|
جذور العنف: مقاربة تحليليَّة نفسيَّة
سحر أبو حرب: تكلمتَ في محاضرتك على "تسديد" العنف. من جانبي، أحب أن أسمِّيه ترشيد العنف. ما ذكرتَه يحتاج إلى تأهيل ثقافي عالٍ ووعي كبير. إذ ليس في مقدور أيٍّ كان أن يُرشِّد العنف، أو أن يحولِّه إلى لاعنف، أو أن يستفيد منه، فيحول قوَّته الهدامة إلى قوة بنَّاءة لمصلحته. هذا يحتاج إلى دراسات كثيرة وجهد دؤوب – وهو ما نطلبه طبعًا. ولكن ما هي استطاعة الإنسان، يا ترى، ما مقدرته على الوصول إلى هذا المستوى من الوعي؟ كم يجب أن يدرس ويتعلم ويتكلف حتى يتمكن من التصرف السليم؟ ديمتري أڤييرينوس: من الأفكار الشائعة، لكنْ غير الدقيقة تمامًا، أن الإنسان، حتى ينشط في اللاعنف، يجب أن يتحلَّى بصفات استثنائية. تاريخيًّا، هذا غير صحيح. مما لا شك فيه أن الحركات اللاعنفية الأساسية في العالم كانت بقيادة قادة أفذاذ متميزين، أصحاب رؤى، لكن الذين نفَّذوا، الذين عملوا ميدانيًّا، هم الناس أيضًا وأولاً، أناس مثلنا. هنا طبعًا يبرز دور القائد المُلهِم الذي يستطيع أن يفهم العنف الجماعي ويستوعبه ويوجِّه طاقته توجيهًا لاعنفيًّا خلاقًا. سحر أبو حرب: هل مجرد الإيمان باللاعنف يكفي لترشيد العنف؟ ديمتري أڤييرينوس: في خصوص غاندي، على سبيل المثال، الذي قاد الحركة اللاعنفية في الهند وحقق بها استقلال بلاده، اللاعنف هو، في الواقع، ملايين الهنود الذين نزلوا إلى الشارع وتظاهروا وأضربوا وصاموا وسُجِنوا إلخ. لكن حول غاندي، كانت هناك بالفعل حلقة صغيرة من أتباع الـساتياغراها Satyagraha، وهو مصطلح يعني "قوة الحقيقة" أو "قوة الحق"، أطلقه غاندي على العمل المباشر اللاعنفي. الساتياغراهيون، أو "الأقوياء بالحق"، المتحلِّقون حول غاندي كانوا أشخاصًا تحلوا في سلوكهم الحياتي بنوع من الانضباط الصارم والمجاهدة الداخلية بمعنًى يكاد أن يكون صوفيًّا، إن لم يكن كذلك فعلاً؛ أي أنهم كانوا ملتزمين بنذور روحية قريبة الشبَّه بنذور الرهبان والراهبات. قد لا يكون هذا مطلوبًا في كلِّ مكان، لكن طبيعة الحياة الروحية في الهند، ربما، وخصوصية غاندي – وهو إنسان حاول اكتشاف الحقيقة، أي المعنى الكوني، في ذاته، وسعى لأن يكون خادمًا لها[1]، فكانت للمناسك الدينية في حياته منزلةٌ مركزية – أدَّيا إلى أن يكون للاَّعنف في الهند هذه الخاصية. لكن يبدو أن اللاعنفيين الكبار جميعًا ذوو صلة، بشكل أو بآخر، بالحياة الروحية – وهذا ليس من قبيل المصادفة. محمد العمار: أحد ثوابت التاريخ الأساسية أن التغييرات التاريخية الكبرى – وهذا موضوع مرصود، أقتبسه من أرنولد توينبي، المؤرخ وفيلسوف التاريخ المشهور – هي من إبداع عقول مفردة، مبدعة، ولكن من إنجاز الكثرة المؤمنة المحيطة. في الواقع، اللاعنف لا يحتاج لأن يفهمه الجميع بالمستوى نفسه، ولكن الإيمان كافٍ للحصول على نتائج: فكلما كان عدد المؤمنين أكبر كان الحصول على منجزات أسرع وأقل عرضة للتشتت والتشويه. هنا أستغرب تعليق السيدة سحر! اللاعنف يحتاج إلى تنظيم وتدريب وكلفة؟! الأقرب إلى الصحة قولنا إن العنف يحتاج إلى تدريب وتنظيم أكثر وأكلاف أكبر من اللاعنف... سحر أبو حرب: أي عنف تقصد؟ محمد العمار: أقصد به العنف الجاري الآن، العنف المجدي، وليس "عنف الذبيحة" أو عنف ردود الفعل غير المجدية، أقصد العنف المُمَأسَس. ما هو رصيد وزارة الدفاع، مثلاً، في الدول كلِّها اليوم؟ كل ما من شأنه أن يغير العالم تغييرًا كبيرًا وسريعًا يُرصَد الآن لإنتاج أسلحة الدمار! إذًا أختزل مداخلتي في ثلاث نقاط: الإيمان كافٍ، وإن لم يكن من الضروري الوقوف عنده. النقطة الثانية هي أن اللاعنف لا يحتاج إلى تدريب أو تمويل أكثر من العنف. وثالثًا، القائد المبدع، المُلهَم والمُلهِم، ضروري. لدي تعليق آخر، أيضًا، على القول بأن العنف أونطولوجي، أي وُجِدَ في أصل الوجود، وكأنه شيء لا يمكن حذفُه من تاريخ البشر. الأمِّية، مثلاً، وُجِدَتْ مع الإنسان؛ ولكن ما من أحد في العالم يحتج بهذا الفهم حتى نُبقي على الأمِّية! تعلُّم القراءة والكتابة ليس مهارة سهلة، ولم يتمكن الإنسان في سهولة من إيجاد الآليات التي مكَّنتْه من صنع مؤسسات دائمة لمكافحة الأمية، حتى صارت مؤسسة "محو الأمية" جزءًا من وجوده، حتى أصبح عدم دخول هذه المؤسسة يُعتبَر نقصًا إنسانيًّا... سحر أبو حرب: أتقصد بذلك العنف أو اللاعنف؟ محمد العمار: إذا خلطتُ بينهما أرجو أن تفهموا قصدي. إنني، للمناسبة، لست لاعنفيًّا، ولكني أؤمن باللاعنف عقليًّا، وأسعى لأن أصبح لاعنفيًّا بالفعل. أنا، من الناحيتين العقلية والدينية، مقتنع باللاعنف تمامًا، لكنني أعتبر أن هذا مجرد مستوى من المستويات حتى بلوغ مستوى تتغير فيه لغتك ومشاعرك، ولغة جسدك حتى، عالمك الداخلي في مجمله. في القرآن مفهومان: "الإيمان" و"الطمأنينة" [البقرة 260]. أنا أؤمن باللاعنف، لكني يجب أن أجتهد ليطمئن قلبي. ديمتري أڤييرينوس: في صورة عامة، ليس عندي أي تعليق على كلامك سوى أن اللاعنف مختلف عن التدرج في المعرفة. نحن نستطيع، على سبيل المثال، الانتقال من حالة أمِّية إلى حالة "محو أمية" عبر تلقين الشخص مبادئ القراءة والكتابة؛ بينما اللاعنف، في الواقع، ليس فقط مسألة تلقين معلومات. يجب أن يكون هناك، أولاً وقبل كلِّ شيء، فهم واعٍ للعبة الداخلية التي يلعبها الذهن، وجهد ذاتي، يومي، يتغلغل في تصرفات حياتنا اليومية كافة: في تفكيرنا، في آلية عمل أذهاننا نفسها، وفي أدق تفاصيل حياتنا. في اختصار، كما قال أكرم في البداية، يجب أن يصبح اللاعنف منهج حياة. ومنهج الحياة هذا ليس من الضروري أن يحمل اسم "طريق اللاعنف". اللاعنف يصبح "طريقًا" عندما يُترجَم إلى نضال سياسي مدني لاسترداد حق أو لإحقاق العدل. نرجو ونحلم أن يكون هناك جهد جماعي للبشرية في هذا الاتجاه – وإلا فإن حجم العنف المدمِّر في العالم الآن كبير ومرعب! زهير وفا: لدي ملاحظتان: الملاحظة الأولى هي على استخدام مفردة "إنتروپيا". أنا بعيد عن هذه المفردة حوالى 40 سنة؛ ولكن بحسب ما تعلمت سابقًا في الترموديناميكا، أتذكر أنها تتعلق بإنتاج الطاقة المضبوطة وتوجيهها في اتجاه معين، مثل الاحتراق ضمن وعاء، أي إحداث حركة معينة في اتجاه معين وتحويلها إلى حركة جديدة بوسائل معينة، أي الطاقة المتحولة إلى حركة التي يجب حساب ما يتبدد منها. أما أنت فقد استعملتَ التعبير، على ما أذكر، بمعنًى مختلف. الإنتروپيا، على حدِّ علمي، قيمة فيزيائية محسوبة للطاقة المتبددة توضع في جداول؛ وحساباتها طويلة، حيث يعود الميكانيكي أو المحاسب الذي يحتاج إلى عمل حسابات معينة خاصة بمهنته إلى هذه الجداول. لا أعرف كيف استُعمِلَ هذا المصطلح على مستوى فلسفي وعلى مستوى المجتمع! ديمتري أڤييرينوس: هذا صحيح ربما. لكن في الفيزياء الحديثة لم تعد الإنتروپيا مقتصرة فقط على الجمَل الترمودينامية المغلقة. المفهوم بات اليوم معمَّمًا على الكون بأسره. الإنتروپيا، في التأويل الجديد، هي مقياس للفوضى في أية جملة حرارية، مهما كانت واسعة؛ وهي، مثلاً، التي تجعل النجوم الكبيرة تولد وتعيش حياتها ثم تموت، بعد أن تتبدد طاقتُها، فتتحول إلى ثقوب سوداء[2]. أثر الإنتروپيا محسوس على جميع الأحياء، وعلينا نحن البشر كذلك: نولد، وننمو مع السنين، حتى نهرم، فتتبدد طاقتُنا ونموت... زهير وفا: لقد تغير المفهوم التقليدي إذن... ديمتري أڤييرينوس: عُمِّم من الجمل الصغيرة على الكون، فصار مفهومًا كونيًّا. زهير وفا: الملاحظة الثانية: استغربت غياب كلمة "مصلحة" في محاضرتك. علاقات الناس بعضهم مع بعض قائمة على المصلحة أساسًا. العالم من دون مصلحة، أو الفرد متجردًا من مصلحته، هو نوع من الجنون! هناك تعبير شعبي يقول: "ما حدا بيشتغل ضد مصلحتو غير المجنون"! لا يقوم الإنسان بعمل معين إلا إذا كانت له مصلحة فيه – وهذا على مستوى الأفراد والجماعات والدول. ديمتري أڤييرينوس: لا شك أن مَن يبني جيوشًا ويحشدها لتدمير الآخرين يعتبر ذلك في "مصلحتو"! المشكلة هي أن مفهوم "المصلحة" مفهوم عائم جدًّا. وحتى إذا اتفقنا على مفهوم معين للمصلحة واعتبرناه إيجابيًّا، فإن الإنسان، على ما نرى، يبدو وكأنه لا يعرف مصلحته، بدليل أنه يقوم حصرًا بالأعمال التي هي "ضد مصلحته" فعلاً! – وإلا لما كانت حال البيئة بهذا الشكل المخيف، لما كان مستوى التعليم في العالم، كما هو الآن، في تدهور مستمر، لما كانت حال العالم على ما هي الآن، حال كراهية واقتتال دائمين. هناك، على مستوى العالم ككل، ما يسمى بـ"التواكل" interdependence. نحن "متواكلون" بعضنا على بعض، مترابطون، ولسنا منفصلين. كل ما أقوم به كفرد، حتى على صعيد ضيق للغاية، يؤثر في الإنسانية ككل، تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر. إذًا من الصعب علينا أن نحسب حسابًا لنتائج أفعالنا على المدى الطويل. وبالتالي، فإن العمل الإنساني، اختيار العمل، وفقًا لما نسميه المصلحة أو غير المصلحة، هو اختيار يخضع لمعايير ذاتية ضيقة جدًّا، بحيث إنني من حيث أظن أنني أحقق مصلحتي فإنني قد أؤذي الآخرين، أو من حيث أظن أني أخدم الآخرين قد أسيء إليهم. من هنا يكاد أن يكون من المتعذر التنبؤ بنتائج عملنا على المدى الطويل. لذا، بما أن نظرنا قصير المدى وليست لدينا المعطيات الكافية لتوقع نتائج عملنا، فإن المبدأ الأفضل، الأقرب إلى الحكمة، هو الأخذ بالأحوط، الأخذ بالشيء الذي تنجم عنه أقل الخسائر للذات وللآخرين. كل ما أفعله، إيجابًا أو سلبًا، من أجلي أو من أجل الآخرين، ينعكس علي، عاجلاً أو آجلاً. إذا وعيتُ ذلك فعلاً، سأتحلَّى بپراغماتية حقيقية، فيها مصلحة حقيقية أكثر بكثير من "المصلحة" بالمفهوم الشائع. هنا تظهر أهمية السلوك اللاعنفي على هذا المستوى. زهير وفا: أفهم من كلامك أن العالم مجنون، لا يعرف مصلحته، عبر تلويث البيئة وما إلى ذلك... ديمتري أڤييرينوس: هذا صحيح. فالعنف المدمِّر السائد... زهير وفا: هل نحن الآن مجموعة من العقلاء؟! أكرم أنطاكي: لقد فهمت من مداخلة زهير أن المنطق السائد، السياسي والاقتصادي، يفرض المصلحة أساسًا للعمل ويركِّز عليها. قد يكون من المفيد التفكير في استعمال التعبير نفسه، مع إفهام الناس، أو السعي لإفهام الآخر، أن مصلحتنا، پراغماتيًّا وسياسيًّا، ليست هنا. في عبارة أخرى، عدم تجاهُل المصلحة، بل بالعكس، التركيز عليها: بمعنى أن أعي أن مصلحتي الحقيقية ليست في استمرار العنف، اعتبارًا من هذا المفهوم السائد نفسه الذي قد يكون التعبير فيه فجًّا بعض الشيء. ديمتري أڤييرينوس: التعبير، في حدِّ ذاته، ليس فجًّا. فجذرُه اللغوي يربطه بـ"الصلح" أو "الصلاح". من الممكن مبدئيًّا استخدام المفردة استخدامًا أكثر إيجابية. محمد العمار: تعليقًا على الموضوع، على الرغم من غياب الپراغماتية أو المنفعة من حديثك، فقد فهمتُه على أنه تحليل عميق لمعنى المصلحة، إنْ على المستوى النفسي الداخلي أو على مستوى الوجود الخارجي. فاللاَّعنف، في الواقع، طريقة لتوفير الطاقة وجعل النفس، داخليًّا، على مستويي الوعي واللاوعي، أقدر على حياة منسجمة، حياة تفيد البناء، وليس الهدم والتدمير. ديمتري أڤييرينوس: صحيح تمامًا. محمد العمار: أريد أن أقول إن الفلسفات كلَّها، ماعدا الفلسفة العدمية، والأديان جميعًا، تحدثت عن مفهوم المصلحة. أحفظ من القرآن مثلاً: "الله خير" [القصص 80] "والآخرة خير وأبقى" [الأعلى 17]؛ وهناك الكثير من الآيات التي تتكلم على تكوين عالم متعدد، متنوع، التنوع فيه غاية مقصودة لإيجاد حالة تنافُس يسميها القرآن "استباق الخيرات" [المائدة 48]: مَن الذي سينجز الأفضل؟ مَن الذي سيقدم الأنفع للناس؟ كما أن هناك حديثًا يقول: "الخلق عيال الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله." هناك مفاهيم إنسانية تصلح لتشكيل عالم جديد، برؤى مختلفة، بحيث نتشارك في المنافع. ديمتري أڤييرينوس: بلا ريب. إذا أخذنا بمفهوم التواكل المتبادل، فإن كلَّ شيء متكل في وجوده على كلِّ شيء آخر، وأي فعل تناغُمي يعزِّز التناغم في نقطة ما سوف يؤثر على النقاط كلِّها. كل شيء يتوقف على الشروط الابتدائية للعمل وعلى التغيرات الطفيفة التي تطرأ عليها. حتى الفيزياء الحديثة اليوم، في "نظرية الشواش" Chaos Theory، تقول بشيء سمَّاه إدوارد لورنتس "أثر الفراشة" butterfly effect. نظريًّا، على افتراض أن للمناخ سلوكًا شواشيًّا، يمكن لفراشة ترفرف بأجنحتها في البرازيل أن تسبب بعد شهر زوبعة في تكساس! هل يمكن أن يكون لأثر الفراشة الطفيف هذا التأثير الكبير؟ لِمَ لا! لا يوجد شيء يمنع ذلك، سواء فيزيائيًّا أو حتى "مصلحيًّا". زهير وفا: طرحي بسيط جدًّا. لنقل إن هدفي هو: كيف أصلح بلدي؟ وفي هذا العالم، الواسع والمجنون في آن، هل يمكن لنا أن نشكِّل، نحن، "زاوية عاقلة"؟ ديمتري أڤييرينوس: هناك مبدأ أساسي في الفكر الإيكولوجي، وكذلك في الفكر اللاعنفي، هو: "فكِّرْ عالميًّا وافعلْ محليًّا" Think globally and act locally. إذا كان كل إنسان يفكر عالميًّا ويفعل محليًّا، انطلاقًا من الموقع البسيط الذي هو فيه، فإن الناس سوف تتلاقى بالضرورة، والمصلحة الجزئية، كما تفضلتَ، من أجل "صلاح" المكان الذي أنا فيه، سوف تلتقي مع المصلحة الكلِّية. هنا لا يمكن لخير"ي" الشخصي – إذا كنا نتكلَّم عن خير حقيقي – أن يتنافى مع "خير" الآخرين. سحر أبو حرب: الحديث عن "أثر الفراشة" يذكِّرني بتجربة فيزيائية قرأت عنها. قام العلماء بتجهيز خزان كبير من الزجاج الشفاف، ووضعوا فيه الماء مع ذريرات فضة، ثم انتظروا حتى راق الماء، فاتخذت أمواجه شكلاً معينًا وثبتتْ عليه. ثم وضعوا تحت الخزان منبعًا حراريًّا صغيرًا جدًّا، وهذا المنبع أدى إلى تغيُّر الأمواج السفلى، التي غيرت بدورها الأمواج التي تعلوها، وهكذا دواليك. وبعد فترة قصيرة، تبدَّلت الخطوط البيانية الخاصة بهذا الخزان كلها، وذلك بتأثير هذا المنبع الحراري الضئيل! ديمتري أڤييرينوس: منطق التاريخ يقول بأن الأمور التي غيرت الأحداث في عمق هي أشياء طفيفة في الظاهر. التغيير، اليوم، سريع وعنيف، وفيه الكثير من الصخب. لكن هذا تغيير على السطح فقط. التغيرات العميقة تحدث دومًا في بطء وصمت، كنموِّ الجنين في أحشاء أمه. ندره ع. يازجي: في بداية المحاضرة، تحدثت عن العنف في الطبيعة. وإذا صحَّ فهمي، فإن أية عملية موجَّهة نحو هدف ما لا بدَّ أن تتطلب ضغطًا أو عنفًا ما، كما في ضرب المسمار، مثلاً، لإحداث التلاحم بينه وبين الجدار. فإلى أيِّ مدى ينسحب هذا على الإنسان؟ – خاصة أنك قارنت بين الإنسان والحيوان، حيث إن الحيوان يقتل ليشبع فقط، في حين أن الإنسان يقتل ما يزيد عن حاجته أو لأسباب أخرى. هل لهذا الموضوع علاقة بالوعي الإنساني؟ – بمعنى أن الإنسان يخاف من فترات لاحقة، من المستقبل مثلاً. وهنا أريد أن أصل إلى النقطة التي تحدثت عنها السيدة سحر: الأثر الثقافي، الإرث الحضاري للإنسان. لقد ضربتَ مثلاً رمزية ناطحات السحاب في ذهن بعض الأشخاص، التي دفعتْهم إلى أن يقوموا بهذا العمل أو يرحبوا بنتائجه على نحو ما. في أثناء حرب ڤيتنام، كنَّا نسمع عن رهبان بوذيين لم يتجهوا إلى قتل الآخر أو حرقه، بل كانوا يحرقون أنفسهم! كيف يمكن لنا أن نكمل الأفكار التي عرضتَها باتجاه تربية الإنسان وتوجيهه وتنمية وعيه وثقافته ضد العنف؟ ديمتري أڤييرينوس: سؤالك متشعب، لكني سأحاول أن أجيب. السؤال الذي يطرح نفسه أولاً هو: إلى أي حدٍّ يجوز لنا إسقاط فهمنا للعنف في الطبيعة على العنف البشري؟ العنف في الطبيعة "عنف" خلاق، ونظرية الشواش قد تفسِّر هذا الأمر. في الطبيعة، يمكن لحالة "شواشية" chaotic أن تتمخض عن حالة نظام أرقى. "المحافظون الجدد" في أمريكا – بكلِّ أسف – استخدموا مصطلح "الفوضى الخلاقة" استخدامًا مغلوطًا أدى إلى نتائج كارثية! أما ما يسمَّى "العنف" في الطبيعة فيعمل على جعل العناصر المكونة لجملة ما تختلط في حالة من اللاتعيُّن والفوضى الظاهرية، لتلتحم من جديد في جملة جديدة، ذات خصائص جديدة ومعطيات جديدة. بعض دارسي تطور الكائنات يرون أن حالات "الطفرات" mutations في الطبيعة، التي أدت إلى ارتقاء سوية وعي أعلى، تأتي مسبوقة بحالاتٍ من اللاتعيُّن، حالاتٍ تبدو شواشية. يذكر آرثر كوستلر هذه الحالات، ويصفها بحسب المثل الفرنسي: Reculer pour mieux sauter؛ ما مُفاده أن الحياة، حين يعترضها مأزق، تتقهقر دومًا خطوة أو خطوات، إلى نوع من اللاتعين، حتى تقوم بقفزة أبعد على صعيد النظام والوعي. لكن الأمر لا يتم على النحو نفسه مع الإنسان. فغالبًا ما تفلت الأشياء من يده؛ كما أنه يفتقد تلقائية الحياة، عفويتها، فيظن أنه إذا أعملَ ذهنَه بحسب منطق الطبيعة، كما يفهمه، سيحصل على نتائج محسوبة. على مستوى التطور، يترافق، عند الحيوان، التطورُ الذهني والتطور الشعوري: إذ ليس من تناقُض عنده – ونحن هنا نتحدث عن الحيوانات الراقية لأننا نستطيع أن نرصد سلوكها في دقة – بين حالته الذهنية وبين رغبته أو إحساسه. وليست الحال كذلك عند الإنسان: فمن الممكن أن يرغب الإنسان في شيء نفسيًّا أو يطمح إلى شيء فكريًّا، لكن هذه الرغبة أو هذا المطمح يتعارض مع عاطفته. من هذا التناقض يمكن أن ينجم نوعٌ من العنف. التربية اللاعنفية، في عمقها، هي محاولة لإقامة توازُن أو تناغُم بين أبعاد الإنسان الثلاثة: البعد الجسماني، المعني بالدوافع البيولوجية، البعد النفسي–الذهني، المعني بالدوافع النفسية والرغبات والمشاعر والعواطف، وأخيرًا، البعد العقلي–الروحي الذي يميز الإنسان فعلاً. إذا استطعنا أن نقيم توازنًا بين هذه المستويات الثلاثة، بحيث لا يقتات أي منها على غذاء الآخر أو طاقته، يمكن للإنسان أن يحتوي العنف الكامن فيه ويحوِّله. غالبية أنماط التربية السائدة تعمل على الإخلال بهذا التوازن. مثال بسيط وشائع: لماذا تخفق غالبية الزيجات في العمق، حتى لو بدت ظاهريًّا، في نظر المجتمع، ناجحة؟ أعتقد أن عدم وجود توازن بين هذه الأبعاد أو هذه الوظائف الثلاث، في أثناء اختيار الشريك، هو السبب. يمكن أن يكون الهوى passion تجاه الجنس الآخر هو، نفسيًّا، مصب الاهتمام؛ وبالتالي، فهو يمتص الطاقة الخاصة بالمستويين الآخرين، الجسماني والعقلي، ويتغذى بها. ولاحقًا نرى كيف يتحول الهوى أو الشغف الذي كان مستبدًّا في البداية إلى عنف، ينقلب الحب كراهيةً إذا لم يلبِّ الشريك رغباتِنا أو لم ينسجم معها. يجب أن يتعلم الإنسان، منذ الصغر، كيف يُناغِم بين المستويات الثلاثة معًا، أي كيف يشتغل بكيانه كلِّه. هذه ثقافة متكاملة، وهي جزء أساسي من التربية التي يجب أن ننشئ الطفل عليها. هناك مناهج تربوية تعمل وفقًا لهذا المنظور، مثل منهج ماريا مونتسوري[3] وغيره. وهو ما يصب، في المآل، في التربية اللاعنفية. حميدة تعمري: لا جديد أضيفه إلى ما قيل. لقد كانت في ذهني، قبل المحاضرة، تساؤلاتٌ كثيرة، لكن المحاضرة أجابت عنها. شعرت بارتياح في الواقع عندما دخلتَ في التفاصيل البسيطة، أو لنقل، في تشخيص البنية النفسية للعنف. ما أريد فقط هو ترتيب بعض الأفكار في ذهني. يوجد عنوان بسيط، يمكن إدراجه فيما تحدثت عنه حول الإزاحة والإسقاط حين التعرض للظلم. أعتقد أن هذا مكمن أحد الدوافع الأساسية للعنف، ليس فقط ظلم التربية، ظلم الأطفال، بل ظلم التمييز العنصري أيضًا، على سبيل المثال. أعني أن المجتمعات التي يمارَس عليها الظلم يتولد فيها العنف أكثر من غيرها من المجتمعات. الملاحظة الثانية: لقد دار بعض الحديث حول الإيمان: الإيمان يكفي وما إلى ذلك. اللاعنف يطبَّق في مجتمع العدالة... أكرم أنطاكي: لماذا لا تقولين إننا نسعى من خلاله إلى العدالة؟ حميدة تعمري: طبعًا من الممكن أن يكون اللاعنف أداةً لتحقيق العدالة. ما أريد أن أقوله إن ذلك يتطلب إحداث تغيير كامل في المجتمع. وهذا التغيير، مثل أيِّ تغيير آخر، يجب أن يترافق مع إنتاج فكر جديد. وهذا الفكر الجديد يجب أن يتبلور قبل الحديث عن الوسائل والأدوات. فاللاَّعنف، لا يمكن لنا أن نصل إليه، كأفراد، إلا إذا رأينا أنه ضرورة وحاجة ماسة لاستمرار الحياة. وهو ما يحيل إلى حديث زهير عن المصلحة. ما أعنيه هو أننا في حاجة هنا إلى نسف الأفكار المسبقة والنماذج الذهنية والمسلَّمات كلِّها. فتاريخنا – يجب أن نعترف – تاريخ عنفي لفترات طويلة. بمعنى أني أرى أن الإيمان أيضًا ينتمي إلى هذه المسلَّمات التي يجب العمل على تغييرها. ديمتري أڤييرينوس: خلِّينا نحاول التواصل مع فكرتك من نهايتها. ليس هناك من شعب في العالم، ولا حتى الشعوب التي نُطلِق عليها تسمية "شعوب مسالمة"، خلا أو يخلو من العنف. دونكِ الهند مثالاً. كلمة "لاعنف" nonviolence هي ترجمة غاندي لمصطلح أهمشا ahimsa السنسكريتي الذي يعني "كف الأذى". وهذا المفهوم، مع أنه مفهوم أساسي في الفلسفات الروحية الهندية، موجود منذ زمن طويل في غالبية مناهج الهندوسية، بل إنه مفهوم أصيل في كلٍّ من البوذية والجَينية – مع ذلك كلِّه فإن تاريخ الهند، مثل تاريخ أيِّ شعب آخر، شهد حروبًا. السؤال، في عبارة أخرى، هو: هل العنف أونطولوجي في الإنسان؟ العنف، على الأقل، موجود في بنيان الطبيعة، كما حاولت أن أبين؛ ووظيفة الإنسان بالذات هي تحويل هذا العنف إلى "عنف" خلاق وبنَّاء ومنظِّم للحياة. في اللغات الغربية، هناك توازٍ بين مصطلحَي "الطبيعة" nature و"الثقافة" culture. دور الإنسان "الثقافي" – ونقصد الثقافة هنا بالمعنى الرفيع، الروحي – هو السمو بالطبيعة، استمداد طاقة من الطبيعة والارتقاء بها. وإلا فلا يكون هناك من معنى لدور الإنسان في العالم! والثقافة هنا ليست بمعنى المعلومات، بل بمعنى التربية والإبداع والتفاعل الخلاق المتناغم مع العالم. لذلك فإن الثقافة هي دومًا "استنبات الطبيعة" culture de la nature. فلا يجوز أبدًا وضع "الطبيعة" على الضد من "الثقافة". للمناسبة، التعريف بمصطلح "ثقافة اللاعنف"، في قاموس مفردات اللاعنف لصديقنا جان ماري مولِّر، تعريف بديع ودقيق. إذ يقول بأن مصطلح culture مشتق من فعل colere اللاتيني الذي يعني، في آن معًا، "زرع" و"كرَّم". المعنى الأول لكلمة ثقافة، إذن، هو "الزراعة" agriculture، أي استنبات الأرض؛ والمعنى الثاني للفعل نجده في كلمة "عبادة" culte: التعبد لشخص أو لشيء يعني تكريمه، إجلاله. ويضيف مولِّر أن كلمة "ثقافة" اتخذت لاحقًا معنى أوسع في الطبيعة البشرية: معنى تنمية هذه الملَكة أو تلك من الملَكات الكامنة في طبيعة الإنسان عِبْرَ تربية ملائمة، تمامًا كما أن الزراعة هي استنبات ما تقدِّره لنا الطبيعة أو تمنحنا إياه، أي ما هو كامن أصلاً في الطبيعة كمونَ البذرة. وبالفعل، نحن نستعمل في التربية كلمة "تثقيف" بمعنى التهذيب. كاجو كاجو: ما هو أصل الكلمة باللغة العربية؟ ديمتري أڤييرينوس: ثقَّف الرمح، سنَّه. كما يمكن لك أن تقول: تثقيف الغصن، بمعنى "تشذيبه". محمد علي عبد الجليل: أصل معنى ثقافة بالعربية هو تقويم اعوجاج الرمح ليستوي ويعتدل، وذلك باستخدام أداة من خشب أو حديد. أي أن هناك، مجازًا، مادة طبيعية موجودة سلفًا، والثقافة تطويع لها ليكون في الإمكان استخدامها الاستخدامَ الأمثل. محمد العمار: في اللغة العربية، هناك أصل للفظ، وليس هناك أصل للمعنى، لأن مفهوم "الثقافة" مفهوم حديث. مالك بن نبي تحدث عن الثقافة وقام بتحليل لنفسانية الثقافة؛ وتحليله ممتاز، وقد ذكر الأشياء التي ذكرتَها من المعجم. مفهوم الثقافة، في تاريخ البشر، مفهوم حديث؛ لذلك لا ينبغي أن نبحث عنه في تراثنا. ليس من الضروري الاتكاء على الماضي دومًا. فالعالم يُخلَق الآن! ديمتري أڤييرينوس: ربما كان الناس يحيون معنى الثقافة عفويًّا دون أن يكونوا مضطرين إلى صياغته في مفهوم فكري. منى هلال: سؤالي الأول هو: هل يجب أن يأتي اللاعنف عن طريق الأديان بالضرورة؟ في عبارة أخرى، هل يمكن لنا أن نضع الأديان وراء ظهورنا ونصنع شيئًا جديدًا؟ وسؤالي الثاني: كيف تتخيل دولة اللاعنف؟ ديمتري أڤييرينوس: لنبدأ بأمور بسيطة قبل أن نتخيل شكل دولة اللاعنف! ومع ذلك، هناك إجابة ممكنة عن هذا السؤال. أولاً: هل يمكن أن نعبر إلى اللاعنف من طريق غير طريق الأديان؟ أعتقد أن التدين العميق ليس من الضروري أن يمر من خلال الشكل الديني التقليدي. في الأصل اللاتيني، "الدين" religion مشتق من فعل religare الذي مؤداه "الوصل" أو "الصلة"؛ وهو معنى موجود في العربية في كلمة "صلاة" مثلاً. من هنا فإن أي فعل إنساني يهدف إلى إقامة "صلة" مع النفس على المستوى العميق، أو مع أصل الوجود، إلخ، هو، عمقيًّا، فعل "ديني" religious، حتى لو لم يتخذ الشكل الديني التقليدي. يمكن للإنسان أن يحقق "تديُّنه" من خلال الالتزام الديني النقلي أو ليس من خلاله. وفي كلتا الحالتين، إذا اختبر المرءُ هذه الصلة العميقة مع نفسه، مع العالم، مع أصل العالم، فهو، بمعنى ما، "إنسان متدين" Homo religiosus. والأصح، ربما، أن نقول "روحاني" تعميمًا للفكرة. أعتقد أن اللاعنف، حتى إذا لم يمر من خلال الشكل الديني النقلي، فلا بدَّ أن يمر بشكل من أشكال "الروحَنَة"، بمعنى الارتقاء عن مفهوم النفس بالمعنى الضيق، "الأناني"، إلى النفس بالمعنى الأوسع أو الأشمل، النفس التي تجد ذاتَها في النفوس كلِّها. وهذا شكل من أشكال الروحانية أو شكل من أشكال التدين العميق، لا فرق. لن نختلف إذ ذاك على التسمية. وإذا كان لدى الناس هذا المنظور للخبرة الدينية (وهو منظور يونغ)، فإنهم لن يختلفوا بعضهم مع بعض. فالمتدين الحق (الروحاني) لا يختلف مع نظيره المتدين الحق. منى هلال: هل تقصد ضرورة الوصول إلى التدين الروحي، كمرحلة أولى، قبل الوصول إلى اللاعنف؟ ديمتري أڤييرينوس: طبعًا لا. اللاعنف مسعى جماعي للبشر قاطبة، ووجودهم بعضهم مع بعض هو نوع من التعاضد والتآزر في هذا المسعى. وإلا ما معنى وجود البشر بعضهم مع بعض؟! أعود هنا إلى تمييز الأستاذ ندره اليازجي بين "التجمع" و"الاجتماع". نحن، بكلِّ أسف، نشاهد "تجمعات" عقائدية أكثر مما نشاهد "اجتماعات" دينية غايتها الارتقاء بالمجموع إلى سوية وعي أرقى. أكرم أنطاكي: ما فهمتُه من السؤال تشير إليه قصيدة لأراغون جاء فيها – وأترجم فوريًّا:
مَن كان يؤمن بالسماء ومَن كان لا يؤمن بها لا أعتقد أن اللاعنف بهذا المعنى، أي كفكر فلسفيٍّ وسياسي، من الضروري أن يمر من خلال الفكر الديني. الروحانية تتعلق بعلاقة الإنسان مع نفسه ومع ربِّه – وهذا شيء شخصي، خاص بدخيلة الإنسان. وإذا أردنا أن نأخذ الموضوع على عموميته، ربما كنا أناسًا يؤمنون بروحانية معينة نسعى إليها، لكننا يجب ألا ننسى أن هناك آخرين لا يؤمنون بهذه الروحانية. وبهذا أقصد ضرورة قبول كلِّ طرف للأطراف الأخرى. ديمتري أڤييرينوس: في كتاب الحلم والواقع، سيرة نيكولاي برديايف، الفيلسوف الروسي الكبير، ذكر أنه في أعقاب الثورة البلشڤية صار على خلاف مع الشكل الشيوعي اللينيني للماركسية، مع أنه كان دارسًا متعمقًا في ماركس، متحمسًا للحلم الماركسي بالحرية والعدالة الاجتماعية، حتى إنه رحَّب في البداية بثورة 1917. ثم بدأ الشيوعيون الحمر يضيِّقون عليه، واستدعاه دزرجنسكي، الذي كان مفكرًا كبيرًا ورئيسًا آنذاك لجهاز الاستخبارات (التشيكا). الحديث الذي دار بينهما طريف، وهو يلخِّصه في سيرته الذاتية الفلسفية. في نقطة معينة من الحوار، لفت دزرجنسكي النظر إلى أنه من الممكن أن يكون الإنسان ماديًّا من حيث التفكير الفلسفي ومثاليًّا من حيث الأخلاق والسلوك، كما أن من الممكن للمرء أن يكون مثاليًّا من حيث الفلسفة وماديًّا جدًّا، أو پراغماتيًّا بالمعنى المبتذل، من حيث السلوك. في كلِّ الأحول، اللاعنف يعانق الجميع. محمد العمار: سجلتُ، وأنت تتحدث، أن هناك عنفًا ضروريًّا وعنفًا غير ضروري هو العنف المدمِّر. مثال على ذلك ذكرَه ندره ع.: المسمار يحتاج إلى خمس طرقات حتى ينغرس في الحائط؛ فإذا طرقتَه سبع طرقات دمرتَ المسمار والحائط معًا! شرط العنف الضروري أن يكون بقدر الوظيفة. كذلك، في كلِّ دولة هناك جهاز للأمن الداخلي، لكن ممارسات البوليس في دولة قانون غير ممارساتها في دولة "فلتانة"! نحن، عمومًا، لا نستطيع أن نتنصل من تاريخنا ولا من تراثنا أو انتمائنا. لذلك فإن تساؤلاتنا تسعى للخروج من الأطُر الضيقة. في تناوُل الدين، كثيرًا ما يكون هناك خلط بين "الطقس" و"الوظيفة". الصلاة (الطقس)، في أيِّ دين كان، ليست مطلوبة في حدِّ ذاتها، بل المطلوب هو منتج الصلاة (وظيفتها). الصلاة في الإسلام يجب أن "تنهى عن الفحشاء والمنكر" [العنكبوت 45]؛ بهذا المعنى، فإن كلَّ فعل يؤدي هذه الوظيفة هو بمثابة "صلاة"! ديمتري أڤييرينوس: أريد أن أعود إلى مسألة "دولة اللاعنف" التي سألتْ عنها منى. في مداخلة صغيرة قدمتُها في لقاء في منزل السيدة سحر حول ندوة "العَلمانية في المشرق العربي"، ذكرتُ فرنسا مثالاً، مع أنها ليست بالنموذج الكامل للعَلمانية. ففي خصوص تعامُلها مع قضية الاستنساخ cloning، مثلاً، منعكساته العلمية والأخلاقية، أين تقع حدود السماح به أو حظره، قلت إن الدولة الفرنسية شكلت لجنة، أشبه ما تكون بـ"مجلس حكماء"، فيها ممثلون عن جميع الأديان الموجودة في فرنسا، وممثلون عن الفلاسفة (وبعضهم ملحد)، وحقوقيون، بالإضافة طبعًا إلى علماء ينتمون إلى شتى فروع العلم ومناهجه – هؤلاء جميعًا يجب أن يتحاوروا حتى يتوصلوا إلى قواسم مشتركة حول المسألة قيد الحوار، ويقدموا توصيات تأخذ بها الدولة على سبيل المشورة. مثل هذا الأمر يمكن له يحصل في رعاية الدولة، حصرًا لأنها دولة عَلمانية. أظن أن الدولة التي تفصل الحياة الدينية عن السياسة، وعن الشأن العام إجمالاً، هي الأصلح لأن تسمح لهذا الفيض من تعدد الآراء وتنوعها بأن يعبِّر عن نفسه دون عنف، فيغتني بعضه ببعض، أولاً، ولأن تحمي الأديان من استغلال الساسة لها، ثانيًا. أميمة الخش: هل تتحدث عن نظام دولة أم عن نظام مجتمع؟ ديمتري أڤييرينوس: عن نظام دولة. أميمة الخش: ما يعني أن هناك جيشًا! ديمتري أڤييرينوس: حاول غاندي، مثلاً، أن يتصور ما ستؤول إليه الهند بعد الاستقلال إذا تبنَّت اللاعنف منهجًا على المدى البعيد، وتصور أن الدولة يجب أن تكون بلا جيش... أميمة الخش: هل يمكن أن تكون هناك دولة بلا جيش في عالم اليوم؟! أظن ذلك يوطوپيا، حلمًا غير قابل للتطبيق. إذ لا يمكن أن نقارن نفسنا بسويسرا، مثلاً، التي هي الدولة الوحيدة من دون جيش محترف، كونها محايدة طبعًا. فالعنف متأصل في تراثنا. ديمتري أڤييرينوس: يمكن لنا، طبعًا، أن نطور النقاش حول هذه النقطة: هل يمكن أن تكون هناك دولة من دون جيش في عالم اليوم؟ إذا تعامَلنا مع الموضوع پراغماتيًّا، نسأل سؤالاً مشروعًا: ما هي وظيفة الجيش في الدولة، أية دولة؟ هذا سؤال مطروح للتفكر إجمالاً، على أن نأخذ في حسباننا العامل الاقتصادي، أي مصلحة شركات إنتاج السلاح في عدم المساس بفكرة "ضرورة الجيش". غاندي قال إنه أمر جيد أن يكون في الهند المستقلة جهاز شرطة، غير مسلَّح، للحفاظ على الأمن الداخلي، بحيث تكون مهمته فصل النزاعات فصلاً فعالاً وإلقاء القبض على المعتدين. وقد وضع برنامجًا متكاملاً لذلك. بكلِّ أسف، لم يأخذ نهرو برأيه، وسارعت الهند إلى اقتناء السلاح النووي. يبدو، إذن، للوهلة الأولى، أن هذا الأمر سابق لأوانه من حيث التطبيق. منى هلال: على افتراض أن هناك في العالم 100 دولة، 99 منها من دون جيش وواحدة فقط لديها جيش: ما يحدث هو أن هذه الـ99 دولة سيكون لديها المسوغ لبناء جيش حفاظًا على أنظمتها من خطر تلك الدولة الواحدة! في عبارة أخرى، لا يمكن ترسيخ اللاعنف إلا في حال تحوله إلى حالة عالمية شاملة. ديمتري أڤييرينوس: هناك ما يُسمَّى "التشبيك" networking. مرة أخرى: "فكِّرْ عالميًّا، وافعلْ محليًّا". لا شيء يمنع كلَّ مجموعة تحاول تشكيل مجتمع لاعنفي صغير محليًّا من تنسيق جهودها مع مجموعات مماثلة في أماكن أخرى بغية تشكيل شبكة لاعنفية، شبكة وعي لاعنفي أوسع على المستوى العالمي، لعل وعسى! أكرر السؤال: هل من الضروري لدولة تتبنى اللاعنف أن تتخلَّى عن جيشها؟ أعتقد ذلك، لأنني أعتقد أن استبقاء دولة ما – أية دولة – لجيشها، بكلِّ مصاريفه، هو عبء على أية مقاومة فعلية لخطر خارجي، أكثر منه قوة رادعة. فمهما كان الجيش متطورًا هناك دومًا جهة ما، اقتصادية، أقوى تسعى لتسليح "العدو" حتى يكون جيشه أكثر تطورًا؛ وهذه الجهة تفتعل نزاعات من أجل تصريف إنتاجها. سؤال الجدوى من وجود جيش أصلاً، على المدى المنظور حتى، هو سؤال مطروح للتفكر أيضًا. مرمريتا، 20 تموز 2007 *** *** *** [1] من هنا عنوان سيرته الذاتية: قصة اختباراتي مع الحقيقة. (المحرِّر) [2] "الثقب الأسود" Black Hole: منطقة من الكون تعاني من انهيار ثقالي غير عكوس، حقله الجاذبي من الشدة بحيث إن لا شيء يفلت منه، حتى الضوء. (المحرِّر) [3] ماريا مونتسوري (1870-1952): طبيبة ومربية إيطالية، واضعة منهج تربوي الغاية منه تيسير النمو المتكامل للطفل عبر التعامل اليدوي مع أغراض ومواد مختلفة وعبر اللعب وضبط النفس. من كتبها: التربية العلمية (1909). (المحرِّر) |
|
|