|
المعرفة سبيل
إلى التكامل النفسي
ندره
اليازجي
تناهى
علماء نفس القرن العشرين – وهم علماء نفس
الأعماق depth psychologists
وعلماء النفس التأليفيون psychosynthetists
– إلى معرفة نفس الطبيعة ونفس
الإنسان، فأحدثوا مصطلحين: الأول هو psychotronics،
والثاني هو cosmopsychogram.
يشير المصطلح الأول إلى تفاعل المادة والطاقة
والوعي، بينما يشير الثاني إلى كيانات كونية
نفسية تجسَّمت فيها البنية البدئية للواقع
الطبيعي أولاً، والإنساني ثانياً. وهذا
يعني أن الكوسموس (الكون المنظَّم) يُعرَّف
بنفس هي الـ psuchè
التي تتجلَّى في مظاهر الوجدان الإنساني
والطبيعي المتعددة. ويمكن القول إن ما ندعوه
"العقل" حدث طبيعي وُجِد في البدء على
نحو خصائص في المادة الحية، قبل تمايزها،
تطورت فيما بعد إلى الإنسان.[1]
وهذا ما يحدو بالعلماء المحدثين إلى اعتماد
مصطلح mindons،
وهي قسيمات أولية بسيطة من "المادة"
العقلية، على غرار القسيمات الأولية للمادة. نستنتج
مما تقدم: أولاً.
يمكننا أن ننوِّه إلى وجود psychons،
كيانات نفسية بدئية، هي "المادة النفسية"،
و mindons
بدئية، هي "المادة العقلية". ثانياً.
يمكننا القول إن العقل والنفس لم يتشكلا عن
طريق المصادفة دون وجود سابق. ثالثاً.
يمكننا القول إن العقل والنفس قد وُجِدا في
الدقائق المادية الأولية قبل حالة التمايز
التي طرأت على تلك الدقائق. وقد عُرِّف بالنفس
وبالعقل على أنهما خاصيَّتان: خاصية عقلية
وخاصية نفسية، سوف تتمايزان، في مراحل تطورية
مقبلة، إلى عقل نباتي ونفس نباتية، إلى عقل
حيواني ونفس حيوانية، وإلى عقل إنساني ونفس
إنسانية. إذن فالعقل والنفس قد تمثَّلا في
خصائص المادة الأولى اللامتمايزة. رابعاً.
يمكننا القول إن حالة اللاتمايز البدئية
الأولى كانت حالة انسجام وائتلاف، وإن حالة
التمايز هي تلك الحالة التي تمايزت فيها
الخصائص الأولية إلى ثنائيات وتعدُّديات بدت
متنوعة في أشكالها، ولم تنضوِ تحت وحدة شاملة
ظاهرياً. خامساً.
يمكننا القول إن جميع الكائنات والأشياء عامة، والكائنات الإنسانية
خاصة، تستغرق باطنياً أو جوهرياً في وحدة شاملة ندعوها
الحياة، الطاقة، الروح، وإن ظاهراتها
وظواهرها لا تشير إلى تناقض. سادساً.
يمكننا القول إن معرفة النفس – وهي معرفة
الحقيقة البائنة في الطبيعة البشرية
والمادية – تعني وجود منهج متكامل للإنسان
وللطبيعة، يتحقق في وحدة هاتين الطبيعتين. سابعاً.
يمكننا القول إن كل ما في الإنسان موجود في
الطبيعة، وإن دراسة الإنسان تعني دراسة
الطبيعة. ثمة جوهر واحد، جوهر كامن في الطبيعة
وفي الإنسان: أوَّلهما وعي كامن، يبدو أنه
معلوم، يُمِدُّ الإنسان بالعلم؛ وثانيهما
علم، يبدو أنه عالِم، يستمدُّ فهمه من العلم
الكامن لكونه معلوماً. وهذا يعني وحدة الوعي
واللاوعي – وهو وعي كامن – في حصيلة واحدة
ندعوها "الإنسان الواعي". يقودنا
هذا البحث إلى طرح الموضوع على مستويين: مستوى
نظري، ومستوى واقعي تطبيقي. ويشير الجانب
النظري إلى دراسة تكامل النفس الإنسانية دون
التعرُّض للنظريات التي نادت بها مدارس علم
النفس العديدة. لذا يتألف بحثنا من قسمين: 1.
تكامل النفس الإنسانية. 2.
الرد على مدارس علم النفس
المتنوعة (السلوكية والتحليلية والتقليصية)
التي أدَّت إلى تجزئة النفس الإنسانية، فعجزت
عن توحيدها أو عن إحداث تكامل فيها. أولاً.
تكامل النفس الإنسانية
تتكامل
النفس الإنسانية في جوهرها. وتُعَدُّ اللحمة
التي تجمع خيوط نسيج حياكة الجسم. هي القوة
الموحِّدة لأعضاء البدن والوظائف الواعية
والمعنوية. وإذا كانت الحقيقة تشير إلى تكامل
النفس الإنسانية في وظائفها كلِّها فحري بنا
ألا نثير الموضوع لأنه لا يقبل التأويل أو
التفسير على غير ما هو من تكامل وتوحيد – علماً، مع
ذلك، بأن مدارس علم النفس العديدة،
من سلوكية وتحليلية وتقليصية، اختلقت
انفصالية النفس الإنسانية وانقساميَّتها.
لذا يُعَدُّ شرحنا هذا توضيحاً لبنية النفس
الأساسية، ورداً مباشراً على المدارس
التجزيئية والتقليصية. ثمة
وحدة إنسانية تتدرَّج ضمن نطاقات ثلاثة متصلة، غير
منفصلة، هي: الأنا والذات والكيان.
وتنضوي هذه النطاقات الثلاثة تحت كلمة "الاسمية"،
وذلك لأن الكيان هو الحقيقة الموحِّدة لوظائف
النفس الإنسانية. وإن سوء الفهم الذي يشتِّت
انتباهنا إلى وجود نطاقات ثلاثة منفصلة يعني
تجزئة الإنسان إلى أقسام متعارضة ومتناقضة
يستحيل التوفيق أو التأليف بينها. والحقيقة
هي أن هذه النطاقات ليست أقساماً، بل دوائر
ووظائف تتكامل انطلاقاً من الأنا، إلى الذات،
إلى الكيان. والحق يقال إن الإنسان وجود
متكامل يتفاعل على صعيدي الأنا والذات،
ويتوحَّد على صعيد الكيان. أ.
الأنا والذات والكيان:
تتركز
المتعضِّية البشرية في الأنا. وتتمثل الأنا
في تجميع الطاقة المادية في نقطة تدعى الخلية.
والخلية هي تركيز المادة بخصائصها الكتلوية
والطاقية، النفسية والعقلية، في دائرة صغيرة
مغلقة ومنطوية على ذاتها. وبناءً عليه، نقول
إن الخلية تمثِّل كلِّية الطاقة المادية.
وتحمل الأنا، لكونها كلِّية الطاقة المادية،
معالم المادة كلِّها. وفي مسيرة التطور تسجل
هذه الأنا جميع المراحل التي مرَّت بها
الطبيعة. لذا قلنا إن الخلية تتميز بذاكرة
بيولوجية هي سجلُّ تاريخ ماضي الحياة. ولقد
سجَّلت هذه الذاكرة عنفوان الطبيعة المتمثلة
بالبراكين والزلازل والأعاصير إلخ، وهي
الظواهر المعروفة بانفعال الطبيعة والمقاومة
السلبية؛ وسجَّلت هذه الذاكرة البيولوجية
أيضاً الأحداث الأخرى التي دلَّت على هدوء
الطبيعة وسكينتها. الأنا،
في صميمها، وجود قلقٌ منفصل، يحمل في ثناياه
العقل، والنفس، والواعية والخافية، والوعي
واللاوعي – هو وجود لا يُدرِك ذاته بذاته.
وعلى الرغم من أن الأنا لا تعي ذاتها فهي
مهيأة أو مزوَّدة بطاقة الفهم والإدراك. وهذا
يعني بأنها تشتمل على النفس والعقل. لذا تسعى
الأنا إلى فهم ذاتها. الذات
هي الأنا وقد بدأت تفهم ذاتها بفعل الوعي
الكامن فيها، المدعو خطأ باللاوعي. وفي بدء
فهم الأنا لذاتها، تنقسم إلى قسمين: الواعية consciousness
والخافية unconscious.
وفي هذا السياق، تشير الخافية إلى ماضي
الحياة الأرضية كلِّها: قبل الإنسان في
الطبيعة، وبعد الإنسان في الجسم. ولا شك أن
سجلَّ الحياة المدون في الخلية، وفي آلاف
آلاف الخلايا التي تكوِّن الإنسان، يحمل
تاريخ الحياة برمَّته قبل الإنسان، كما يحمل
تاريخ الحياة الإنسانية بعد الإنسان. ففي
الخافية يكمن تاريخ أعماري السابقة، وما
أحمله من ذاكرات وذكريات تلك الأعمار
والمعلومات المنطبقة في عمقي الخافيِّ،
بالإضافة إلى ما أحمله من الخافية المتمثلة
في ذكريات طفولتي، ونوع التربية التي نشأت
عليها، والمبادئ التي لُقِّنتها، والمفاهيم
والقيم الإيجابية والسلبية التي غُرِست في
داخلي، إلخ. بينما الواعية هي حاضري؛ هي ما
أنا عليه؛ هي حصيلة الماضي في الحاضر؛ هي
تقدُّمي في المستقبل؛ هي ما أزرعه في حديقة
حياتي المقبلة. ينشأ
في الذات حوار يشير إلى تعارض الواعية
والخافية. وعلى الرغم من هذا الحوار الجدلي
المحتمل بينهما نجد الإنسان مزوداً بطاقة
الوعي. ينتهي
هذا التعارض إلى كيان في اللحظة التي يكون
الوعي قادراً على إقامة التوازن بين الواعية
والخافية. فالكيان هو إحداث التوازن الذي
يشير، بدوره، إلى التكامل، وإلى تجاوز الأنا
دون إلغائها. هكذا يتدرَّج الوعي الإنساني في
مراحله الثلاث: الأنا التي تعمل على فهم ذاتها، وتجاوز ذاتها بفعل طاقة داخلية واعية
تبلغ مستوى التوازن في الذات بين الواعية
والخافية، لتتوطد في كيان راسخ، متكامل،
تتَّحد فيه وظائف النفس كلها.[2] جدير
بالذكر أن نردد القول، منوِّهين إلى أن هذه
النطاقات متصلة، غير منفصلة، متدرِّجة غير
نسبية، ومتَّحدة غير مجزَّأة؛ هي نطاق واحد
وليست نطاقات ثلاثة؛ هي تدرُّجات الوعي في
سلسلة محكمة الترابط للتفاعل الداخلي الذي
ندعوه الوعي. وفي هذا التسلسل أو الترابط
الواعي، لا تبطل الأنا، ولا تنتهي الذات،
وذلك لأن القوة الموحِّدة تتدرَّج في مستويات، يتجاوز ضمنها المستوى الأعلى
المستوى الأدنى ويحتويه، فيتحقق الأدنى في
الأعلى ضمن وحدة متكاملة مترابطة. تلكم
هي النقطة الأولى في تكامل النفس الإنسانية. ب.
النفس والعقل والدماغ:
عندما
نتأمل الكلمات وما تحمله من مفاهيم وقيم ندرك
أن المعنى الحقيقي للكلمة المتأمَّل فيها
يكمن في عمق وشمول وعينا. فبقدر ما يكون وعينا
عميقاً وشاملاً تحفل الكلمة بمعناها الحقيقي
أو الأقرب إلى الحقيقة: كلما تأملنا رأينا،
وأدركنا، ووَعَيْنا. بما
أننا نطرح أبعاد علم النفس التكاملي على أساس
يتمايز عن المألوف في علم النفس التقليدي أو
المدرسي؛ إذ إن كلمتي "العقل" و"النفس"
تحملان في ذاتيهما مضموناً أكثر عمقاً،
وتتطلبان وعياً كونياً. "النفس"
هي الطاقة الحيوية التي تتمتع بالمادية؛ هي
حركة المادة، هي حياة المادة؛ و "العقل"
هو الطاقة المادية التي تتركز فيها المادة عن
طريق الدماغ. نستنتج
ما يلي: الدماغ هو تركيز الطاقة المادية
بمعالمها كلِّها؛ هو وعاء الوعي. وفي هذا
الوعاء تنتظم الطاقة المادية وتترتب في
نطاقات يتصل بعضها ببعض ولا ينفصل. فالدماغ
يتطابق مع الطاقة المادية تماماً، ويمتد
إليها من خلال الحواس. والعقل، في سياقنا هذا،
هو السيالة التي تنطلق من عمق الكيان
الإنساني، عن طريق الدماغ، إلى العالم
الخارجي. لذا يُعتبَر العقل سيد الوجود
المادي، ويُعتبَر الدماغ الخزان الذي
تُختزَن فيه نبضات الوجود الخارجي
وانعكاساته التي يعود إليها العقل
ليحوَِّلها إلى صور. الدماغ مستودع تودع فيه،
أو تنعكس فيه، خلجات العالم الخارجي، وتتموضع
تلك النبضات أو الخلجات أو التنبيهات
الخارجية في نطاقات يُمِدُّ بعضها بعضاً
ويتصل بعضها ببعض على هيئة ذاكرة. تُعَدُّ
النفس مجموعة المشاعر والأحاسيس والعواطف. هي
الأعصاب التي تمرُّ عبرها الطاقة الحيوية
والروحية لتعبِّر عنها بالحدس وبالإحساس
بالوجود. النفس هي مظهر حركة الروح في
الإنسان؛ هي دفق داخلي يتمحور حول ذاته في
شعور بالحياة، وبكل ما يمتُّ إلى الكرامة،
والنبل، والسمو، والرفعة، والألم، والحزن،
والفرح، والغبطة، والعاطفة، إلخ. هذه
النفس – حاملة مورثات الماضي، والنابضة بعمق
الحياة – تسجِّل في عمقها، كما ذكرنا، حياة
المادة وحركتها وانفعالها، حياة أعمارنا
السابقة، وحياة وجودنا الحاضر. وهذا العقل هو
العقل ذاته الذي نشأ منذ أن تآلفت عناصر
المادة المعقدة في الدماغ – هذا الدماغ الذي
انطبعت فيه مؤثرات المادة كلِّها؛ هذا الدماغ
هو مخطِّط العالم المادي. نتساءل
الآن: كيف يتحقق التكامل بين العقل والنفس؟ نجيب:
الشخصية المتكاملة هي الإنسان الذي يتكامل
فيه العقل والنفس دون وجود تناقض بينهما. وإن
أي اختلال في الطاقة الحيوية – وهي النفس –
يؤدي إلى زعزعة أركان العقل. إذن فالعقل قاصر
عن بلوغ النتائج الفكرية المتسقة إلا في "نفس"
هادئة، في طاقة حيوية متوازنة. وبالفعل، نخطئ
إذ نضفي صفة الجنون أو الهوس على العقل، ذلك
أنه لا يوجد عقل مجنون أو مهووس. ثمة نفس
مضطربة، ينتج اضطرابها عن انفعال شديد أو عن
فقد توازن الطاقة الحيوية. وقد
يتساءل أحدنا عن سبب هذا الاضطراب أو
الانفعال، فيعزوه إلى التناقض القائم بين
العقل والجسم. فالجسم، في عرف بعض الدارسين،
يُسرِع في نموه على حساب العقل، الأمر الذي
يُخِلُّ بتوازنهما. لكن الحقيقة تشير إلى أن
الجسم، حتى في مرحلة الشباب، لا ينمو نمواً
أسرع من نمو العقل. فكلاهما متوازن في تطورهما.
والملاحَظ أن الشاب يتمكن من حلِّ أو إدراك
قضايا عقلية وفكرية، بينما يعجز عن حلِّ
قضاياه النفسية. وفي هذه الحالة تنفصل نفس
الشاب، وينفصل عقله الذي يتأثر بالانفعال
النفسي. لذا يمكننا القول إن اختلال العقل
ناتج عن اختلال الطاقة الحيوية. وقد يتعدَّى
اختلال الطاقة الحيوية – وهي النفس – نطاق
العقل إلى الجسم. على هذا الأساس، تعيد مدارس
الحكمة القديمة كل اعتلال جسمي عام، أو عضوي
محدد، إلى اضطراب وَقَع للطاقة الحيوية–النفسية
العامة في الجسم أو الخاصة بعضو محدد.[3] يتبادر
إلى ذهننا السؤال التالي: كيف يختل التوازن
الحيوي–النفسي؟ إن
اختلال التوازن الحيوي–النفسي هو نتيجة
أكيدة للتربية الانفعالية التي يتلقَّاها
الإنسان، أو نتيجة لانفعال يعيق أو يحول دون
قابلية التوازن. وعلى سبيل المثال، يحاول
عالِم النفس إعادة التوازن الداخلي إلى
الإنسان الذي يعاني من انفعال شديد أو غير
شديد. والانفعال
الذي يطيح بتوازن العقل الإنساني ويلقي به في
متاهات الأنا يختلف عن العاطفة. ولقد أخطأ
علماء نفس السلوك إذ عجزوا عن إدراك الحدِّ
الذي تتوازن فيه العاطفة ولا تتحول إلى
انفعال. في العاطفة تتوازن وظائف النفس
والجسم الداخلية، وتتألق الطاقة الحيوية–النفسية
في غبطتها. وفي هذا التوازن والتألق يعمل
العقل في توازن وتكامل. إن الحكماء القدامى –
والحق يقال – هم من أشاروا إلى هذه الحقيقة
عندما شددوا على ممارسة رياضات معينة تؤدي
إلى المرونة العصبية. ففي رأيهم أن المرونة
العصبية، وليس قوة العضلات، هي الحقل الذي
تتوازن فيه النفس. وفي
سبيل توضيح أفضل، نلمِّح إلى الفرق القائم
بين العاطفة والانفعال: العاطفة تتساوق مع
العقل، والانفعال يُخضِع العقل ويشتِّته.
العقل أسير الانفعال وصديق العاطفة.
والانفعال تجاوُز لحدِّ أو عتبة العاطفة: إنه
كل عاطفة تجاوزت حداً معيناً؛ أو هو كل عاطفة
أخضعت العواطف الأخرى؛ أو كل عاطفة عبَّرت عن
مصلحة خاصة. وعندما ندرك شدة الشحنة المضطربة
على هيئة انفعال، ندرك الضعف الذي يعتري
عقولنا والقلق الذي يهيمن عليها. ولقد شبَّه
أحد الحكماء العقل بلهيب الشمعة الذي لا
يستقر إلا في وسط هادئ لا تتلاعب به النسمات
القوية. وحري بنا أن نقول إن هدوء لهيب الشمعة
يعني اشتداد ضيائه وتألقه في السكينة النفسية
التي يرتاح فيها. وبالفعل، لا تتضح رؤيتنا في
ضوء لهيب شمعة متراقص لا يهدأ. وبالمثل، لا
يقوم عقلٌ بوظيفته الكاملة في وسط نفسي مضطرب. تلكم
هي النقطة الثانية في تكامل نفس الإنسان. ج.
الواعية والخافية:
إذا
كانت الواعية هي ما ينطوي عليه العقل والنفس
في الحاضر، كانت الخافية كل ما انطوى في ثنايا
النفس والعقل في الماضي. وإذا كان ما نفصح عنه
الآن حقيقة، أدركنا أن حياة الإنسان واعية
دائمة وخافية دائمة – وأعني أن كل لحظة آنية
وحاضرة واعية, وكل لحظة منقضية خافيَّة. وفي
هذا التعريف لا تتناقض الواعية والخافية ما
لم تكن الواعية ذاتها مخطئة، ناقصة أو مضطربة.
فالخافية هي واعية مختزنة في أعماق وعينا.
والخافية الخاطئة، الناتجة عن واعية خاطئة،
ظلام وعذاب، وألم سلبي، هو جحيم ضمير نادم. إذ
نتأمل ما نقول، نعلم أن المشكلة قائمة في
واعيتنا وليس في خافيتنا، وذلك لأن خافيتنا
واعية وليست نفياً للوعي. وهكذا، ندرك أن
الخافية لا تتناقض مع الواعية. نتساءل:
كيف نفهم معضلة الواعية؟ أشرت
في حديثي إلى الانفعال الذي يطيح بالعقل،
وألمعت إلى أن التربية الانفعالية تنشئ واعية
منفعلة، أي تفكيراً منفعلاً. ويمكننا أن نشير
إلى صحة هذا الكلام، عالمين أن جهابذة مدرسة
السلوك وعلم النفس العام أقروا بأن التفكير
من وظائف الواعية والواعية تعبِّر عن نفسها
بالتفكير. عندما
نتحدث عن الواعية الانفعالية أو المنفعلة،
نتحدث، في الوقت ذاته، عن مجموعة الإشراطات
التي يعاني منها المرء. وجميعنا يعلم أن ما
يدخل إلى وعينا أو لاوعينا منذ الصغر من
انفعالات تتمثل في "تربية الأنا" يؤدي
إلى تمزيق شخصيتنا وإلى فقد تكامل نفوسنا.
وإذا تساءلنا عن المعنى المتضمن في "تربية
الأنا" أجبنا: إن الانفعالات العديدة
المتجسِّدة بالكبرياء، والطمع، والحسد،
والنميمة، والغيبة، والتعصُّب بأنواعه، وضيق
الأفق الفكري، والكراهية، والحب الانفعالي،
والاستغلال، إلخ، هي مظاهر الأنا–نية، أي
"تربية الأنا". تشير
الأنا–نية إلى واعية قلقة، ممزقة، مضطربة،
فقدت توازنها. ويشير العقل المنفصل، المضطرب،
الذي فقد ترابطه الذاتي في مواجهة ترابط
حلقات الوجود المادي، إلى أنه "يحيا" ضمن
نطاق واعية منفعلة، مضطربة. لذا نقول: إن
الواعية المضطربة – وهي الفكر المضطرب،
المشروط بانفعالات عديدة – دليل على عدم
تكامل النفس. وهكذا نخلص إلى القول: إن
الإنسان الذي يعاني من "تربية الأنا" في
واعية انفعالية لا يعرف التكامل النفسي. وقد
نتساءل: هل هنالك تربية "لا–انفعالية"،
عاطفية في جوهرها، ومُحِبَّة في صميمها، تبدع
فينا واعية متكاملة وتوازناً حيوياً
ونفسياً؟ يتركز
صدق هذه العبارة في العبارة التي أعلنها
علماء نفس الأعماق: يتحقق التكامل النفسي في
وسط خالٍ من الإشراطات والانفعالات، ممتلئ
بالمحبة والتعاطف والمشاركة. ولا شك أن وسطاً
من هذا النوع يُعَدُّ النطاق المؤهَّل
لاحتواء الإنسان المتوازن في داخله،
المتكامل في شخصيته. تلكم
هي النقطة الثالثة في التكامل النفسي. وبما
أن المدرسة التكاملية تنكر وجود تناقض حقيقي (مع
اعترافها بوجود تعارض ظاهري) فإنها تقرُّ
بتكامل متنامٍ للشخصية الإنسانية وللوجود.
على هذا الأساس، وجدنا أن الواعية والخافية
تتوافقان دون أن تتناقضا لأنهما واحد في
جوهرهما. فكما تكون الواعية كذلك تكون
الخافية. إن خافيتي المُحِبَّة أو الواعية هي
واعيتي المترعة بطاقة المحبة والوعي
المتكاملين. د.
الوعي واللاوعي:
عندما
نطرح مفهوم الوعي واللاوعي نجد أن المقولة
المطبَّقة على مفهومي الواعية والخافية
تُطبَّق أيضاً على مفهومي الوعي واللاوعي.
وفاقاً مع هذا الرأي نعلم أن التناقض لا يقوم
في صلب الوعي واللاوعي؛ ذلك أن اللاوعي ليس
نقيض الوعي، وليس انعداماً أو نفياً له.
فاللاوعي هو وعي كامن، يهدأ في سكينة الطاقة
الواعية المستغرِقة في ذاتها؛ والوعي هو
اللاوعي الذي ينفتح إلى الوجود رويداً ليفهم
ذاته. إن وعيي الحالي هو وعيي الذي كان كامناً
في كياني على نحو لاوعيٍ بالحاضر، ووعي كامل
مستغرق في الوجود. هنا
نتساءل: أين كان وعيي يوم كنت خلية في رحم أمي؟
أين كان وعيي يوم تكوَّنتُ في رحم أمي؟ وهل
زاد وعيي أم أنه أخذ ينفتح على ذاته؟ أين كان
وعيي يوم كنت طفلاً؟ وأين يكمن وعيي وأنا أحمل
ذكريات السنين الخوالي في داخلي؟ وهل أنا
كائن واعٍ في مرحلة حياتي الحاضرة؟ وهل أنني
أكثر وعياً مما كنت عليه قبلاً؟ وهل أن
اللاوعي معيار يقاس بتطور وعيي؟ وهل أن
لاوعيي الآن يعني أن الأمر الذي سأعيه فيما
بعد غير متحقق في الوقت الحاضر؟ ألا تعني هذه
العبارة الأخيرة أن وعيي الكامن، الذي أدعوه
لاوعياً، لم ينبثق إلى الوجود لأن الموضوع
الذي سيتكوَّن من انبثاقه لم يحضر في واعيتي
أو ذاكرتي حتى هذه اللحظة؟ ألا يعني هذا أن
وعيي الكامن، أي ما ندعوه لاوعياً، وعي موجود
يتطلب التحقيق وفق صور وأشكال الوجود
العديدة؟ نستطيع
أن نستنتج أن الحياة رحلة تبدأ باللاوعي –
وهو الوعي الكامن، المستغرق في غيبوبة النشوة
الروحية، والمتأمل ذاته على نحو عميق –
وتنتهي بالوعي الذي بدأ يدرك أنه يدرك
الموضوع الخارجي، ويتصور، ويتخيل، ويشعر،
ويحس، ويحدس، ويجرِّد، ويُشَخْصِن، إلخ. على
هذا الأساس، يكون الحاضر انفتاحاً تدريجياً
للاوعي، تماماً كما تُعَدُّ الوردة انفتاحاً
تدريجياً للبرعم، وكما تُعَدُّ الرائحة
الزكية المنبعثة من الوردة العطرَ الكامن في
بذرة شجرة الورد وساقها وبرعمها. يتطابق
الوعي واللاوعي ويتكاملان في وحدة تامة.
والحياة، في صميمها، كشف دائم لمعطيات
اللاوعي، الوعي الكامن، من خلال ما تُذكِّرنا
به أشكال وصور هذه الحياة وموضوعاتها. وإذا
كان التذكُّر وعياً يتحقق من خلال ظلال
العالم، أدركنا أن المعرفة تذكُّر، وأن الوعي
موجود على نحو كامن، هو لاوعي بالأشكال
والموضوعات، ووعي بالوجود. وينبثق هذا
اللاوعي تدريجياً، على نحو تذكُّر، من الطاقة
الكامنة فينا التي تبدأ بوعي ذاتها من خلال
الموضوعات الخارجية. يجدر
بنا أن نقول إن مدارس علم نفس عديدة أخطأت في
تبيان أن اللاوعي نفي للوعي، وأن الفكر منقسم
إلى طبقتين: واعية ولاواعية. وفي رأينا أن
مدارس علم النفس تنقسم إلى قسمين: مدارس ألقت
بالإنسان في ظلام اللاوعي، ومدارس أخرى رفعت
الإنسان إلى نور الوعي. وإذا شئنا تقديم
مثالين واضحين لنوعي المدارس قلنا: يجسِّد
فرويد المدارس التي شدَّت الإنسان إلى ظلام
وعيه، المسمى باللاوعي؛ بينما يمثِّل يونغ
المدارس التي رفعت الإنسان إلى نور الوعي. يُعَدُّ
نور الوعي الوعيَ المتنامي، المتكامل، الذي
ينشد طاقته الكامنة الواعية والمسماة – خطأً
– باللاوعي، لتحقيق مستويات عليا في سلَّم
الحقيقة. إذن فالحياة رحلة تنطلق من الوعي
الكامن إلى الوعي المنفتح، بحيث إن الغاية من
الحياة تتحقق في تشخيص الوعي وتَمَدِّيه (تحوُّله
إلى مادة) وتطبيقه في الطبيعة. على هذا الأساس
يدعو علم النفس التكاملي إلى تحقيق المزيد من
الوعي عن طريق تفتح الوعي الكامن بعد خلاصه من
غلافاته المادية العديدة، بحيث إن تجاوز كل
غلاف يدعي حرية وانفتاحاً. وبالمثل، أقول إن
ظلام الوعي، أو اللاوعي، هو عدم تفتح الطاقة
الواعية الكامنة، أو هو تكبيلها بالانفعالات
والإشراطات الكثيرة، وإبقاء الطاقة الواعية
سجينة هذه الإشراطات. ولا أبالغ إذا قلت إن
حكماء الماضي أشاروا إلى حرية يحقِّقها المرء
للخلاص من غلافاته العديدة عبر أعمار عديدة،
وعبر عمره الحاضر. في
حديثنا عن خلاص المرء من غلافاته العديدة،
عبر أعمار عديدة وعبر حياته الحالية، ندرك
المعنى الباطني الماثل في كلمة "اللاوعي".
فـ"اللاوعي"، في هذا السياق، هو ما نأتي
به من حياتنا السابقة؛ هو ما كنا عليه من
شعور، وإحساس، وفكر، ومعرفة، إلخ، في عمرنا
أو أعمارنا السابقة؛ هو ما نحضره معنا من
مكوِّنات شخصيتنا، صالحة كانت أم طالحة،
مدرَكة أو غير مدرَكة؛ هو ما يتبطَّن فينا على
نحو لاوعي؛ هو ما يجب أن ننعتق منه بفعل حرية
هادفة إن كان سيئاً، وما يجب أن نكمله ليزداد
تحقيقاً للوعي الكامل الذي أتينا به إلى
الوجود الأرضي. وفق هذا المنظور، لا يكون
اللاوعي نفياً للوعي، بل وعياً يقتضي المزيد
من التحقيق والإفصاح. إنه "لا"–وعي في
قياسه إلى الوعي الأفضل، المتسامي إلى
مستويات النقاء والشفافية التي ندعوها "الروح".
فكما أتى الإنسان إلى الوجود الأرضي نقياً،
واعياً – لاواعياً في كمونه –، عليه أن يعود
إلى الوجود، بدرجاته الأسمى، نقياً، واعياً،
ليعود إلى "اللاوعي" الروحي. تشير
خلاصة حديثنا إلى اللاوعي–الوعي بمفهومه
الأكثر تطوراً وسمواً. فإذا كان الوعي نتاج
صلة الفكر والموضوع، العقل والمادة – ونعني:
إذا كان وعينا يتشكل من انعكاس أشكال وصور
المادة في أدمغتنا – كان اللاوعي انعدام وجود
الأشكال والصور. إذن فاللاوعي هو الوجود
الروحي المحض الذي يحقق ذاته على نحو وعي في
العالم المادي الذي ندعوه عالمنا. ولا شك أن
فهمنا لهذه الحقيقة يُمِدُّنا بنظرة كونية
صافية تجعلنا متكاملين في ذواتنا. تلكم
هي النقطة الرابعة في التكامل النفسي. ثانياً.
الردُّ على مدارس علم النفس
إذ
نتأمل في الأفكار السائدة في علم النفس
العام، نجد أن هذا العلم يستند إلى المفاهيم
التالية: 1.
التجزيئية 2.
التقليصية 3.
الميكانيَّة 4.
البعد الخطي أو التطور
الخطي في
التجزيئية نجد الإنسان المنقسم على ذاته،
الإنسان الذي لا يقبل التكامل والتوحيد. وفي
هذه التجزيئية نجد فرويد يتبوَّأ المركز
الأهم. لقد استطاع فرويد أن يقتبس من النظرية
الذرية القديمة أساس نظريته في بنية النفس
الإنسانية. فكما تكوِّن الذرات، بحسب النظرية
الذرية، لبناتٌ معزولة بعضها عن بعض، لا تعرف
الاتصال، تشكِّل الكون المادي، كذلك يقر
فرويد بأن الأنا والأنا العليا والهو لبنات
تكوِّن النفس الإنسانية. استطاع
فرويد أن يجزِّئ النفس الإنسانية إلى نطاقات
ثلاثة متصارعة، منفصلة، لا تقبل الاتصال أو
التكامل أو التوحيد. فهي تعيش في نزاع بعضها
مع بعض، ولا يمكنها أن تتآلف ضمن الواعية في
حقيقة واحدة. ولئن كانت هذه النطاقات
الثلاثة، بنظر فرويد، مكوِّنات للنفس فهي
تأبى التكامل في تأليف واحد يجمع شتاتها. لقد
أحدث فرويد صراعاً في النفس بين الواعية
والخافية، بين الوعي واللاوعي، وقسم اللاوعي
إلى قسمين: يُعرَّف أحدهما بأنه منطقة مظلمة،
يجد النكوص فيها ملجأه وموطنه. استطاع
فرويد أن يقلِّص الفعل الإنساني أو الأفعال
الإنسانية إلى بعد واحد ليس غير. فقد أرجَع
الوظائف النفسية الحالية إلى بُعْدٍ واحد
واقع في ماضي الإنسان – في طفولته حصراً. على
هذا الأساس، اعتمد فرويد في تحليله على البعد
الواحد الذي يرتكز عليه، وعلى المفهوم
الخطِّي الذي يجعل الشخصية كلها متعلقة في
نقطة أو حدث يمتد خطياً في المستقبل،
مُسقِطاً الاعتبارات العديدة التي تكوَّنت
منها الشخصية في مسار نموها. وأسَّس فرويد علم
نفسه على النظرة الميكانيَّة السائدة في
النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واقتبس من
علماء الحياة والتطور الذين أدلوا بآرائهم في
تلك الفترة الزمنية. يمكننا
أن نقول إن التحليل النفسي، أو علم نفس
السلوك، اعتمدا اعتماداً كلياً على النظرة
التجزيئية والتقليصية والميكانيَّة العلمية
في القرن التاسع عشر. ويمكننا أن نعترف بأن
المدارس الأدبية الجديدة قد تأثرت
بالفرويدية إلى حد كبير، وبخاصة في الأمور
التي تلعب فيها الخافية، بحسب المفهوم
الفرويدي، دورها الهدَّام. استطاع
علماء النفس الحديثون أن يتجاوزوا مدرسة
التحليل النفسي الفرويدية في علم النفس
الجديد المعروف بـ"علم نفس الأعماق" أو
"علم النفس التأليفي" أو "علم النفس
المتجاوز للبعد الواحد". وعندما نقارن بين
مدرسة التحليل النفسي وعلم النفس التأليفي
نجد الفروق التالية: أولاً.
يوحِّد علم النفس التأليفي الواعية
والخافية، بينما يفرِّق التحليل النفسي
الفرويدي بينهما. يعمل علم النفس التحليلي
جاهداً في سبيل رفع الواعية والخافية إلى "نور
الوعي" بعد إقامة التوازن بينهما. ويسعى
علم النفس التأليفي إلى إنقاذ الخافية، في
قسمها المظلم، من الأفكار والإرهاصات
والإثمية التي امتلأت بها. فقد امتلأت هذه
الخافية بالأفكار التي قيَّدتها، مثل
الولادة بالخطيئة – العقيدة التي أوجدتْها
التوراة –، والضمير النادم، والعقوبة بعد
الموت المتمثِّلة بالجحيم، والخوف، والعقد
النفسية المتولدة في الطفولة والناتجة عن
دافع الجنس، كما يحدثنا عنه فرويد. ولا يغيب
عن بالنا أن هذه الأفكار ابتدعتها التوراة
وغرستها في الخافية. ملأ
فرويد، الذي استقى تعاليمه من كتابه المقدس،
العقل الإنساني، في قسمه الخافيِّ، بملكوت
الظلمة، فشدَّد على الهو das Id
الذي يحمل في ثناياه قيود نطاق الأنا. وإذا
كان فرويد قد زرع بذور الظلام في خافية
الإنسان، المحوَّلة إلى عقل باطن، فلأن
المدرسة اللاهوتية التي ينتمي إليها – وهي
اليهودية – تعمل جاهدة لإثقال الوعي بظلام
الخطيئة والعقوبة والندم والخوف والإثمية؛
الأمر الذي يجعل الخافية تقبع في ظلمات
ومتاهات شقائها، فتظل في ظلام اللاوعي.
وعندما نتعمق في الموضوع نجد أن الفكر
اليهودي يزرع في خافية الناس الجمعية ما يشاء
من أفكار لخدمة مآربه وإخضاع البشر وتسييرهم،
على نحو لاواعٍ، كما يرغب. ومن
جانب آخر، نجد علم النفس التأليفي، أو
العبرشخصي transpersonal،
أو علم نفس الأعماق، يسهم في خلاص الإنسان من
ظلام لاوعيه ليرفعه إلى نور الوعي، وذلك في
عتق الإنسان وتحريره مما زُرِع في وعيه
المتحوِّل إلى لاوعيه، على مر الأجيال، من
أفكار وعقائد شدَّته إلى ظلمات الأنا، حيث
تتصارع أقسام نفسه الثلاثة: الأنا والأنا
العليا والهو. فالإنسان، في نظر علم النفس
التأليفي، لا يولد في الخطيئة، ولا تتحكم به
قوى غيبية متسلِّطة، ولا يحيا في عالم العذاب
والنفي والغربة، ولا يمضي إلى عالم القسوة
والاضطهاد بعد موته؛ وإن ما زُرِع في وعيه،
عبر مئات السنين، عبر التربية الانفعالية
التي استقاها من ذويه، المتوارثة عن الآباء،
هو ما خلق اللاوعي، الذي هو نسخة أخرى عن
الوعي المعذب، والخافية التي هي الواعية
النادمة الكئيبة، والعقل الباطن الذي هو
اختزان العقل البائس. على هذا الأساس، لم
يتلقَّ الإنسان إلا الألم السلبي، والعذاب
النفسي، والوعي المضني، والوعي الشقي؛ الأمر
الذي جعل علم النفس التأليفي يسعى إلى خلاصه.
والحق يقال إن مدارس التأليف النفسي والتكامل
النفسي أو علم نفس الأعماق لا تعترف بالعقل
الباطن. فالعقل الباطن، وفق هذه المدارس، هو
العقل المنغمس في متاهات الأنا، العقل الذي
ابتدعه المتنفِّذون في هذا العالم لتضليل
أبناء البشر وإخضاعهم وتسييرهم. ثانياً.
يوفِّق علم النفس التأليفي – وهو علم النفس
التكاملي – بين الوعي واللاوعي؛ والإنسان،
في رأي روَّاد علم نفس الأعماق، كائن واعٍ، لا
يتصف باللاوعي، وذلك لأنه لا يمكن أن يعي لو
أنه لا يعي أصلاً. واللاوعي، في منظوره، لا
يناقض الوعي، وليس هو ما ترسَّب من الوعي في
منطقة مظلمة؛ فاللاوعي هو انعدام الوعي، هو
عدم تحقيق الوعي. وبالتالي، ليس ثمة ما ندعوه
اللاوعي. لقد أكَّد علماء نفس الأعماق على هذه
الحقيقة لكي يواجهوا مفهوم اللاوعي كما هو
مطروح في قواعد علم نفس السلوك والتحليل
النفسي الفرويدي. يشدِّد
علم نفس الأعماق على أن اللاوعي وعي: إنه وعي
كامن يتطلب التحقيق؛ فالوعي لا يتناقض مع
اللاوعي. ويطلق مصطلح "اللاوعي" على
الوعي وهو في حالة كمونه، أي قبل أن ينبثق إلى
وعي مدرِك تحرِّضه الموضوعات الخارجية. ولقد
أكد حكماء الشرق، من صينيين ويابانيين وهندوس
وغيرهم، على أن "اللاوعي" وعي من الدرجة
الأولى، وعي كلِّي مجرد من وجود الموضوع، وعي
تشترك فيه جميع الكائنات الإنسانية وغيرها،
وعلى أن "الوعي" وعي من الدرجة الثانية،
يظهر إلى الوجود متى تحرَّض "اللاوعي" –
وهو الوعي الكامن – بالموضوعات الخارجية. ثالثاً.
يشير علم النفس العبرشخصي إلى تجاوز البعد
الواحد الذي اعتمدته مدارس التحليل النفسي.
ويمكننا أن نعرِّف بعلم النفس العبرشخصي كما
يلي: هو البحث والتعمُّق في طبيعة الوضع
البشري، وتقصي حقيقة الجسم–العقل والازدهار
الروحي. وتتركز رسالة هذا العلم في منح
الإنسان سلطة تساعده على تجاوز النظريات
العديدة التي قيَّدت طبيعته والخلاص من
التحديدات المفروضة عليه. وإذا
كانت الفرويدية قد أشرطت الإنسان بنفس
منقسمة، وعقل مثقل بالضمير النادم، وواعية
ساخطة معذَّبة، وقلَّصته إلى بعد واحد
قيَّدته به: اللاوعي، الخافية، الجنس، فإن
علم النفس العبرشخصي يعمل جاهداً من أجل
إنقاذ الإنسان من هذه الإشراطات التي سببت له
العقد النفسية الكبرى. وعبثاً تحاول
الفرويدية أن تدَّعي بأنها أفسحت المجال
للواعية لكي تتخلص من الخافية ومن الكبت الذي
تفرضه "القيم الأخلاقية" التسلطية. فعلى
غير ذلك، نجد أن الفرويدية تُجهِض كل قيمة
إنسانية نيِّرة، وتفسح المجال لرغبات
الإنسان وانفعالاته المكبوتة في الخافية
والمشروطة بظلام اللاوعي. على هذا الأساس
نسأل: ألم تُلقِ العقائد التي اعتمدها فرويد
الإنسان في الجحيم الداخلي للنفس لتحوِّل
الواعية المتسامية والوعي المستنير إلى
واعية مهزومة، سُمِّيت خافية، وإلى وعي مظلم،
سُمِّي لاوعياً؟ رابعاً.
يواجه علم النفس التكاملي النظرة التجزيئية
التي تقسم النفس الإنسانية إلى نطاقات
متصارعة، متنازعة، ومنفصلة يستحيل عليها
الانسجام والتآلف، ويُقِرُّ علم النفس
التأليفي أن التكامل هو أساس وحدة النفس، وأن
فقدان هذا التكامل يعني اختلال الطاقة
الحيوية التي ندعوها الحياة النفسية. فالأنا،
التي أصبحت واعية وخافية في اللحظة التي بدأت
تدرك ذاتها، تعمل على إقامة التوازن بينهما.
الخافية الممتدة في الماضي، عبر الإشراطات
الطبيعية والاجتماعية والتربوية، والواعية
التي تمثل الحاضر، تتآلفان وتنسجمان في "كيان"
متَّحد، متماسك، متناغم. وبالفعل، يحيا
الإنسان الذي يقيم التوازن بين واعيته
وخافيته في نور الوعي، بينما يظل إنسان فرويد
يعاني من انقسامات ذاته. تلك هي المشكلة
الكبرى التي يتعثر بها الأدباء والفنانون
المنفعلون بـ"لاوعي" فرويد. يركز
علم النفس التكاملي، التأليفي، على
ديناميَّة توازن الوعي واللاوعي، وتحقيق
الكيان. وفي هذه الديناميكية تصبح النفس
نسيجاً واحداً متداخل خيوط الحياكة. فإذا
كانت خيوط الحياكة تمثل الوظائف النفسية
كلَّها، جَعَلَها النسيج الواحد تتكامل في
بنية نفسية سليمة. فالديناميَّة، في هذا
المنظور، تشير إلى تفاعل الوظائف النفسية
والجسمية وتلاقيها وتكاملها في كلٍّ موحَّد.
وعلى غير ذلك، تشير الميكانيَّة إلى وظائف
الأقسام دون تلاقيها. على هذا الأساس، تتماثل
الميكانيَّة مع النظرة التجزيئية. وليس ثمة
ما يجمع شتات هذه الوظائف النفسية
الميكانيَّة التي تعمل دون ربط أو جامع أو
موحِّد. لذا فهي تخضع للانفعالات، وتنساق
وراء الرغبات، وتندفع في تيار البعد الواحد
الذي يتحكَّم بها. والواقع هو أن فرويد لم
يستطع أن يدَّعي بأنه أشار إلى هذه الوقائع
لكي ينجي المرء من سلطانها. فكما أن تجزئة
الإدراك إلى فكر وموضوع جعلت الإنسان
والطبيعة عدوَّين، كذلك جعلت تجزئة بنية
النفس من الإنسان المنقسم على ذاته عدواً
لنفسه. خامساً.
لا توافق مدرسة التأليف النفسي والتكامل
النفسي على تقليص الوعي أو الحالة النفسية
الراهنة إلى بعد واحد. فإذا ما طرأ خلل على
الوظيفة النفسية، أو الطاقة الحيوية، لا
يمكننا إرجاعها إلى حادثة ارتكاسية في الماضي.
ولقد رفضت مدرسة التأليف النفسي النظرية
التقليصية للسببين التاليين: أ.
إن اعتراف مدرسة التحليل النفسي بإعادة الوضع
النفسي الراهن إلى بعد واحد في الماضي يعني أن
الشخصية كلَّها، بنموها كلِّه، وبكل ما
اكتسبته من معارف وخبرات، قد قُلِّصت أو
اختُزِلَت إلى بعد واحد أو سبب واحد. وترى
مدرسة التأليف النفسي تعذُّر هذا الأمر لسبب
واحد هو أن الإنسان الذي يعاني من قضية نفسية
في مرحلة متأخرة من عمره هو إنسان تجاوز ما
حدث له في مرحلة متقدمة أو سابقة من عمره. لقد
أضاف إلى ما كان عليه في تلك المرحلة معلومات
ومعارف جعلته يتجاوز ما كان عليه في سنوات
حياته الأولى. على هذا الأساس، لا يَحسُن
تقليص شخصيته، بأبعادها كلِّها، إلى تلك
الحادثة التي وقعت له في سن مبكرة. وهنا تختلف
مدرسة التأليف النفسي عن المدرسة الفرويدية
في أن فرويد أعطى الأولوية للهو في مجال
الهيمنة على كلِّية الشخصية، بينما أعطت
المدرسة التكاملية للوعي الدور الأكبر في
تأليف قدرات النفس ووظائفها. ويخطئ التحليل
النفسي إذ يجزئ الإنسان إلى أقسام أو يقلِّصه
إلى بعد واحد، وذلك لأن هذا التحليل يفرض على
الإنسان الذي يعاني أن يدرك قضيته، لا كما كان
في تلك المرحلة المبكرة من عمره، بل كما هو
عليه في الوقت الحاضر. فإذا كان ابن العاشرة
قد عانى من مشكلة لم يعِ أبعادها، لعجزه عن
الوعي الكامل، فإن ابن الأربعين قادر على
الخلاص من تلك المشكلة بالوعي الذي يتميز به.
وهكذا يُخضِع فرويد كلِّية الإنسان للهو،
للارتكاس إلى بعد واحد. وفي الوقت ذاته، تؤكد
مدرسة التكامل النفسي على تأليف خبراته
ومعارفه، وعلى تحليل ما هو عليه من خلال وعي
الأبعاد كلِّها. ب.
تستبعد مدرسة التأليف النفسي المفهوم
الخطِّي الذي يعني خضوع الشخص لتطور أو نمو
خطِّي مستقيم. وهذا يعني أن مدرسة التحليل
النفسي ركزت على إخضاع الشخصية الإنسانية لما
حدث لها في الماضي دون إضافة ما وقع لها خلال
سيرورتها الذاتية. تقوِّض مدرسة التأليف
النفسي هذا الزعم، معتمدة على أن مثل هذا
الإخضاع يعني إمكان إشباع الإنسان بآراء
وأحاسيس تشدُّه دائماً إلى الماضي، على مستوى
الحياة الفردية والحياة الاجتماعية؛ الأمر
الذي يقضي على التقدم الفردي والجماعي. ولقد
دأب المستفيدون من هذا الإسقاط، أو الارتكاس،
أو الخضوع للبعد الخطِّي الممتد إلى الماضي،
على إعاقة تقدم الإنسان من خلال إقحامه في "خافية"
مظلمة تشدُّه دائماً إلى "جحيم" ماضيه.
من جانب آخر، دأبت مدرسة التأليف النفسي على
تعليم الإنسان كيف يتجاوز أوضاعه الماضية من
خلال "تعديل" دائم لشخصيته، حتى تبلغ
كمالها. سادساً.
تعتمد مدرسة التحليل النفسي على البعد
الخطِّي من أجل إعادة التوازن إلى النفس،
وإلى الطاقة الحيوية المتمثلة في الجهاز
العصبي. وفي هذا الاعتماد تعزيز لوجهة النظر
التقليصية التي تعيد الشخصية كلَّها إلى بعد
واحد أو حدث فريد في الماضي. وتعتمد وجهة
النظر التقليصية على ميكانيَّة الوعي
النفسي؛ وأعني أنها تطبِّق مبدأ تجزئة النفس.
وفي هذا المنظور للتحليل النفسي الذي نرى فيه
النفس المجزأة، النفس التي لا تقبل التكامل
والتآلف، يقع الشلل النفسي. على هذا الأساس،
نردِّد مع كريشنامورتي عبارته التأمُّلية
العميقة التي لخَّص فيها نقيصة التحليل
النفسي، إذ قال: "التحليل هو الشلل." (Analysis
is paralysis.)
والحق يقال إن المزيد من التحليل يعني المزيد
من التجزئة والانقسام، أي المزيد من الشلل
النفسي. فالتجزئة الحاصلة عن التحليل لا تقبل
العودة إلى التأليف. وتحليل الكل المتآلف لا
يسمح بتوحيد الأجزاء. وهذا يعني أننا نعجز عن
إعادة الوحدة إلى الأجزاء، وذلك لأن الأجزاء
لا تساوي الكل، ولا تقبل العكس. فالكل، كما هو
معلوم، أكثر من الأجزاء. على
غير ذلك، تدأب مدرسة التأليف النفسي–التكاملي
على تأليف شتات النفس الموزعة. فقد أدرك
أنصارها أن النفس الإنسانية وحدة تتكامل
وظائفها لأنها طاقة حيوية واحدة. وعلم أولئك
الأنصار أن التجزئة أو النزاع الداخلي الذي
يصيب الطاقة النفسية–الجسمية نتيجة وليست
سبباً. وعلى نقيض نظرة فرويد، تشاهَد النفس في
وظيفتها الكلِّية وفي تكاملها، كما يشاهَد
السلوك الإنساني أحدي الاتجاه، لا يتوزَّع
بين نطاقات النفس المتنازعة، كما هي حاله وفق
المفهوم الفرويدي. ووعى علماء نفس الأعماق –
وهم فلاسفة التأليف النفسي – أن الصراع
الداخلي حصيلة عوامل خارجية تتجسد في التربية
الانفعالية التي تبدِّد الطاقة النفسية، وفي
التربية الاجتماعية التي تخلق، وفق ما يرى
أدلر, صراعاً داخلياً مردُّه إلى رغبات
الإنسان وشهواته في الحقل الاجتماعي، وفي
الوجود الإنساني القلق الذي يتطلب الهندسة
لتحقيق التكامل. والحق يقال إن علماء النفس
التأليفي يوحِّدون شتات النفس من خلال
أبعادها، في بعد لاخطِّي، دون تقليص النفس
والطاقة الحيوية إلى بعد واحد أو حدث واحد ليس
غير. وفي هذا الموقف يعيدون التوازن بين
الواعية والخافية إلى نصابه. ويخلص علماء
النفس التأليفي، بالإضافة إلى علماء نفس
الأعماق، إلى أن التربية القائمة على المحبة،
والمشاركة الحقَّة، والتعاطف، لا تثير
نزاعاً في النفس بين الواعية الحاضرة
والخافية الماضية؛ الأمر الذي يعني تحقيق
التوازن في هذا الوسط التربوي. سابعاً.
لما كان مؤيِّدو علم النفس التأليفي يعنون
بالجنس دافعاً حيوياً، شبيهاً بالدوافع
الأخرى، يفعل لتحقيق غاية، فإنهم يتوافقون مع
مبدأي الين yin
والينغ yang
في الحكمة الصينية، مع مبدأ الأغابي agapè
الإغريقي، ومع مبدأي الأنيما anima
والأنيموس animus
اليونغيين – هذه المبادئ التي عاينت كلِّية
الكيان في الوظيفة الجنسية للإنسان. وأغفل
أولئك المؤيِّدون عقيدة الإيروس eros،
المتجسِّدة في الحب العضوي وحده. ويرى أولئك
المؤيِّدون أن احترامنا للإنسان القادم إلى
العالم الأرضي دليل على أن الطريقة التي يأتي
بها إلى هذا الوجود، أو تلك التي يحقق وجوده
من خلالها، سامية ونبيلة وجديرة بالتقدير.
فإذا كنا نضع الإنسان في مرتبة سامية
فلابُدَّ أن ننظر إلى الطريقة التي يأتي بها
إلى العالم بمنظار السمو. فليس ثمة إنسان
يقوِّم ابنه أو ابنته كما لو كان أو كانت نتاج
نزوة أو شهوة عابرة أو انفعال تافه يبعث على
الاشمئزاز. على هذا الأساس، يُعَدُّ الجنس في
نظرهم طاقة حيوية، أو دافعاً حيوياً ونفسياً،
يتَّجه إلى التحقيق عن طريق العضو المعبِّر.
وبناء على هذا المبدأ، يُسخَّر الإيروس
لتحقيق الغاية، ويُستبعَد الجنس، بمفهومه
الفرويدي–الإيروسي؛ إذ يتعذَّر أن يكون
الدافع الوحيد أو البعد الوحيد الذي تكمن
خلفه أنواع العصاب كلُّها (لا ننسى أن فرويد
كان ينتمي إلى عقيدة إيروسية مغالية).
وبالإضافة إلى هذا القول، نضيف معبِّرين أنه
كان يعمل على تثبيت هذه العقيدة في الخافية
الجمعية أو اللاوعي الجمعي. وكما علمنا، تفهم
غالبيَّتنا هذه الخافية أو هذا اللاوعي، لا
بمفهومه اليونغي أو التأليفي والتكاملي،
حسبما كشفت عنه مدرسة علم نفس الأعماق، بل
بمفهومه الفرويدي النزاعي. ويؤسفني أن أقول
إن عقول الناس ونفوسهم مشحونة بهذا اللاوعي
الذي تتراكم فيه التعاليم التي سعى من خلالها
مهدِّدو الحضارة البشرية ومضلِّلوها إلى
القضاء على صفاء النفس وجمال المحبة. إنهم
قيَّدوا الواعية بإشراطات عديدة، فصارت
خافية. تعلِّمنا
مدرسة علم نفس الأعماق، التي اقتبست مبادئ
الحكمة القديمة، أن الدافع يختلف عن الرغبة،
وأن العاطفة تختلف عن الانفعال. والجنس، بنظر
هذه المدرسة، دافع وعاطفة، وهو، في نظر
فرويد، رغبة وانفعال. على هذا الأساس، ترى
مدرسة علم نفس الأعماق الخطر كامناً في
الانفعال، في اضطرابات الطاقة الحيوية،
وتدرك أن التوازن قائم على تحقيق الطاقة
الحيوية من خلال دافع الأمومة والأبوة.
فالجنس لا يُعمِل، وفق هذا المعيار، مفهوم
العضو الإيروسي، بل يتضمن في صلبه حقيقة
العلاقة القائمة بين الروح والمادة، بين
الذكورة والأنوثة، بين العقل والحدس، بين
الإنسان وذاته، في وظيفة كل من الرجل والمرأة.
وهكذا يصبح الجنس تفاعلاً في صميم الكيان
الإنساني بين قطبيه: الرجل والمرأة. الجنس،
بالإضافة إلى ما ذُكِر، حنين وتوق: توق للعودة
بالرجل والمرأة إلى ما كانا عليه يوم كان
الإنسان البدئي (آدم قدمون، أو "آدم القديم"،
في عقيدة القباله) أحدي الجنس، أي ما يسمى
مجازاً بالـ"خنثى"(Androgyny,
Hermaphrodite) .
وبالفعل، تتحقق هذه الأحدية في العلاقة، إذ
تتشكل الخلية الواحدة التي لا تعرف الذكورة
أو الأنوثة والتي تتمايز إلى ذكر أو أنثى بما
يتفق مع الوظيفة التي ستقوم بها الطاقة
الحيوية الكامنة لاحقاً. ونتيجة لهذا التحليل
تستنتج مدرسة علم نفس الأعماق أن الدافع
الأمومي والأبوي، المعروف بالجنس، هو
الوسيلة الوحيدة لتحقيق تجسُّد الطاقة
العليا، الروحية، على كوكب الأرض؛ إذ لا سبيل
آخر لتجسُّد هذه الطاقة "الخنثوية"، إلا
عن طريق اتحاد قطبي الإنسان: الرجل والمرأة.
وهذا ما أغفله فرويد ولم يدركه: لم يتفهم
فرويد الباطنية القصوى للطاقة الجنسية
المركَّزة في مركز الطاقة chakra
الواقع في أدنى العمود الفقري. والحق أن فهم
مراكز الطاقة السبعة العائدة للجسم اللطيف،
الممتدة من أسفل العمود الفقري إلى الغدة
الصنوبرية، يساعدنا على فهم وظيفة كل طاقة. وإذا
كان فرويد قد أخطأ في تفسير قصة أوديب التي
تعطي الأولوية للروح على المادة، وللحدس على
العقل، وللأنثى على الذكر، فلأنه كان واحداً
من الناس الذين يزرعون بذور الشقاق والخصام
في الإنسان، وذلك من أجل تحويله عن مجرى تحقيق
إنسانيَّته وعظمته الروحية. ولذا نراه يثبِّت
الإيروس بغير المعنى الذي قال به فلاسفة
الإغريق، ويثبِّت لوط التوراة بطريقة
خافيَّة، ويشيِّد للذكورة نصباً تذكارياً
شامخاً، ويكرس مبدأ الألوهية الذكرية، ويرفض
مبدأ الألوهية الأنثوية. من هنا نجد أن
العقائد الذكرية–"الفالِّية" phallic
الإيروسية عقائد حسية، مادية، انفعالية،
عنيفة، بينما العقائد الأنثوية–الحيوية "الأغابية"
عقائد شعورية، روحية، عاطفية، حدسية، رؤوفة. ثامناً.
يتصل مبدأ ديناميَّة النفس، بوصفها طاقة
حيوية تفعل على نحو كلِّي، بقدرة الإنسان على
"تعديل" نفسه؛ مثلما يتصل مبدأ
ميكانيَّة النفس، بوصفها طاقة تنقسم على
ذاتها وتتجزأ، بتغيير مواقف الإنسان؛ الأمر
الذي يجعله كائناً يعاني من التناقض الداخلي
والتمزق والصراع. وتشدِّد مدرسة علم نفس
الأعماق على "التعديل" الدائم المثابر
للكائن البشري ضمن تكامل يتَّجه إلى وحدة
النفس والطاقة الحيوية. على هذا الأساس،
تختلف النظرة إلى الشخصية في تمايزها عن
الفردية. فالشخصية تعبِّر عن الإنسان الذي
يتكامل من خلال "تعديل" مستمر لذاته، حتى
يبلغ مستوى التوازن بين الواعية والخافية،
ويتسامى في كيان غير متناقض في ذاته؛
والفردية تعبير عن الإنسان الذي يعتمد مبدأ
تغيير سلوكاته، ومواقفه، وآرائه، الأمر الذي
يجعله يجهل مبدأ وحدة الهوية في صميمه
وجوهره، ويقع فريسة التناقضات الداخلية التي
كرَّسها فرويد وغيره من مؤيِّدي نظريته في
التحليل النفسي. لقد سجن فرويد وأنصاره
الإنسان في زنزانة "الأنا" وفي قوقعة
الفردية. اعترف
كل من يونغ وأدلر بمبدأ التناقض الداخلي
الناتج عن بقاء الإنسان في سجن "أناه"،
وحاول كل منهما إعادة التوازن بين الواعية
الحاضرة والواعية الماضية (المعروفة
بالخافية) التي تتراكم فيها وتتناقض أنواع
الرغبات والشهوات والانفعالات التي احتلت
صميم الإنسان. لذا يدافع يونغ عن مبدأ
التوازن، ويعلِّم مبدأ تجاوز الأنا دون
إلغائها؛ ويدافع أدلر، من جانبه، عن الإنسان
لينقذه من تناقضات المجتمع، وتعارض قيمه،
وذلك لكي لا يسقط في هوة العقد المجسَّدة في
التعويض الزائف للقيم التجمعية على نحو أنا
عليا تتمثل، بدورها، في عقدة العظمة مقابل
عقدة النقص. نخلص
إلى القول إن الأنا التي "تعدِّل" ذاتها،
في محاولة فهم ووعي، تظل أسيرة تناقضاتها ضمن
فردية ساعية إلى التغيير. أما الذات التي تقيم
توازناً بين الواعية والخافية فإنها تسعى إلى
مزيد من التكامل في الكيان عن طريق التعديل
الدائم. ويشدِّد كريشنامورتي – وهو المعلِّم
الأول في مدرسة علم نفس الأعماق – على حقيقة
أن التعديل يتم على نحو ما نحن عليه. على هذا
الأساس، يطوِّر الإنسان نفسه على النحو الذي
يوجد فيه، كما هو، وتتنامى شخصيته في هذا
التعديل الخاص به، فيُسقِط المقارنات التي
ينشئها مع غيره على المستوى الاجتماعي وعلى
المستوى الجسمي والمعيشي والفكري. والتعديل،
كما هو مفهوم، يتجاوز المقارنات التي تتم بين
"الأنا" الفردية الخاصة بي و "الأنا"
الفردية الخاصة بغيري، ويتم، عوضاً عن ذلك،
عن طريق معرفة نفسي وتحقيق كياني ضمن معطياتي
التي، إن فهمتها وعملت على تعديلها، هيَّأتني
بإمكان تحقيق كمال كياني، وذلك بمعزل عن
مهنتي، أو عملي، أو مركزي الاجتماعي، أو طول
قامتي أو قصرها، إلخ. وعندئذٍ، تنسجم حقيقة
وجودي الفردي مع وجودي الكوني ومع الغاية
الكونية التي وُجِدْتُ من أجل تحقيقها كما
أنا عليه. تاسعاً.
تحقق الطاقة الحيوية الإنسانية – والنفس
أجلى مظاهرها – وجودها على كوكب الأرض عندما
تعي غاية وجودها وتتبنى نظرة كونية، هي وعي
كوني. ولا شك أن هذه النظرة، وقد أصبحت فاعلة
في الإنسان، حَريَّة بأن تؤلف بين وظائف
النفس، وتقلل من التناقضات الداخلية، أو تضع
نهاية لها. ومثل هذه النظرة الكونية – وهي
حكمة حياة – تتجاوز الأنا إلى الكيان،
وتُسقِط الانفعالات المتجسِّدة بالرغبات
والشهوات. وعندما
تُطرَح قضية العقد النفسية بأنواعها، نجد أن
مفهوم هذه العقد يحتمل تفسيراً مختلفاً.
فالشعور بالنقص لا يشير، في نظر الحكمة وعلم
نفس الأعماق، إلى خطر انقسام النفس أو خطر
الإخلال بتوازن الطاقة الحيوية. فعلى غير
ذلك، تُقِرُّ الحكمة بأن الإنسان – كلَّ
إنسان، مهما تكن منزلته، ثروته أو فقره، حسن
طلعته، أو غير ذلك – لا يخلو من شعور بالنقص.
كلُّ إنسان، على اختلاف جنسه، ولونه، واختلاف
قيمه ومفاهيمه، يشعر بالنقص. ومع ذلك، لا
يُرَدُّ الشعور بالنقص إلى اختلال الشخصية،
إنما يُعَدُّ دافعاً إلى الكمال: هو دافع من
الدوافع المبدعة الخلاقة؛ هو، في نظر علم
النفس التأليفي، مختلف عما هو في نظر التحليل
النفسي الفرويدي. والحق
يقال إن الشعور بالنقص لا يتحول إلى عقدة نقص
ما لم يُضِف الإنسان إلى "أناه" إضافات
زائفة. فالأنا المضخَّمة تسعى إلى المفاهيم
التجمعية، كالكبرياء والجاه والثروة إلخ،
لتقارن ذاتها بكل أنا أخرى وتكون مثلها،
الأمر الذي يجعلها معقدة بنقصها – عقدة النقص
التي أشار إليها أدلر، وعقدة العظمة
التعويضية. على هذا الأساس، تضيف الفردية –
وهي الأنا – إضافات كاذبة إلى نفسها لكي تغطي
شعورها بالنقص؛ الأمر الذي يجعل الشعور
بالنقص يتضخم إلى عقدة النقص وإلى عقدة
العظمة. من هنا نجد الشخصية "تملأ"
كيانها، والفردية "تغطِّي" نقصها. وفي
عقدة النقص يجثم اختلال الطاقة الحيوية؛
وبالتالي، يكمن فقدان التكامل الذي يسمى،
اصطلاحاً، "المرض النفسي". أما
الشخصية – وهي متوازنة بواعيتها وخافيتها –
فإنها تضيف إلى ذاتها إضافات صحيحة، غير
تجمعية وغير زائفة، قوامها الوعي، لتصير إلى
كمال أو تكامل أفضل. وفي إضافتها الصحيحة هذه
يُعبِّر الشعور بالنقص عن ذاتها بدافع الكمال.
وتمتلئ الشخصية، بينما تظل الفردية تعاني من
الإحساس بالفراغ. والحق يقال إن الكمال
الكامن في الإنسان، في طاقته الحيوية، ينبثق
من شعور بالنقص، هو حوار داخلي، وحثٌّ داخلي،
وشك معرفي–إبستمولوجي، لتحقيق المزيد من
اليقين والمعرفة والوعي. يمكننا
أن نقول إن تحقيق هذا الكمال النفسي، من خلال
شعور بالنقص يدفع الإنسان إلى بلوغ مستويات
عليا على سُلَّم كيانه، لا يتم إلا بوعي عميق
أو بنظرة كونية إلى الوجود، ولا يتحقق إلا
بتوحيد أنفسنا مع الكون في اتصالية تنأى عن أن
تكون انفصالية، هي ديناميَّة الوجود
الإنساني الذي يسعى إلى تحقيق الوحدة الكونية
في كيانه. *** *** *** المراجع
-
R. Assagioli, Psychosynthesis -
Walsh & Vaughan, Beyond Ego -
Walsh, Vaughan, Wilber et al., The Nature of
Consciousness -
G. Bateson, Mind and Nature -
J. & R. Davidson, The Psychology of
Consciousness -
J. Jacobi, The Psychology of Jung
1
راجع فصل "التطور المشترك وظاهرة
الإنسان" في كتابي المبدأ الكلي: لقاء
الحكمة القديمة والعلم الحديث. 2
راجع القسمين الثاني والثالث من كتاب روبير
لنسن التطور النفسي في الألف القادمة،
بترجمتي. 2
راجع فصل "معالم الشخصية المتكاملة"
من كتابي تأملات في الحياة والإنسان.
|
|
|