|
نفاد الأحوال
مرثاة
الذات بين الوجود والعدم
مارلين
كنعان
يحيلنا
بول شاوول في نفاد الأحوال، الصادر عن دار
النهار للنشر (2001)، على ما يشبه السيرة
الذاتية التي تروي أحوال "الأنا"
ومحدوديَّة الكائن، عاقداً "مقارنة بين ما
يتولَّى وما لا يبقى على أحواله"، في لغة
بركانية ملتهبة تقيم على تخوم الشعر والنثر،
فتسيل نزفاً وحِمماً على مدى سبعين صفحة في نصٍّ واحد لا يعرف الراحة. في
كتابه هذا يبدأ شاوول فعل تأمُّله بحدث عبثي
يأخذ لديه مدى وجودياً مأسوياً؛ وهو، على
خفَّته، يضع الكينونة كلَّها على محكِّ الحدِّ الفاصل بين الوجود والعدم. ففي فكره
هاجسُ مسألة أساسية هي مسألة الكيان. لذا
نراه يسائل الوجود الإنساني والطفولة والحب
والحرب واللغة والشعر والتاريخ والأديان
والأدب والفكر ذاته للاستفسار عن حضوره. ولكي
يستطيع قول كيانه وحقيقته، يسبح عكس التيار
محاولاً قول ما لا يُستطاع قوله؛ فنفهم أن
الكتابة لديه تدرُّج وتطوُّر طقوسي، يتفجَّر،
تارة، في سرد هذياني سوريالي على
طريقة الكتابة الأوتوماتيكية التي قال بها
أندريه بروتون، وطوراً، في استحضار صور من
الذاكرة الطفولية، أو في تموضع الذات وحوارها
مع نفسها في بعديها الواعي واللاواعي، أو
مقاربتها لشؤون الحياة الصغيرة من خلال أسلوب
خاص يتجاوز الكتابة التقليدية والحدود
الفاصلة بين أنواع أدبية شتى. وإذ نقرأ لغة
روحه المنسكبة في كلمات فوَّارة تصدر عن "الأنا"
القلقة التي تتقاذفها رياح العصر وأزماته
ومشاكله ومآسيه وأفراحه وأحزانه، نقرأ، في
الوقت عينه، تأريخاً مدوياً لداخل الإنسان–الشاعر
الذي يبصر عالم الزيف وترَّهاته وتقادم
الزمان – وهو الذي عرف كثافة الإقبال على
الحياة –، فنراه يتحدث عن "نفاد الأحوال"؛
وهو عنوان إن دل على شيء فعلى خواء الوجود
وهشاشة الواقع والعبث والانحلال والانحدار
والعدمية التي لا يستطيع الإنسان حيالها شيئاً. بداية،
يتوقف بول شاوول عند تفصيل عبثي يفتتح من
خلاله مرثاته النثرية–الشعرية، فيتكلَّم
على "شعرة تسقط أحياناً من رأسك ويسقط معها
من الأمور ما لم يُعد وما لم تلحظه على مرِّ
الوقت والأحداث بخفة الهواء، وبحدَّة ما في
المآسي والذكرى". توضح
هذه الجملة المناخ الذي يندرج في إطاره النص؛
وهو، على عمقه، يتناول الكائن في العالم من
منظار انفتاحه على الوجود الذي يعرض نفسه
كانكشاف واختفاء، على ما يقول هايدغر. نحن،
إذن، أمام نصٍّ لا يتردد في الكشف عن هويته
منذ البداية، أو على الأقل عن بعض الملامح
الأساسية لتلك الهوية القائمة على الفسحة
الصغيرة التي تميز بين التفاهة والخفة والعمق
والمعنى والعبث؛ فتصير الشؤون الصغيرة التي
نمرُّ بها عادة من دون التفات، كسقوط شعرة من
الرأس، حدثاً كيانياً أساسياً، تنطلق منه
مغامرة كتابية وجودية وحبكة سردية تغوص في
دلالات متعددة. ففي
منطق الرمز يُفترَض بالشعرة، ولوْ بعد سقوطها، أن تحافظ على العلاقة الحميمة التي
كانت لها مع الكائن، وهي ترمز، فيما ترمز، إلى
القوة والرجولة، كما في أسطورة شمشون
الكتابية. وفي رمزية الشرق الأقصى لا
يُتعامَل مع الشَّعر المتساقط في خفة، بل بكل
احترام، لما له من قدرات سحرية تؤثر على قَدَر
الإنسان الذي سقط منه. وهو كذلك رمز التملك
والتماثل. ولا تفوت القارئ الإحالات المجازية
التي يلجأ إليها شاوول في استعماله مفردة "الشعرة"
– وهي هنا الخيط الرفيع (شعرة معاوية) الذي
يُبقي باب الحوار مفتوحاً؛ فإن قُطِع تعثَّر
كل شيء وادلهمَّت الحياة ودخلت في صراع
ومواجهة عنيفة. وتشير الشعرة المتساقطة كذلك
إلى الحياة الإنسانية نفسها في بعدها الزائل
والمتناهي وتمزقها وظلامها الدامس وطابعها
العبثي الآيل في النهاية إلى هاوية سحيقة. غير
أن "الشعرة" ليست في الواقع إلا مجرَّد
ذريعة للغوص في الذات والكائنات و"الكلام
والمصائر والعتبات" و"مصادفات التكوين
والفراديس وبدايات الشهوات واللعنات الخلابة، وما علق من غبرة ألفية مسكونة على
ذقنك ودفاترك، وما خلَّت على حواسك من غابات
أفَلَتْ مولية في نزعاتها السادية". وها هو
الكاتب في "ديكور مخيف" يتذكر أحداثاً مرَّ بها وسط غرفة–خليَّة ساكنة وكتب
متراكمة ومنفضة ولمبة ونافذة وأشياء صغرى،
فيُعيد صوغَ شريط حياته كمن ينظر في مرآة،
متوقفاً أمام إحساسه بالذبول والهشاشة
والملل، مخاطباً نفسه، مُطِلاً على ماضيه
وحاضره ومستقبله، مسترجعاً نساء وأماكن
مختلفة وذكريات مشحونة بالوجع والحنين
واللذعة والخوف ومقاربة الموت. وتتوالى الصور
والأحداث والهلوسات والأنين، ويعلق الشاعر
بين جحيم اللحظة المؤلم وشغور الأمكنة
والغياب و"يُفرِغ جسمه من دمه كمن يفرغ
غابة من غرائزها". فإذا بفعل الكتابة لديه
مكان لقاء تجربة كيانية فريدة ولغة ذاتية
خلاقة، تلاحق تأرجح النفس وتشظِّيها وغياب
المعنى من خلال تعابير مرهفة تعكس بوفاء
تصدُّع الذات والقلق وحال الخوف "من شغور
الأمكنة والروح من كل غبار إلهي". ويصبح
الأسلوب صدى لتأرجح الكيان، إن لجهة تهاديه
وبطئه وطوله، أو لجهة إيقاعه وتململه، فيزفر
"ملايين السنوات المتكلِّسة المؤكسدة"،
ويمزِّق ما علق على المسام والثياب، ويعابِث
الموت في كتابة تسرد رحلة الألفاظ واللغة على
دروب ملتبسة تطلُّ على فراغ. وعلى
تتابع الصفحات يئن شاوول تحت وطأة الوقت و"فيض
الأعوام" والاختبار الشخصي، فتتشكل، عبر
مرثاته الوجودية، حِكَمٌ مُحْكَمة السبك،
مبعثرة هنا وهناك، تؤلف نوعاً من الرؤية
للحياة ونظرة في العالم تهيِّئ الإنسان
لمرحلة يكون فيها أهلاً للاستماع إلى نداء
حقيقة الوجود الذي يدرك مداه الأقصى في
انفتاحه وذبوله واختفائه، كحال الوردة التي
تحدث عنها الشاعر الألماني أنجلوس سيليسيوس. ورغم
لُجَّة الفراغ الذي ينفتح عليه الكتاب و"بَوار
الوقت" وصمت الآلهة "ذات الهالات
والجبال والسموات والقبوات والأولمب
والمصائر والصحارى"، التي ينظر إليها
الشاعر "بعينين مغبشتين"، وضمور الكائن
وضآلته وحريته التي تصبح في نفاد الأحوال
المخرج الوحيد للأزمة الكيانية، يتبدَّى
السرد النصِّي لدى بول شاوول متماسكاً. وإن
أظهر ولعاً كبيراً باللغة واهتماماً مشهوداً
بالكلمات، أبان، في الوقت عينه، عن مهارة
وحذق في نحت الألفاظ والاشتقاقات، فأتقن
توظيف الإبراز والتشديد، واصلاً عبر اللغة
إلى حالة تخشُّع وانبهار أمام حقيقة الوجود
التي ترادف العدم والموت. ولعل
التباس النوع الأدبي المتأرجح بين الشعر
والنثر، وبين السرد والمخاطبة، يجسِّد في نفاد
الأحوال خيار الذات الكاتبة المنقسمة على
نفسها في بعدين: بُعد الأنيما anima
وبُعد الأنيموس animus،
على ما يقول يونغ في رؤيته للإنسان المجزَّأ
إلى ذات أنثوية وأخرى ذكورية. من
هذه الزاوية نقرأ المحاورات التي تخترق النص،
وننظر إلى الشخصيات التي تقتنص انتباه القارئ، والتي تختزِل في أسمائها
تراثاً أدبياً ودينياً ضخماً، من أوفيليا
مروراً
بهاملت وماكبث ويهوذا الإسخريوطي، والتي
يعيد شاوول النظر في الأحداث التي ارتبطت بها
في مقاطع على قدر كبير من "الفوت والعبث
واللاشيء". وإذ
يستنزف الشاعر فيض روحه وأناه الخلاقة في
خطاب يتداخل وتفاصيل حياته اليومية منذ عهد
الطفولة والصبا، يجد نفسه عارياً، ثائراً
أمام مأساة الحرب اللبنانية التي عاشها والتي
غزت بتعابيرها وألفاظها ورموزها ونماذجها
كتابه هذا. نفاد
الاحوال
مقام جميل في العبث، وتجربة لغوية مثيرة
للاهتمام، تمعن في التجوال في الذات
الإنسانية لتفكِّكها، فتغوص في الجذور
والجوهر، وتقيم في الزمن والذكريات والآلام
واللذات والفراغ واللاشيء. *** *** *** عن
النهار،
الخميس
20 كانون الأول 2001
|
|
|