|
في تكامل الحضارات وتفاعلها إقبال
الشايب غانم
اعرف
عدوك... اعرف صديقك... اعرف شريكك... معرفة
لابدَّ منها في سبيل النجاح حرباً أو سلماً،
معركة أو حواراً. والمعركة
الدائرة اليوم، التي تجاوزها القرن الماضي (نوعاً
ما حتى ربعه الأخير) نتيجة يقظة الوعي التحرري
والقومي والوطني على الوعي الإثني الديني،
معركة قديمة بدأت قبل التاريخ، ويحاولون
ترقيعها حديثاً بلصقات مزركشة ملونة مدبَّجة
الخطب والتبريرات. المعركة اليوم، بعد كل
التطور المعلوماتي والتكنولوجي والعلمي
والطبي والأنثروبولوجي، معركة همجية لا تعرف
معنى الحضارة. معركة أخطبوط سياسي اقتصادي
سلطوي شَرِه، يرتدي قناع الحضارات والثقافات
والأديان – وهي الحلقة الأضعف التي تحرك
عواطف وتستثير عصبيات وتلعب على إيقاظ
الغرائز الجماهيرية. المعركة
قديمة–جديدة، بدأت بمقال كتبه صموئيل
هانتنغتون حول الحضارات العالمية وصراعها،
على شاكلة صراع الغابات والبقاء للأقوى.
والأخطبوط وحده يحدد معاني كلمة "الأقوى"
ومحتوياتها ومفاهيمها. و"صراع الحضارات"
كلمتان متوازيتان لا تجتمعان أبداً منطقياً.
كلمة "صراع" في مجال الحضارات نقض
للحضارة في ذاتها. الحضارة
مجلَّد كوني ضخم تخط الأقوام على صفحاته
الزمنية المتتالية المحطات المهمة في عبورها
وأفولها. والصراع يؤدي إلى تمزيق هذا المجلد
ورميه في نفايات الحروب البربرية الهمجية.
فإن تكن حضارة حقَّة فهي مترفعة حتماً عن هذا
كله أو ما كانت أصلاً. هانتنغتون
وأمثاله دوماً كانوا يعترضون مسار تاريخ
الشعوب، حتى قبل نزول الديانات التوحيدية، إذ
كانوا يحركون غوغائية الجماعات المختلفة
لتحطيم أصنام بعضها بعضاً، وعلى ركامها
يسودون! كل
الحروب الدينية في التاريخ، الصغيرة أو
الكبيرة، حُرِّكت هكذا. إنما هي طفرة زبد
تطرده الأعماق بين الفينة والفينة ليزول
ويتلاشى على الرمال. والأمثلة أكثر من أن تحصى، والمثال الأقرب هو الحرب اللبنانية. كان
لبنان وساحل البحر الأبيض المتوسط مهداً
لكثير من الحضارات على مدى حقب التاريخ. ولأن
حضارات هذا الكوكب حلقة متواصلة الجاذبية
والحضور، فإن كل حضارة تعتبر ذاتها لا تمت
بصلة إلى سواها تفقد ثقل وجودها وتصبح ريشة
فاقدة وزنها في مهب المجهول. وهو ما دفع عدداً
كبيراً من اللبنانيين، مفكرين ومثقفين، إلى
الإشادة بأمجاد عابري البحار، زارعي جذور
العولمة الإنسانية ومخترعي الأبجدية، ومصممي
الألوان الأرجوانية، الفينيقيين، ليس من أجل
استثارة عصبية أو استدعاء وثنية أو بعث
انعزال، كما يروق لبعض المستثقفين ومدَّعي
الفكر الهانتنغتونيين أن يصفوهم، لعباً على
أوتار النغم الأضعف المجتمعي، بل من أجل ردِّ
الاعتبار إلى حضارة قديمة ساهمت، فعلاً لا
قولاً، في مجال التأسيس الحضاري الكوني؛ إذ
نشرت شعاعات ثقافية وتجارية وصناعية وفنية
أضاءت وأثرت في حضارات اليونان والإغريق
والفرس والرومان. ومن بعدُ انتقل المشعل إلى
الحضارة العربية الإسلامية، وبالتالي نهضة
الغرب الحديثة. يحاول بعض الغربيين اليوم طمس
فضل هذه الحضارة عليهم، رغبة منهم في
الاستئثار والتفرد. وهذه الأنا المغرورة
والمفاخرة في التاريخ البشري ليست الأولى ولن
تكون الأخيرة – هي الخطيئة الأفدح التي تضاف
إلى سمات آدم والتي استدعت هذا السقوط
الجماعي. والحرب
التي فُرِضت على لبنان لتشتيت شمله الحضاري
وشلِّ مناخه الملائم الراقد على بيوض
الحضارات، دفئاً وحماية وحضانة حتى البزوغ
والترعرع، فشلت فشلاً ذريعاً. وشعار "اللَّبْنَنَة"
الذي استُعمِل أثناء الحرب نعتاً للتفرقة
والشرذمة صار الآن حجَّة للحكمة والتعايش
والتفاعل والحوار، وبات مثالاً يُحتَذى
ونموذجاً حياً لتعاقب الحضارات وتمازجها
وتفاعلها تحت سقف واحد، مما يدحض مقولات
هانتنغتون باستحالة التوافق والتعاون
والاعتراف المتبادل بين الحضارات. الحضارات
المختلفة واقعة، واختلاف الثقافات غنى، وليس
خلافاً، وصراعها يعني نازية وهولاكية جديدة
تغزو العالم وتبيده لمصلحة عرق واحد. "لَبْنَنَة"
الحضارات واقع حيٌّ يدحض الانعزال والتقوقع
والتحصُّن العصبي. هو حلٌّ موجود وفاعل
لصراعات العالم. وخوفاً من استلهام دوره،
واستباقاً للأحداث الشنيعة الجارية الآن على
ساحات العالم، كم حاولوا أن يزيلوه وأن
يُفشِلوه. لكنه استمر وفشلوا. ومسؤولية
اللبنانيين الآن كبيرة وخطيرة. إنها مسؤولية
من يعي قيمة وطنه ويحافظ عليه. كلامنا لا
يندرج في مجرى التباهي النَّعامي والسكر
الأعمى. الإرث في حاجة إلى عمل إغناء لكي يبقى، وإلا صُرِف حتى الإفلاس. حماية
هذه الظاهرة الإرثية الفريدة وصونها – مع ما
يعني ذلك من رعاية وريٍّ وتشذيب أغصان يابسة
واقتلاع فطور ونباتات لبلالبية تخنقه، بحجة
حماية طافحة أو حبٍّ نرجسي متهوِّر – لكي لا
ندغدغ جذور حضارات عريقة ضاربة في التربة.
لبنان يتعلم من الأشجار المتجاورة كيف تتحاور
بأغصانها وتتهامس بأوراقها وتتلامس بثمرها
وتتلاقح بزهورها، مقدِّمة إلى العالم ظلالاً
مشعة وفيئاً وفيراً. توجهات
كثيرة لرعاية هذه اللَّبْنَنَة أهمها: الحاجة
إلى كتاب مقدس موحَّد يوضع إضافة إلى الكتب
السماوية المنزلة، ويضمُّ بين دفَّتيه
تعاليم كل الديانات التوحيدية، أقوالها،
أفعالها، آياتها، فروضها، شرحاً وتفسيراً.
وأن يوضع هذا الكتاب في كل المدارس، خاصة
ورسمية، وعلى كل المستويات؛ يبدأ بالسهل
الابتدائي مع الأطفال، ويتدرَّج إلى الثانوي، حتى يبلغ صميم الأديان
ولبَّ
تعاليمها ولاهوتها. ولأن
حوار الحضارات معركة سلمية، يجب التسلُّح
بعتادها الثقافي. وطريقان في الحوار يؤديان
إلى التصادم الثقافي والهلاك: التعصب الفلسفي
الجاهلي من ناحية، والتحرري المستهتر بالقيم
الموروثة من ناحية أخرى. إننا نتعلَّم ممَّن
نحاور، نضع مقاديرنا ويضعون مقاديرهم في
الطبخة كي تنجح. كما أن المحارب في صولات
المعارك وجولاتها يتعلَّم ممن يحاربهم،
فلابد من أن يستعمل سلاح الخصم. ليس الحديد
والنار بلا سلاح الثقافة. وقد قارن أرنولد
توينبي بين الدولة الروسية التي أخذت عن
أوروبا حديدها وثقافتها فانتصرت واستمرت،
والدولة العثمانية التي انقرضت لأنها لم تأخذ
من الخصم سوى معدنه وحديده. اللقاء
التماثلي، أخذاً ورداً، هو الحل من أجل
الحوار واستخلاص حضارة المستقبل. ولو بنينا
على آراء هيغل الجدلية، نتصور أن الحضارة لا
تكون كاملة وحقيقية إلا بحضورها الكلِّي
واجتماع أطرافها الشاسعة حول نواة حقيقية
متكاملة لعناصر ثقافية متناقضة ومختلفة في
علاقة ديالكتيكية جدلية. فلابد من أن يكون خلف
كل تناقضات العالم الظاهرة قوة ميتافيزيائية
توحِّد. وتلك القوة هي مرجع كل الديانات. *** *** *** عن
النهار، الخميس 13 كانون الأول 2001
|
|
|