوسف ابن مولانا السلطان المجاهد المُقَدَّس / أبي الوليد بن نصر، كافأ الله في الإسلام صنائعَهُ الزكية وتقبَّل أعماله الجهادية، فتيسَّر ذلك في شهر المولد المعظَّم من عام تسعة وأربعين وسبعمائة، جعله الله عُدَّة واقية وكَتَبَه في الأعمال الصالحة الباقية

 ما إن استأنف القونجي سيره على ظهر بغلة الحاجب لولوج الباب حتى التقى نظره بنظر رجل قصير القامة، يشابهه في العمر والملامح، انتهى لتوِّه من إلقاء التعليمات لصُنَّاع الكتابة ليقبِّل قدمي الحاجِّ العائد والدموع تذرِف من عينيه:

-         أهذا أنت حقاً؟ أأنت أبو عبد الله بن جعفر زاهد قونجة من إقليم غرناطة؟ أيها الأخ الشارد، لقد نفد صبري في رؤيتك ثانيةً قبل مبارحتي هذه الدنيا.

ضمَّ ابن جعفر الرجل بشدة، ومضيا راجلين إلى بلاط الحمراء. ذكريات طفولة ومراهقة مشتركة في الكُتَّاب والأرياف وأزقة المدينة تهتاج في قلبيهما. أعلم القونجي قرينَه العزيز، رضوان المهندس، بإيجاز لم يعتد عليه في أيامهما، أن الله – تعالى – سمح له بأداء فريضة الحجِّ، وأن القدر كتب له إقامة هادئة ومثمرة في الشآم ومصر حيث قرأ لكبار مَشْيَخَة العهد، أمثال تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري، وأنه أصبح بستانياً لكسب رزق زوج وابنة وعبادة البارئ تأملاً بعجائب خلقه.

ودَّع الحاجبُ زاهدَنا القونجي قدَّام فتحة مقوَّسة اختفى فيها المهندس رضوان بانحناءة خفيفة: "سأعود إليك بعد صلاة الظهر لأجعلك تَمثُل بين يدي مولانا، نصره الله،" قال رسول السلطان للضيف العجوز. هزَّ القونجي الرأس إيجاباً ومودِّعاً، ودخل بيت المهندس الواقع بين المدينة التي نشأت في هضبة السبيكة وبين القصر الملكي الجديد قيد البناء. تعجَّب القونجي حالاً من المشهد في الداخل تعجباً شديداً: مئات الرسوم والتخطيطات الهندسية من كل الأنواع والأحجام تشغَل الحيطان، ومصطبة طويلة في قاعة واسعة تضيئها شبابيك عالية رقيقة [الصورتان 3 و 4].

 

الصورة رقم 4 الصورة رقم 3 

الصورتان 3 و 4: نماذج هندسية لبسط النجمة المثمنة الزوايا السائدة في زخارف الحمراء وفي قبة عرش أبي الحجَّاج يوسف. هذه الرسوم والرسوم التي تليها من تنفيذ المستعرب المرحوم الأب داريو كابانيلاس بالاشتراك مع الرسام الغرناطي مانويل مالدونادو.

-         أما زلت، أيها الرفيق المسكين، هائماً في ألاعيب الألوان والأشكال؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!

صاح القونجي بلطف وهو يشاهد مجدداً، بعد مدة تعادل عمراً، ذلك البريق الناجم عن عيني صاحبه في لحظات السعادة والإبداع. سارع المهندس إلى إظهار تصاميمه الأخيرة للرفيق الضالِّ: سلسلة من النجوم الهندسية تمثل السماوات السبع، المذكورة في الكتاب الكريم، مرسومة لصناعة القبة الخشبية العليا في قاعة عرش مولانا أبي الحجاج يوسف أمير المسلمين. كان رضوان مهووساً فعلاً بالفكرة! جعل يمدد ورقة بعد أخرى أمام عيني ابن جعفر، واستغرق في الكلام قبل أن يكمل قرينُه العائد رواية رحلته إلى الشرق:

 

الصورة رقم 6 الصورة رقم 5

الصورتان 5 و 6: ترتيب نماذج الأنجم الهندسية المتنوعة في المنازل السبعة لقبة عرش أبي الحجَّاج يوسف.

-         يا أخي الزاهد الحاج، دأبت طوال العمر – وأنت تعلم – من أجل استخراج أروع الصور الكامنة في خلق الله – عزَّ وجلَّ. وبمقدوري اليوم أن أعلن لك أنني بلغت الغاية التي طالما حلمت بها. لقد ترحَّم علي – تعالى – بمعاني إلهامه الدقيقة. لاحظ! في بدء الأمر، رسمت الأشكال الهندسية لأنجم السماء كلِّها. كادت هذه المهمة أن تودي بحياتي. لمعلِّمينا خبرة طويلة في صناعة الهندسة، ولم يعد الكشف عن تشكيلات هندسية جديدة، معتدلة ومتناسبة وجميلة، أمراً يسيراً على الإطلاق. أنظر يا أخي: لأول مرة تجرأت على تخطيط صورة هندسية متكاملة اعتماداً على أنماط نجمية ذات زوايا مختلفة [الصور 5-8]. رسمت أنجماً ذات ستة عشر زاوية متنوعة التصاميم مع أنجم مثمَّنة الزوايا متباينة أشكالها أيضاً لتصوير المقامات النجمية السبع في لوحة سماوية متناسقة وموحَّدة. على ما أعلم، لم يفعل هذا مهندس آخر من قبل. والأهم من ذلك، لاحظْ كيف غيَّرتُ في أركان القبة الأربعة التنظيمَ الهندسي المفروض في علم العدد بهدف صياغة شجرة الكون [الصورة 9] التي كان شيخنا أبو بكر محمد الرُّندي يحدِّثنا عنها في المدرسة بخصوص قوله – تعالى: "كشجرة طيبةٍ أصلُها ثابت وفرعُها في السماء تؤتي أُكلَها كلَّ حين بإذن ربِّه" (سورة إبراهيم 24-25). انه ابتكار من ناحيتي – أعني أنني بذلت قصارى جهدي لدمج شجرة الكون في انسجام تام مع نجوم قبة العرش كافة، هندسةً وتلويناً.

 

الصورة رقم 8 الصورة رقم 7

الصورتان 7 و 8: تخطيط هندسي لنجمتين من نجوم قبة عرش أبي الحجَّاج يوسف.

تذكَّر ابن جعفر بحنين تلك الأيام الغابرة، وتمثلت في ذهنه صورة [الصورة 10] من مخطوطة كانت بحوزة عارف من عُرفاء الفرس لقيه القونجي بدمشق قبل أن يسحق قلبَه شوقُ العودة إلى ما تبقى من الأندلس. ودون أن يسمح رضوان لصاحبه أن يسأله إن كان قد اطَّلع على هذه الصورة المخطوطة عن شجرة طوبى، أو على صورة أخرى من هذا القبيل، أردف المهندس قائلاً:

 الصورة رقم 9

الصورة 9: شكل شجرة الكون مرسومة في زوايا قبة العرش الأربع.

-         المهم، يا أخي الكريم، أن مولانا أبا الحجَّاج يوسف إمامٌ صالح. وقد طلب مني اللجوء إلى نصوص الأولياء لبناء قبَّته العليا لتخييل سورة الملك العزيزة تخييلاً جليلاً. إنه صاحب الفكرة، مثلما هو صاحب أعمارنا. نصح أيضاً جلالتُه بتتويج سمائه الخشبية بقبَّة صغيرة خلاصةً عن القبة الكبرى شكلاً ولوناً [الصورة 12]. وهذا ما عملناه. تعال، وأنظر إلى النتيجة.

 الصورة رقم 10

الصورة 10: شكل شجرة الكون، نسخة كارا دو فو في كتابه:

Carra de Vaux, Fragments d’eschatologie musulmane

عن الكتاب الفارسي المعروف معرفة نامه. راجع:

Miguel Acín Palacios, La escatología musulmana en la Divina Comedia, Madrid, 1961 (tercera edición), p. 235.

أخذه المهندس إلى الحجرة المجاورة. ولم يستطع ابن جعفر كبت صرخة إعجاب صائته حينما رمق صورة القبة مجسَّدة بكل رونقها في نموذج ورقي [صورة 12] لا يبلغ المتر المربع [0.75 x 1.06 م] على منضدة إلى جانب سرير بائد صغير ملقى على الأرض.

 

الصورة 11: عيِّنة زخرفية من الحمراء تبيِّن أن النجمة المثمَّنة كانت النموذج الكوسمولوجي (السماوي) الذي نُفِذَّت على أساسه قباب القصر.

  الصورة رقم 12

الصورة 12: صورة متكاملة عن التخطيط الأصلي لقبَّة عرش أبي الحجَّاج يوسف، حسب الأب داريو كابانيلاس والرسام مانويل مالدونادو. تشاهَد في المركز قمة القبَّة التي تختصر تخطيط القبَّة برمَّتها.

-         لكلِّ لون سرٌّ سماوي وإشراقيٌّ خاص – تابع المهندس مندفعاً في التفسير. وقد اخترتُ – أعني اخترنا – الأبيض والأحمر والأخضر، بتدرُّجاتها النغمية من المنير إلى القاتم، وفقاً لأوصاف أهل الولاية للجنَّة السماوية ومعراج النبي – عليه الصلاة والسلام. كما تعلم، وتبصر، النور الإلهي يفيض في الكون مضيئاً ومحيياً كل المخلوقات. استخدمت – أعني استخدمنا – الأبيض الصافي المشرق مرة واحدة، في الوسط وحسب، وآثرنا الأبيض الجوزي لمراكز أنجم المرتبة الثانية تحت قمة العرش السماوي، رمزاً إلى انعكاس النور الإلهي الفائض على الدوام. مراكز النجوم الثانوية تمثل منازل السعداء، وهي بالتالي أقلُّ إضاءة وأضعف إشراقاً من منزلته – سبحانه وتعالى. أما أسفاط النجوم الأخرى فقد صبغناها بثلاث نغمات من الأخضر، على غرار ما جاءنا من المتألِّهين عن طبيعة الجنَّة السماوية وصورتها. إنما الخالق – جلَّ جلاله – كرَّم هذه المواد النفيسة بفضائل النور والكمال والخير والخلود. أنت أعلم مني بأن هؤلاء العلماء أسهبوا في مقارنة منازل الجنَّة السماوية بالأحجار الكريمة، وخصوصاً اليواقيت الصفر والخضر والحمر. النتيجة مذهلة، ألا توافقني؟ ولو رأيت السقف الحقيقي رهن الإتمام...! تصوَّرْ، ضِلع قاعدة القبة المربعة المبنية بالخشب طوله 11.30 متراً، وعلو السقف يصل إلى 18.20 متراً! اعلمْ أن قطر أكبر النجوم المصنوعة يساوي 2.50 متراً، وأن إجمالي الأسفاط الخشبية في تشييد القبة هو 8017 قطعة، لا أكثر ولا أقل! أليس كل هذا التخطيط الهندسي، بما يتضمَّنه من معانٍ سامية وشريفة، جديراً بتزيين قاعة عرش مولانا في حضن أشمخ بروج العصر وأوسعها سمعةً بارتفاع يتعدى 45 متراً! [الصورتان 13 و 14]

 

 الصورة رقم 13  الصورة رقم 14

الصورتان 13 و 14: برج قُمارش الذي يتضمَّن قبة عرش أبي الحجَّاج يوسف. صورة 13: منظر خارجي من المدينة. صورة 14: منظر من داخل القصر الملكي.

ابتسم ابن جعفر دون أن ينبس ببنت شَفة بينما شلال من الآراء المتناقضة تدفَّق في رأسه واجتاح جسمه المسنَّ المنحني إلى الأرض. تذكَّر مطالعاته الحامية لفصول شجرة الكون والجنة والإسراء في مجلدات جمعها بعناية في شبابه الثاني بالشآم. تعوَّد آنذاك على الترويح عن نفسه والالتذاذ بتأمل النجوم والكواكب في سماء الله الشاسعة، اللامتناهية. وعلى الرغم من أنه يستحسن تلك التصاميم المثيرة والممتعة التي يتفنَّن في اختراعها الصناع والمهندسون، إلا أنه يعتبرها مجرد استعارة تعيسة عن عَلياء البارئ – تعالى. خلال تأملاته الليلية الساكنة في مزرعة الشآم انتابه أحياناً شوق جامح للتعبير الشعري أو الغناء أو الرقص، لكنه أمسك دوماً بزمام رغبته للاكتفاء بتجربة المشاهد الحميمة المنفردة.

ظهر الحاجب ووضع حداً لتفكير القونجي بإشارة يد مستعجلة، ملحاً على الذهاب فوراً إلى القصر الملكي. بعد قطع ساحتين اجتاز الحاجب والزاهد الحاجُّ الشارعَ الملكي وتوغَّلا في متاهة من الممرات الضيقة المتلوِّية، تفصل الواحدة عن الأخرى بوابة خاضعة لحراسة مشددة. وصل الرجلان إلى ما بدا للقونجي أنه باحة رحيبة قيد التشييد. وبعد عبورها وجد نفسه في قاعة لم يرَ لها مثيلاً في حياته ضخامة وعلواً ومهابة. في الداخل خفتت ضوضاء أعمال البناء المنتشرة في كل أنحاء القصر وتل السبيكة، ولكن بقيتْ على مسمع منه أصواتُ زمرة جنود قريبة وصرخات ذعر نائية عزاها ابن جعفر إلى كابوس الوباء المتفشِّي في حرم البيت الملكي ذاته.

تجلَّى الملك في اللحظة على منصَّته وسط الحائط الشمالي لقاعة العرش [الصورتان 15 و 16]. حدَّق مولانا ملياً في وجه الشيخ ابن جعفر القونجي، ثم بادره بالتحية وأبدى لضيفه اهتمامه بالأمور الروحانية اهتماماً اشتدَّ في قلبه في هذه الظروف بالغة الخطورة التي أرادها القدر للأندلس. استدعى السلطان زاهدنا القونجي لرواية العجائب التي شهدها في ترحاله الطويل، وأخبره عن حضور فئة من فقراء خراسان من بلاد الفرس في ربوع غرناطة، وأنه – عزَّ وجلَّ – أجاز أن يشيع التقشف والتزهد والتصوف في مملكته.

 

الصورة رقم 16 الصورة 15

الصورتان 15 و 16: (الصورة 15) قاعة وجزء من قبة عرش أبي الحجَّاج يوسف كما تشاهَد حالياً. (الصورة 16) موضع عرش الملك يوسف وسط الحائط الشمالي مع قصيدة سلطانية منقوشة منسوبة إلى الوزير وشاعر البلاط ابن الجيَّاب.

كان القونجي قد دُعِي غير مرةٍ لزيارة بلاط الملوك في المغرب والمشرق، فكان في مثل هذه الحالات يستولي عليه دائماً إحساسٌ غامض بالحَذَر والتحفظ والخيفة، ويكتسح روحَه اشتياقٌ عميق إلى بستانه في مزرعة دمشق. بعد برهة صمت قصيرة، لبَّى القونجي طلب أبي الحجَّاج يوسف بخشوعه الدائم وباقتضاب. وما أن اختتم ابن جعفر كلامه حتى تقدَّم ذو الوزارتين ابن الجيَّاب – وهو أحدث من القونجي بعشرة أعوام، وقد تمكَّن من التوفيق بين الوظائف السياسية وأسفاره كتابع نشيط للناسك أبي عبد الله الساحلي المالقي – واستأذن السلطان بإنشاد القصيدة التي نظمها لنقشها في قبة العرش كي يكون زاهد قونجة العائد على علم بمقاصد أمير المسلمين النبيلة. صفَّق الملك لعرض شاعر البلاط، فشرع الوزير يقرأ:

ولا كنْ لي التفضيل والعـزُّ في جنسي

هي القبة العليـا ونحـن بُناتـها

وفي القلب تبدو قوةُ الروحِ والنفـسِ

جوارح كنتُ القلبَ لا شـكَّ بينها

ففيَّ عدا ما بينـها شـرفُ الشمـسِ

وإن كان أشكالي بروجَ سمائِـها

ملابـسَ فخـرٍ واصطنـاع بلا لبـسِ

كسـاني مولايَ المؤيَّدُ يوسـف

علاه بحقِّ النُّـورِ والعرشِ والكرسـي

وصـيَّرنـي كرسـيُّ مُلْكٍ مؤيَّد

إبَّان استماعه إلى صوت ابن الجيَّاب المجلجل المائل إلى الخشونة، رفع ابن جعفر بصره نحو القبَّة العليا وازداد شعوره بالهيبة إزاء عظمة المكان وجلال أشكاله. وقع بصرُه على عامل كان يَطلي بالأبيض أحرفاً كبيرة منحوتة في قاعدة القبة الخشبية، فطفق يقرأ، ثم استحضر الآيات الكريمة المنقوشة عن ظهر قلب: "تبارك الذي بيده المُلكُ وهو على كلِّ شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً وهو العزيز الغفور * الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجعِ البصرَ هل ترى من فُطور * ثم ارجع البصرَ كرَّتين ينقلب إليك البصرُ خاسئاً وهو حسيرٌ * ولقد زيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير" (سورة الملك 1-5).

تمظهرت آنئذ أمام عيني ابن جعفر نماذجُ رضوان الهندسية، بأصباغها المشعَّة الساحرة، وامتزجت، في مخيِّلته، بالقبة الخشبية الضخمة الشامخة التي كانت في انتظار عملية التلوين الشاقَّة الدقيقة [الصورتان 17 و 18]. تبسَّم ابن جعفر من الداخل لأنه وعى الآن وعياً تاماً إلى أيِّ مدى تحققت الأحلام الإبداعية لصديقة رضوان، ذلك المفسِّر الهندسي لكتاب الله، المصاب بحمى التصوير. وجَّه القونجي البصر إلى الجدران علواً بهزة رأس خفيفة، ووجد نفسه وجهاً لوجه أمام شعار بني الأحمر "ولا غالب إلا الله" المشكَّل بحروف جصيَّة كبيرة. لم يرها منذ صباه، بيد أن طولَ العمر لم يقدر أن يمحو الذكريات المؤلمة المرتبطة بهذه الصورة الكتابية. هبط ابن جعفر بنظره قليلاً، واصطدمت عيناه بإعلانات ملكية أخرى بهية المظهر، بل مغالية في المغزى في قلب زاهدنا الحسَّاس: "النصر والتمكين والفتح المبين لمولانا أبي الحجاج أمير المسلمين"، "عزٌّ لمولانا السلطان الملك المجاهد أبي الحجَّاج عزَّ نصره"، فحنى جسمه نهائياً إلى الأسفل دون أن ينظر إلى محيَّا السلطان المتربِّع أمامه على العرش.

 

الصورة رقم 18 الصورة رقم 17

الصورتان 17 و 18: (الصورة 17) تفصيل من جدار في قاعة قُمارش وجزء من القبَّة. (الصورة 18) جزء من قبة العرش، وتشاهَد وسط أعلى الصورة قمة القبَّة، وهي عبارة عن خلاصة مصغَّرة عن تخطيط قبَّة العرش كلِّها.

بعد هنيهة انتبه أبو الحجَّاج يوسف إلى أعراض الإرهاق المتغلِّبة على بدن ضيفه العجوز، فأمر الحاجب بإهدائه نسخة من أرجوزة كتاب إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة في أصول صناعة الفلاحة [الصورة 19] للشيخ الفقيه والعالم المري ابن ليون التجيبي الذي قضى نحبه في تلك الأيام من جراء الوباء، وودَّع الفقير القونجي بحفاوة وبدعوة للمشاركة بعد صلاة الغروب في سهرة الذكر التي ستقيمها طريقة بني سيدي بونة ليلاً في موضع فناء القصر قيد البناء عند عتبة برج وقبة العرش. أوضح الملك للقونجي أن مناسك هذه الطريقة، القادمة من شرق الأندلس والمستقرة في حي البيازين، صارت عادة في بلاطه تسبيحاً لله – تعالى – ونشراً للكرامات على الجميع وحماية للخاصة والعامة من مكايد الوسواس اللعين.

 الصورة رقم 19

الصورة 19: صفحتان من مخطوطة أرجوزة ابن ليون في علم الفلاحة، تم خطُّها عام 1348.

-         سوف ننتفع نحن أيضاً من كرامات زهدك النبيل ومن خطابك الحكيم. أضاف الملك بينما كان حاجبه يهمُّ بمساعدة القونجي على الوقوف ومغادرة قاعة العرش.

في أصيل تلك الأمسية الغرناطية البديعة قرَّر ابن جعفر مواصلة مشواره إلى قرية قونجة بإقليم غرناطة، وبعث برسالة اعتذار إلى السلطان أبي الحجَّاج. كان القونجي يخشى أن يحول التعب والسنَّ والمرض وشراسة الوباء بينه وبين تحقيق غرض عودته المبهم: مشاهدة بستان صباه وتنقية الروح قبل لفظ نَفَسه الأخير.

انضمَّ إلى موكب ابن جعفر المتوجِّه إلى إقليم غرناطة كلٌّ من رضوان المهندس والشيخ أبو البركات البلفيقي الذي قرأ له القونجي خلال إقامته بمدينة ألمرية قبيل الاغتراب. كان القونجي يُكِنُّ لهما محبة خاصة، وصحبتُهما أفرحتْ انتقاله إلى الدار الحجرية القديمة التي تركها قبل عمر كامل بين أشجار الليمون والبرتقال على حافة نهر دوركر في الإقليم. بعد وصول الموكب إلى قونجة فجراً رحَّب أهل المكان بالحاجِّ وأصحابه ترحيباً حاراً ورافقوهم إلى جنَّة ابن جعفر. الاستراحة ومشاهدة أشجار الجنَّة التي لا تزال راسخة في ذاكرته، بالإضافة إلى سماع هدير مياه النهر، والشمس، وذلك الصفاء الأزرق في السماء – كلُّ ذلك أعاد لزاهد الإقليم جزءاً من طاقته الطبيعية المفقودة، وخاض في حوار مرح مع رفيقيه خلال النزهة التي قاموا بها في الحقول المجاورة. شهد القونجي أن الضيعة امتدت قليلاً إلى تلٍّ صخري شديد الانحدار مطل على نهر الإقليم [الصورة 20] وأن برج الطلائع وحصن دوركر قد رُمِّما. قعدوا في ظل برج الطلائع، وعلى مرأى منهم أروع مناظر وادي الإقليم المزركش بالمزارع والهضبات الخضراء والضياع البيضاء الصغيرة الجاثمة أسفل جبال شُلير المتسامية إلى السماء بردائها الساطع السرمدي. بعد المشاهدة واسترجاع النفس تابع ابن جعفر حديثه الحار مع رضوان:

 الصورة رقم 20

الصورة 20: قرية قونجة كما تُرى حالياً.

-         أرباب السلوك الحقيقيون هم الذين يتخذون الكتابة تجربةً للحياة... السماع عندهم وسيلة للاتصال، مثلما يمارسون الشعر لإعادة خلق اللغة وإيجاد سُبُل جديدة للتعبير عن الذات وفنائها في المطلق.

-         ألا يوجد في صنائع الرقش والتزويق والخط شيئاً من هذا النوع؟ ألا نضيف جمالاً إلى جمال الدنيا؟ سأله المهندس.

-         بطبيعة الحال! لغة الصور مرآة قابلة لكلِّ المعاني. أنت أدرى مني بذلك. ولكن ما لا يقبل به قلبي هو التفنُّن في الإبداع تعظيماً لملوك الزمان.

-         الصانع يعمل من أجل عقيدتنا، وقوة مولانا أمير المسلمين قوة الإسلام. الأعداء في هذا الأوان كُثُر. وأنت أدرى مني بذلك.

-         الآونة بأجمعها خاطفة، هاربة. للأسف، لا يوجد في عهدنا مَلِكٌ واحد يستحق لقب أمير المسلمين.

-         مولانا أبو الحجَّاج يوسف رجل صالح، بل وعارف.

-         قد يكن أصلح وأعرف من أجداده، لكنه فانٍ ويتولَّى الحُكم في الدنيا، وهو بالتالي مجبر على الخطأ والظلم. ألا يتألم بنو آدم في سجون القصر؟

-         الشريعة تفرض القصاص. إنه عادلٌ ومبانيه يفخر بها الإسلام كلُّه.

-         قد تكون بناياته رائعة، عجيبة، ولكن الملك علَّق عليها اسمه واسم سلالته يميناً ويساراً، شمالاً وجنوباً. إنه مملٌّ، مزعج، بل ومُخِلٌّ بصفاء القلب والمشاهدة. مَن يحرِّر شعر قلبه في طريقه المديد إلى النور يصفِّي ذاته ويصقلها، وقد يرتقي إلى المعرفة. أما مَن ينقش الشعر على جدران السلاطين فلا يبحث إلا عن سمعة عابرة، إما له وإما لمولاه أو للاثنين معاً.

-         أنت لم تتجرأ قط على المخاطرة بحياتك من أجل الشعر أو الطرب أو التصوير...

-         صحيح، لكلِّ امرئ ضعفه. لا أرى نفسي قادراً على مواجهة هذا التحدي، ولكني تجنبت دوماً بذل أفكاري أو كلامي للطغيان أو لخداع المساكين.

-         مولانا لا يحب الخداع ولا يقصده. إنه يريد تكريم الإسلام وإرشاد المسلمين.

خيَّم الليل على الإقليم، وقفل القونجي مع رفيقيه إلى البيت صامتين تحت مهرجان النجوم المتلألئة في القبة السماوية. في سريره القديم عاود الإرهاقُ زاهدَنا بشدة، وانغمس في غيبوبة لم يصحُ منها في اليوم التالي. استحال فقيرنا العائد خيالاً. حشد رؤيا ما بعد الزمان والمكان...

اغتيال مولانا أبي الحجَّاج يوسف في أثناء الصلاة على أيدي من يوصف بأنه مجنون... عمليات تشييد مكثفة في السبيكة، شارك فيها خليفة أبي الحجَّاج، السلطان محمد الغنيُّ بالله نفسه... موجة ارتفاع مباني المشور والرياض السعيد والدشار والبوابات والبروج... أطياف انهيار الدشار والأبواب والبروج... أشباح الجماهير في القصور... شروق نجمة ذي الوزارتين ابن زمرك، تلميذ ابن الخطيب ومُلاحِقُه... إعلان الغنيُّ بالله مطاردة الصوفية واقتلاعهم من الأندلس... محاكمة ذي الوزارتين، لسان الدين بن الخطيب، غيابياً بتهمة تبنِّيه فكرة الحلول في كتابه روضة التعريف بالحب الشريف... إطِّلاع خيال القونجي في برزخه على جلِّ الكتاب في ومضة عين... انْشِداهُ ابن جعفر برؤية ذي الوزارتين لسان الدين متورطاً في كل مهمة سياسية ودبلوماسية وحربية، في كل كبيرة وصغيرة من شؤون الدولة، فيما هو يدوِّن في الوقت عينه مجلداً ضخماً في العرفان... كتاب حيَّر خيال القونجي لتنوُّعه وانعدام عمقه الوجودي... إقامة العلامة ابن خلدون الوقور بجوار صديقه ابن الخطيب في قصر الحمراء أثناء تصنيف روضة التعريف... عودة الابتسامة المنيرة المعهودة لمحيَّا فقيرنا الغرناطي الشآمي حيال شبح لسان الدين مهرولاً وراء الأموال ومأخوذاً بتشييد قصور خاصة به – ابتسامة تهكُّم ورأفة ومودة من يرى ذاته في برزخ ما وراء السخيف والجزئي... اندلاع نار الاستعجاب في قلب القونجي، هيَّجتها سموم طبيعة الإنسان الوحشية العمياء التي تسربت إلى سريره لدى مشاهدة استحالة "ذي الوزارتين" إلى "ذي الموتين" عقب إبادة ابن الخطيب في ملجأه المغربي، ونبش جثته من القبر بعدئذ على أيدي وفد الغنيِّ بالله لتنفيذ الحكم بالإعدام عليها... اشمئزاز خيال زاهدنا القونجي من المنظر وانصرافه السعيد إلى جنَّة العالم العلوي...

في العصر، رجع المهندس رضوان إلى غرناطة لأداء واجباته الزخرفية، بينما تأخر أبو البركات البلفيقي بضعة أيام في العودة إلى بلاط الحمراء مع كتب القونجي والأوراق التي لم تفارق زاهدنا أبداً منذ أن بدأ خطَّها في بستانه الشآمي. سلَّم أبو البركات رزمة من الصفحات للسان الدين مع سبعة أبيات** نظمها احتفاءً برفيقه القونجي عند لقياهما الأول بميناء ألمرية عشية الاغتراب:

ما لم يُرِد من سبيل فهو يسـلكه

أشـكو إليـكَ بقلبٍ لسـتُ أملِكهُ

هـذا ويـأخـذه هـذا ويتـركه

لــه تعـاقبُ أهـواءٍ فيـقلقـه

طـوراً يُـقِّـنه طـوراً يُـشِّـكه

طـوراً يؤمِّـنهُ طـوراً يُخـوِّفـه

حيـناً يسـكِّـنه حيـناً يحـرِّكه

حيـناً يوحِّـشـه حيـناً يؤنسـه

على يديك يا مُطلِعَ الأنوار يمسِكه

عسى الذي يُمسِك السَّـبع الطِّباق

مهمَـا أُبيِّضـه بالذِّكـر تُشـرِكه

فيه سَـقامٌ من الدنيا وزُخرُفـها

غطَّى عليه زماناً ليـس يَهْتِـكه

عسى الذي شانُه السِّتر الجميل كما

 ثم بادر ذو الموتين بمراجعة الدفتر والاستلهام منه لتأليف روضته، وكرَّم القونجي بذكر أخباره وعنوان ما فاض من يده ومن قلبه: الأنوار في المخاطبات والأسرار.

***

 

الأنوار في المخاطبات والأسرار

لزاهد إقليم غرناطة وفقير مزرعة الشآم

الشيخ أبو عبد الله بن جعفر القونجي

مخطوطة مكتبة دوركر بإقليم غرناطة

حقَّقها الباحث يوسف اليبرودوركلي

وعلى هامش المخطوطة

 تدبير سبعة أسرار تطابقاً مع السماوات السبع ومنازلها

***

 

يا عبد عكوفك على الدنيا أحسن من عبادتك للآخرة.

يا عبد تراني يوم القيامة كما تراني يوم فرحك وحزنك.

النفري (ت 354/965)، كتاب المخاطبات (من المخاطبة 31).

 

أنت المقصد الأسنى، أنت المطلب الأعلى، أنت سرِّي في الأسرار، أنت نوري في الأنوار. أنت عيني، أنت زيني، أنت جمالي، أنت كمالي، أنت اسمي، أنت ذاتي، أنت نعتي، أنت صفاتي. أنا اسمك، أنا رسمك. تَقَرَّب إليَّ بشهودي، فقد تقرَّبت إليك بوجودي [...]. فلولا وجودك ما كان وجودي موجوداً. حبيبي! شِمَّني في المشموم. حبيبي! كُلني في المطعوم. حبيبي! تخيَّلني في الموهوم. حبيبي! تعقَّلني في المعلوم. حبيبي! شاهدني في المحسوس. حبيبي! المسني في الملموس. حبيبي! البسني في الملبوس. حبيبي! أنت المراد بي. أنت المكنِّي بي، وأنت المكنِّى عنه بي. ما ألذَّها من معاطفة! ما أحلاها من ملاطفة!

عبد الكريم الجيلي (ت 832/1428) الإنسان الكامل.

 

من خطِّ شيخنا أبي البركات بن الحاج [البلفيقي]: "كان هذا الرجل [ابن جعفر القونجي] رجلاُ صالحاً، فاضلاً، متخلِّقاً، سمْحاً، جميل اللقاء على قدم الإيثار، على رقة حاله، ممَّن وضع الله له القبول قي قلوب عباده. فكانت الخاصة تَبِرُّه ولا تنتقده، والعامة تًَََوَدُّه وتعتقده، وتَترادف على زيارته فئة بعد فئة، فلا تنقلب عنه إلا راضيةً. وكان جارياً على طريقة الشيخ أبي الحسن الشاذلي [...]. كان [القونجي] من أهل العافية، ورقَّت حاله. ولم يكن ذلك يظهر عليه لمحافظته على سَتْر ذلك لعلوِّ هَّمته. ولم يكن أيضاً أثر ذلك على منزله، بل أثاثُ العافية باقٍ فيه من فَرْشٍ وماعون. فساعة وصول هذا الشيخ [إلى ألمرية]، قال الله يجْبُر حالك، فحسبتُها فراسة من هذا الشيخ."

ابن الخطيب، الإحاطة، 3، 234-5.

***

 

الأَنوَارُ في المُخَاطَباتِ وَالأَََََسْرَار

 

الأنوار مطايا القلوب والأسرار.

ابن عطاء السكندري، الحكم العطائية (الحكمة 55).

 

النور اليوسفي

باب الأسرار السبعة في الحسِّ والخيال والجمال

 

سرُّ السرِّ هو أنه يلد الأسرار باستمرار ويسرُّ.

البيرودوركلي

 

ولكن السرَّ لا يُدرَك إلا بعد أن يأكل الزمان لحم المسافر وتنال الأيام منه نصيباً، ويأتي الأوان الذي يتحرَّر فيه من أحاسيس العار والبطولة والنبالة...

إبراهيم الكوني، السحرة، 1، ص 428

 

تعاليم السحر تؤكد أن سرَّ كلِّ أمر في ضدِّه، في نقيضه، في نفيه.

إبراهيم الكوني، السحرة، 1، ص 453

 

1. سرُّ الحس

احتار العلماء في شأن الحواس. قوم منهم يعتبرونها كَبْلاً وحاجزاً للارتقاء أو نافذة النفس على كثافة العالم، وقوم قلائل منهم يرونها أداة من أدوات القلب والخيال. عند العرفاء، للحواس شأن لابدَّ منه في الكشف. للسمع وللبصر أهمية معرفية خاصة. السمع هو باب الكلمة وآلة الطرب لدى الخيال. البصر هو مدخل الكلمة ومجرى الصور إلى القلب والخيال. أما اللمس والشم والذوق فتحظى بكرامات هامة لدى المريد. إنها تُقرِّب النفسَ من تجلِّياته – تعالى. بواسطة الحواس يدرك الخيال جمال العالم، وهو جمال الحق. للحواس نشاط إبداعي مستمرٌّ. تُبدِع العالمَ في كل لحظة وهي تُدرِكه. تشدِّد الخيال وهو يستعملها. تُلِذُّ النفسَ وهي تغتذي من مدرَكاتها. الذوق قاعدة العارف ومبدع الصور معاً. للذوق طاقة الكشف والإبداع والارتقاء. نتذوق، إذن نكون.

مخاطبة: يا أخي، من يلتذُّ بالمحسوسات ذوقاً وروحاً يحيي قلبه ويمسي مبدعاً.

2. سرُّ الإبداع:

احتار العلماء في شأن الإبداع. فئة منهم يُنكِره ويُدينه. فئة نادرة منهم يقبله ويشجِّعه. بعضهم يظنه انحرافاً وتحدياً – وهو الغالب. وبعضهم الآخر يتبنَّاه طريقة حياة ومحبة – وهو الأقل. مَن يبدعْ يُلهَمْ ويعطي ويَخلق. من يعطي ويخلق يُفسِح فضاء العالم وجماله. لا مجال للاختلاط بين خلقه – تعالى – وإبداع العباد. الفرق فرق الملهِم والملهَم. قال الشيخ الأكبر: "أما الاسم الباري فمنه يكون الإمداد للأذكياء المهندسين أصحاب الاستنباطات والمخترعين الصنائع والواضعين الأشكال الغريبة؛ عن هذا الاسم يأخذون. وهو المُمِدُّ للمصوِّرين في حسن الصورة في الميزان." (الفتوحات، 2، 424) من يبدعْ ينضم إلى حركة الإبداع الكوني ويغني وجوده والوجود. نُبدع، إذن نكون.

مخاطبة: يا أخي، إن كنت ذا مشاعر كُنْ مبدعاً، وإن كنت مبدعاً كُنْ مَشاعِرياً.

3. سرُّ الشعر

اختلف الناس في شأن الشعر. بعضهم يصفِّق له لو وجده يمدح ويرثي ويصف، وبعضهم الآخر يصفق عليه لو سمعه يحاكي ويقلِّد ويخبر، وبعضهم الثالث يصفِّق له إذ يراه يلعب ويخيل ويخلق. طائفة تبحث في الشعر عن نظم وقافيات وألحان. طائفة تتَّهمه بالكذب وأخرى تعير له سماعاً لما يحمل من الحِكَم والأخلاق. طائفة أخرى تمارسه مفتاحاً ورمزاً وحيلة فناء. قال الشيخ الأكبر: "الشعر شعور والشعور يعني الإجمال." وقال: "الشعر محلُّ الإجمال واللغز والرمز والتورية." وقال: "الشعور مع غلق الباب، والعلم مع فتح الباب." لذا ينتمي الشعر إلى "علوم الشعور أي الرمز والإخفاء". في رأي صاحب الفتوحات أن الشعر يبدع "أعجب الصور" بجمعه بين الضِّدين، و"الجمع بين الضِّدين لا يمكن عقلاً" (ذخائر الأعلاق، 441). منزل الشعر، إذن، هو القلب والخيال. الشعر تجربة لغة ووجود. من يرتكب قبحاً في الشعر ينجيه الخيال ويصيِّره بهاءً. من ليس له ذوق ليس له شعر. من يشعر يُبدِع، ومن يُبدِع يشعر. نَظْم الشعر لامتداح الأمراء والكبار مَصابٌ بوباء الباطل وبداء الزوال. الشعر معنى وروح وليس بمجرد كلام منظوم: "... جمال الشعر والكلام أن يجمع بين اللفظ الرائق والمعنى الفائق، فيحار الناظر والسامع، فلا يدري اللفظ أحسن من المعنى أو هما على السواء؛ فإن نظر إلى كلِّ واحد منهما أذهله الآخر من حسنه، وإذا نظر فيهما معاً حيَّراه. فما يستحق مثل هذا الشعر إلا ذو قلب كثيف؛ فإن اللفظ لطيف والمعنى كثيف. وإذا كان المعنى قبيحاً عند الصحيح النظر لم يحجبه حسنُ اللفظ عن قبح المعنى؛ فإن مثالَه عندي مثالُ من يحبُّ صورة في غاية الحسن منقوشة في جدار، مزينة بأنواع الأصبغة، تامة الخلق لا روح لها. فإن المعنى للَّفظ كالروح للصورة، هو جمالها على الحقيقة." (ابن عربي، الفتوحات، 2، 394) قال رسول الله (ص): "إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرا." الشعر إذن سحر. والسحر سرٌّ يباغتنا. قالت البدو: "كل شيء خرج من السرِّ ودخل دائرة الخلق وعرفته المخلوقات بَطُل وهَزُل وصار إلى زوال. هذا مبدأ السحر الأول." (إبراهيم الكوني، السحرة، 1، 424) السرُّ مسرَّة. والشعر يلد الأسرار باستمرار. إن لم يبلغ الشعر وطن السحر لمَّا ينفذ المرء من المألوف إلى الغيب، إلى المجهول. الشعر هو تذوُّق العالم بلا انقطاع. هو إبداع الخيال في مرآة الصور والجمال. هو تنفُّس القلب برئة الكلام. هو، بكلمة، إعادة كتابة العالم على الدوام. نشعر، إذن نكون.

مخاطبة: يا أخي، في لحظة الشعور بالتآلف والانسجام الذكر هو الأنثى، والإناث ذكور.

4. سرُّ النظام:

اتفق الفلاسفة والعلماء في ذكر الترتيب والانسجام والنظام. أغلبهم يستند إلى النظام لوصف الخلق وترتيبه الكامل. أغلبهم يفسِّر معنَيَيْ الحسن والجمال في الصور قائماً على مفاهيم النسبة والنظم والتآلف. أهل العقل والمتكلِّمون يعتمدون على ترتيب الخلق ونظامه دلالةً على حكمة الصانع – تعالى – وقدرته. البلغاء يعرِّفون حسن الكلام بالانسجام المتكامل بين عناصر المنظوم بأسرها. المصوِّرون والخطاطون وأهل الزخرفة والتزيين يحسبون سرَّ حرفتهم الإحكام في إنتاج النِسَب بين الصور وإحراز الانسجام بين الأجزاء وبين الجزء والكل. جاء في رسائل إخوان الصفا (1، 252-3) في شأن أصباغ المصورين أنها "مختلفة الألوان، متضادَّة الشعاع، كالسواد والبياض والحمرة والخضرة والصفرة، وما شاكَلها من سائر الألوان؛ فمتى وُضِعت هذه الأصباغ بعضها من بعض على نسبة، كانت تلك التصاوير برَّاقة حسنة تلمع، ومتى كان وضعها على غير النسبة، كانت مظلمة كَدِرة غير حسنة." وعند أهل الموسيقى ومنظِّريها، حسنُ الألحان نابعٌ من تناغم الأنغام وانسجامها في إيقاع. قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين: "لله تعالى سِرٌّ في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح، حتى إنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً. فمن الأصوات ما يُفرِح، ومنها ما يُحزِن، ومنها ما ينوِّم، ومنها ما يُضحِك ويُطرِب، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس." ولكن العرفاء يطعمون الفكرة باللجوء إلى الرمز والوجود. ولمَّح إليه أبو حسين الدرَّاج [ت 932] بقوله: "السماع يكشف لي عن وجودٍ وراء الحجاب." وجاء في رسالة السماع لأبي الرحمن السُّلَمي: "قيل السماع تطُّلبُ مفقودٍ أو تحقيقُ موجود." وهو يورد كذلك في هذه الرسالة أن "السماع تَجَرُّعُ الأسرار الصافية لما يَرِد عليها من فوائد الحق وروائده". ولعل أقصى آفاق هذه الأسرار تتفتح في روضة العرفان الأكبري. يستهلُّ الشيخ محي الدين بن عربي ديوان ترجمان الأشواق قائلاً: "الحمد لله الحسن الفعال، الجميل الذي يحبُّ الجمال، خلق العالم في أكمل صورة وزيَّنه، وأدرج فيه حكمة الغيبية عندما كوَّنه، وأشار إلى موضع السرِّ منه وعيَّنه، وفصَّل للعارفين مجملة منه وبيَّنه، جعل ما على أرض الأجسام زينة لها، فأفنى العارفين في مشاهدة تلك الزينة وجداً وولهاً، وصلى الله على المتجلِّي إليه في أحسن صورة [...]." وتواً يمضي لرواية لقاء حصل له بينما كان يطوف بالكعبة حاجاً، وهو لقاء عجيب ببنت يصفها بأنها "بنت عذراء، طفلة هيفاء، تقيِّد النواظر وتزيِّن المَحاضر وتسرُّ المُحاضر وتحيِّر المُناظر، تسمى بالنِّظام وتلقَّب بعين الشمس والبهاء. من العالمات العابدات السائحات الزاهدات [...]، مسكنها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد. أشرقت بها تهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه، فنمَّت أعراف أزهار المعارف بما تحمله من الرقائق واللطائف [...]." (ترجمان، 10-11) النظام هي أمثل النساء، والنساء هنَّ أنقى مرآة تجلِّي الحق في أكمل صور ومعانٍ. النظام هي منهل الشمس والبهاء. حسنُها في خَلْقها وخُلُقها. تستكمل ميزاتها شكلاً وروحاً. مشاهدة النظام وأنوثتها المتفشِّية في العالم يعني مشاهدة أسمائه – تعالى – في أعلى مرتبة. وقال الشيخ محيي الدين في موضع آخر: "وأعني بالنساء الأنوثة السارية في العالم، وكانت في النساء أظهر. فلهذا حُبِّبتْ لمن حُبِّبتْ إليه [محمد]؛ فإن النظر العقلي لا يعطي ذلك لبعده عن الشهوة الطبعية. " (الفتوحات، 3، 256) إن هذه النظام لهي باب مفتوح، بطنٌ لإنجاب المعاني والصور والمشاعر، ماء يروي الأبصار والقلوب، نور يضيء الأيدي والعيون، أرض تنبت فيها الأشجار والزهور. لا يستوفيها وصف، ولا يدني منها وقوف. نشاهد النظام، إذن نكون.

مخاطبة: يا أخي، من ينوي التلذذ بالتناسب وبالانسجام وبالنظام في كل منازلها وفي شتى تصوُّراتها عليه أن يحيي الخيال، لا محالة، على الدوام.

5. سرُّ الخيال

احتار الفلاسفة والفقهاء والعلماء في شأن الخيال. وأنا محتار. طائفة تفرض على الخيال الإذعان لأوامر العقل، وطائفة تطلق له السَّراح. ولقد قوَّى الشيخ الأكبر الخيال إلى حافة الهذيان وتحيير الناس. وحيَّرني. "فليس للقدرة الإلهية فيما أوجدتْه أعظم وجوداً من الخيال"، قالها الشيخ ابن عربي في فتوحاته (3، 508). في مذهبه فضاءُ الخيال الشاسع فضاءٌ برزخي: "البرزخ أوسع الحَضرات وجوداً، وهو مجمع البحرين: بحر المعاني وبحر المحسوسات. فالمحسوس لا يكون معنى، والمعنى لا يكون محسوساً. وهو يجسِّد المعاني، ويلطِّف المحسوس، ويقلب في عين الناظر عينَ كل معلوم. فهو الحاكم المتحكِّم، ولا يُحكَم عليه، مع كونه مخلوقاً." (الفتوحات، 3، 361) ثم يُذهِلنا باكتشاف نخشى من قبوله: "فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات. فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات [...]. وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك، فالعالم متوهَّم، ما له وجود حقيقي. وهذا معنى الخيال. أي خُيِّل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق، وليس كذلك في نفس الأمر [...]. فاعلم أنك خيال، وجميع ما تدركه مما تقول فيه: "ليس أنا" خيال. فالوجود كلُّه خيال في خيال. والوجود الحق إنما هو الله، خاصة من حيث ذاته وعينه، لا من حيث أسماؤه [...]. فما في الكون إلا ما دلَّت عليه الأحدية، وما في الخيال إلا ما دلَّت عليه الكثرة." (فصوص الحكم، 103-4) هذا على مستوى الخيال المطلق. أما الخيال المتصل، فإنما القلب هو مسكنه ومحيطه. فيه وبه فقط يمكن الجمعُ بين الضِّدين وتلقِّي الإلهام وإنعاش الإبداع. علمه علمٌ "تحت النطق" ينتمي إلى علوم الذوق. إنه مفتاح عالم الغيب، لا ثاني له. كتب ابن عربي في صباه الأندلسي: "... فقلب العبد الخصوصي بيت الله وموضع نظره ومعدن علومه وحضرة أسراره ومهبط ملائكته وخزانة أنواره وكعبته المقصودة وعرفاته المشهودة، رئيس الجسم ومليكه [...]. وهو محلُّ القبض والبسط والرجاء والخوف والشكر والصبر. وهو محل الإيمان والتوحيد، ومحل التنزيه والتجريد. هو الموصوف بالسكر والصحو والإثبات والمحق والإسراء والنزول. هو ذو الجلال والجمال والأنس والهيبة والتجلِّي [...]." (مواقع النجوم، 141) للخيال وللقلب قدرة التأمل في مرايا العالم والذات. الخيال مرآة خلاقة تصوِّر وجهها – وجه الوجود – ليل نهار. فيها تزول المفارقات، وتتَّحد المتضادات، ويشرق انصهار المتقابلات. في مُلك الخيال وحسب يُدرَك الجلال والجمال. لكل ما سلف، الخيالُ هو قوة المصوِّر والمتأمل والشاعر والحالم والمحب. نتخيَّل، إذن نكون.

مخاطبة: يا أخي، من لا يستحيل خيالاً لا يُشعِل محبَّته ويتبدَّد في العدم. ومن لا يستحيل محبةً لا يوسع الخيال ويتلاشى للأبد.

6. سرُّ المحبة

احتار الناس في شأن المحبة. وأنا أحتار. جماعة يرونها داءً وجنوناً وهذياناً، ويتفادونها لكونها مدمِّرة للرشد والعقل؛ وجماعة يغامرون في لُجَّتها، مع كل مخاطرها، من الثمالة والعشق والهوى حتى الهيام، ويهلكون سعداء مصابين بوبائها. المحبة وجود، بل أتمُّ منازل الوجود وأشدُّها. للمحبة أواصر حميمة بكل من الحسٍّ والإبداع والخيال والجمال. للمحبة سلطة كونية، وهذا معلوم. قال رسول الله (صلعم): "إن الله جميل يحب الجمال." يفهم بعضهم هذا الحديث الشريف بالظاهر واليسير، ويؤوِّله بعضهم الآخر تأويلاً باطنياً روحانياً. يعقِّب الشيخ الأكبر على هذا الحديث قائلاً: "وهو حديث ثابت. فوصف نفسه بأنه يحب الجمال، وهو يحب العالم. فلا شيء أجمل من العالم. وهو جميل، والجمال محبوب لذاته. فالعالم كلُّه محبٌّ لله، وجمال صنعه سارٍ في خلقه والعالَمُ مظاهرُه. فحبُّ العالم بعضه بعضاً حبٌّ من حبِّ الله نفسه. فإن الحبَّ صفة الموجود، وما في الوجود إلا الله. والجلال والجمال لله وصفٌ ذاتيٌّ في نفسه وفي صنعه. والهيبة التي هي من أثر الجلال، والأنس الذي هو من أثر الجمال، نعتان للمخلوق، لا للخالق ولا لما يوصف به." (الفتوحات، 2، 114) في هذا السرِّ يجتمع سرُّ حب النساء وسرُّ الجمال وسرُّ الحواس. أوضح الشيخ الأكبر: "فشهوده للحق في المرأة أتمُّ وأكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل؛ ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة. فلهذا أحبَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – النساء لكمال شهود الحق فيهن؛ إذ لا يشاهَد الحقُّ مجرَّداً عن المواد أبداً؛ فإن الله بالذات غني عن العالمين. وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعاً، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله. وأعظم الوصلة النكاح؛ وهو نظير التوجُّه الإلهي على من خَلَقَه على صورته ليخلِفَه، فيرى فيه نفسَه. فسوَّاه وعَدَله ونفخ فيه من روحه الذي هو نَفَسُهُ، فظاهره خلق وباطنه حق." (فصوص الحكم، 217-8) في برزخ الخيال، الأحرف تنكِح الأحرف وتنجب كلمات. في برزخ الخيال، الكلمات تضاجع الكلمات وتلد آراء. في ماء الخيال، الآراء تتزوج من الآراء وتخلق وجداناً. في مرآة الخيال، الصور تقترن بالصور وتوجِدُ فضاء. في السمع، النغمة تغازل النغمة وتؤلِّف طرباً. في البصر، الظل يجامع النور ويبدِع بهاءً. في البصر، اللون يداعب مقابلَه ويخلق صباحة. في اللمس، اليد تلاعب الطين وتصوِّر مِثالاً. لكلُّ محسوس في العالم جمالٌ. ولكُّل جمال في العالم شعورٌ. ولكلُّ شعور في العالم روحٌ. مع المحبة نعود إلى الأصل مسرورين ونسيح إلى حضن النظام. المحبة تجعلنا نبتسم ونطرب للإبداع. معها ننصهر في حركة الحياة. مع فقدانها نتيه في الظلال والجمود. المحبة شقيقة الموت التوأم. المحبة هي النهار، والموت هو الليل، والعكس أيضاً. هما وجهان لسيلان الوجود، لا مفرَّ منهما. نحبُّ، إذن نكون.

مخاطبة: يا أخي، المحبة نور إذا سرى في قلوبنا نحيا ونتذوق الجمال.

7. سرُّ الجمال

احتار العلماء والناس في شأن الجمال. أما أنا، فأُسَرُّ بإشراقه وبالهيام في مياه شمسه. ثمة من يرضى بأثمار عجائب الطبيعة؛ ثمة من يكتفي بلمِّ روائع المصنوعات؛ وثمة من يتوق إلى الترقِّي إلى مباهج الروح والنفس. هنالك من يجمع بين هذا وذاك، ومن يرتبك في الخيار بين هذه أو تلك أو هاتين. ولكن كمًّا محدوداً من العلماء ربطوا بين الحسِّ والوجود والمحبة في خصوص الجمال. يبيِّن الشيخ الأكبر هذا الإشكال، ثم يعقِّده: "فأوجد الله العالم في غاية الجمال والكمال خلقاً وإبداعاً؛ فإنه – تعالى – يحبُّ الجمال، وما ثم جميل إلا هو، فأحبَّ نفسه. ثم أحبَّ أن يرى نفسه في غيره، فخلق العالم على صورة جماله، ونظر إليه، فأحبَّه حبَّ من قيَّده النظر. ثم جعل – عزَّ وجلَّ – في الجمال المطلق الساري في العالم جمالاً عرضياً مقيداً يفضل آحاد العالم فيه بعضه على بعض بين جميل وأجمل." (الفتوحات، 4، 269). وقال شيخنا وأخونا ابن عطاء الله الإسكندري في كتاب الحكم إن "الجمال هو تجلِّيه – تعالى – بوجهه لذاته. لجماله المطلق جلالٌ هو قهَّاريَّته للكلِّ عند تجلِّيه بوجه، وهو ظهور في الكل." للجمال، مثله مثل الخيال، صفة المطلق وصفة التقييد؛ ومن الأول إلى الآخر يتحرك باتصال الوجود. استدعى الشيخ الأكبر ثانيةً الحديث الشريف السابق: "الله جميل يحب الجمال؛ فهو –

تعالى – صانع العالم، أوْجَدَه على صورته. فالعالم كلُّه في غاية الجمال، ما فيه شيء من القبح؛ بل قد جمع الله له الحسن كلَّه والجمال. فليس في الإمكان أجمل ولا أبدع ولا أحسن من العالم. ولو أوْجَدَ ما أوجد إلى ما لا يتناهى، فهو مثلٌ لما أوْجَدَ لأن الحسن الإلهي والجمال قد حازه وظهر به." (الفتوحات، 3، 449) وأصرَّ الجيلي على هذه الحكمة المدهشة بعده: "فما في العالم قبيح. فكلُّ ما خلق الله – تعالى – فهو مليح بالأصالة لأنه صور حسنه وجماله. وما حدث القبيح في الأشياء إلا باعتبارات. وقولُنا إن الوجود بكماله يُدخِل فيه المحسوس والمعقول والموهوم والخيال والأول والآخر والظاهر والباطن والقول والصورة والمعنى. فإن جميع ذلك صورُ جماله وتجلِّياتُ كماله." (الإنسان الكامل، 1، 75-6) أقوال هذين العارفين لا يرتاح العقل إليها، بيد أنها تزرع حقول الخيال والعشق والأحلام. أعلن الشيخ الأكبر أن "جمال العالم جمال الله"، وألحَّ على أن "الأشياء، من حيث ذواتها، من غير نظر إلى كمال أو نقص أو ملائمة طبع أو منافرة عَرَض أو وضع، لا حسنة ولا قبيحة ولا محمودة ولا مذمومة. فالحُسن والقبح والذمُّ أوصاف وضعية وضعها شرع وطبع، بحكم ملائمة أو منافرة، وناظر في كمال ونقص لا غير." وأنا أردف قائلاً: الهوى العارم للكمال خَطِر وخطَّاء. من يُهرَع وراءه، ويسهو عن المشاعر ولطائف القلوب، يَهلَك ويُهلِك. في هذا السياق، أعترف بضعفي وأبوح بذوقي؛ إذ إنني من أهل البساتين والصنع الدقيقة، من المعجبين بجمال الأشياء الصغيرة. إليها أسكن، وبها أحلم. تركت شجيرات ونهيراً وبستاناً، وإليها قد أعود. أنا غرناطي، وفي الشرق صرتُ غرناطياً بعمق. أرى أن إجادة جمال البسيط هو أعسر إيجادٍ وأروعُه. لذا أؤثر السواقي على القصور. سرُّ الجمال – باختصار – هو أنه يجنِّد الحواس، ويوقظ الإبداع، ويوحي بالشعور، ويتجلَّى نظاماً متلائماً لامعاً، ويوقد الخيالَ والخيالُ يخلقه، ويدعو إلى المحبة والمحبةُ تستنبطه. جمال العالَم والصنائع يعشِّش في رؤيتنا، في قلبنا، في ذاتنا. نزيد الوجود جمالاً، إذن نكون.

مخاطبة: يا أخي، اعلم أن من يُفرِط في البحث عن الكمال غلطان؛ فإن مثقالاً من الخَلَل وقطرة من العيب مصدر التحابُب وطبيعة الإنسان.

*** *** ***

إلى نيروز،

في ربيع زواجها،

مع كل المحبة...

 

خوسيه ميغيل بويرتا

اليبرودوركلي

غرناطة، نوروز/نيسان 2001

***

المراجع

- ترجع إعادة تلوين القبة على الورق، مع كل تخاطيط أنجم قبة العرش ورمزيَّتها، إلى المستعرب الأب داريو كابانيلاس، بالاشتراك مع الرسام الغرناطي مانويل مالدونادو. انظر:

Darío Cabanelas, El techo del Salón de Comares en la Alhambra: Decoración, Policromía, Simbolismo y Etimología, Garnada, Patronato de la Alhambra, 1988.

حول هذا الكتاب، راجع تعليقنا بالعربية: خوسيه ميغيل بويرتا، "ملاحظات من أجل استمتاع حسِّي ومعرفي بالفن الإسلامي"، الحياة، العدد 11922، لندن، 13/10/1995، ص 21.

- ترد ترجمة ابن جعفر القونجي في إحاطة ابن الخطيب، بتحقيق عبد الله عنان، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1973، الطبعة الثانية، المجلد الثالث، 234-6.

- ابن عربي:

-         الفتوحات المكية، [بيروت]، دار الفكر، بدون تاريخ، (أربعة أجزاء).

-         فصوص الحكم، بتحقيق أبي العلا عفيفي، بيروت، دار الكتاب العربي، 1980 (الطبعة الثانية).

-         ترجمان الأشواق، بنشر وترجمة نيكولسون، لندن، 1978.

-         ديوان ذخائر الأعلاق: شرح ترجمان الأشواق، بتحقيق محمد علم الدين الشقيري، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 1995.

-         مواقع النجوم، بتحقيق محمد بدر الدين النعساني، [القاهرة]، مكتبة السعادة، 1907.

-         كتاب الجلال والجمال، في "رسائل ابن عربي"، بتحقيق محمد شهاب الدين العربي، بيروت، دار صادر، 1997، ص 24-57.

- النفري، كتاب المواقف وكتاب المخاطبات، بتحقيق آرثر يوحنا أربري، القاهرة، مكتبة المتنبي، 1935.

- رسائل اخوان الصفا، بتحقيق بطرس البستاني، بيروت، دار الفكر، بدون تاريخ (أربعة أجزاء).

- ابن عطاء الله الإسكندري، كتاب الحكم، من إعداد وتقديم عبد الحميد صالح حمدان، القاهرة، مكتبة المدبولي، بلا تاريخ.

- ابن ليون، كتاب إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة في أصول صناعة الفلاحة:

Joaquina Eguaras Ibáñez: Ibn Luyūn, Tratado de Agricultura, Granada, Patronato de la Alhambra, 1988 (reed.).

- أدونيس، الصوفية والسوريالية، لندن، دار الساقي، 1992.

- عبد الكريم اليافي:

-         "الجمال عند الصوفية"، في بدائع الحكمة: فصول في علم الجمال وفلسفة الفن، دمشق، دار طلاس، 1998، ص 129-155.

-         "الرمز الصوفي"، في دراسات فنية في الأدب العربي، بيروت، مكتبة لبنان، 1996، ص 190-224.

- José Miguel Puerta Vílchez:

-         Historia del pensamiento estético árabe. Al-Andalus y la estética árabe clásica, Madrid, Akal, 1997.

-         “La belleza del mundo es la Belleza de Dios. El núcleo estético del ‘irfán de ibn ‘Arabi (I parte),” Anales del Seminario de historia de la Filosofía, n° 17, Facultad de Filosofía, Universidad Complutense, Madrid, 2000, pp. 77-100.

- "البنية الطوباوية لقصور الحمراء"، مقدمة لمطاع الصفدي، العرب والفكر العالمي، بيروت - باريس، العدد 19-20، ص 4-63.


* بحث قُدِّم ضمن فعاليات مؤتمر الفن والصوفية، معهد ثرفانتس والمتحف الوطني بدمشق، 21–23 نيسان ‏2001‏‏.

** أوردها ابن الخطيب في الإحاطة، 3، ص 236.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود