|
فتنة الاستهلاك
أم فرح المشاركة
نداء
العودة إلى الينابيع
زهيدة
درويش جبور
هناك
نوعان من الكتَّاب: كتَّاب نخبويون يتوجَّهون
إلى قلة من المثقفين، وكتَّاب جماهيريون
يسعون إلى إيقاظ الوعي لدى فئة كبيرة من الناس
بالمشاكل التي يتخبط فيها المجتمع. وكوستي
بندلي، انطلاقاً من التزامه الاجتماعي
والإنساني، وتحسساً منه بالحاجة الماسة في
مجتمعنا للتنبيه إلى مخاطر الثقافة المادية
الاستهلاكية التي يسعى النظام العالمي
الجديد إلى تعميمها، آثر أن يكون من الفريق
الثاني، يخاطب الناس بلغة بسيطة، ويتوخَّى
الوضوح في المنطق وأساليب التعبير. وكونه
يتوجَّه إلى الجمهور العريض فقد انتقى عنواناً يثير الفضول. فالصيغة استفهامية من
جهة، وقائمة على مفارقة أساسية من جهة أخرى: فتنة
الاستهلاك أم فرح المشاركة؟ لكن السؤال
الذي يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، إنما يغتني
بخلفية فلسفية. فالعلاقة بين الجملتين تقوم
على التناقض بين الفتنة والفرح، الاستهلاك
والمشاركة. ذلك أن الفتنة لا تعطي إلا وهماً
من السعادة، تلك التي تبقى أسيرة اللحظة
الراهنة، وتزول بزوال الموضوع الذي يحرِّكها;
أما الفرح فهو حالة مقيمة في الذات، ينبع من
الداخل ويصدر عن الاكتفاء والرضى. والاستهلاك
نقيض المشاركة لأنه مرادف لمتعة الامتلاك،
بينما المشاركة لذة العطاء. المستهلِك معزول
في أنانيته وفي عطش للتملك لا يرتوي; أما الذي
جعل مِن بذل الذات طريقاً إلى الآخر فهو الذي
يكتشف جمال السعي معاً للتجاوز نحو الأسمى.
ولا تلبث عند قراءة العنوان الداخلي – "الإيمان
ومجتمع الاستهلاك" – أن تدرك المرجعية
الفكرية لصاحب الكتاب الذي نجح في مقدمته
بالتعريف بموضوعه الأساسي وبالمنهجية التي
سيعتمدها لمعالجته، تلك المنهجية القائمة
على التحليل. وهو يستند إلى معطيات العلوم
الإنسانية والتقويم الذي يرتكز على مرجعيتين:
دينية من جهة، وعلمانية إنسانوية من جهة أخرى.
يقف
المؤلف موقف المراقِب ليرصد الظواهر
الاجتماعية الغربية، محاولاً الكشف عن
أسبابها. فيرى أن الكسب يحرك هذه المجتمعات،
حيث صار المال القيمة الأساسية، وربما
الوحيدة. ومما لا شك فيه أن حيتان العصر، أي
الشركات الكبرى العابرة القارات التي تتحكم
بالاقتصاد العالمي وتسعى إلى مزيد من الإنتاج، تعمل على تحويل العالم
سوقاً
للاستهلاك. لذلك فهي تتحكم بوسائل الإعلام
وتعتمد إعلاناً ذكياً يهدف إلى إيجاد حاجات
جديدة لدى المستهلك. ويستعين المؤلف لتوضيح
فكرته برأي لروجيه غارودي الذي كتب في نداء
إلى الأحياء: "إن من أعمق نواميس النظام
الاقتصادي الحالي هو أن الإنتاج فيه، على عكس
ما يقول به الاقتصاد الكلاسيكي المدعو "حراً"،
لا يهدف إلى إجابة حاجات السوق، بل، على العكس، إلى إيجاد حاجات في
السوق، وإنْ مصطنعة، غايتها إجابة متطلبات الإنتاج."
ويعطي غارودي مثالاً على ذلك يورده المؤلف:
صرح والتر تومبسون، مدير أكبر وكالة عالمية
للإعلان، عام 1960 أنه "يترتب على الأميركيين
أن يتعلموا كيف يزيدون استهلاكهم بمقدار 16
مليار دولار في السنة ليلتحقوا بوتيرة
الانتاج" (ص 20). ولتشجيع المستهلك على
الاستهلاك تعتمد الشركات سياسة لتسهل الشراء، كالتقسيط
المريح، وتساعدها المصارف
في ذلك بتقديم العروض من أجل قروض ميسرة. ويتوقف
المؤلف طويلاً ليدرس الإعلام الغربي، فيرى
أنه يتَّسم بالإتقان والإفادة من معطيات علم
النفس الحديث الذي يمكِّنه من التأثير على
المستهلك. وهو يعطي مثالاً على ذلك أن تخطيط
المخازن الكبرى في فرنسا يهدف إلى إيقاع
الزبائن في الفخ. فهناك مخزن اختباري أقيمَ
خصيصاً لهذا الغرض قرب باريس، غايته مراقبة
العوامل التي من شأنها أن تستوقف الزبون
وتثير انتباهه لسلع معينة وتغريه بشراء ما
يفيض عن حاجاته. ونحن نرى في مجتمعنا اللبناني
ازدهاراً في حركة انتشار هذه المخازن الكبرى
في مختلف المدن. صحيح أنها تساعد على توفير
الوقت لأنك تجد فيها كل ما يلزمك، ولست بحاجة
أن تلفَّ في الأسواق، ولكنها، في الوقت نفسه،
تقدم لك إغراءات لشراء ما لست بحاجة إليه،
اللهم إلا إذا تحلَّيت بالإرادة، وبالقدرة
على المقاومة، وبالوعي الذي يمكِّنك من رسم
سياسة استهلاكية خاصة بك تحددها إمكاناتك
ونمط معيشتك. ويبين
المؤلف الأساليب الذكية التي يلجأ إليها
الإعلان، ومنها اعتماد مبدأ التواتر وسعة
الانتشار، بحيث يحاصَر المستهلك من كل جهة:
يجده في الجرائد والمجلات والسينما
والتلفزيون والإذاعة وعلى الملصقات
الجدرانية والشاشات الإلكترونية في الشوارع.
وكثيراً ما تقع النساء خاصة في هذا الشرك في
سعيهنَّ إلى المحافظة على الشباب الدائم،
وكأن الشيخوخة صارت مرادفاً للقبح. في كل ذلك
ما من شأنه أن يحوِّل المرأة إلى مجرد صورة،
إلى شكل بلا روح، يُختزَل جماله في مدى تطابقه
مع نموذج نمطي يرسمه الإعلان. في السياق عينه
نستطيع أن نضع الاهتمام المبالَغ باللياقة
البدنية الذي نلاحظه لدى الفتيات والنساء في
الآونة الأخيرة، فنجدهن يتَّبعن الحمية
ويُقبِلن على شراء المنتوجة الغذائية الخاصة
بالريجيم والرائجة حالياً، ويقتنين الآلات
التي تساعد على التنحيف، ويختلفن إلى النوادي
الرياضية، لا لاقتناعهن بفوائد الرياضة
للنفس والبدن، بل لاكتساب الشكل النموذجي
المرجو. في
الفصل الثالث رصدٌ لمظاهر غزو المجتمع
الاستهلاكي للبلدان النامية التي تتمثل في
التهافت على الكماليات على حساب الحاجات
الأساسية، والاستعاضة عن الأغذية الطبيعية
بغذاء اصطناعي. ألا يفرض الكورن فلاكس نفسه في
كثير من عائلات مجتمعنا كوجبة صباحية، يستعاض
بها عن تناول الأجبان والألبان ومنقوشة
الزعتر والزيت؟ ألا يقتني الباعة
المتجوِّلون الهواتف الجوَّالة، بينما هم
عاجزون عن تأمين تكاليف الغذاء والتعليم
لأولادهم؟ ولا يكتفي المؤلف برصد الظاهرة، بل
يبحث عن أسبابها العميقة، وهي علل قائمة في
مجتمعات هذه الدول وشعوبها، ومنها الميل إلى
حب الظهور والرغبة في التقليد. ومردُّ ذلك، في
نظر المؤلف، إلى التبعية الاقتصادية. وهو
يذهب في ذلك مذهب د. مصطفى حجازي عندما يردُّ
تخلف البلاد النامية لا إلى قَدَر محتوم أو
"دونية طبيعية"، ولا إلى عوامل ثقافية أو
حضارية أو تاريخية، بل إلى التبعية
الاقتصادية التي أُخضِعَت لها لصالح الدول
الصناعية الرأسمالية. إن
رصد خصائص مجتمع الاستهلاك الذي نجح في
التسرب إلينا ليس غاية في ذاته، بل وسيلة
للتوصل إلى اقتراح وسائل لمواجهة إغراءاته.
وهذا ما يكرِّس له المؤلف القسم الثاني من
دراسته. والواقع أن هذا القسم يختلف من حيث
النفحة والأسلوب عن الذي سبقه. فإذا طغى وصفُ
الواقع والتحليل على القسم الأول، فإن القسم
الثاني يتَّسم بنظرة فلسفية تغرف من اللاهوت
المسيحي. ينجح المؤلف في نسف البنية الفكرية
التي يتأسَّس عليها مجتمع الاستهلاك عندما
يميِّز بين الكينونة to
be, être
والامتلاك to have, avoir.
فالمجتمع الاستهلاكي المعاصر يجعل الكينونة
مشروطة بالامتلاك. والواقع أن هذه المعادلة
هي التي تقوم عليها المدنية الحديثة التي
بدأت تُرسي دعائمها منذ القرن التاسع عشر، أي
منذ الثورة الصناعية في أوروبا، وما نتج منها
من تحولات في الفكر الفلسفي الذي بشَّر
بانتصار الإنسان المتفوق، القادر على تحدِّي
الغيب وعلى السيطرة على الكون. لم يعد العالم
مجرد سَكَن أو مقام، بل مساحة للغزو
والاقتحام. وما استباحة البيئة التي نشهدها
منذ منتصف القرن الماضي، وما يترتب عليها من
نتائج سلبية على الحياة، سوى انعكاس لذلك.
ويرى المؤلف أن العلاقة بين الإنسان والأشياء
انقلبت رأساً على عقب؛ إذ إنها تفترض أن
الإنسان وُجِدَ من أجل الأشياء وامتلاكها، في
حين أن الأشياء وُجِدَت أصلاً من أجل الإنسان
وفي خدمة تحقيق إنسانيته. وهنا يستلهم بندلي
المفهوم الإنجيلي لمعنى الحياة الإنسانية،
فيقول "إن الإنسان لا يحقق ذاته إلا إذا
شارك في ما يتجاوزها، أي إذا شارك في إحقاق
القيم، وأخلص في خدمة قضية أبعد من ذاته،
وانفتح على الآخرين في حركة مزدوجة من التقبل
والعطاء". الكينونة هي في البذل لا في
الامتلاك. البذل أساس المشاركة، وفيه الفرح
الحقيقي، ذلك الذي لا يصدر عن لذة يؤمِّنها ما
هو إلى زوال، بل عن تلك التي تلازمك وتقيم فيك
وأنت تختبر جمال التحرر من سلطة الأشياء؛
تتخلى عنها طوعاً في صبوتك إلى ما يتجاوزها
ويعطي وجودك معناه. الامتلاك لا يؤمِّن لك إلا
سعادة هشة لا تلبث أن تغادرك، مخلفة وراءها
الضجر، لأنها سعادة تقيمك في سجن ذاتك. يحضرنا
هنا قول المطران جورج خضر: "إن الساعي إلى
سعادته هو الساعي إلى الأنا". وهذا يختلف
جذرياً عن الساعي إلى الفرح القائم في
التخلِّي الذي وحدها المحبة تجعله ممكناً.
الفرح الحقيقي – والكلام مرة أخرى للمطران
خضر – هو "الفرح الذي يحيينا من بذل وينتصر
على الموت". البذل، من هذا المنظور، لا
يُختزَل في التضحية. وهذا ما يؤكده المؤلف
الذي يجد ضرورة في مراجعة ما يشوب الخطاب
المسيحي عن التجرد؛ إذ يبدو من خلاله للناس
أنه غاية في ذاته، في حين أن التجرد والفرح
صنوان، والارتباط قائم، إنجيلياً، بينهما،
لأن التجرد يُدخِلنا في عالم المشاركة الذي
هو عالم الله والفرح النابع أبداً من الله ومن
حضوره المحيي. صحيح
أن سمة هذا الخطاب مسيحية بامتياز، لكن القيم
التي يتضمَّنها ليست حكراً على المسيحية
وحدها، بل هي مبادئ يترجمها أسلوب حياة كل
الذين صفت قلوبُهم وشفَّت نفوسُهم، لأي دين
أو عقيدة انتموا؛ هؤلاء هم المؤمنون بأن معنى
الوجود الإنساني يكمن في التفوق على
محدوديَّة "الأنا" وفي تحريرها من سجن
فرديتها. وهل الزكاة في الإسلام إلا فعل
مشاركة؟ أليس التقشف في البوذية طريقاً إلى
تجاوز خصوصية الأنا المنفصلة التائقة إلى
استعادة الوحدة المفقودة والانصهار بالوجود
الكلِّي؟ ألا يجد المتصوِّف، سواء في التراث
المسيحي أو الإسلامي، حريَّته في التخلِّي عن
متاع الدنيا؟ الكتاب
محاولة موفَّقة للوقوف في وجه نزعة مادية
تنتشر باطراد في مجتمعنا، ينتج منها تسطيح
للفكر، وتدمير للعلاقات الإنسانية، وتشيُّؤ
للفرد، وقلق وجودي في عالم يزداد فيه الإنسان
غربة. الكتاب دعوة لليقظة ونداء للعودة إلى
الينابيع، إلى أصالة الحياة الروحية التي
يتصالح فيها الإنسان مع نفسه، ومع أخيه، ومع
العالم، ينعم بالرضى ويقتنع بأن قيمته تنبع
من ذاته، وأنها لا تُستَمَد من سلطة أو من مال.
وهو دراسة غنية بالوثائق والإحصاءات
والمعلومات التي لم يتَّسع المجال للتوقف
عندها والتي نترك للقارئ لذة اكتشافها. *** *** ***
|
|
|