|
الصوم
عملاً مدنيًّا يعود
فضلُ الريادة في جعل الصوم عملاً مدنيًّا إلى
المهاتما غاندي. فقد استعمله أ.
إما للاستغراق
في ذاته واستمداد قوة روحية قبل نهوضه لعمل
واسع النطاق، ب.
وإما للاعتراض
في شدة على ظلم مخصوص بعينه، واضعًا حياته
الشخصية على كفة الميزان، ت.
وإما لاستنهاض
مواطنيه لئلا تخور عزيمتُهم وليواصلوا
الكفاح. فإذا كانت الإما الثانية
والإما الثالثة راهنتين، فإن الإما الأولى
ليست أقل منهما شأنًا من أجل أن ينطق الجوهري
فينا في قوة، معلنًا فاعلية الروح على عطالة
المادة. صوم أو إضراب
عن الطعام؟ حين يمسك عن الطعام إنسانٌ
محروم من حق، محروم من الحرية، من الكلام، أو
من العمل، في وجه "خطر محدق" لأنه يعدم
وسيلةً أخرى للفت الأنظار إلى الظلم الواقع
عليه، فإن الفعل من حيث المبدأ هو هو، سواء
سُمِّي "صومًا" أو "إضرابًا عن الطعام". لقد بات من الشائع إطلاقُ
تسمية "إضراب عن الطعام" على صوم يستهدف
الضغط على السلطات العامة[1].
وهذا الصوم كثيرًا ما يكون لمدة غير محدودة،
الأمر الذي قد يعرِّض حياة الصائم للخطر. فهو
لا يتوقف إلا إذا تمت تلبيةُ مطلبه تلبيةً
مُرضيةً في نظره[2].
وبحسب القناعات الفلسفية أو الروحية
للممسكين عن الطعام، يمكن لبعضهم أن يستعمل
مصطلح "صوم" ولبعضهم الآخر أن يستعمل
مصطلح "إضراب عن الطعام". نفضل، من
جانبنا، مصطلح "صوم" نظرًا لدلالته
الروحية العميقة[3]. يبقى هذا العمل، مهما كانت
دوافعُه المذهبية، صرخة، نداءً يطلقه المرءُ
بكيانه كلِّه. إنه، بمعنى ما، شهادة تضامن
مع جميع الذين يقاسون الجوع في أبدانهم، مع
جميع الجائعين إلى العدل والبر، مع المحرومين
من حقٍّ أو أكثر من حقوقهم، من جراء تحويل
وجهة العدالة أو القانون عن غاية الخير العام
إلى مأرب أو مآرب معاكسة له. بعض
الاعتبارات العملية الصوم متاح لجميع المتمتعين
بصحة طيبة ممَّن لا يتبعون علاجات طبية لا
يجوز لهم قطعُها من دون مخاطر (مضادات
استطباب، أمراض قلبية أو كلوية...). والصوم، بالمعنى الذي نقصده
هنا، ليس تناول لون معين من الطعام دون آخر،
ولا هو الانقطاع عن الطعام والشراب والجنس
لفترة معينة من اليوم[4].
الصوم المدني المقصود هنا هو الإمساك التام
عن الطعام، نهارًا وليلاً، مدة يوم واحد على
الأقل. الكثيرون من المضربين عن
الطعام يحتسون الشاي أو القهوة المحلاة. لكن
هذا لا يُنصَح به صحيًّا على الإطلاق؛ فهو
يحول دون "حالة الصوم" والاستتباب، بما
هي توازُن جديد يطرأ على البنية النفسجسمية.
فعملية الهضم تحتكر كمية كبيرة من الطاقة.
وليس أدل على ما نذهب إليه من أن الحيوانات
المريضة أو الجريحة ترفض القوت بتاتًا. ففي
الصوم يوضع الجسم في حالة الراحة
الفسيولوجية، بحيث يقتات بمخزونه من
الكربوهيدرات والدهون وبخلاياه التالفة.
الصوم ينظف أنسجة الجسم ويحوِّلها. والأشخاص
ذوو الصحة البدنية الطيبة يطيقون 30 وحتى 40 يوم
صيام وأكثر. هذا وينبغي أخذ عمر المرء
العازم على الصوم ووزن جسمه ومقاومته
بالحسبان، بما أن الصائم يفقد حوالى 500 غ من
وزنه كلَّ يوم. وعلى كلٍّ أن يشعر بحدوده، لكن
هذا لا يكفي: فلا غنى عن إشراف طبي خبير على
الصائمين، يشمل قياس العلامات الحيوية (وخصوصًا
الضغط الشرياني) والسهر على سلامة الحالة
الذهنية[5]. الصوم هو، أولاً وقبل كلِّ
شيء، صرف الفكر عن الصوم. الصوم يبدأ في
الفكر. فلا الخائف ولا المصاب باختلال
ذهنيٍّ يجوز لهما أن يواصلا الصوم. المزاج
الطيب هو خير مناخ للصائم. بعض الصائمين
يزول عندهم النعاس أو الحاجة إلى النوم
أصلاً، لكن هذا ليس مبعثًا على أيِّ قلق؛
فالجسم، من جانبه، يرتاح. وعلى الصائم، إبان
نهاره، أن يحرص على العمل والتريض في اعتدال
والاستحمام، فلا يضطجع إلا عندما يعتريه تعب. ولا بدَّ من الشرب وقسر
النفس عليه، من لتر واحد إلى لترين من الماء
الزلال يوميًّا. هذا ويمكن لبضع قطرات من عصير
الليمون ممزوجةً بالماء أن تكفي غالبًا
للتغلب على العديد من مشكلات التكيف مع
التوازن الفسيولوجي الجديد. اليومان أو الأيام الثلاثة
الأولى هي الأصعب تحملاً في أغلب الحالات،
وذلك بسبب تحريض منعكَس الجوع (وجزء كبير منه
شرطي) وإشراطنا على ملذات المائدة، المرادفة
في وعينا للحياة. ففي غضون يومين أو ثلاثة،
ينصاع الجسم للحالة الجديدة ويكف عن الجوع. وحتى لا يكون الصوم شاقًّا
جدًّا على البنية، يحسن بنا أن نستعد له في
الأيام السابقة لمباشرته باتِّباع حمية
نباتية والامتناع التام عن: اللحوم، السمك،
البيض، اللبن ومشتقاته، المشروبات الكحولية
والمحلاة، التبغ. وبعضهم، مثل غاندي، ينصح
بتنظيف المصران (الحقنة الشرجية). وتتناسب صعوبة إنهاء الصوم
طردًا مع طول مدته. إن عودة عجولة إلى الطعام
فيها خطر شديد على الجسم، ومن شأنها أن تتسبب
في اضطرابات هضمية بالغة. فالشهية سرعان ما
تعود مضاعفةً مرات عدة. لذا ينبغي الاحتراس
وعدم الانصياع لها من غير تروٍّ. وخير عودة إلى الطعام
عمومًا تكون بتناوُل حساء الخضار (دون بطاطس
أو بصل أو براصيا، لأنها قد تسبِّب غازات
معوية). وهنا أيضًا لا بدَّ من استبعاد
الأطعمة التالية من الوجبات الأولى: اللحوم،
السمك، البيض، الألبان، الشوكولاتة بالحليب،
الكحول، الشاي الأحمر، السكريات، الحلوى.
وبعد الخضار المسلوقة يمكن تناول الفاكهة
المسلوقة (الخشاف) دون سكر، ثم الفاكهة النيئة.
ثم يمكن تناول الرز غير المقشور والمعجنات
التامة، قبل العودة إلى الحمية المعتادة. لا
مناص، إذن، من التقيد بمبدأ التدرج
ومراقبة كميات الطعام. قد يصعب على بعضهم أن
يحدَّ من شهيته، لكن هذا لا غنى عنه. اختيار مكان
الصوم يحسن بالصائمين أن يختاروا
مكانًا للراحة قاعةً غير التي يستقبلون فيها
الزوار ويعقدون اللقاءات مع الصحافة والرفاق
المناضلين والأصدقاء. وهم يحلمون دومًا للنوم
والراحة (وإن لم يكن هذا متيسرًا دومًا) بحجرة
هادئة، واسعة، حسنة التهوية، مدفَّأة في
الشتاء. كما أن وجود الحمام والمرحاض على
مقربة منها ليس من قبيل الترف: إذ إن الصائمين
تنبعث من أبدانهم رائحة أسيتون قوية ناتجة عن
استقلاب سكريات الجسم. وإذا كان مقر
السكريتاريا في غرفة مستقلة، مع مأخذ هاتفي
أو اثنين، فهذا هو الأنسب. ولا بدَّ من وصل هذا
المأخذ الهاتفي قبل مباشرة الصوم بيوم على
الأقل حتى يتم ترتيب كلِّ شيء عشية اليوم
الأول. "إخراج
درامي"! في الصوم المدني، على كلِّ
صائم أن يكون مستعدًّا لقطع صيامه إذا اقتضت
الأمرَ أسبابٌ طبية قاهرة. وحذارِ من استدعاء
أطباء لم يخبروا حالة الصوم، فيصيبهم الهلع!
الصائم لا يضحي بنفسه، بل ينذر بضعة أيام من
حياته استنهاضًا للرأي العام وللسلطات بحركة
فيها من الشجاعة والجسارة ما فيها، لكنها لا
يجوز أن تنتهي إلى مأساة. إذ كيف نصوم من أجل
الحياة ونعرِّضها للخطر في آن؟! الصوم المدني
– وهو صوم سياسي بامتياز – "إخراج
درامي"، إذا جاز القول، للوضع الذي يعيشه
مجتمعُ الصائم. فهذا يريد أن يقول في اختصار:
"هذا الوضع السياسي الموسوم بالشرعية
ينتزع من أفواهنا لقمة العيش، ونحن نريد أن
نفضح أنه وضع جائر!" وفي هذا "الإخراج
الدرامي" الذي يأخذ فيه الصائم على عاتقه
الكثير، قد يصعب عليه، إذا لم يكن متمرسًا، أن
يعرف حدوده فلا يتخطاها. لذا ينبغي على "لجنة
دعم الصائمين" أن تسهر على هذا الأمر. ولا
بدَّ هنا من التزام مبدأ الحيطة؛ ولا تجوز
مخالفة هذا المبدأ من غير المجازفة بتأييد
الرأي العام. وأخيرًا، لا يغيبنَّ لنا عن
بال أنه قد يتفق لبعضهم أن يصوم 15 يومًا وأكثر
دون أن يحرك أحدٌ ساكنًا. بينما إذا حظيت
القضيةُ المدافَع عنها بتأييد شخصية مرموقة،
سياسية أو غير ذلك، تأتي فتشارك المضربين أو
الصائمين إمساكًا عن وجبة طعام واحدة، يمكن
للموازين أن تنقلب رأسًا على عقب. غاية
الصائمين أن يبلغوا مرادهم؛ فيجب ألا يفوتهم
أن طريقة بلوغ هذا المراد قد لا تكون حكرًا
عليهم. ملاحظة أخيرة هو ذا الصوم، إذن: فعل قطيعة
مؤقتة مع رتابة حياتنا اليومية الموقَّعة –
شئنا أم أبينا – على إيقاع وجبات الطعام. فإذا
كنا ميسوري الحال، قد تُنسينا لذةُ الطعام
الجيد أننا بذلك قد نتعاون مع ما يسترقنا،
تنسينا أننا نقبل طوعًا ما يأتينا في صحوننا.
فإذا لم يتخطَّ احتجاجُنا حوافَّ مائدتنا أو
كتاباتنا (أو شاشة حاسوبنا)، فإننا نترك الحبل
على الغارب لمن يضعون قواعد اللعبة في العالم
على حسابنا! إذ ذاك يُخشى علينا، إذا لم
نكن أيقاظًا، أن نجد أنفسنا، غدًا أو بعده، في
وضع غير عكوس. وبذا لن نعدم القدرة على قول "لا"
وحسب، بل سنعدم أيضًا خبزنا كفاف يومنا الذي
نتدبر أمر تأمينه اليوم، وإنْ في صعوبة. الصوم هو الجهر بعزيمتنا
والإصرار على حريتنا. وفي ظننا أن هذه الصرخة
لا بدَّ أن تلقى آذانًا مصغية. ***
نقاش
دارين أحمد: قلتَ، ديمتري، إنه يمكن للمضرب عن الطعام أن يصوم مدة خمسة عشر يومًا دون أن يحرك أحدٌ ساكنًا. ربما كان في الإمكان عندئذٍ اعتمادُ خطة معينة تتمثل في تكرار الصوم المدني لأمد محدد، أو يمكن تنفيذ الصوم في عدة أماكن في الوقت نفسه، مع تركيز إعلامي مكثف عليه. ديمتري أڤييرينوس: قطعًا ممكن. هذا يتعلق بإستراتيجية العمل اللاعنفي، وهو يُقرَّر مرحليًّا بحسب الهدف المطلوب، ويسدَّد بحسب الفئة المُخاطَبة، أكانت الرأي العام أو الخصم أو كلاهما معًا. فكما تكلَّمنا على تسديد العنف، يجوز لنا الكلام هنا على تسديد اللاعنف: إلى مَن تتوجَّه رسالتنا؟ مَن نخاطب بصومنا المدني؟ حميدة تعمري: تعقيبًا على الحديث، أضيف أنه أحيانًا، بحسب إستراتيجية العمل المتَّبعة، يتم اللجوء إلى نوع من الصيام محدد المدة، هو "إضراب احتجاجي" بمثابة "جس النبض"، يُباشَر بعده الصومُ الرئيسي. ديمتري أڤييرينوس: يذكر جان ماري مولِّر في قاموس مفردات اللاعنف نوعين من الإضراب عن الطعام: الأول هو نوع محدود المدة ومُعلَنُها للجهات المعنية، والغرض منه الاحتجاج على ظلم مخصوص بعينه واستنهاض أصحاب القرار الخصوم وتوعية الرأي العام؛ والثاني نوع غير محدود المدة أو "مفتوح"، قد يتم اللجوء إليه عندما لا تستجيب الجهة المعنية لمطلب الصائمين، وهؤلاء يقومون به معلنين عزمهم على مواصلته حتى تحقيق مطلبهم، أي حتى يُرفَع الظلمُ الذي يشجبونه. الإضراب غير المحدود عن الطعام ليس مجرد عمل توعية وإقناع وضغط، بل يراد له أن يكون عمل إكراه. لكننا يجب أن ننتبه إلى أن الصوم المدني في هذه الحالة ليس معاندة، ليس "نطح حيط"! اللاعنفي، كما قلت، حريص على حياته لأنه يعمل في سبيل الحياة. حميدة تعمري: عندي تجربة شخصية في الصوم المدني. في البداية، بدأنا الصوم لمدة ثلاثة أيام؛ وقد سمينا هذا العمل "إضرابًا احتجاجيًّا"، ولكن لم يُؤخذ إضرابُنا على محمل الجد. انتظرنا مدة أسبوع، ثم باشرنا "إضرابًا مفتوحًا"، كما سميناه وقتذاك. لم يحرك أحد ساكنًا إلا بعد سبعة أيام من الإضراب المفتوح؛ وقد تم اللجوء إلى القوة لإنهائه، لكننا في النهاية حصلنا على بعض المطالب. من التقنيات الغذائية التي ابتكرناها آنذاك أننا غلينا ماءً وذوبنا فيه بعض السكر وبعض الملح فيما يشبه السيروم، فكنا نشرب الماء العادي فقط، ومَن تتعب منَّا تشرب قليلاً من هذا السيروم. المهم في التجربة هي الحالة الروحية الخاصة بهذه الخبرة. بعد الأيام الثلاثة الأولى، التي كان الغالب فيها هو الصداع والدوخة، أصبحت كل واحدة منا على علاقة خاصة مع الداخل: بمعنى أننا كنا سابقًا نختلف على أمور بسيطة، ولكن بعد الأيام الثلاثة الأولى من الصوم، استرخت ملامحنا جميعًا، وتراجَع الشعورُ بالخوف الذي كنا نشعر به سابقًا. يشبه الأمر القول إن النساء بتن متوحدات مع دواخلهن في حالة هي "حالة الجوع" ربما. أريد فقط أن أقول إنني اختبرت هذه الحالة؛ والمهم فيها كان التألق الروحي الداخلي، بالإضافة إلى معاملة الأطراف التي لم تشارك معنا التي كانت في منتهى الإنسانية. ديمتري أڤييرينوس: بمجرد أن يعزم المرء على نوع من كسر الإيقاع اليومي المبتذل، فإنه يضفي على نفسه تلقائيًّا، من حيث لا يدري، نوعًا من الهيبة. عند الناس، عمومًا، تصور مسبَّق بأن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن الطعام، أو لنقل، لا يستطيع الانقطاع عن عاداته الغذائية المألوفة. أما عندما يقاوم المرء استبداد عاداته أو يكسرها، كسرًا طوعيًّا واعيًا طبعًا، فإن الإشعاع أو هالة الطاقة التي تشع منه عفوًا تفاجئ الآخرين وتترك فيهم أثرًا إيجابيًّا. رندة الديك: ما علاقة اليأس بالتجربة التي تحدثتِ عنها، حميدة؟ عبد الرحمن الشاغوري: المعذرة للمقاطعة، لكني أود أن أذكر أني مررت بحالة مشابهة تقريبًا، لكنها كانت لاشعورية، غير موعيَّة في البداية، حتى إنني لم أنتبه إلى أني صائم إلا عندما سُئلت: "لماذا أنت مضرب عن الطعام؟" في الواقع، لم أكن أعرف أني مضرب، بل كانت نظرتي إلى الطعام آنذاك متعلقة بسؤال: لماذا تقوم الجهة المعنية بإطعامي؟ ألأستمر في الحياة فقط؟! – حتى صار عندي نفورٌ من الطعام. عندي تعليق على ما ذكرتْه السيدة حميدة عن السلام الداخلي: ذلك أني في تلك الفترة عشت هذه الحالة من السلام، وقد تساءلت عن السبب. جوابي كان أني وضعت نصب عيني الموت نهايةً للتجربة. جميعنا نخاف الموت، لكني في تلك اللحظة اعتبرت أني ميت سلفًا، قلت لنفسي إنني سوف أموت، الآن أو بعد قليل. أعتقد أن عدم الخوف كان بسبب دنوي فكريًّا من الموت، من اللحظة العدمية. حميدة تعمري: من جانبي، أرى الموضوع رؤيةً مختلفة، ومن خلال رؤيتي هذه سأرد على رندة. أريد أن أتكلم عن السلام، ليس فقط عن السلام الخاص بي، بل الخاص بجميع البنات اللواتي شاركنني خبرة الصوم. أتصور أن اليأس كان في البداية أحد دوافع بعض البنات إلى الخوض في التجربة، لكنْ بعد الإضراب اختلف الأمر. الصوم منحني قوة، طاقةً على الاستمرار، شجعني على الدخول إلى عالمي الداخلي. إبان تلك الأيام تنطلق مئات المونولوجات الداخلية في ذهن الإنسان، ويبدأ بالشعور بقيمة الحياة، حواسه تصبح أرهف. ما أظنه هو أنه عندما يلجم الإنسان إحدى الحواس تتفتح حواس أخرى وتنضج. كانت الخبرة، كما أراها، وقفة أمام الذات ومصدرًا للطاقة. اليأس كان فقط أحد المحرضات على البدء بالخوض في التجربة، لكنه تلاشى بعد البدء بها. ديمتري أڤييرينوس: على سبيل المشاركة في الإجابة عن سؤال رندة، أقول إننا أشبه ما نكون بالشجرة: جذورنا هي الجانب غير الواعي من نفسنا، الجانب اللاشعوري العميق، ووعينا هو الأغصان. وأحيانًا تكون الجذور الضاربة في الأرض أطول وأعمق وأعقد من الأغصان بكثير. أو يمكن لنا أن نُشبِّه النفس بجبل الجليد، حيث اللاوعي هو الجزء منه المغمور في الماء، بينما الوعي هو الجزء الظاهر. إذا لم تكن للإنسان صلةٌ بحياته الداخلية العميقة، بـ"جذوره" إذا صحَّت المقارنة بالشجرة، فإن طاقته الداخلية، التي تُمِد وعيَه فعلاً بالحضور والقدرة وإمكانات العمل، تضعف، فيصيبه تدريجيًّا نوع من الخواء والضعف في قواه النفسية عمومًا؛ نظرته إلى الحياة تصبح أميل إلى السوداوية، يكابد نوعًا من فقدان المعنى، وفي الوقت نفسه، يشعر بالخمود والكآبة والإنهاك الدائم. وفي حال القطيعة مع الأعماق، تستبد بالإنسان هواجس اكتئابية يمكن أن تصل إلى حدِّ الهواجس الانتحارية. قوى الموت، إذ ذاك، تتغلب على قوة الحياة، لأن الإنسان يفقد المعنى الذي يُمِدنا بالقدرة على الحياة والنشاط والاستمرار. هذا الكرسي، مثلاً، حيادي، وهو يستمد معناه في وعينا من وظيفته في حياتنا. الأشياء كلها تستمد معناها من تفاعلنا معها. عندما يضعف هذا التفاعل نفقد المعنى تدريجيًّا وندخل في حالة اكتئاب أو يأس شديد. إذ إن المعنى ليس شيئًا ناجزًا، معطى سلفًا، أو معلقًا في الهواء لنقطفه. أما في مناخ السكينة الداخلية التي يساعدنا الصوم على الشعور بها، فتُسترجَع الصلة مع الداخل ويتألق المعنى. كما ذكرت حميدة، فإن عملية الهضم – خصوصًا مع عاداتنا الغذائية السيئة! – تستهلك أو تشتت قدرًا هائلاً من الطاقة. أما في الصوم، فتُستحضَر الطاقةُ حضورًا مركزًا وتعزِّز عمل أجهزة الجسم الأخرى، بما فيها الحواس: البصر يحتد، السمع يرهف، حساسية الصائم النفسية ترق، وكذلك اهتمامه لتصرفات الآخرين – هذه الملَكات كلها تقوى وتستدق. وبمقدار ما يكون وعي المرء أدق وألطف، يصبح أقدر على التحمل وأوسع صدرًا. فالطاقة حاضرة، متوفرة كلَّ آن، وتألق المعنى يكون في اكتشاف الإنسان للآن، في عيش ملء اللحظة الحاضرة. في حالة فقدان المعنى، يسيطر على المرء الخمود والخواء واللامبالاة. أما ما يسمِّيه الرواقيون بـ"اللامبالاة" ataraxia (وهو يعني حرفيًّا "غياب الاضطراب")، فليس عدم الاكتراث لكلِّ ما يحصل، بل هو نوع من استقلالية الوعي عن الانفعال بالأحداث الجارية، هو عدم التأثر بها، والشعور بالسكينة المطلقة التي هي مبدأ السعادة الحقيقية عندهم. يحضر الشاهد الداخلي في كلِّ آن. إپكتيتوس واحد من كبار الفلاسفة الرواقيين. كان عبدًا يميِّزه الجذل الدائم، حتى في أقسى الظروف، وكان ينفذ الأعمال المطلوبة منه كلَّها بكلِّ ارتياح ورحابة صبر، مما كان يغيظ سيده أپفروديتوس، إذ كان سلوك عبده يبدو له غير معقول. ويُحكى أن الغيظ بلغ منه يومًا أنه وضع إپكتيتوس في آلة للتعذيب، حيث ربط قصبة ساقه بآلة كلما شدَّ حبلها ازداد الإيلام. وعندما بلغ من شد الحبل نقطةً حرجة، قال له إپكتيتوس بكلِّ برودة أعصاب: "شُدَّ أكثر وسوف تكسر ساقي." إذ ذاك استشاط أپفروديتوس غضبًا وشد الحبل أكثر، فانكسرت ساق العبد الفيلسوف. فكان "رد فعله" الوحيد أن قال: "أرأيت ما فعلت، ألم أحذرك؟" إذ ذاك انهارت دفاعات السيد، فأعتق عبده، ويقال إنه أصبح واحدًا من تلاميذه. آنذاك لم يكن هذا الفعل يسمَّى "لاعنفًا"، لكنه في الواقع كذلك. غيث الحركي: في خصوص حضور ما سميتَه "الشاهد الداخلي"، ألا يمكن أن يحدث ازدواج في الوعي؟ ديمتري أڤييرينوس: مفتاح حضور الشاهد الداخلي هو الانتباه الدائم. يمكن للمرء عبر هذا الانتباه أن يطور حساسيته الداخلية، على أن ينمِّي في ذهنه وحواسه القدرة على استحضار الذات الواعية في كلِّ ما يفعل ويقول ويحس به ويفكِّر فيه – بمعنى ألا يكون وعيه غائبًا عن هذه النشاطات، بل حاضر بقدر المستطاع. من شأن هذا الحضور الداخلي، متى استتبَّ استتبابًا طبيعيًّا – وهذا يتطلب رصدًا داخليًّا دائمًا –، أن يجعل المرء يشعر بالأشياء شعورًا أدق وأعمق بكثير مما هو معتاد وأن يجعل استجاباته لمستجدات الحياة في كلِّ لحظة أكثر عفوية وحرية وفطنة. وهذا الانتباه الدائم هو السبيل إلى ضبط النفس "الرواقي"، كما رأينا، وإلى تحويل العنف جذريًّا كذلك. هذا في اختصار، لكننا سنتوسع في طرح مسألة الشاهد الداخلي هذا المساء. مرمريتا، 21 تموز 2007 *** *** *** [1]
راجع: جان ماري مولِّر، قاموس
مفردات اللاعنف، مادة "الإضراب عن
الطعام"، معابر. [2]
مثال من حياة المهاتما يجمع بين غايات الصيام الثلاث المذكورة صومُه
الأخير الكبير حتى الموت وقفًا للاقتتال
بين الهندوس والمسلمين في أعقاب تقسيم
الهند (1947). للاطلاع على تفاصيل ذلك الصوم،
راجع: أديب مصلح، السياسي القديس:
المهاتما غاندي، سلسلة "النوابغ" 1،
منشورات المكتبة البولسية، طب 1: بيروت، 1992؛
ص 377-399. [3]
الصوم، لغةً، هو الإمساك والسكون عن العمل،
كالصوم عن الكلام أو السير أو الطعام
والشراب أو النكاح (عبد الله البستاني، الوافي).
والصوم كذلك: الصمت؛ ويقال: صام منيَّته:
ذاقها (الفيروزآبادي، القاموس المحيط). [4]
كما في الصوم
التقليدي المسيحي وصوم شهر رمضان، على
التوالي. [5]
للاطلاع على
التغيرات الفسيولوجية والنفسية والذهنية
والسلوكية التي تطرأ على بنية الجائع، راجع:
شارمان أبت راسيل، "تجربة الجوع"،
بترجمة صفاء روماني، مجلة الثقافة
العالمية، العدد
139، نوفمبر/ديسمبر 2006؛ ص 30-51.
|
|
|