|
عن الوصال
والالتهام
والصعق
بالكهرباء
عقل
العويط
أفضى
إليَّ أحد القراء – وهو من ملتهمي الكتب
الأدبية – أنه هو أيضاً من المؤمنين بالأدب
كفاعلية لغوية، خلاقة وخلاصية. لكنه أوضح لي
أن "كهرباء" الكتاب لا تصله أحياناً، وأن
الوصال، تالياً، لا ينشأ بينهما. ثم سألني:
كيف يمكنه أن ينتقل من ضفة الشخص المتلقِّي
إلى الضفة المقابلة، فيصير كتاباً شعرياً
يلتهمه القراء الآخرون؟ لم
أفاجأ بالإفضاء، لكن السؤال أحرجني قليلاً
لأن السائل ملحٌّ في طلب الجواب. الأكيد أني
لم أضحك في أعماقي ساخراً ومستخفاً، مثلما قد
يتبادر إلى ذهن بعضهم. ذلك أن القارئ أعادني
إلى مسألة واضحة تماماً بالنسبة إليَّ، لكنها
ستظل دوماً موضعاً للنقاش: لا أحد يقرِّر أن
يصير كاتباً وكتاباً، وإنْ أمضى حياته في
قراءة الكتب والتمرُّس بالكتابة. لهذا، عندما
يتحدث أحدنا عن القراءة والكتب والتأليف،
فإنما يعني، أول ما يعني، الحالة التي
تمكِّنه من الدخول إلى "عالم الورق".
فالقارئ – وخصوصاً القارئ النهم – لا يستطيع، مهما بلغ شأوه في ميدان
القراءة، أن
يحقق مأربه الثقافي والروحي لمجرد أنه يقرأ
فحسب. ثمة حاجة مطلقة إلى قيام نوع من التواطؤ
المضمَر بين القارئ والكتاب، هو وحده الذي
يشيع تلك الحالة التي أتحدث عنها. قد
تساعد القراءة في تفتُّح العبقريات وتشييد
عالم الثقافة والمعرفة. وقد تنتج قرَّاءً
كتبيين، حرفيين، وببغائيين. وقد تصنع أيضاً
علماء في المعنى المبسَّط للكلمة. لكن
القراءة – حتى تلك التي تحوِّل القارئ مكتبة
بشرية – تعجز عن توليد تلك الحالة إذا لم
تتوافر لدى القارئ الطاقات الروحية التي
تهيِّئ النفس لاستقبال ما يُقرَأ... بسعادة. أقول
"الحالة"، وأعني، في جملة ما أعنيه،
الاستعداد المجاني الهائل الذي يحمل القارئ
على الغرق في المقروء، والتمرُّغ فيه،
والتكهرب بناره، وصولاً إلى "انتزاع روحه"
والاتحاد به. طبعاً، هذا لا يعني محو الذات،
بل القدرة على التقدم، بكامل الروح والخصوصية، في اتجاه هذا المعنى المقروء: أي
الآخر. ومن دون ملكة الاستعداد هذه، عبثاً
يقرأ القارئ، وعبثاً تتراكم لديه المعاني
والثقافات. وعندما
أتحدث عن هذه الحالة، فأنا لا أقصرها على
القراءة (فهذه المسألة لا تخصُّ القارئ وحسب،
وإنما تتعداه إلى الكاتب الذي لن تُكتَب له
الديمومة إذا لم يكن "متورطاً" في تلك
الحالة إلى حدِّ الفضيحة الناصعة)، بل أجدها
أيضاً في العلاقة بالموسيقى، بالرقص
التعبيري، أو باللوحة الفنية. وإذا أردتُ أن
أقدِّم مثلاً مبسَّطاً، لاكتفيتُ بالمعنى
الأقرب وأشرتُ إلى العلاقة بالطبيعة والمشهد
الجمالي عموماً. ثمة
أفراد لا يحتاجون إلى "فهم" المعاني
أحياناً لكي يستلذوا الاستماع إلى موسيقى
أوبرالية، أو التقاط إيقاعات الجسم الراقص،
أو الدخول في عوالم الجاز والموسيقى
الكلاسيكية، أو أيضاً الاشتراك في عالم
اللوحة التشكيلية. لماذا؟ لأن "الفهم"
جزئيٌّ وعرضيٌُّ، ولأنهم مقيمون في جوهر
الحالة. فهم مهيَّأون، جسدياً وروحياً،
لاقتبال السرِّ – الذي يصير "فهمه" سهلاً ما إن "يعيش" القارئ أو المستمع أو
الرائي مسألة "الحالة" ويجتازها. أقول
"يجتازها" ولا يتجاوزها، لأنها عتبة
ومقام لابدَّ منهما لتشييد مثل هذه العلاقة
الكاملة التي أتحدث عنها. أعرف
قراءً يقرأون القليل، لكنهم يمضون وقتاً
طويلاً مع الكتاب. يكفيهم أحياناً أن يكونوا
في مكتبة، أن يفتحوا صفحات الكتاب، أن يقرأوا
بعضاً منها، حتى يلجوا إلى أعماق تلك الحالة
التي ينجم عنها ذلك الاقتبال الشبيه تماماً
بفعل الالتهام: وأعني الالتهام الروحي... ولِمَ لا المادي
أيضاً! أعرف
آخرين لا يفقهون الشيء الكثير عن الموسيقى
الكلاسيكية، لكنهم يستمعون إليها استماعاً
عميقاً، ويصيخون منصتين إليها بجوارحهم
كلِّها – حتى إذا سألتَهم عن شيء محدَّد،
أجابوك بما هو أشمل وأبعد مرمى. لماذا؟ لأنهم
يحوزون تلك الملكة المطلقة التي تُشيع بينهم
وبين موسيقاهم نوعاً من المعرفة لا يمنحه لهم
العلم في ذاته. سيحتاج هؤلاء، بالطبع، إلى ذلك
العلم، لكنه "شيء" سيحتل دوماً المرتبة
الثانية في مسار تلك المعرفة الروحية. وأراني
أستعين بموريس بلانشو الذي يقول عن القراءة
إنها سعادة. وهي سعادة تتطلب من البراءة
والحرية والاقتبال أكثر مما تتطلب من التدقيق
والعناية والاعتبار. وأراني
أعود إلى مسألة "الكهرباء" وإلى سؤال
القارئ عن كيفية الانتقال من ضفة إلى ضفة،
لأقول إن القضية الأولى سهلة معقدة في آن واحد:
فإما أن يكون القارئ مكهرَباً بالطبيعة
والحدس، وإما أن لا يكون. ...
أما كيفية الانتقال فلا "تُعقَل"
بالمنطق – شأنها شأن الصعق بكهرباء الحبِّ من
النظرة الأولى! *** *** *** عن
ملحق النهار، الاثنين، 19 تشرين الثاني 2001
|
|
|