|
كتاب الحزن
أو
زندقة
الكلام
هفال
يوسف
عابر
سبيل
على
أرصفة العالم الزلقة كان يمارس عبوره من لحظة
الجنين إلى أفق القبر. هكذا اختارت له ناسجات
الماء خيوط مصيره: تسكُّعاً في تيه المسافات
وبلبلة المكان. غريباً...
وإذ تكنِّسه المدينة في هيئة شرطيٍّ ضيِّق
الجبهة، يلملم ما تبعثر من بقايا كرامته،
يمتطي حجارة الرصيف، ميمِّماً نحو الفراغ... الفراغ: هو الشكل الأمثل
للكينونة! هو
الذي أتى من رحابة الرحم إلى ضيق العالم، أدرك
استحالة أن تحتمل الأرض جبروته إذا ما تشظَّى، فانكفأ أمام جُبْنِها. لكن الرحى
كانت تدور, وتطحن: ناعمة، ناعمة. وعاملات
النول كُنَّ قد أنجزن نسيج المكيدة. المكيدة:
هي لغز الكينونة المتقن! عابر
سبيل – يا للسخرية! أيَّ سبيل سوف يعبر, وهو لا
يعرف أفقاً ينتمي إليه: -
آه... لو أني هباءٌ,
فتُبَعثِرني الريح كلما عنَّ لها هبوب... عبثيُّ الاتجاه. -
أيُّ ألمٍ جحيميٍّ يعتمل في
روحك، أيُّ حزن؟ لا،
لم يكن حزناً ما توهَّمت الأمُّ، ولا ألماً،
بل حنين الدروب إلى ترنُّح خطوه الثقيل: كم هي ثقيلة تلك الخطوات
الخاملة! في
الحانة المنزوية خلف حطام المدينة قالت له: -
إلى متى؟ ردَّ ساهماً: -
إلى الحافَّة. غضبتْ.
وعندما همَّت بأن تذوب في ضباب الأمس قالت: -
أكاد لا أعرفك! أنت لا أحد...
لا شيء. كان
يعلم ذلك. لم يحزنه هذا الأمر يوماً. فلزم
الصمت, بينما كانت تغادره إلى الأبد. مرَّةً،
تسلل إليه الحزن في هيئة صبيٍّ يبيع براءته
على عهر الرصيف. وأخرى،
داهمه الرعب على شكل خنجر يحتك بعظم رقبة
آدمية. وأخيراً،
فاجأه الجنون عندما اخترق حجب السماء. وهو
ذا، عابر سبيل، تتناوشُه الجهات, ويغيِّبه
غبار الطريق. مركبُه الريح، وقِبْلته الفراغ. *** عبث
العبث:
فراغ في الرأس، هذيانات مريضة، تيهٌ غريب،
وجنون. العبث:
رجل يبعثر الحبر على جدران الفراغ، يمزِّقه،
ويتمزَّق. موسيقى
في الليل، أحزانٌ في الليل، ترانيم الغبار
وألحان الذبول. فاحزن ما شاء لك الحزن. هراءٌ
أنت! العبث:
سرير فارغ أضجَرَه الزهد. المرأة لا يعجبها
الرجل الحزين. الحياة أيضاً امرأة. وكذلك
السعادة، الحقيقة، الجنة، السلطة، الدولة،
القوة... كلُّهن إناث. أما الذَّكَر القابع في
قاع الهزيمة فقد أشعل لفافة تبغ أخرى. ورغم
احتجاج اللغة للسيجارة دلالة ذكورية. نينوى
تبكي. شعور قاتل بالنفي. يبدو أن كل سفَّاحي
العالم كانوا يعانون من شعور مماثل: وحشية
ولَّدها الخوف، أحاسيس حيوانية، مؤنْسَنَة
بإتقان. ظلام
في المدينة. ظلام في الداخل. جمود. براكين
خامدة. مستنقع راكد. وغليان في العمق المرعب... العبث:
بلاد تحمل أسماء الخديعة، فارحل: هل
رأيت رجلاً أقل هماً من عابر سبيل؟ يأبى
الحبر إلا أن ينساب على الورق مؤرِّخاً
للسواد. وإذ يلملم بعضه حول أحلام قديمة,
يجرفه الهاجس الوحشي إلى تخوم الفكر: الحركة
غباء أكيد. أما آن لهذا النواس أن يتوقف؟ لقد
تعبنا، تعبنا كثيراً. "للمياه لون الغرق." أُخرِج
من الخزانة حبلاً ملتفاً على ذاته كأفعى: للحبل
شكل الموت! العبث:
غرفة في سماء المدينة، مشنقة تتدلَّى من
السقف, وجثة تنام على السرير... بهدوء! *** أوروبا
أوروبا...
شارع أسود طويل يستحمُّ بالمطر. موسيقى الماء
المنهمر على توتياء السقوف كانت تطرد الوحشة
التي يشعر بها. بهدوء راح يمشي على ضفة النهر
المتراقص بوحشية على أنغام الماء القادم من
السماء. كان
يعاني غُربتين، حزيناً بشكل لا يطاق. شعر
بالجفاف في فمه. بصق في النهر الذي بدا ذاهلاً
عن الغريب الواقف على ضفته اليمنى. بصق غباراً.
يا للجفاف اللعين! أوروبا...
نفق باهت الإضاءة, وموسيقيٌّ عجوز راح
يترنَّم بأغانٍ غجرية، بينما أصابعه الخشنة
تداعب مفاتيح الصوت في آلة قديمة، والهياكل
البشرية تجتازه بلامبالاة مؤلمة. أوروبا...
متشردةٌ صغيرة, تغلَّب جوعها على غريزة الخوف
لديها, فلجأت إلى غريب كان يمشي بتثاقل على
ضفة النهر. قال لها: -
لا تخافي! أجابت: -
أنا جائعة! أمسك
بيدها الصغيرة الغضَّة, وسار بها إلى النفق ذي
الإضاءة الباهتة... جلس
ثلاثتهم على الأرضية القذرة يأكلون. دنا منهم
قطٌّ نحيل. رمت له الطفلة قطعة خبز صغيرة. بعد
قليل نام العجوز وراحت الفتاة تلاعب القطَّ
النهم بفرح. خرج
الغريب من النفق ثانية ليعود إلى الشارع
الأسود الطويل. ولأول مرة منذ زمن طويل غلبته
الدموع. كان حزيناً حتى البكاء. رفع
رأسه. كان الشارع فارغاً، فارغاً تماماً. في
الصباح قام من الفراش. اغتسل وارتدى ملابسه.
نظر في المرآة إلى ذاك الآخر. وخرج إلى الشارع
الأسود الصاخب. *** العفن
الشرق
قطعان تهتف... للبغاء. حين
يتساقط الرجال كأوراق الخريف تفقد الأشياء
معانيها، ولا يبقى أمام الفضيلة إلا أن تنحني
أمام جبروت الإعصار القادم على أجنحة الرذيلة. هكذا
كان يواسي جراح الحلم، يداري خيانة الرفاق،
ينأى بنفسه عن فقاقيع القيح تنفثها غيلان
الظلام. بخار
رمادي الاتجاه يعبث بمحطات الفكر، يغشى
العيون. ويقتحم الذبولُ ربيعَ الحلم الطفولي.
ينكفئ إلى ركنه القصيِّ خزياً وخجلاً. يلعق
جراحه كذئب مصاب نبذته الغابة المخنَّثة. يتراكم
العفن في الجوار. يزحف ملتهماً ما تبقى من
الواحة التي نجت من وباء العهر الذي فتك
بالمحاربين التعساء حين داهمتهم الهزيمة. هكذا
يستمر كرنفال الصيد الدموي للإيقاع بمن عجزت
أحابيل المدينة عن تدجينه كائناً أليفاً
يستوطن خمول الحانة وتهليل المنابر السربية. قال
طالب الفلسفة المتحمِّس: -
الكل يعمل ليقول: "أنا هنا!"
ردَّ عليه ساخراً: -
كم أتمنى حياة لا يتنصَّت
عليها أحد. كان
العفن الدبق يضيِّق الحصار، ملوثاً بياض
المحيط. وكانت البقع الداكنة تتكاثر بسرطانية
محمومة. جالساً
فوق سقف العالم كان يرنو ببصره إلى أطراف
الدائرة الأرضية، حيث توشَّح كلُّ شيء بالعفن
يواصل زحفه نحو عذرية المركز. حائراً.
وعندما ومض البرق من بين الغيوم الكالحة
أدركه الإلهام من الأعماق الهاجعة في سكون
العزلة. بهدوء تكوَّر على ذاته كالجنين. كانت
العفونة قد بلغت فردة حذائه اليسرى حين بدأ
الهيكل الإنساني يحترق شيئاً فشيئاً. أتت
النار على القطرة الأخيرة من ندى الحياة, ولم
تترك لجشع العفونة الرطبة إلا بقايا رماد، لم
تلبث الريح أن نثرته في كل الاتجاهات قرباناً
جديداً. الموت...
لعنة تتحدى الفضول الإنساني. وأمام تحدٍّ
كهذا ابتكرت الحضارة البشرية العفن ليواجه
فضيلة الموت والعفن. يبزغ الجنون إبداعاً
نبيلاً... لا يقاوَم. *** وهمٌ
أنت أيتها المدينة!
ندف
الثلج القطنية تغطي عري الأرض بعد خريف قاسٍ
وطويل أرهقها. كان
يجلس قرب النافذة مطأطئاً رأسه, يحدِّق في
آثار بقعة زيت جافة على الأرضية الخشبية
للغرفة التي التهمت ربيع عمره. انتصف
الليل. كتفاه ترتعشان. قام من مكانه, ووقف أمام
النافذة متجولاً بعينيه عبر ملامح المدينة
الهاجعة المتلفعة بعباءة الليل, حيث يرين
السكون, بينما لا يزال الثلج يتساقط ببطء. مدينة
جميلة. إلا أنه كان يعلم أيَّ بطش يختفي وراء
خدعة الجمال هذه. سيرحل.
هذا ما يفعله الناس حين يداهمهم الخوف والحزن.
سيرحل إلى مكان لا يدفعه إلى العواء. لكنه
يعلن أن مكاناً كهذا سراب كاذب، فخٌّ نصبته
الأحلام الدون كيخوتية. الوقت
يمضي برتابة قاتلة. دقات الساعة المعلقة على
الجدار تتحول إلى ضجيج هائل, وعقاربها
طفيليات قبيحة تقتات على ثواني حياته ثانية
ثانية. أمسك
الساعة بيده. أخرج منها البطارية فتوقفت. نظر
إليها بقرف: -
أي زمن ميت هذا الذي يغتال
أيامه. يا للبؤس! أيكون كل شيء وهماً إذن؟ سار
نحو الجهة الأخرى. نظر في المرآة يتأمل تفاصيل
وجهه الشاحب. ضرب المرآة بقبضته, فتحطمت.
وتحطم الوجه أيضاً. تهالك
على السرير الذي يفوح برائحة الرطوبة, وراح
يكلم نفسه، يهذي. وقف على قدميه حانقاً. مشى
نحو الباب. عاد ثانية إلى مكانه. سقط على
السرير مرة أخرى، بينما كانت الحمى بدأت بغزو
جسده النحيل. جرَّ
نفسه من السرير بمشقة بالغة. وحين وصل إلى
النافذة فتحها. استجمع قواه, وصرخ بعواء ذئبي: -
وهمٌ أنت أيتها المدينة! سقط
على الأرضية الخشبية, قرب بقعة الزيت الجافة,
مُحْدِثاً قرقعة عالية. كان
القطار المتَّجه جنوباً يخترق صدر الليل عبر
الغابة الموحشة. في العربة السابعة يجلس
شارداً. وحين سأله موظف القطار عن بطاقته,
تذكَّر أنه ترك كل شيء هناك... في تلك المدينة. *** *** *** (قصص
1992)
|
|
|