التنفُّس والاسترخاء، الانتباه والشاهد الداخلي
بعض التمارين العمليَّة

 

مع ديمتري أڤييرينوس

 

التنفس: مهدِّئ طبيعي

التنفس ضرورة من ضرورات استمرار الحياة التي لا غنى لنا عنها مطلقًا، على جميع المستويات. رأينا، في أثناء الحديث عن الصوم، أن المرء يستطيع الامتناع عن الطعام أربعين يومًا وأكثر، كما أنه يستطيع الانقطاع عن شرب الماء بضعة أيام، لكنه لا يستطيع إمساك نَفَسه أكثر من بضعة دقائق. مع ذلك يأخذ أكثر الناس تنفسهم، كونه نشاطًا فسيولوجيًّا غير مَوعي على الأغلب، كتحصيل حاصل. ولهذا – للأسف! – نحن نتنفس تنفسًا رديئًا. نحن لا نشعر بتنفسنا أصلاً إلا عندما نبذل جهدًا فنلهث، وعندئذٍ نشعر بضرورة تنظيمه. جميعنا لديه القدرة على الشهيق والزفير، لكن قلة منا يعرفون حقًّا كيف يولون انتباههم إلى تنفسهم ويستفيدون منه استفادة صحيحة. وأقصد هنا بكلمة "صحيحة" مفهوم الصحة، الصحة البدنية والنفسية.

من المهم هنا أن ندرك أن مستويات شخصيتنا الثلاثة – الجسماني والنفسي–الذهني والعقلي – يجب أن تكون متوازنة. فالمسألة برمَّتها مسألة طاقة أساسًا: هناك طاقة واحدة فاعلة على المستويات الثلاثة، لكنها تتمايز على كلِّ مستوى. وكل خلل في مستوى من هذه المستويات ينجم عنه اختلال في التوازن، أي مرض – فالمرض، في النتيجة، مسألة اختلال في الطاقة. والتنفس هو المصدر الرئيسي للطاقة التي تغذي الجسم. فعندما نتنفس، نحن لا نتنفس الأكسجين فقط، بل نتنفس طاقةً ساريةً في الكون بأسره. ومن شأن التنفس الصحيح، العميق، أن يساعدنا على المحافظة على توازُن الطاقة وعلى حسن توزيعها في أجسامنا.

هناك نمطان رئيسيان من التنفس: التنفس الصدري والتنفس البطني (العميق). غالبية الناس تستعمل التنفس الصدري، وهو عبارة عن شهقات وزفرات قصيرة غير منتظمة، لا تمتلئ خلالها الرئتان وتفرغان إلا جزئيًّا (بمقدار النصف في أحسن الأحوال). عندما يُشهَق الهواءُ نتيجة تقلص عضلات الصدر، ينتفخ القفص الصدري ويرتفع الكتفان. هذا النمط من التنفس يترافق عادة مع استجابة الجسم لإنذارات الخطر، الأمر الذي يضع الجسم في حالة stress مستمرة: انفعالات القلق والتوتر والجزع العاطفي كثيرًا ما ترتبط بهذا النمط من التنفس.

نمط التنفس الثاني يدعى التنفس الحجابي (أو البطني). وفيه يملأ هواء الشهيق الرئتين تمامًا ويتم الزفير بانقباض الحجاب الحاجز (وهو العضلة الفاصلة بين تجويفَي الصدر والبطن). ونمط التنفس هذا يستعمله الوليد، وكذلك الراشد في أثناء نومه العميق. والتنفس الحجابي مرتبط باستجابات استرخاء الجسم، وهو بذلك يقلل من التوتر العضلي ومن مشاعر القلق المرتبطة بالـstress. كيف؟ عن طريق العصب القحفي العاشر (المبهم) الذي يعصِّب الأحشاء الحيوية. فبمجرد أن يستتب إيقاع تنفسي هادئ وتتنفس الرئتان في عمق، ينعكس هذا الأمر على الدماغ، فيهدأ نشاطه الذهني.

طريقة هذا التنفس بسيطة جدًّا. ولتيسير العملية، ضعوا اليد اليسرى على الصدر واليد اليمنى على أسفل البطن، مع إبقاء اللسان ملتصقًا بسقف الفم. اشهقوا شهيقًا عميقًا عبر المنخرين، تاركين الهواء يملأ الرئتين تمامًا، مع نفخ أسفل البطن، وليس أعلى الصدر، ثم ازفروا الهواء، من الأنف أيضًا، في بطء وهدوء. احرصوا على إفراغ الرئتين بقدر المستطاع.

تمرين

في هذا التمرين، وفي جميع التمارين البسيطة التالية، يجب ارتداء ثياب قطنية خفيفة فضفاضة والاحتفاء (من غير جوارب). يمكن لنا القيام بتمرين التنفس ونحن جلوس على الطريقة الهندية؛ ومَن يجد صعوبة في تلك الجلسة يمكن له أن يجلس على كرسي غير مائل الظهر. فالمهم، في كلِّ الأحوال، أن يبقى العمود الفقري متعامدًا مع الحوض. أما في تمارين الاضطجاع، فيجب الاستلقاء على حِرام أو بطانية (يستحسن أن يكون من القطن أو الصوف). فلنبدأ معًا.

[...]

لنحاول الآن أن نشعر بدخول الهواء في جسمنا في أثناء التنفس. أذكِّر بأن الشهيق والزفير يتمان عن طريق الأنف وبأن اللسان يجب أن يبقى لصيقًا بسقف الفم. ستلاحظون بأن الزفير المديد أصعب من الشهيق في البداية.

[...]

سحر أبو حرب: التمرين حرضني على التثاؤب، وبدأت أشعر بالنعاس!

ديمتري أڤييرينوس: هذا أمر طبيعي يجب ألا يقلقك. ثم إننا جميعًا متعبون بعد يومين من النشاط الذهني المكثف! الدماغ معتاد على استقبال كمية معينة من الأكسجين، والتنفس المديد لا يُمِد الدماغ بالكمية التي هو معتاد عليها لتغذية نشاطه الذهني العادي – ومن هنا التثاؤب. فالتثاؤب منعكس فسيولوجي غايته إمداد الدماغ بطاقة إضافية.

[...]

سنحاول الآن أن نشعر بالاسترخاء، مع تسليط الانتباه على جزء معين من الجسم، مثل الكتفين. لنشعر بأن الطاقة تدخل في الجسم مع النَّفَس، ولنتصورها على شكل سائل فضي اللون يتدفق من فوق ويتوزع في الجسم ويتغلغل في خلاياه، ومن بعد في الكتفين.

دارين أحمد: ولكن هذا التصور، أليس نشاطًا ذهنيًّا؟

ديمتري أڤييرينوس: بلى، لكن النشاط الذهني في أثناء الاسترخاء العميق هو غيره عندما يكون الذهن في حالة تشتت.

[...]

ديمتري أڤييرينوس: لنحاول الآن الانتباه إلى التنفس، مع استحضارنا في الذهن صورة شخص عنف بنا أو عانينا عنفًا بسببه، أي خضنا معه تجربة مريرة أخرجتنا عن طورنا. لنحاول، ونحن في هذه الحالة من الهدوء، استحضار صورة هذا الشخص وسبر انفعالاتنا تجاهه.

[...]

سحر أبو حرب: تذكرت الشخص، وعاد إليَّ الغضب!

جوني صاموئيل: استحضرت صورة شخص آذاني، لكني لم أشعر بأيِّ شيء تجاهه. استبدلت به شخصًا آخر، ولم أشعر بشيء أيضًا. لقد آذاني هذا الشخص سابقًا، لكني الآن لم أعد أشعر بالكراهية نحوه. حتى إني حاولت استثارة مشاعر الغضب في نفسي، ولم أستطع!

غيث الحركي: الموقف لم يحدث معي، بل مع أحد يهمني أمرُه. لدى استحضاري موقف الظلم، شعرت شعور الضحية نفسه.

محمد علي عبد الجليل: استحضرت الموقف، لكنه لم يسبِّب لي الآن أي انفعال كما سبب في السابق.

أميمة الخش: استرجعت صورة شخص معين، ولم أشعر بالحدة نفسها بانفعال التقزز والنفور الذي شعرت به أول مرة.

كاجو كاجو: أنا أيضًا استحضرت عدة أشخاص، ولم أشعر بانفعال تجاههم لأنني كنت في حالة انتباه.

ديمتري أڤييرينوس: جميل! هذا ما سنصل إليه...

محمد العمار: فهمت من التجربة أننا يجب أن نستحضر موقف تعنيف، فنرى ما رسب من هذا الموقف في داخلنا...

ديمتري أڤييرينوس: نعم، ولكن يجب ألا نفترض النتيجة سلفًا! ما نحاول أن نراه هو: هل إن استحضار موقف العنف من جديد يحرك الانفعالات نفسها تجاه الشخص العنيف ونحن الآن في حالة هدوء واسترخاء؟

محمد العمار: مجرد استعادة الحدث بالذاكرة يعني أنه مازال راسبًا. في موقف تعرضتُ له، لم أستعد هدوئي خلال الساعة الأولى، ولا خلال اليوم الأول حتى، بل لاحقًا.

كاجو كاجو: الزمن والمنطق والتبرير الفكري هو ما غيَّر موقفك الانفعالي. نحن الآن نحاول أن نرى ماذا يحصل في حالة الشهود الداخلي...

ندره ع. يازجي: ما الفرق بين الشاهد الداخلي و"التمسحة"؟

ديمتري أڤييرينوس: ليس المقصود أن يصير المرء عديم الإحساس، لامباليًا، بل العكس. حضور الشاهد الداخلي، في الواقع، هو الحالة "الرواقية"، كما ذكرت هذا الصباح، هو الحالة التي لا ننفعل فيها بالأحداث، فلا تكون تصرفاتنا مجرد ردود أفعال، وبهذا نحتفظ بزمام المبادرة والفعل. من طبيعة الشاهد الداخلي أنه لا يتأثر بشيء لأنه لا يدافع عن شيء!

ندره ع. يازجي: لكن العملية قد تبدو أشبه بنوع من غسل الدماغ!

ديمتري أڤييرينوس: على رسلك، دعني أوضح. فربما كانت أدمغتنا في حاجة إلى "غسل" فعلاً! – غسل من الأفكار النمطية والآراء المسبقة والصور الوهمية. في صورة عامة، كل واحد منا، عندما يفكر بنفسه، يستحضر صورة معينة رسمها عن شخصه. وتتراكب هذه الصورة الشخصية مع صورته الاجتماعية في نظر الآخرين، لتشكلا معًا درعًا واقية يدافع بها عن نفسه، بحيث إن كل ما يصيب هذه الصورة من اعتداء خارجي، نفسي أو مادي، يستثير مقاومة لحمايتها. هذه الصورة غير موجودة فعلاً، بل هي لعبة، لعبة وهمية من اختلاق الذهن وحسب. المشكلة هي في التماهي identification مع الصورة الذهنية عن نفسنا الذي قد يحرض مقاومةً عنيفةً جدًّا في كثير من الأحيان.

غيث الحركي: ما علاقة هذه الصورة الذهنية بالانتباه والشاهد الداخلي؟

الانتباه والشاهد الداخلي

ديمتري أڤييرينوس: فلنتكلم على الانتباه أولاً. الانتباه هو، في طور أول، عدم الشرود مع تداعيات الخواطر والأفكار والذكريات المتوالية والانفعالات، وإبقاء الوعي حاضرًا في اللحظة الراهنة، وتاليًا، وعي كل ما يجري، في الداخل والخارج، الآن وهنا؛ هو، في عبارة أخرى، عدم الانطلاق من نقطة مفترَضة (غالبًا ما تتركز في الرأس) لوعي الأشياء. وهذه العملية، على صعوبتها، لا تحتاج إلى بذل جهد، بل فقط إلى استدعاء حضور الوعي كلما أفلت شاردًا وراء الخواطر وتداعياتها. وهذا بالطبع يعني أن الانتباه يسجل آنيًّا كلَّ ما يجري داخل المرء وحواليه، بحيث لا يعود الوعي تراكميًّا.

عندما يجري الكلام على "الانتباه" غالبًا ما تتبادر إلى الذهن حالةُ "تركيز" تتم انطلاقًا من نقطة معينة واقعة داخل الجمجمة نحو الخارج. لكن أغلب الظن أن هذا ناتج عن اعتيادنا الخاطئ على تركيز وظيفتينا الشعورية والفكرية في الرأس – أقول "الخاطئ" لأننا، عندما نفرح أو نحزن أو نتألم أو نغضب، هل نستطيع أن نحدد نقطة معينة من الجسم يتركز فيها الفرح أو الألم أو الغضب إلخ؟ بالمثل، عندما نستمع إلى صوت – موسيقى مثلاً – أين تتم عملية السمع؟ ربما كان استقبال الذبذبات الصوتية يتم عبر مجرى السمع؛ لكن، هل تتركز الوظيفة السمعية في الرأس وحده، أم أننا نستطيع أن نمدَّ إحساسنا بالصوت إلى أيِّ عضو من أعضاء جسمنا؟ – إلى البطن مثلاً. عندما يستمع المرء، مثلاً، إلى موسيقى رفيعة، يشعر بعد حين أنها تستولي على ساحة وعيه الداخلية، بحيث إنه لا يبذل أي جهد للإصغاء، فيصير وعيه كلُّه – للحظة – هو الموسيقى. يمكن له عندئذٍ، دون أدنى جهد، أن يدرك بأن الإصغاء لا يتم في الناحية السمعية فقط، بل يشمل الرأس كلَّه، ثم يمتد إلى أنحاء الجسم كافة، حتى يصير الجسم كلُّه إصغاء.

الانتباه، في طور ثانٍ، هو أن يكون الوعي حاضرًا، شاهدًا، لحظة تنتأ الخاطرة أو الفكرة أو الانفعال من تربة الذهن، وكأنها نبتة صغيرة تنمو، وتتفرع، وتورق، وتزهر، ثم تذبل، وتسقط ميتة، والوعي ما يزال حاضرًا، شاهدًا، دون أن تكون ثمة حاجة إلى مراكمة شيء في اللاوعي، وذلك لأن الوعي يشهد كلَّ ما يجري ولا يفلت منه شيء. هذا هو الشاهد الداخلي. إن الأمر أشبه ما يكون باحتراق كامل لا تنتج عنه "نفايات" تلوِّث الجوَّ الذهني وتعيق سيولة الطاقة وإمكانية استحضارها. هذا هو المفتاح إلى تحويل طاقة الانفعال، كالغضب مثلاً، إلى "غضب خلاق"، إذا جاز التعبير؛ إذ يمكن لنا هنا تسديد طاقة العنف الخارجي إلى هذا الغضب، لحظة ظهوره، لاعتراضه وتحييده، ثم تحويله.

نأتي الآن إلى العلاقة بين التفكير والتذكر والانتباه. إن سرعة تداعي الأفكار في الذهن هي التي تخلِّف الانطباع بأن الأفكار حلقات في سلسلة مترابطة؛ لكن الواقع هو غير ذلك. دونكم مثالاً على ذلك مشاهدة الفيلم السينمائي: إن عرض الفيلم – وهو مؤلَّف من صور مستقلة الواحدة عن التي تليها وتفصل بينها فراغات – بسرعة 16 صورة في الثانية هو الذي يجعلنا نتوهم الاتصالية في الصورة المتحركة، بينما سرعة العرض هي التي تولِّد هذا الوهم. كذلك الأمر في الذهن الذي تبزغ فيه الخواطر والأفكار والانفعالات متوالية، سريعة، لكنْ مستقلة بعضها عن بعض. هذا "الفراغ" بين كل خاطرة وخاطرة، بين كل انفعال وانفعال، هو المنفذ إلى مستوى آخر من الوعي.

من هنا ليس المطلوب في الانتباه هو وقف التداعيات قسرًا – وهو أمر متعذر مبدئيًّا –، بل رصد الذهن وهو يعمل، دون جهد أو قسر ولا إدانة للنفس في حال الفشل (أي دون عنف ذاتي)، ودون استعجال للنتيجة – أي التحلِّي بالأناة والصبر. ومن هنا أيضًا، ليس من الضروري التفكير دون شرود، بل "رؤية" هذا الشرود عندما يحصل رؤية واعية. هذه العملية لا تلغي التفكير – وليس المراد قطعًا إلغاءه –، بل تجعلنا نعي آليته التكرارية الناتجة عن الربط التعسفي بين الأفكار والانفعالات من خلال الذاكرة. مثال: إذا شتمني أحدهم أو عنَّفني ذات يوم، فسوف أستعيد بالذاكرة، كلما رأيت شاتمي أو معنِّفي أو تذكرته، مشهد الشتم أو التعنيف مترافقًا بالانفعالات السلبية التي انتابتني حينذاك، فأعود وأعيش الحالة نفسها، حتى بعد انقضاء سنوات على الحادثة (وقد يكون الشخص صار قديسًا في غضون تلك المدة!). قياسًا على ذلك، يمكن لنا أن ندرك سائر الروابط الذهنية بين الانفعالات والذكريات ونستوعب العنف الناتج عنها.

هذا يقودنا إلى الكلام على الذاكرة. الذاكرات نوعان (التمييز لكريشنامورتي): ذاكرة معلوماتية، تقنية، لا غنى عنها في الحياة اليومية والمهنية؛ وذاكرة نفسية، انفعالية. أنا، كمدرس لغة، عندما يسألني طالب عن مسألة في النحو يجب أن أستحضر من ذاكرتي القاعدة المطلوبة. كذلك الأمر عندما يفكر المرء فيما يقرأ أو يرى أو يسمع أو يقال له أو يفكر فيه أو يشعر به إلخ. المشكلة تبدأ عندما ترتبط الذاكرة المعلوماتية بانفعال – لذة أو ألم، انجذاب إلى شيء أو نفور من شيء آخر –، بحيث إن مجرد استدعاء ذكرى معينة يولِّد من جديد الانفعال الذي رافق وقوعها، كما في مثال الشاتم أو في الصور الذهنية التي حاولنا استحضارها من خلال التمرين.

السؤال الآن هو: هل يستطيع المرء أن يكسر الرباط بين الذكرى والانفعال، بحيث يحيا كلَّ خبرة جديدة وكأنه يحياها للمرة الأولى؟ لاحظ، غيث، أنني لا أتحدث هنا عن قمع الانفعال عندما يحدث، لأن القمع تعنيف ذاتي، بل عن رؤيته (= الانتباه إليه) كما "أشاهد" خواطري وأفكاري تمامًا، ليس بعد حدوثه، لكنْ في أثنائه. استدعاء الحضور لا يتم بقمع الشرود، بل بالانتباه إليه كلما حصل.

والانتباه، مبدئيًّا، ليس الإحاطة بموضوعات عدة في وقت واحد، بل إبقاء الوعي حاضرًا وحسب. إذا كنت تقرأ في كتاب يجب أن يكون وعيك حاضرًا في فعل القراءة وحده؛ وإذا كنت تأكل فيجب أن تأكل فقط. المهم أن تفعل كلَّ ما تفعل آنيًّا وكأنه أهم شيء في العالم!

مكمن الصعوبة في أن ذهننا قد اعتاد طويلاً أن يعمل مستقلاً، دون استدعاء الوعي الآني كشاهد على نشاطه. لذلك فهو أشبه بالقرد الذي يقفز من غصن إلى غصن دون أن يستقر على حال. من هنا صعوبة الأمر والفشل المتكرِّر في البداية – وهذا أمر متوقَّع. والصعوبة تزداد عندما نحاول أن نُكرِهَه بإرادتنا على السكون (= عنف)؛ في حين أن رصده من غير بذل جهد إرادي يخفف من شروده ويُبقيه مركزًا على الموضوع الذي يتعامل معه آنيًّا، مستجيبًا لمتطلبات اللحظة الراهنة.

والانتباه، في حدِّ ذاته، لا يتم إلا الآن، أي لا يتم ضمن سيرورة الزمن: ماضي – حاضر – مستقبل. لكن استتبابه كطريقة طبيعية، عفوية، في التفكير يحتاج إلى مواظبة – بمعنى أن كلَّ فعل يقوم به المرءُ في انتباه كامل، دون أن يثنيه الفشل عن المتابعة، ينضاف إلى رصيده وييسِّر الأمر يومًا بعد يوم، بحيث إن ترسيخ الانتباه يجعل أحيانًا سيرورته مستمرة، حتى حين ينشغل الوعي بموضوع جديد...

غياث جازي: الشاهد الداخلي في بداية عمله هو رقيب إذن. ولكن، هل لك أن تتوسع في الحديث عن المقاومة لحماية الصورة الوهمية؟

ديمتري أڤييرينوس: الشاهد الداخلي راصد فقط، وليس "رقيبًا" (بالمعنى الفرويدي مثلاً). أما المقاومة، فقصدت بها التشنج الدائم الذي نلحظه لدى الإنسان المتماهي identified مع شخصيته، مع "أنا"، الذي يرى الوجود دائرًا حولها وحسب، فيقاوم عوامل الحياة بتشكيل درع واقية يدافع بها عن نفسه – هذه المقاومة (وهي أصل العنف) يجب أن تتوقف إذا أراد أن يختبر حضور الشاهد الداخلي. أود، في هذا الصدد، أن أحكي عن خبرة شخصية مع العنف.

كنت في سنتي المدرسية الأخيرة حين وقعتْ في دمشق حادثةُ تفجير الأزبكية الأليمة [1981] التي أودت بحياة العشرات. أتذكر أننا كنا يومذاك نتابع في الصف درسًا في البيولوجيا، حين تناهى إلى سمعنا صوت زختين متتاليتين من طلقات الكلاشنكوف، تلاهما بعد لحظات دوي الانفجار المروع. في لمح البصر، انفتحت مصاريع نافذتَي الصف وارتطمت في عنف بالجدار وتكسر بعض زجاجها وتناثر شظايا صغيرة. وفي برهة، صار التلامذة كلهم تحت المقاعد، وأستاذ البيولوجيا، الذي كان عادةً مثالاً حيًّا على البلادة والملل الدائمين، تهاوى تحت طاولته مذعورًا، وتعالى نشيج الصبايا الهستيري – هذا كله جرى خلال عشر ثوانٍ على الأكثر!

توقف الزمن لحظة الانفجار. بقيت جالسًا على مقعدي، أرصد ساكنًا ما يجري من حولي وكأنه لا يعنيني شخصيًّا في شيء. نظرت إلى يميني، ووقع بصري على أحد أصدقائي الذي ظل جالسًا، مثلي، على مقعده. وللمفارقة، تبادلنا ابتسامة حزينة! واليوم، بعد مضي حوالى 25 سنة على الحادث، أستطيع أن أسترجع ما حدث في أدق تفاصيله، فأتذكر تعبيرات وجوه رفاقي تشي بذلك الخوف الذي نحمله جميعًا في قيعان نفوسنا – بذلك الهلع الحشوي من الفناء الذي رأيته يومذاك رأي العين والذي أعرف، بالخبرة، أنه في الجذر من شقاء الإنسان وعنفه وسائر أوهامه.

قطعًا لم يكن ديمتري هو الذي مرَّ بهذا الاختبار، وليس لي، بالتالي، أن أدعي فيه لنفسي شجاعة خارقة من أي نوع! ما جرى هو أن الصدمة قذفت بديمتري في لحظة خارج محور وعي الأنا المعتاد، ليحل محلَّه وعيٌ آخر يشاهد الأحداث، لكنْ من غير أن ينفعل بها، متخللاً الذهن في شعور عجيب بالهدوء والتماسك الداخلي، وكأن أعضائي وجوارحي التي كانت مشتتة في كل الاتجاهات تتخذ، للمرة الأولى في حياتي، موضعها الصحيح.

ذلك التماسك هو الذي مكنني، بعد أن جاء موجِّه الثانوي متظاهرًا بالهدوء وطلب منا أن نغادر المدرسة في نظام، أن أهرع لمساعدة أحد المسعفين، حين ناداني عند بوابة المستشفى المجاور للمدرسة، على حمل أحد المصابين، وأمعاؤه مندلقة من بطنه، إلى الداخل من غير أن يرف لي جفن – وأنا الذي كان حسبي قبلئذٍ أن أرى نقطة دم لكي أصاب بالدوار! وحده شعور حاد بكل ما يجري كان يحركني وكأني آلة في يده.

لن أسترسل في الحديث هنا عما رأيت في بهو استقبال المستشفى من مناظر مروعة، وعما انتابني من خواطر ومشاعر ألم رهيب أمامها. حسبي القول إن خواطري ومشاعري كانت تُختبَر فيَّ ولم أكن مَن يختبرها. كان الشاهد الداخلي حاضرًا يومذاك وكأنه منفصل عن الأحداث (وهذا جواب ممكن عن سؤالك، غيث، هذا الصباح)، مع شعور عجيب بأنه، في الآن نفسه، حاضر في كلِّ شخص يراه، متفاعل معه.

ما طبيعة هذا الوعي الآخر؟ ما كنه تلك الخبرة؟ أفترض اليوم أنها كانت "تذوقًا" لما يمكن أن يكونه وعينا الطبيعي حين لا نتماهى مع صورتنا عن نفسنا.

كاجو كاجو: الأفضل عدم الكلام عن خبرات كهذه لأن اللغة عاجزة عن التعبير!

الاسترخاء

الاسترخاء تقنية في متناول الجميع، يمكن القيام بها في الحياة اليومية. وهي، بالطبع، لا تحتاج إلى عقاقير، وليست لها، بالتالي، أية آثار جانبية. والتمرن على الاسترخاء ليس صعبًا. الاسترخاء وسيلة فعالة لمواجهة انفعال الغضب – أصل العنف، كما رأينا – وللوقاية منه في الآن نفسه، وكذلك لمعالجة التعب العصبي إجمالاً، بكل الاضطرابات التي تنجم عنه. الاسترخاء وسيلة فعالة للوقاية من الأوجاع الناجمة عن الانقباضات العضلية والتوتر العضلي عمومًا (وشعورنا بالتعب الدائم ناتج عن هذا التوتر، حتى إذا لم نبذل جهدًا عضليًّا فعليًّا)، أو للتخفيف منها، ووسيلة رفع عتبة تحمل الوجع والـstress. وهو يعين على القلق الذي يسبق الأعمال الصعبة التي تتطلب شجاعة خاصة. أذكِّر بضرورة الانتباه إلى التنفس في أثناء القيام بالتمارين.

تمارين

وضعية الوقوف

التمطط: تمطَّطوا بقدر المستطاع نحو الأعلى ونحو الجانبين (عموديًّا وأفقيًّا). مدوا الذراع اليسرى إلى فوق أعلى ما يمكن، ثم اتركوها تسقط في رخاوة بتأثير ثقلها وحده. كرروا التمرين مع الذراع اليمنى. ثم شدوا الذراعين معًا إلى فوق قبل إسبالهما على جانبي الجذع في رخاوة.

التنطط: اتركوا الذراعين مدلاَّتين وتنطَّطوا في أماكنكم في قفزات صغيرة بحيث لا تفارق القدمان الأرض إلا قليلاً.

الأرجحة: باعدوا بين الرِّجلين بحيث تقع كل رجل على العمود النازل من الكتف إلى الأرض. انحنوا قليلاً إلى الأمام تاركين الذراعين تتدليان في رخاوة. أرجحوا الجذع من اليسار إلى اليمين وبالعكس بحيث تتبع الذراعان الحركة. كرروا الأرجحة عدة مرات، ثم توقفوا تاركين الذراعين تعودان إلى نقطة الوقوف. ابقوا عند هذه النقطة دقيقة أو اثنتين.

ضربة السوط: ارفعوا الذراعين إلى الأمام على مستوى الكتفين، ثم أسبلوهما إسبالاً حرًّا، بحيث تضرب اليدُ الفخذَ ضربةً خفيفةً فيما يشبه قرع السوط. كرروا الحركة والذراعان مسترخيتان، حتى الإحساس بارتياح مفاصل الكتفين. أنهوا الحركة والذراعان إلى الخلف.

الدائرة الكبرى: هذا تمرين لتحمية العضلات. اثنوا الركبتين وحاولوا مسَّ الأرض والذراعان ممدودتان على الجانبين. حاولوا ما أمكن إبقاء العمود الظهري عموديًّا، وستجدون أنكم مضطرون إلى التوازن على أصابع القدمين. توقفوا عندما تمس إصبع اليد الوسطى الأرض. ارفعوا الذراع اليسرى ومدوها إلى أعلى ما يمكن، ثم ارسموا باليد في الهواء، بعكس دوران عقرب الساعة، دائرة واسعة، مع الحفاظ على توازن الجسم، ثم أكملوا رسم الدائرة حتى الأسفل. كرروا الحركة نفسها باستعمال الذراع اليمنى، لكن باتجاه دوران عقرب الساعة.

وضعية الاضطجاع

قبل التمطط، ابدؤوا بالتدحرج ذات اليمين وذات الشمال. مطوا ظهوركم ثم قوِّسوها. مدوا الذراعين نحو الأعلى، ثم استرخوا استرخاءً تامًّا: اليدان رخوتان، العينان مغلقتان، الرجلان متباعدتان قليلاً، التنفس هادئ وعميق. ثم ضموا الساقين واثنوا الرجلين في زاوية قائمة. ابدؤوا بالاسترخاء، تاركين الساقين تتباعدان من تلقائهما، حتى تسترخي الساقان والرسغان وأصابع الرجلين استرخاءً تامًّا. اشعروا بالاسترخاء يسري ببطء في كل عضو من أعضاء الجسم، بدءًا من أخمصي القدمين حتى قمة الرأس.

اليوغا

يسمح اليوغا الجسماني (هاتها اليوغا hatha-yoga) للجسم باكتساب بنية متينة، صحيحة. به يسترجع العمود الفقري مرونته، تهدأ الأعصاب المستثارة، تسترخي العضلات، وتنتعش المراكز العصبية والأجهزة الحيوية. يشتمل الجانب الجسماني من اليوغا على عنصرين أساسيين: وضعيات الجسم (آسنا asana) والتنفس الموجَّه (پراناياما pranayama). غير أن الجانب الذهني يلعب هو الآخر دورًا لا غنى عنه. إن ممارسة منتظمة لليوغا من شأنها أن تساعد على التغلب على التوتر والـstress والقلق والخوف والغضب، أي على جميع مسببات العنف. اليوغا وسيلة فعالة لضبط النفس من غير جهد، وهو يعزز الهدوء والثقة الحقيقية في النفس (وهذه لا تمت بصلة إلى صورتنا عن نفسنا، لعبة التماهي الداخلية التي ذكرناها)، حتى وسط صخب الحياة اليومية وإيقاعها السريع.

تمارين

تمرين للظهر: التمرين التالي ممتاز لإراحة الظهر المتعب، المعنَّف به، ولتقوية العضلات. تمددوا على الظهر، والركبتان مثنيتان، وأريحوا الذراعين، والراحتان إلى الأعلى، على طول الجسم. ثم مع أخذ شهيق عميق، ارفعوا الجذع والإليتين عن الأرض أعلى ما يمكن. ابقوا في الوضعية نفسها مع إمساك النفَس، ثم ازفروا الهواء في لطف مع إنزال الجسم على الأرض. كرروا التمرين من خمس إلى عشر مرات، خصوصًا إذا كان أحدكم يعاني مشكلات قطنية أو عجزية حرقفية، أو إذا كان ظهره ضعيفًا أو موجعًا.

تمرين للعنق: العنق منطقة حساسة جدًّا للعنف والـstress. وهذا التمرين يزيل احتقان العنق، يقوي عضلاته، ويطرد التوتر المتراكم فيه. تمددوا على الظهر، ثم ارفعوا الجذع بالاتكاء على المرفقين. ألقوا بالرأس إلى الخلف واحنوه حتى يستند إلى الأرض في ثبات. ظهوركم الآن مقوسة، الجزء الأعلى من أجسامكم محمول على المرفقين وعلى قمة الرأس. حافظوا على هذه الوضعية مدة حوالى ثلاثين ثانية، مع التنفس العميق.

تمرين لتقوية العمود الفقري: هذا التمرين يزيد من مرونة العمود الفقري، مما ييسر الاسترخاء. تمددوا على الظهر، والرأس يبعد حوالى 50 أو 55 سم عن الجدار (المسافة الدقيقة تتناسب مع طول كل منكم). خذوا شهيقًا عميقًا، ثم ألقوا بالساقين من فوق الرأس إلى الوراء حتى تلامس القدمان الجدار. ثم ازفروا الهواء مع القيام ببضع خطوات على طول الجدار باتجاه الأرض. حافظوا على هذه الوضعية بضع ثوانٍ، مع التنفس العميق.

الوقت الأمثل للقيام بالتمارين

قد يتفق للمرء ألا يشعر بأنه في حال بدنية مثلى عند القيام بالتمارين، لا لشيء إلا لأنه يقوم بها في وقت غير مناسب من النهار. وحرارة الجسم هي في الواقع مؤشر جيد لتحديد أطوار ميل نشاط الجسم إلى التكاسل وأطوار إقلاعه. على سبيل المثال، حين تكون الحرارة منخفضة، فهذا وقت الهبوط والنوم، وحين ترتفع، فهذا هو وقت الإقلاع والنشاط.

تتراوح حرارة الجسم السوي صباحًا بين 36.7 و37 درجة مئوية، ومساءً بين 37 و37.3 درجة. وعندما ترتفع، دون بلوغ نقطة أوجها، فإن فترة ما قبل الظهيرة هي الأنسب لتعاطي النشاط الذهني. ثم ما تلبث الحرارة أن تثبت بين الرابعة بعد الظهر والسابعة مساءً، فيكون هذا الوقت هو الأنسب لتعاطي النشاط البدني؛ إذ يستطيع الجسم أن يقوم به من غير أن يتأذى، ناهيكم أن الجهود تتم في سهولة أكبر والنتائج المحصول عليها على صعيد الصحة عمومًا تكون أفضل. في المقابل، إذا لم يكن في الإمكان التمرن في الوقت الأنسب من النهار، من الممكن اختيار وقت آخر. فإذا اخترتم فترة الصباح، ينبغي عليكم معايرة الجهد المبذول بمباشرة التمارين في لطف. ملاحظة أخيرة: ينبغي القيام بالتمارين بعد ساعتين على الأقل من تناول الطعام؛ والأهم، أولاً وأخيرًا، هو الانتباه إلى التنفس.

مرمريتا، 21 تموز 2007

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود