|
مجاز
الطفولة
عبد
القادر الحصني
في
طفولتي كان بين عالم الكبار وعالم الصغار
مسافة لا تُقطَع إلا بضروب من المعاناة
القاسية؛ تأخذ هذه المعاناة أشكالاً متعددة،
وفاقاً لطبيعة هؤلاء الصغار ولمستوى علاقتهم
مع أولئك الكبار. من تلك المعاناة كانت معاناة
انتفاء فرصة الصغار في المشاركة بالحديث أو
بمجرد القول في حضرة الكبار. وبالنسبة إليَّ
كانت حادثة واحدة كافية لتدفع بي إلى الصمت
المطبق سنوات عدة: أذكر في مجلس من
تلك المجالس، بينا كان والدي مع أصدقائه
يتداولون الحديث، أنْ عَنَّ على بالي أن أرمي
بكلمة في أثناء كلام والدي، رأيت فيها، آنذاك، ما يفيد لو
قيلت؛ فما كان من والدي إلا
أن صَمَتَ، ونظر إليَّ مشيراً براحة يده
المبسوطة إلى وسط المجلس أنْ: تفضَّل، أكمل
الحديث. حطَّت
عيون الكبار عليَّ، وساد صمتٌ صغيرٌ في
المجلس، ثم تابعوا الحديث. بعد هذه الحادثة،
التي كانت الأولى... والأخيرة، تحوَّلتُ إلى
مستمع، مستمع فحسب، أنصت لما يقال، وأستوعبه
بإمكاناتي الطفلية المحدودة، في سنٍّ هي بين
الرابعة والسادسة. كنت أسلِّم باستغلاق كثير
مما يقولون على فهمي، فأنساه، وأنهل من
معلوماتهم التي أفهمها ما أستطيع، لاسيما إذا
كان المتحدِّث الحاج خضير الخضري – رحمه الله
– الذي كان واحداً من رواة الشعر وقصص العرب
وأخبارهم، أو كان المتحدث الحاج عبد الحميد
الزحلاوي صاحب النظرات الثاقبة في الطبيعيات
والكونيَّات المفضية إلى الإلهيات، أو علي
عرفة بمعلوماته الغزيرة عن السياسة
والسياسيين، أو الشيخ المجذوب عبد الهادي
مهير السعيدي الذي كان ينشد الأدوار
والموشَّحات؛ وقد كان الوحيد الذي يُشرِكُني
بأن يتوجَّه إليَّ من بين الحاضرين بلفت
انتباهي إلى الانتقال بين الأنغام الموسيقية
من السِّكا إلى الصَّبا والنهاوند والعَجَم
والبيات الخ. في ذلك المجلس
كنت أسمع، أحياناً، بعض ما لا أستطيع فهمه،
ولا أستطيع نسيانه بسبب من طرافة العبارة أو
غرابة السياق. وقد كان هذا النمط من الكلام هو
ما يجول كثيراً في خاطري، ويستدعي تقليبه على
أوجه لا تنتهي، خلافاً للمفهوم الذي أستوعبه،
وللمستغلِق الذي أهمله. من ذلك ما قاله عبد
الرحمن النجار مرة في أثناء حديثه عن مشاكل
جيرانه في البساتين المجاورة: قال إن أبا
مسعود قد "أكل الجدار على جاره
أبي محمود." ماذا تعني "أكل
الجدار عليه"؟! واحدة من الكلمات التي ظلت
تدور في تفكيري أكثر من عامين. هل يعقل أن يأكل
إنسان جداراً بكامله؟ وكيف وضعه على جاره أبي
محمود، وأبو محمود، أعرفه، حيٌّ يرزق؟ صحيح
أنني، شخصياً، كنت مولعاً، آنذاك، بأكل "الترابة
الحلبية"، وهي نوع من التربة الهشة
المتماسكة، كانوا يذوِّبونها في الماء مع "البيلون"،
ويستخدمونها كأقرب ما تكون إلى "الشامبو"
في هذه الأيام، بعد غسيل الرأس بالصابون مرات، ليصبح الشعر
ناعماً مطيَّباً؛ ولكن
الترابة الحلبية كانت ذات طعم طيِّب وقوام
لذيذ التكسُّر بين الأسنان؛ وما أتناوله منها
كان كسرات صغيرة، وفي غفلة من عيني أمي أيضاً.
فكيف أتيح لأبي مسعود أن يأكل جداراً من الطوب؟ – من الطوب
طبعاً، وغير معقول أن يكون
من الحجارة! وأن يأكله فوق أبي محمود – هذا
أمر أعجب! في مخاض تفهُّم
تلك الكلمة، كان أبو مسعود يصير عملاقاً ضخماً، يحمل
جداراً بيد واحدة، ويقضمه، تارة،
بينما يصير الجدار صغيراً هشاً كقطعة
البسكويت في تارة أخرى. أما أبو محمود فكان
يأخذ مرة شكل صحن كبير عليه جدار من "الكاتو"،
ويأخذ مرة أخرى شكل بساط ريح طائر يحمل أبا
مسعود إلى بلاد العجائب. معالجات كثيرة
كان يخضع لها أبو مسعود وأبو محمود والجدار
لتستقيم العبارة لديَّ بين الخيال والواقع.
وكم كنت أتمنى لو يُحَلُّ لغز بعض الكلمات،
ولو على حساب عقوبة تنالني، كتلك التي جعلت
أمي تُجلِسني ساعات لأفكَّ وأفرز شللاً من
الخيطان الملونة المتداخلة من دون أن أقطع أي
خيط منها؛ إذ تفوهت يومها بكلمة فكَّت لغزاً
طالما عانيت منه. قالت أم خليل (زوج
خال أبي): "اذهب إلى بيتنا، وأحضِرْ المنخل."
وأضافت: "دُقِّ الباب مرات... إذا لم يفتح،
فقد تكون سميحة نائمة." قلت: "هل لكم أنتم
باب دار يا أم خليل؟" ردَّتْ: "طبعاً، لنا
باب دار." تابعتُ: "أما قلتِ إن الخطَّابة
الذين يأتون لطلب يد سميحة قد كسَّروا بابكم؟" النسوة وَجَمْنَ، وحدَّقن بعيون لائمة
قليلاً،
وضاحكة متشفِّية من أم خليل كثيراً. لكني عرفت
حقيقة معنى العبارة، على أية حال؛ وما أهون
العقوبة التي تلقَّيت إذا ما قيست بالليالي
التي كنت أتصور فيها بيت أبي خليل نائمين في
دار لا باب له، عرضة للُّصوص. ولولا أبواب
الغرف التي كنت أتصورها مغلقةً عليهم، وهم
نائمون، لكان لهم مع الغيلان والأشباح التي
تسرح وتمرح في صحن دارهم ليلاً شأن آخر. ***
*** ***
|
|
|