تفاصيل

 

حياة أبو فاضل

 

\

نزل متنكِّراً، هو الشاهد، منذ البدء، على تفاعل الطاقة المستمر على سُلَّم التطور. اتخذ قراره في بساطة وارتدى عباءة بيضاء ونزل – أو ربما صعد أو تحرك أفقياً. وحين أبصرَنا وسمع ما نقول عنه، وما نمارس لإرضائه، وما نضمر من كرهٍ وحقدٍ وحسد، لمن نعرف ولمن نجهل، ضحك طويلاً وكَرَجَتْ دمعة جميلة على خدِّه. ودَّ لو يضمنا جميعاً تحت عباءته لنستفيق، ثم تذكَّر مبادئ اللعبة، فنفض عباءته وعاد.

\

باكراً صحوت. فأنا على موعد مع الشروق. سرحتْ مليارات الأصابع الذهبية وتسللتْ من السهل الكبير إلى الجبال، إلى الشاطئ، ثم بلغت أطراف السماء المبلولة بآخر البحر. باكراً انتظرتُ الشمس، والآخرون إما في صحبة النوم أو منطلقون إلى أعمالهم، مكرِّرين تفاصيل الأمس القريب والأمس البعيد، غارقين في طقوسهم وهمومهم الكثيرة، غافلين عن امتداد

الضوء الذي يغمرهم جميعاً، لأنهم لا يرون ولا يدرون.

\

كلَّما مرَّتْ من هناك سمعتْ نداء النهر بغير أذنيها. هي لا تعرف الليل والنهار. تعرف سطح الأرض وباطنها، والزمن كله تختصره في خصرها الرقيق. سمعتْ النهر يكلِّمها فتوقفت: "أهو نهر أم بحر أم محيط؟" ومن داخلها تمنَّت قارباً ينقلها إلى ضفة أخرى. دارت قليلاً والتقت قوائمُها الصغيرة حافةً ملساء تسلَّقتْها. "قارب!" قالت. ثم قفزت وسحبته إلى الضفة وعادت إلى داخله. ثم حملتْها نسمة هواء وقاربَها فوق المياه المسافرة.

\

كلَّما أعلن آذار مجيء ربيع جديد أملأ جيوبي فستقاً حلبياً وأسرِع إلى الغابة الخضراء لأشاهد ولادة صديقي الغدير الصغير النابع من باطن الأرض ليختال فوقها منحدراً لوقت قد لا يطول أسبوعاً. يختصر الزمن كلَّه في أيام لنلتقي. وتقع مني قشرة نصف حبة فستق لتستقر قرب نملة تدور. تصعد إلى داخلها، تخرج، تسحبها إلى حافة الغدير، ثم تركب، ويأخذها وجه الماء إلى سفر بعيد.

\

ليلاً، وبعد أن أفْسَحَ للبدر مكاناً، فتح ذئبٌ على صفحة تحكي عن شراسة الحيوانات، وأطماعها، وانعدام ضميرها وذوقها. أغمض، فالتقط ذبذبات تقول: "لو أن الحيوانات كتبت عن الإنسان لانتقت له اسماً آخر. فطموحاته السلبية تفوق شراسة وسوءاً طموحات كل قبائل الحيوانات مجتمعة، لأنه ما أدرك بعد الهدف من اختبار إنسانيته."

\

من ملايين السنين المنسابة جاء الإنسان بدماغه المختلف عن باقي المخلوقات – الأجمل والألطف منه، لأنها مدرِكة، بغير دماغ متطوِّر، بساطة الحياة وسحرها. أطلق جشعه على الكل باسم التقدم والحضارة والدِّين. خرَّب كوكبه، ويكاد يخرِّب نظامه الشمسي. هذا الكائن المغرور، من سيضعه داخل أسوار الرأفة؟ من سيلفت بصره إلى داخله، إلى أشواق روحه؟

\

من وراء الحروف لمعت عيناه – كما في زمان بعيد حين لمعتا وراء أعشاب الغابة، حاملتين ذاك الفرح النابض بالدموع. أطلَّتا ونطقتا: "ما بالكِ؟" كيف تغدو الحياة بلا لون الليل، بلا ثنائية النور والظلام؟ داخل القلب: للحقيقة الواحدة؛ خارجه: للاختبار. من وراء الحروف تكلَّمت عيناه للمرة الأولى. قالتا: "كفاك مثالية."

\

من وراء أعشاب الغابة والزمان بعيد: أنت ثعلب تلتقط أسرار شغفي بالهواء منِّي – أنا عصفورة حائرة تجذبها أرجوحة بعيدة وبحيرة عارية إلا من السحر. أهديتَني كل ما يهديه ثعلب لعصفورة، ثم... هل أكلتَني؟ لا أذكر. واليوم تطلُّ عيناك من وراء الحروف لتقولا: "كفاك مثالية."

\

يغيِّر فرحك مكانه. يترك كل خلاياك ويتجمع في قلبك. يهمس تمتمات لا يدركها إلا القلب. يتعانقان. يفتح القلب بابه ويفوح فرحك كالعطر مغادراً. يحمله الأثير إلى حيث... إلى أوتار صوت ستسمعه بعد حين، وتقع تحت سحره، واهماً أنه سيعيد لقلبك تغريدَه.

\

يعرف قلبي الحكاية. تُرجِعه إلى قبل، حين غادر الفرح هامساً، تاركاً اللعب للفكر، حين أهداني صوتك فرحاً كثيراً لمرَّات، وعكسه لمرَّات. إلى أن تحرك القلب من جديد مغرِّداً: أن لا فرح إلا به، بداخله، وما عداه لعبٌ من نسيج الفكر، يشبه تكاثر دخان. ثم لا شيء...

\

عذباً يتسلل إلى داخل الرأس، إلى الفكر. يأخذك من كلمات كتابك أو من شاشة التلفزيون أو من وشوشات شهواتك. يغلق عليك الخارج، يقفل على حواسك، ويحتجزك في قفصه السحري. قليلاً وأنت في جديد: عالم الأحلام، ينسجه فكرك على موجة وعي مختلفة. إلا أن ما تختبره حقيقي، كالحياة تماماً، إنما خارج منطق الزمان والمكان.

\

عذباً يأخذني إليه، إلى شاشته الملوَّنة، وأحياناً، بالأبيض والأسود، يحوِّلني ممثلة تربط دورها هنا بدورها هناك. وللحظات، بين وعي الداخل ووعي الخارج، أضيع ولا أعود أعرف أيَّهما الحقيقة. ومن قال إن أحدهما الحقيقة؟ لعلَّهما من نسيج الفكر، من فَبْرَكَةِ وعي مختلف المستويات. عذباً يأخذني إلى عالمه متى شاء، وعبثاً متى أختار. وحده النوم يختار خارج الزمان والمكان.

\

كالأريج تفوح الكآبة رغم الشمس. تدخل من النوافذ والأبواب. من الشرق تأتي، تقتحم وتستقر على الأريكة الكبيرة، تتكاثر وتملأ المكان. تتركك مكبَّلاً، تسجنك داخلها وتضحك عليك. هي تضحك، وأنت على ضفة الدمع، ولا يبقى إلا الهرب... الهرب منها أو الهرب منك، من داخلك، من أريجٍ قاتم بثَّه خيالُك، لتدرك أن وجه الكآبة الآخر يفوح فرحاً متى تشاء أنت.

\

يحمل هذا الصباح الباكر رائحة الحزن الآتي من المجهول، من لامكان. أتنشَّقه ويصيبني بالدمع. أشعر به متدفقاً من الشرق، فتُفتَح لي بوابتي الغربية وأهرب. وإذا به يرافقني شرقاً وغرباً وأينما حللت... إلى أن أسمع ضحكاً من داخلي، من مقرِّ القلب. وينسحب الحزن إلى لامكان، تاركاً للفرح مساحة وجهه الآخر.

\

تلتقيه في جذور تركيبة الحياة. وحده النبات لا يعرف القلق، وقد لا يمرُّ بالمخلوقات الصغيرة جداً. قد لا يعرفه إلا من تواصل مع الإنسان، من أخذ عنه ذبذبات القلق وصار يشبهه: يخاف مثله، ويخاف منه، لأنه، معظم الأحيان، فريسة في شباكه، كما أن الإنسان فريسة الإنسان، رغم كل مظاهر الحضارة خارج كيانه.

\

كأنما الاطمئنان لا ينكشف إلا قليلاً أمام الإنسان، ربما لشهور، لأسابيع، لأيام أو لساعات،

ثم يغيب ليشرق القلق. كأنما القلق أب الإثارة والشغف، والاطمئنان أب الرتابة والضجر. نتأرجح، فيما نذوق نكهتيهما المختلفتين، ولا نتذوق تناقضهما الرائع المتكامل إلا نادراً... إلا نادراً.

\-

هو لا يقرع بابنا. لا يقف على مشارف حدودنا ويقتحم. نحن نمشي صوب الشرِّ بكل فروعه، نختبر كل وجوهه، نغرق أحياناً ولا نعود إلى الهواء. أفراد وشعوب ودول تصافح الشرَّ من وراء أقنعة البراءة، فينبت السوء والموت والخراب من أشواقها السوداء. شعوب متفوقة في عالم العلم، ومغمضة عن معرفة عمق تجربة الحياة – مثل أهل الكهف...

\-II-

الخير – وجه الشرِّ الآخر – هو أيضاً لا يقرع بابنا. الاثنان خصمان، متَّحدان، متباعدان. إلا أنهما لا يفرضان على الإنسان أيَّ اختبار. يقصدهما منجذباً غالباً إلى الشر. فهو في حِماه الأقوى والأغنى وصاحب القرار والرابح المستبد. ومتى أشرق الوعي من عمق تجربة الحياة يخرج الإنسان إلى الضوء، نافضاً عنه إغفاءة أهل الكهف.

\\\

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود