الصفحة التالية الصفحة السابقة

قَصَص من البوذية*

***

قال راهب للسيد البوذا مرة: "هل تنجو نفوس الأبرار من الموت؟"

لم يُحِر البوذا جواباً، على عادته.

لكن الراهب ألحَّ. فكان كل يوم يكرِّر السؤال عينه وكان كل يوم يجاب بالصمت، حتى نفد صبره. فهدد بالرحيل إذا لم يلقَ جواباً على هذا السؤال المصيري، إذ في سبيل ماذا يضحي بكل شيء ليعيش في الدير إذا كانت نفوس الأبرار تفنى مع أجسامهم؟"

إذ ذاك تكلم السيد البوذا، وقد أخذته الرأفة بالرجل، قال: "إن مثلك كمثل رجل يحتضر من جراء إصابته بسهم مسموم. لقد جاء ذووه سريعاً بطبيب لإسعافه، لكن الرجل رفض أن يُنزَع السهم من جسمه قبل أن يجاب على ثلاثة أسئلة حيوية: أولاً، هل كان الرجل الذي أصابه رجلاً أبيض أم أسود؟ ثانياً، هل كان طويلاً أم قصيراً؟ وثالثاً، هل كان من طائفة البراهمة أم من المنبوذين؟"

وعَدَل الراهب عن الرحيل!

*

عرض البوذا ذات مرة زهرة على تلاميذه وسأل كلاً منهم أن يقول شيئاً فيها. ألقى أحدهم محاضرة. ونظم آخر قصيدة. وواحد آخر قال مثلاً. حاول كل منهم أن يبزَّ رفاقه عمقاً وفقهاً.

ابتسم ماهاكاشياب ولم يَفُهْ بشيء. وحده فقط رأى الزهرة!

*

بعد سنوات من التدريب، توسل التلميذ إلى معلِّمه أن يهبه الاستنارة.

اصطحبه المعلم إلى أيكة خيزران وقال: "أترى هذه الخيزرانة، كم هي طويلة؟ أترى تلك الأخرى، كم هي قصيرة؟"

واستنار التلميذ من فوره.

*

وقع المحارب الياباني في أسر أعدائه وألقي في السجن. وفي الليل لم يغمض له جفن، إذ كان واثقاً أنه سيُعذَّب في الصباح التالي.

إلا أن كلمات معلِّمه ما لبثت أن خطرت بباله: "ليس الغد حقيقياً. الحقيقة الوحيدة هي الآن."

بذلك عاد إلى الحاضر واستغرق في النوم.

*

سأل الراهب: "هذه الجبال والأنهار والأرض والنجوم كلُّها – من أين جاءت؟"

فقال المعلم: "وسؤالك – من أين جاء؟"

*

كان كاكُوا أول ياباني يدرس الزِنْ في الصين. لم يسافر البتة. بل تأمَّل بدأب وحسب. وكان كلما وقع عليه الناس وسألوه موعظة يقول بضع كلمات ويهرب إلى موضع آخر من الغابة حيث لا يزعجه أحد.

وإذ عاد إلى اليابان سمع به الإمبراطور وأمره أن يعظ في البلاط. وقف كاكُوا صامتاً عاجزاً. ثم أخرج ناياً من بين ثنايا ردائه، وعزف عليه نغمة قصيرة واحدة، ثم انحنى باحترام أمام الإمبراطور، وتوارى.

*

ذات يوم أرسل معلِّم الزِنْ مو نَنْ في طلب تلميذه شوجو وقال: "لقد شختُ يا شوجو، وأنت من سيواصل من بعدي هذا التعليم. إليك هذا الكتاب الذي انتقل من يد معلِّم إلى يد آخر عبر سبعة أجيال. لقد أضفت أنا نفسي إليه بعض الشروح التي ستجدها – ولا ريب – قيِّمة. هاك، احتفظ به علامة على أني جعلتك خليفتي."

فقال شوجو: "خير لك أن تحتفظ بالكتاب لنفسك. لقد أخذت عنك الزِنْ دون معونة كلمات مكتوبة وإني لجدُّ راضٍ بأن يظل الأمر على هذا النحو."

أجابه مو نَنْ بحلم: "أعرف، أعرف. مع ذلك فإن هذا الكتاب قد خدم سبعة أجيال وقد يكون عوناً لك أنت أيضاً. إليك، احتفظ به."

ولقد اتفق أنهما كانا يتحدثان قرب الموقد. وفي اللحظة التي مسَّ فيها الكتاب يد شوجو رمى به إلى النار. لم تكن به شهوة للكلمات المكتوبة.

أما مو نَنْ الذي لم يُعرف عنه من قبل قط أنه غضب فقد صاح: "لابد أنك أحمق! ماذا تفعل؟"

وردّ شوجو صائحاً: "بل أنت هو الأحمق! ماذا تقول؟"

*

سأل التلميذ المعلم مرة: "ما هو البوذا؟"

أجاب: "العقل هو البوذا."

وفي يوم آخر سئل السؤال نفسه فأجاب: "لا عقل. لا بوذا."

أشكِل الأمر على التلميذ. "لكنك قلت منذ أيام: العقل هو البوذا."

قال المعلم: "كان ذلك لكي يكفَّ الرضيع عن البكاء. وعندما يكف الرضيع عن البكاء أقول: "لا عقل. لا بوذا".

*

تلقى اللاما الأكبر للشمال نداءً عاجلاً من اللاما الأكبر للجنوب يسأله راهباً حكيماً تقياً لتلقين الرهبان المبتدئين أصول الحياة الروحية. وأمام دهشة الجميع أرسل اللاما الأكبر خمسة رهبان بدلاً من راهب واحد. وللمستفهمين عن الأمر كان يجيب إجابة ملغوزة: "سنكون محظوظين إذا وصل واحدٌ منهم إلى اللاما."

كان الفريق في طريقه منذ بضعة أيام عندما لحق بهم رسول راكضاً وقال: "لقد مات كاهن قريتنا. نحتاج إلى من يحلُّ محلَّه." بدت القرية مكاناً مريحاً، وكان أجر الكاهن محترماً، فأخذت أحد الرهبان نخوة رعوية بالقوم وقال: "ما أنا ببوذي إذا لم أبقَ لخدمة هؤلاء القوم." وهكذا تخاذل.

بعد بضعة أيام أخرى اتفق لهم أن نزلوا قصر أحد الملوك الذي أعجِبَ بواحد من الرهبان، فقال له: "ابقَ معنا، ولسوف أزوِّجك ابنتي. وعندما أموت سوف تخلفني على العرش."

انجذب الراهب إلى بريق المُلْك، فقال: "أية طريقة أفضل للتأثير على شعب هذه المملكة من أن أصير ملكاً؟ ما أنا ببوذي إذا لم أنتهز هذه الفرصة لخدمة مصالح الدين." وهكذا تخاذل هو الآخر.

مضى باقي الرهبان في طريقهم. وفي إحدى الليالي فوجئوا في منطقة كثيرة التلال بكوخ منفرد تشغله فتاة جميلة قدمت لهم الضيافة وشكرت الله على إرسال الرهبان إليها. فقد قُتِل ذووها على أيدي لصوص الجبال وبقيت وحيدة يملؤها الجزع. وفي صباح اليوم التالي، عندما حان وقت الرحيل، قال أحد الرهبان: "سوف أبقى مع هذه الفتاة. فما أنا ببوذي إذا لم أمارس الرحمة."

وصل الراهبان الباقيان أخيراً إلى قرية بوذية فوجدا – ويا للرعب – أن جميع القرويين قد ارتدُّوا عن دينهم ووقعوا تحت نفوذ فقيه هندوسي. قال أحد الراهبَيْن: "إني أدين لهؤلاء الناس وللسيد البوذا نفسه أن أبقى بين ظهرانيهم وأستعيدهم للدين."

وصل الراهب الخامس أخيراً إلى لاما الجنوب.

*

في قرية للصيادين حبلت فتاة سِفاحاً، وبعد أن ضُرِبت ضرباً مبرحاً اعترفت أخيراً أن والد الطفل هو معلِّم الزِنْ القاطن عند أطراف القرية.

تقاطر القرويون إلى بيت المعلِّم، وعكَّروا بفظاظة صفو تأمله، متَّهمينه بالنفاق، وأمروه أن يحتفظ بالوليد. أما المعلِّم فكل ما فاه به كان: "جيد جداً، جيد جداً."

ثم أخذ الطفل واتفق مع إحدى نساء القرية على إرضاعه وإلباسه ورعايته على نفقته.

ساءت سمعة المعلِّم وأعرض عنه جميع تلاميذه.

بعد مضي عام على ذلك، لم تعد الفتاة التي أنجبت الولد قادرة على التحمل فاعترفت أخيراً أنها كذبت وأن والد الطفل هو ابن الجيران.

ندم القرويون أشد الندم. وركعوا عند قدمي المعلِّم يلتمسون صفحه ويسألونه استرداد الطفل. ردَّ المعلِّم إليهم الطفل. وكل ما فاه به كان: "جيد جداً، جيد جداً."

*

التلميذ: "جئتك ولاشيء في يديَّ."

المعلِّم: "اتركه فوراً!"

التلميذ:         "كيف أتركه؟ إنه لاشيء!"

المعلِّم: "فاحملْه إذن أينما ذهبت!"

*

كان راهبان بوذيان في طريقهما إلى الدير عندما لقيا امرأة بارعة الجمال عند ضفة النهر. كانت، مثلهما، تودُّ عبور النهر، لكن الماء كان شديد الارتفاع. لذا رفعها أحد الراهبين على ظهره وعبر بها.

ولشد ما استفظع رفيقه الراهب الأمر، فظل ساعتين يوبخه على إهماله التقيُّدَ بالقاعدة. أنَسِي أنه راهب؟ كيف جرؤ على لمس امرأة؟ والأسوأ من ذلك أنه حملها عبر النهر؟ ماذا سيقول الناس؟ ألم يكن فعله مجلبة لسوء السمعة لدينهم المقدس؟ وهلمجرا.

استمع الراهب المذنب صابراً إلى العظة المطوَّلة. وأخيراً قاطعه قائلاً: "يا أخي، أنا قد أنزلت تلك المرأة عند النهر. أما تزال تحملها أنت؟"

*

كان معلم الزِنْ ريوكَن يعيش حياة بسيطة للغاية في كوخ صغير عند سفح الجبل. وذات ليلة، بينما كان المعلم متغيباً، اقتحم لص الكوخ ليجد أن ليس ثمة ما يُسرَق.

عاد ريوكَن وأمسك باللص وقال له: "لقد كلَّفت نفسك مشقة كبيرة بزيارتي. لذا لن أدعك تذهب خالي الوفاض. أرجوك، خذ ثيابي ودثاري هدية."

أخذ اللص الثياب، وهو في غاية الحيرة، وانسلَّ ماضياً.

جلس ريوكَن عارياً، وأخذ يشاهد القمر. فخطر بباله: "يا للرجل الشقي! ليتني كنت أستطيع أن أعطيه ضوء القمر البديع."

*** *** ***


horizontal rule

* هذه القصص جميعاً مستقاة من كتاب أنتوني دو مِلّو أغنية الطائر، ترجمة وتقديم أديب الخوري، سلسلة "الحكمة" 3، دمشق 1998.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود