اللاَّعنف: بعض الآراء النمطيَّة والأحكام المسبَّقة
عصف دماغي ونقاش

 

طلب المدرِّب من المشاركين في الورشة أن يكتب كل منهم، في عمود أول على حدة، ما هي، بحسب الشائع في مجتمعنا، الأحكام المسبقة على اللاعنف، ثم في عمود ثانٍ موازٍ للأول، ما هو رأيها/رأيه الشخصي في اللاعنف وكيف تفهمه/يفهمه. فكان هذا النقاش الذي تشعَّب حول بعض النقاط المطروحة.

المحرِّر

* * *

 

سحر أبو حرب: أولاً، الأحكام المسبقة على اللاعنف: اللاعنف هو الاستسلام، خيار الأضعف، مذهب طوباوي غير موجود سوى في الفكر، أي غير قابل للتطبيق، كلام جميل وفعل مستحيل، استلاب من الخارج – وهنا نشم رائحة المؤامرة! –، طريق للتوصل إلى السلام مع العدو! ينطلق الناس في آرائهم هذه من أن العنف سلوك بشري مسلَّم به، أنه ذو وجود حقيقي، أنه مولود مع الإنسان، وضرورة اجتماعية حتى.

أما اللاعنف، كما أراه، فهو خيار القوي، تماسُك داخلي وقدرة هائلة على ضبط النفس. اللاعنف يساوي تمامًا استعمال العقل، نبذ العضلات، نبذ العنف. الإنسان غير العنيف إنسان سوي، في حين أن الإنسان العنيف إنسان مريض. فالعنف مرض. اللاعنف – بالعودة إلى صلة الدين باللاعنف – هو اللاإكراه. فالعنف هو الإكراه. لذلك عندما يقول الله: "لا إكراه في الدين" [البقرة 256] فهو يعني أن لا عنف في الدين – وهذا ليس في الإسلام فقط، بل في الديانات كلِّها. اللاعنف هو الدين بمعناه الحقيقي، هو احترام الغير. أخيرًا، اللاعنف هو الاحتكام إلى العقل، إلى المنطق.

منى هلال: أضيف إلى كلام السيدة سحر عن نظرة المجتمع إلى اللاعنف أنه – أي اللاعنف – جاء بديلاً عن العنف بعد فشل الخيار المسلح والخيارات السياسية الأخرى. وهو، بهذه المثابة، يكافئ الاستسلام.

محمد العمار: في خصوص الآراء المسبقة، سأذكر التقاطعات مع السيدة سحر: اللاعنف خيال ووهم، غير قادر على حلِّ المشكلات، دعوة إلى الاستسلام، فلسفة أجنبية، ضد الدين (بمعنى الجهاد)، إلخ. ولا يمكن للحق أن ينتصر ويحرز تقدمًا من غير عنف.

اللاعنف، كما أراه، يوطوپيا، وليس وهمًا. هو تطور طبيعي في أنسنة الإنسان. اللاعنف حل حقيقي لمشكلة العنف، وهو، بعكس ما يقال، قادر على إيجاد حلول للنزاعات البشرية. سبب فشله هو عدم اتِّباعه على الوجه صحيح. اللاعنف دعوة إلى مواجهة عاقلة تجرِّد الخصم من سلاحه، تُبطِلُ تفوُّقه المادي، وتضفي على الصراع طابعًا إنسانيًّا يتناسب مع عالم الإنسان، عالم المادة الرمادية، الذي يشكِّل قطيعة مع عالم الحيوان، عالم العضلات. اللاعنف دعوة إنسانية هي ثمرة جميع النبوات والكتب. سبب نجاح الباطل هو تغييب الحق وخلط الأوراق عبر العنف. اللاعنف هو الوجه الإنساني للأديان قاطبة: اليهودية، المسيحية، الإسلام، البوذية، إلخ. اللاعنف يتقاطع مع كل فكر إنسانيٍّ نافع.

دارين أحمد: الرأي السائد في اللاعنف أنه، كما قيل منذ قليل، استسلام، بينما العنف "شجاعة". لكنني أعتقد أن الشجاعة تحتاج إلى إعادة تعريف، بالإضافة إلى محاولة تجاوُز التوصيف الشائع. فاللاَّعنف خيار إنساني، في معزل عن كونه علامة جبن أو شجاعة. الرأي السائد في العنف أيضًا هو أنه دليل رجولة، فحولة، بينما اللاعنف تابع له بوصفه "أنثويًّا".

ما أراه هو ضرورة محاولة تأصيل مفهوم الإنسان–المواطن بما يتجاوز هذا التوصيف، مع الانتباه إلى أن اللاعنف فعلاً سمة أنثوية في الإنسان بعامة، على اعتبار أن الرجل والمرأة ليسا منفصلين.

زينب نطفجي: تعقيبًا على موضوع الذكورة والأنوثة، أقول: اللاعنف مرتبط بفكرة الأنوثة كقيمة سلبية في المجتمع. في القيم الاجتماعية عمومًا، ترتبط الرجولة والقوة والدفاع عن الحق والذكاء والنبالة بالذكورة. بينما اللاعنف، في الآراء السائدة على المستوى الشعبي، يحيل إلى نعوت من نحو: منبوذ، ضعيف، مسكين، عاجز عن ردِّ العدوان؛ ولذلك يُربَط بالأنوثة كقيمة سلبية تحمل معاني الضعف والتبعية.

تقييمي الشخصي لهذا الموضوع هو أن الأنوثة تحمل فعلاً المعاني النبيلة للاَّعنف، القدرة على الحوار، الخلق. عندما نقول: "بسم الله الرحمن الرحيم" – ونعرف أن "الرحمن" و"الرحيم" من أجمل صفات الله! –، ليس قليلاً أن تكون هاتان المفردتان مشتقتين من الرحم. أرى أن غالبية الصفات النبيلة، الإنسانية، المجتمعية، الحاضنة، صفات ترتبط بالمعاني المؤنثة.

حميدة تعمري: في الواقع ليس عندي مفهوم محدد واضح عن هذه الصفات الذكرية والصفات الأنثوية. ما أعرفه أنه، عبر التاريخ، تكوَّن لدينا مجتمع ذكوري، وهذا المجتمع أفرز أو فرض صفاتٍ محددةً للذكر وصفاتٍ محددةً للأنثى. وهذه الصفات المكتسبة صارت، عبر تاريخ طويل، وكأنها أصيلة فيهما. اللاعنف، بنظري، صفة إنسانية، أولاً وأخيرًا.

أريد أن أبدأ بما أراه أنا في الإنسان اللاعنفي، ومن بعدُ سأعود إلى أحكام المجتمع. اللاعنفي هو الإنسان الذي يجمع في نفسه صفات الذكورة والأنوثة معًا، إذا أقررنا بها. والمفترَض فيه أن يتحلَّى بالشجاعة، التي لا أقصد بها "شجاعة" العضلات أو القدرة على الضرب، بل الشجاعة الداخلية والحرية الداخلية. صفة اللاعنفي الأهم، في رأيي، هي عدم الفصل عنده بين العقل والقلب، بالإضافة إلى الوعي والنضج الذي يأتي – وهذا هو الأهم – من خلال الخبرات الحياتية. خبرات الحياة هي التي تساهم في صقل شخصية الإنسان وفي ارتقائه إلى اللاعنف.

المجتمع يرى أن الإنسان العنيف هو كائن انفعالي. والانفعال صفة أود أن تُناقش هنا. ما هو الانفعال؟ هل الشخص الانفعالي شخص عنيف؟ وفي خصوص المرأة أيضًا، هناك رأي يقول بأن المرأة أكثر قابلية للعنف لأنها كائن انفعالي، لا تحتكم إلى العقل، بل تندفع وراء عواطفها.

أيضًا، كما ذُكِرَ قبل قليل، يقال إن اللاعنفي إنسان ضعيف، جبان، وإن اللاعنف عكس الشجاعة.

زهير وفا: الأحكام المسبَّقة عن اللاعنف تعتبر أنني، كمسلم، استنادًا إلى مرجعيتي الدينية، لا يجوز أن تنطبق عليَّ بعض خواص اللاعنف. اللاعنف يستحضر، رأسًا، فكرة أن اللاعنفي يعاني مشكلات نفسية معقدة، أن الذي ينادي باللاعنف، عمليًّا، لا يحب أن يلتزم بشيء، وأن اللاعنف يرتبط عمومًا بالأقلِّيات. وأيضًا يُربَط اللاعنف بالمسيحية وليس بالإسلام: فالمسلم لا يدير خدَّه الأيسر إذا ضربتَه على خدِّه الأيمن! وأخيرًا، إذا أرادوا تضخيم الموضوع، يقولون إن هذه أفكار دخيلة من الغرب لتُضعِفَ عزيمة الأمَّة وصمودها إلخ.

أرى أن اللاعنف في حاجة إلى عمل دؤوب، وأنه غير قابل للتحقيق في الواقع الحالي. فهو، إلى الآن، ينحصر ضمن نخبة فكرية معينة؛ وهذه النخبة يُؤمَل أن تتكون لديها قناعة كاملة به حتى تستطيع نقلَه إلى الآخرين. وهذا يتطلب تجاوُز العديد من الأحكام المسبقة السائدة، يتطلب شجاعةً لمواجهة المجتمع. إذا استطعنا أن نكوِّن مجموعة رائدة في هذا المضمار نكون قد حقَّقنا عملاً عظيمًا جدًّا!

زينب نطفجي: لا أعتقد أن اللاعنف فكرة غريبة عن مجتمعاتنا العربية. فقد بدأ مشروع النهضة العربية الأولى من غير عنف: جمعيات، منتديات، إلخ. إذا استعرضنا فكر الجمعيات العربية التي تحولت فيما بعد إلى أحزاب، نجد أنها، كلها، قامت على اللاعنف، وأنها كانت في أساس تشكيلها مختلطة دينيًّا: فيها المسلمون والمسيحيون واليهود. كذلك فإن فترات العنف في تاريخ مقاومة الانتداب، في سوريا مثلاً وفي فلسطين، في الفترة الأولى على الأقل، هي فترات محدودة لم تدم طويلاً. في التاريخ السوري، دامت أقل من سنتين، وهي مدة الثورة السورية [1925-1927]، ومن بعدُ بدأ عمل سياسي غير عنفي واستمر. ليس تاريخ المنطقة الحديث تاريخًا عنفيًّا أبدًا. قد يكون ما أسَّس للعنف هو العقد الاجتماعي الذي فُرِضَ بالقوة على المنطقة؛ تغيرت الأنظمة وفرضت "عقودها" بالقوة!

أكرم أنطاكي: لا وجود لأسود خالص أو لأبيض خالص! اللاعنف شيء يتفاعل في مجتمعنا الآن كفكرة قد تبدو جديدة حاليًّا، لكن هذا ليس دقيقًا تمامًا. وقولي إنني، كمسلم، أعتبر اللاعنف مفهومًا دخيلاً آتيًا من الغرب – ومن المسيحيين تحديدًا – تعبير يفتقر إلى الدقة هو الآخر. في كلِّ دين من الأديان "السماوية" (وأنا أعتبرها أرضية!)، سواء في كتبه أو في ممارساته، هناك عنف وهناك لاعنف. وهذا يرتبط بمستوى البشر، بدرجة تطورهم وتجاربهم. التجربة في مجال تطبيق اللاعنف هي، إنسانيًّا، حديثة نسبيًّا. لها أساس في الأديان قطعًا، حيث نستطيع أن نستنتج من حياة المسيح وتعاليمه شكلاً من أشكال الدعوة إلى المحبة والسلام، وهو ما نجده أيضًا في "الرسالة الثانية من الإسلام" التي بشَّر بها اللاعنفي السوداني محمود محمد طه. لكن ممارسات الغرب المسيحي تاريخيًّا كانت عنيفة عمومًا، وممارسات المسلمين تجاه غيرهم كانت عنيفة هي الأخرى.

فيما يتعلق بمفهوم التكامل بين الذكورة والأنوثة، أعتقد بوجود هذا المفهوم. أنا شخصيًّا من الناس الذين يؤمنون بأننا، إذا ما أردنا الارتقاء، يجب أن نرتقي إلى الجانب المؤنث فينا، أو كما قال الشاعر الفرنسي، "مستقبل الرجل هو المرأة".

غياث جازي: أولاً، النظرة النمطية إلى اللاعنف: أعتقد أنه، على المستوى الفردي، لا تُفهَم الحالة النفسية والفكرية للإنسان اللاعنفي كما يسعى هو إليها أو يقصدها. وعلى المستوى الجمعي، ليس قليلاً ما نسمع أن هذا المفهوم – اللاعنف – غريب عن ثقافتنا، وهذا ما ذُكِر. وهناك ظاهرة أريد أن ألفت النظر إليها هي قولهم إن الترويج لفكرة اللاعنف في الوقت الحالي، وبهذه الكثافة، شيء يدعو إلى الارتياب.

اللاعنف، كما أراه، هو إعمال العقل والتفكير. وهذا يقود إلى ضمان مستقبليٍّ للعالم ككل، وللفرد تحديدًا، وهو جزء من هذا العالم. لكن المطلوب، أولاً، هو فهم آلية العنف قبل الحديث عن اللاعنف، أو بالأصح، بالتوازي مع الحديث عن اللاعنف. العنف، إذا استخدمنا تعبير ميشيل فوكو عن السلطة، مبثوث في خلايا المجتمع كلِّها؛ وهو غير مشخَّص في أحد بعينه، بل مبثوث في المنزل، في الشارع، إلخ. فهم هذه الآلية يساعدنا على التمكن من وضع صيغة واضحة للاَّعنف.

ندره ع. يازجي: في النظرة الواقعية، المختلفة عن النظرة الإعلامية، مصطلح "لاعنف" غير دارج، لكن هناك مصطلحًا آخر هو "الإنسان المسالم". أتصور أن نظرة الناس إلى الإنسان المسالم هي، إلى حدٍّ ما، النظرة التي نبحث عنها حاليًّا. فحتى لو كانت هذه النظرة لا تحمل ثقةً فيه، أي في المسالم، ولا في جدوى عمله، إلا أنها لا تمنح ثقةً أكبر لعمل الإنسان العنيف من حيث جدواه. نحن، إذن، في بيئة ليست معادية للاَّعنف سلفًا. كيف ينظر الناس إلى الإنسان المسالم؟ يعتبرون أنه الشخص الذي "لا يحمل السلَّم بالعرض" ضد واقع الظلم أو الاضطهاد. وهذا التقييم لا يُعَد تقييمًا متدنيًا أو نقيصة؛ وبالتالي، أرى أن لدى الناس استعدادًا لتقبُّل المفهوم.

أما كيف أرى اللاعنف، فإني أتفق تمامًا مع ما ذكرتْه السيدة سحر أبو حرب.

نتالي بونتم: هناك رأي شائع، لست متأكدة من صحته تمامًا، يقول بأن اللاعنف غير مُجْدٍ لأن العنيف لا يفهم إلا لغة العنف. ولدينا واقع إسرائيل كمثال. سؤالي الذي لم أجد له جوابًا حتى الآن هو: ما هي إمكانية الحوار بين الظالم والمظلوم؟

ديمتري أڤييرينوس: تعليقًا على هذا السؤال، أقول إن مآل أيِّ خلاف أو نزاع بين البشر، على المدى القصير أو الطويل، الآن أو فيما بعد، هو أن يتحاور طرفا هذا النزاع. إذ ليس من منتصر مطلقًا أو مهزوم مطلقًا في أيِّ نزاع في العالم. دائمًا توجد تدرجات، هوامش على متن الصراع، وهذا يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. (حتى في حال هزيمة طرف ما، لا بدَّ، إنسانيًّا، من الحرص على "حفظ ماء وجهه"، على عدم إذلاله.) وفي النتيجة، حين يتنازع البشر، يكون الهدف من وسيلة النزاع التي يستعملونها، سواء كانت عنيفة أو لاعنفية، هو أن يكونوا أقوى موقفًا في اللحظة التي يريدون أن يتحاوروا فيها، أي عند جلوسهم إلى طاولة التفاوض.

من أين تُستمَد هذه القوة؟ مَن يعتقد أن العنف هو الوسيلة المجدية للمقاومة ولاسترداد حقِّه يقول بأنها مستمَدة من الكفاح المسلَّح، من تهديد حياة العدو، من تكبيده أكبر الخسائر الممكنة، ماديًّا ومعنويًّا، وبالأخص بشريًّا. وبهذا يصير العدو في موقف أضعف، فيقدم تنازلات. بالمثل، القصد من العمل المباشر اللاعنفي هو الشيء ذاته: ممارسة ضغط معنوي ومادي على الخصم حتى يكون أضعف موقفًا في أثناء التفاوض لاحقًا.

السؤال هنا هو: هل هذا ممكن أو لا؟ هل من الممكن، عبر العمل المباشر اللاعنفي، جعل موقف الخصم أضعف؟ العوامل التي تتدخل في هذا الموضوع متنوعة ومتشعبة. هناك ما يسمَّى إستراتيجية العمل اللاعنفي. والإستراتيجية تتضمن أساليب تكتيكية متنوعة من العمل اللاعنفي، أدواتٍ مختلفةً لممارسته قابلةً للتكيف مع كلِّ حالة خاصة. ومع ذلك، لا توجد أية ضمانة لتحقيق ذلك الهدف في العمل اللاعنفي، تمامًا مثلما لا توجد مثل هذه الضمانة في العمل العنيف. هذا رهان في النهاية، وإن يكن رهانًا على إنسانية الإنسان؛ وفي أيِّ رهان هناك احتمال الربح واحتمال الخسارة.

في خصوص اللاعنفي، هو واعٍ بأنه مخيَّر أخلاقيًّا، بل مضطر أخلاقيًّا إلى أن لا يجرِّد خصمه من إنسانيته. في عبارة أخرى، اللاعنفي يقاوم الظلم، دون أن يكون قصده القضاء على الظالم، أو كراهيته حتى. اللاعنفي لا يحقد، ولا يعمل على سبيل الثأر.

سحر أبو حرب: هل قصدت أنه لا توجد ضمانة للنجاح في حال استخدام اللاعنف؟!

ديمتري أڤييرينوس: طبعًا. لا توجد ضمانة نهائية أكيدة لأن يكون اللاعنف مجديًا، خصوصًا في مجابهة العنف الشديد جدًّا. يضع اللاعنفي ثقلَه كلَّه وإمكاناتِه كلَّها، في حدود الممكن المتاح، كي ينجح، لكن لا توجد ضمانة نهائية بأنه أمام القوة العاتية أو العنف الساحق سينجح حتمًا. في أحيان عديدة، قد لا ينجح العمل اللاعنفي لأسباب خارجة عن إرادة الأطراف كلِّها. يجب ألا نتوهم شيئًا بهذا الخصوص!

زينب نطفجي: تحدثنا صباحًا عن عولمة اللاعنف. بمعنى أن اللاعنف، إذا بقي مثل جُزُر معزولة، تقل فرص نجاحه. لكن عندما يكون هناك تَحاوُر وتنسيق بين الداخل والخارج، أو كما تحدثنا صباحًا، حين يُعولَم اللاعنف، يكون أفق الأمل أوسع.

ديمتري أڤييرينوس: طبعًا، هذا أحد العوامل التي يستند إليها نجاح رهان اللاعنف. لا يجوز لنا، ولا بأيِّ شكل، أن نستهين بقوة ضغط الشعوب، ضغط الرأي العام. دونكم، على سبيل المثال، دور المعارضة السلمية الأمريكية في إنهاء حرب ڤيتنام وضغط حركة السلام الإسرائيلية على الحكومة لسحب جيشها من جنوب لبنان. أي عمل مباشر لاعنفي يجب أن يعتمد على جميع وسائل الاتصال المتاحة وعلى وسائل التأثير على الرأي العام كافة.

الظالم يتلاعب دومًا بالمنطق في وسائل الإعلام حتى يوهم بأن الحق في صفِّه. وقد شاهدنا في حرب تموز، العام الماضي [2006]، كيف لعب الإعلام دورًا هامًّا، حيث كانت هناك حربٌ إعلامية موازية للحرب الجارية ميدانيًّا. ودور الإعلام الصادق هنا هو إحباط هذا الإيهام. في أحد مقالات الدكتور خالص جلبي التي نشرناها في معابر، تصوَّر السيناريو التالي إبان العدوان على جنين: لنفترض أن أهالي البلدة، عندما عرفوا بأن هناك اجتياحًا قادمًا، بادروا إلى انتظاره مجتمعين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، عزَّلاً تمامًا من أي سلاح، ووقفوا حائط صدٍّ أمام الدبابات الإسرائيلية – طبعًا بحضور كاميرات تبث الحدث مباشرة في العالم كلِّه. فماذا كان من الممكن أن يحدث؟ لا يمكن لنا استبعاد إمكان وقوع ضحايا: فنحن في حالة حرب، والمقاومة اللاعنفية هي في النهاية مقاومة؛ اللاعنفي مقاوم، والمقاوم يجب أن يتوقع التضحيات. (للمناسبة، الإنسان اللاعنفي لا يطلب الموت، لكنه يجب أن يكون، في لحظة معينة، مستعدًّا لمواجهته؛ وهذا جزء من تأهيله الفكري وإعداده النفسي وحواره الداخلي.) بحسب السيناريو السابق، لا يُستبعَد وقوع ضحايا، ولكن هل كان سيتم محو البلدة على النحو الذي حدث؟ هذا مستبعَد...

محمد العمار: هذا مستحيل، وليس فقط مستبعَدًا. لعلكم سمعتم مؤخرًا بعمليات تدمير بيوت الفلسطينيين قصفًا من الجو. أحد الفلسطينيين اكتشف "تقنية" لإبطال قصف البيوت، وذلك بأن يقوم المرء الذي أنذره الإسرائيليون بالقصف بدعوة الناس بمكبِّر الصوت لأن يأتوا إلى بيته. وعندما حضر الناس لم يعد في إمكان الطيار الإسرائيلي أن يقصف البيت، ولم يفعل. ولقد استخدم الفلسطينيون في غزة هذه التقنية أكثر من مرة.

ديمتري أڤييرينوس: طبعًا، فهذا جزء من الابتكار في العمل اللاعنفي. هناك حادثة جرت إبان الحرب العالمية الثانية في اليونان، لم تُسمَّ مقاومة لاعنفية، لكنها كانت في الواقع كذلك. النازيون، في بعض الدول التي احتلوها، جنَّدوا الشبان والرجال، سواء في معسكرات العمل أو في الجيش الألماني، للقتال في روسيا خصوصًا. وهذا حصل في دول عدة، لكنه لم يحصل في اليونان لأن عددًا من النساء بادرن إلى التمدد أمام المدرعات الألمانية، رافضات تجنيد أولادهن وأشقائهن وأزواجهن. هناك نساء قُتلن من جراء ذلك، دهستهن الدبابة. ولكن هل جرؤ سائق الدبابة على الاستمرار في الدهس؟! طبعًا لا.

محمد العمار: اليوم الأخير من ثورة 1979 الإيرانية، ثورة الخميني، كان يومًا من هذا النوع، حيث تمت مواجهة بين الشعب الأعزل، نساءً ورجالاً وأطفالاً، وبين الجيش، وقُتِلَ حوالى 500 رجل و400 امرأة في المعركة. لكن في ذلك اليوم لم يَنَمْ الشاه في طهران، بل فرَّ من البلاد لأن الجيش انضم لاحقًا إلى المتظاهرين. للأسف الشديد، هذه الحادثة، كحادثة النساء اليونانيات، يتم تغييبها لصالح إيديولوجيا بعينها.

زينب نطفجي: طبيعة العمل في "الكتلة الوطنية" السورية كانت ناتجة من اتخاذ خيار النضال السياسي ضد الانتداب الفرنسي، حيث تظاهر الناس دفاعًا عن الدستور السوري والبرلمان وأضربوا وقدموا تضحيات في سبيل ذلك.

ديمتري أڤييرينوس: لكن هذه الحركات كانت، في الغالب، حركات عفوية أكثر منها حركات لاعنفية منظمة، ذات خيارات إنسانية وسياسية واضحة. لذلك، عندما يأتي أوان حصاد النتائج، تُجيَّر هذه لمصلحة مناحٍ سياسية وإيديولوجية أخرى ويعتَّم عليها. الانتفاضة الفلسطينية الأولى مثال ساطع على ذلك.

محمد العمار: تحدثت عن قيمة اللاعنف وجدواه. أظن، من الناحية النظرية، أنه في مواجهة بين طرف عنيف وطرف غير عنيف يقل عدد الضحايا إلى النصف، على الأقل، لأن القتل يكون من طرف واحد فقط. استخدام الضحية للعنف قد يكون مفهومًا أو مبرَّرًا، لكن إلى أي حدٍّ يمكن للمعتدي أن يستمر في القتل دون مبرِّر؟ – سؤال مطروح. النقطة الثانية: في التاريخ، الإسلام وصل، اعتبارًا من بداية الدعوة، إلى مرحلة تأسيس الدولة، بشهيدين فقط، وذلك عبر 13 سنة من الكفاح اللاعنفي.

أيضًا تحدث ندره عن الإنسان المسالم. بحسب خبرتي، لا يوجد "إنسان مسالم" في مجتمعاتنا، بل أناسٌ ضعفاء – وهناك فرق بين الإنسان المسالم والإنسان الضعيف. الإنسان المسالم هو الإنسان القادر على العنف، لكنه لا يمارسه لاعتبارات أخلاقية أو عقلية.

ندره ع. يازجي: إذًا تظن أنه لا يوجد مسالمون في مجتمعاتنا؟

محمد العمار: أظن، على الأقل، أن هذا النموذج غير ظاهر. الإنسان الذي "يمشي الحيط الحيط ويقول يا ربي سترك!" هو إنسان غير مسالم، لا بل من الممكن أن يكون ضعيفًا، مهزومًا. الإنسان المسالم هو الإنسان القوي، القادر على المواجهة، لكنْ بأساليب شريفة. يصف ابن تيمية الإنسان المسالم بأنه مَن "يقول الحق ويرحم الخلق".

هناك أيضًا مَن ذَكَرَ أن مصطلح اللاعنف غير موجود في التراث. أظن أن له وجودًا فيه، وإنْ يكن خافيًا. ففي الثقافة السائدة، تُصطفى بعضُ المصطلحات والمفاهيم التي تُعَد أساسية ويعتَّم على بعضها الآخر. صباحًا عرَّف ديمتري اللاعنف بأنه "كف الأذى"، وفي القرآن: "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة" [النساء 77]. وهناك أمثلة كثيرة أخرى.

هناك موضوع آخر، هو التعايش. نحن لا نعرف التعايش في مجتمعنا، بل نعرف التجاور. التعايش يعني البحث عن التوافق مع الآخر؛ وهذا لا يمكن أن يتم في ساحة المعركة، بل يحتاج إلى مناخ مختلف. لقد قالت السيدة زينب إن ثقافتنا غير عنيفة، إن العنف فيها شيء طارئ عليها. أتصور أن هناك نوعًا من القراءة غير الدقيقة للعنف كثقافة ولتجلِّيات هذه الثقافة، كالمعارك وغيرها. فثقافة مجتمعنا عنيفة، والتجلِّيات غير العنيفة فيه دامت فترات محدودة لأن المجتمع لا يقدر أن يموِّل حربًا مفتوحة.

أخيرًا، تحدثت السيدة حميدة عن موضوع الانفعال، ولعلِّي فهمت قصدها خطأ. فربما كانت تقصد الغضب. فالجبن انفعال، والفرح والغضب انفعالان. هذا فقط لتجميع ملاحظاتي على مجمل الحوار.

مرمريتا، 20 تموز 2007

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود