مركزيَّة الأنا أصل العنف
ثقافة التسامح والحوار، العقيدة والمبدأ، الخلاف والاختلاف، الوعي

 

لقاء مع ندره اليازجي

 

ديمتري أڤييرينوس: حين أعود بالذاكرة إلى ما قبل حوالى 25 عامًا، أتذكر أننا كنا على مقاعد الدراسة الثانوية نستمع إلى الأستاذ ندره اليازجي يدرِّسنا مادة الديانة المسيحية، التي كان كتابها في الصف الحادي عشر مبوبًا على الشكل التالي: "المسيحي والصداقة"، "المسيحي والكنيسة"، "المسيحي ومصائب الحياة"، إلخ. فإذا بنا نُفاجأ بأن كلمة "مسيحي" تزول ليصبح الحديث عن الصداقة؛ تختفي كلمة "كنيسة" ليجري الحديث عن الهيكل: ما معنى أن يكون الإنسان في كيانه ذاته "هيكلاً" للحضور الكوني، للحضور الروحي؛ تفقد كلمة "مصيبة" معناها، ليصبح الكلام على الصعوبة[1].

وأتذكر، بكثير من الحنين، كيف كانت عقولنا الفتية تصغي. وفي الحقيقة، أشعر بأن ما أنا عليه الآن، بشكل أو بآخر، إن كان يعني شيئًا ما فلأنه تأسَّس على قاعدة تلك الأيام التي لا تُنسى.

الأستاذ ندره غني عن التعريف: مفكر وفيلسوف من الثلَّة الصغيرة، إن لم نقل من الندرة، في العالم العربي وفي العالم، التي ثبتت على مبادئها دون مهادنة. فهو، منذ خمسين عامًا، ثابتٌ على مبادئه الإنسانية ومنهاجه الروحي، بكلِّ حضور وإصرار، في هذا المجتمع المتأرجح في مهبِّ الريح. له مؤلَّفات عديدة في مختلف مناحي الحياة: الفلسفة الأخلاقية، الفلسفة الروحية (الدينية بالمعنى العميق)، علم نفس الأعماق، وفلسفة العلوم. ومن يود الاطلاع اطلاعًا أوفى، والتعرف إلى شمولية هذا الفكر الإنساني والكوني، يمكن له مراجعة معابر، حيث نشرنا ما يزيد عن 20 نصًّا لهذا الفيلسوف الكبير الذي أتشرف بتقديمه لكم اليوم.

ندره اليازجي: بينما كان ديمتري يتحدث كنت أفكر بماذا يمكن أن نتباحث سوية. وكما أظن، فقد دار بينكم الحديث، بالأمس، حول القضايا الإنسانية الكبرى المتصلة بالوعي الإنساني، الترياق الأوحد للعنف. شاركت مؤخرًا في ندوة حول "ثقافة التسامح". لا أريد هنا أن أكرر ما قلت في تلك الندوة، لكنني وجدت أنه إذا طُلِبَ مني البحثُ كمحاضرة فسأقوم بجمع ثلاثة عناوين كنت قد كتبت فيها وأنشئ بينها علاقة.

ثقافةُ التسامح والحوار – الحوار بين البشر طبعًا – ضرورةٌ ماسةٌ حتى نتوصل إلى نتيجة مجدية في هذا العالم الظاهريِّ التناقض. لقد حاولت أن أوفِّق بين مفهوم الحوار وبين ثقافة التسامح، طبعًا مع بعض المفاهيم الأولية حول ما نسميه "التسامح"، المؤدي إلى اللاعنف في النتيجة. كما أنني سأحاول أن أعقد صلةً بين مفهومَي الحوار وثقافة التسامح، من جانب، وبين مفهوم المبدأ، من جانب آخر.

ما هي المبادئ التي تساعدنا على تحقيق ما نسميه بالتسامح وما ندعوه بالحوار؟ اعتمدت في موضوع المبادئ، في الدرجة الأولى، على المبادئ الثلاثة الرئيسية التي تنادي بها الحركة الثيوصوفية[2] في العالم، ثم استنتجت منها مبادئ أخرى. ما علاقة ما سبق بالحوار؟ لقد ميزت في كتابي الطريق إلى الحوار[3]، في "ثقافة التسامح"، وفي قضية المبادئ، بين كلمتين أو مصطلحين هما: "المبدأ" و"العقيدة". غالبًا ما يخلط الناس بين هذين المصطلحين؛ إذ نجد مَن يقول: "هذه عقيدتي" وهو يعني في الواقع: "هذا مبدئي". بينما العلوم الأساسية، كالرياضيات وسواها، تتحدث عن مبادئ العقل. بالطبع يصح أن نقول "مبادئ الرياضيات"، لكن لا يجوز لنا أن نقول "عقائد الرياضيات"! ولذلك حاولت أن أستنتج الفرق بين العقيدة والمبدأ. فالصلة بين مفهوم المبدأ وبين مفهومَي الحوار والتسامح صلة أكيدة، بينما الصلة بين العقيدة وبينهما صلة كاذبة.

العقيدة، إجمالاً، هي تصلب المبدأ. فعندما يتصلَّب المبدأ لا بدَّ أن ينقسم إلى عقائد. وهذا ما يسبِّب التعصب والكراهية بين الناس. ولذلك ربطت بين العقيدة وبين التعصب. وبالفعل، كثيرًا ما ينادي البشر بالعقائد، سواء على المستوى المذهبي/الطائفي أو على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو العائلي أو العنصري أو التجمعي. إذ ذاك تضيع الحقيقة، ويتجرد الإنسان من المبادئ التي تيسِّر اللقاء بينه وبين الآخر.

على الإنسان أن يبحث عن المبادئ – المبادئ الطبيعية والإنسانية والكونية – التي من خلالها يستطيع التواصل مع الآخرين أو الحوار. لكنْ مع تصلُّب العقائد أو تحجُّرها، يغدو من الصعب جدًّا إطلاق عملية المشاركة والتفاهم والحوار. لذلك حاولت أن أنشئ صلةً بين المفاهيم الثلاثة التي ذكرتها سابقًا.

وبالعودة إلى كلمة "تسامح"، أقول: التسامح لا يعني فقط أن أقول لأحدهم: "سامحتك!" إذ يمكن لي بذلك أن أعتبر نفسي أفضل منه أو أفهم منه أو أصدق. بينما التسامح الحقيقي هو الفهم، هو الوعي: كيف أصغي إلى الآخر بحيث أكون قادرًا على فهمه. وإلا يتعذر مدُّ جسر بيني وبينه، مادمت، منذ البداية، قد وضعت جدارًا بين تفكيري وتفكيره أو حصرت فكري وفكره ضمن قناة أسميها "العقيدة". في هذا الحالة، نفتقر إلى إنسانية متطورة ومنفتحة. هنا يكون العقل المنفتح والقلب المنفتح ضرورةً أكيدة، مثلما من الضروري إنشاء بنية عقلية ونفسية قابلة للحوار من خلال المبادئ عامة أو عِبْرَ تبنِّي مثل هذه البنية. إذ ذاك يعرف البشر كيف يحبون بعضهم بعضًا.

هناك شيء آخر يسمِّيه بعضهم "العوائق"، وأنا سمَّيته الأقنعة. الأقنعة كثيرة. في الفلسفات الشرقية هناك تركيز على إزالة القناع. فمادمت أضع قناعًا لا أستطيع أن أرى الآخر كما يجب، كما هو فعلاً. القناع هنا هو التعصب وسوء الفهم والتمسك بالرأي وعدم القدرة على الانفتاح على الآخر. في هذا الحالة، بالفعل، نجد الناس يتألبون بعضهم ضد بعض، ومن المستحيل في مناخ كهذا أن يلتقوا ضمن إنسانية واحدة. ذلك أن الإنسانية الواحدة تتطلب المبادئ. ولا شك أن هذه المبادئ تساعدني على التعرف إلى الآخر. هنا قد يعترض بعضهم: مادام الناس يميلون إلى العقائد أكثر منهم إلى المبادئ فما السبيل إلى التعارف إذن؟ التعارف هو الفهم، هو الإصغاء.

هناك فرق بين السماع والإصغاء – كالإصغاء، مثلاً، عندما يتكلم غيري. عندما يحدثني أحدهم من خلال العقائد – تركنا المبادئ الآن – يجب أن أصغي إليه، يجب أن أركِّز انتباهي حتى أفهمها كما يجب، بوعي كبير. حين يتفهم الناس العقائد يصبح هذا الفهم، في حدِّ ذاته، نوعًا من الانفتاح أو السبيل أو الطريق لأن يلتقوا أكثر وأكثر. طبعًا من الأفضل أن يميز الناس ما نسمِّيه "المبادئ"؛ ولكن في حال بقاء العقائد أو الإبقاء عليها، من الضروري أن نتفهمها كما يجب، وكما قلت، بوعي كبير. وفي هذا الحالة، نضيِّق على العقائد ونفسح المجال لنوع من الانفتاح. ولكن البقاء ضمن العقيدة لا يساعدنا على الخروج منها إجمالاً، حيث يبقى الكلام مجرد كلام. يعجبني، في هذا الخصوص، بيتٌ من الشعر لمحي الدين بن عربي:

عقد الخلائق في الإله عقائدًا * وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه

في كتابي الطريق إلى الحوار، تحدثت عن ابن عربي الذي كانت لديه القدرة على الانفتاح فعلاً. حاولت أن أفسر هذا البيت من الشعر – وتفسيره ليس بالسهل! فهل المقصود هنا هو أنه "عقد" الكل، أي جمع الكل، أم أنه أبطل "تعقيد" الكل، بحيث أصبح من السهل عليه أن يتفهم حقيقة ما يوجد عند الآخر؟ يقول ابن عربي أيضًا:

لقد صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ * فمرعًى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثـانٍ وكعبةُ طـائفٍ * وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدين الحبِّ أنَّـى توجَّهتْ * ركائبُه فالحب ديني وإيمـاني

لقد تأملت كلَّ تفصيل من تفاصيل هذه الأبيات. فمثلاً، عبارة "مرعى لغزلان" تشير إلى الطبيعة الجميلة التي لا تميز أحدًا عن أحد، تشير إلى الجمال في الطبيعة، إلى الخير في العالم. ثم "دير لرهبان": المسيحية طبعًا. و"بيت لأوثان": اعتراف بأن فيما يسمَّى "وثنية" أيضًا صورة من صور الحقيقة الكلِّية. و"كعبة طائف": الكعبة الداخلية، كما تقول رابعة العدوية. لقد استطاع ابن عربي فعلاً أن يجمع الكل. إذًا حينما يقول "وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه" يعني أنه ألَّف في ذاته بين الجميع. لكنه ذكر "العقائد" أيضًا؛ أي أنه عندما استعرض العقائد وجد أصحابها جميعًا يتخالفون ويتناحرون. لكنه تفهَّم هذا التناحر، ومن ثمَّ دعا إلى اللاعنف قبل التسمية، إلى المحبة، فأصبح دينُه "دين الحب"!

بذلك استطاع ابن عربي أن يقدم لنا شيئًا نفيسًا. ليس من ضرورة لأن أقول إنه ليس الوحيد الذي فعل. فقد اطلعت على أفكار علماء–حكماء عديدين. فماذا يرى هؤلاء؟ كثيرون منهم أدركوا أن هناك وحدة كونية تجمع الأجزاء في تلاحُم وتشابك وتبادُل نسميه، بحسب النظرية العامة للمنظومات General Systems Theory، بـ"التواكل" interdependence بين الأجزاء. ما يعني أنه لا وجود لجزء معزول. في الجسم الواحد، القلب ليس معزولاً، الدماغ ليس معزولاً، لا وجود لعين معزولة؛ العين ترى للجسم كلِّه، والأنف يشم للجسم كلِّه، والمعدة تأكل للجسم كلِّه. أي أن هناك وحدة ضمنية. هذه الوحدة، على مستوى الإنسان، نسميها الإنسانية، نسميها المبادئ، نسميها القدرة على الفهم والمعرفة المتمثلة في الوعي.

هذه هي فعلاً المبادئ الأساسية الضرورية لإنشاء الحوار وتحقيق التسامح من خلال القيم التي تجعلني غير قادر على الانتماء (وأقصد بـ"الانتماء" هنا الانتماء المتطرف، بمعنى العقيدة)، وذلك حتى لا أمهِّد لنفسي افتعال أسباب الصراع مع غيري أو عدم التفاهم معه. بهذا المعنى، أصبحت أنظر إلى كلِّ إنسان على أنه إنسان فقط، أي جرَّدتُه في نظري من اسمه ومن خلفيته التي لا جناح عليه فيها، مع التأكيد على ضرورة السعي للتخلص من ضيقها. هذا ما تعلَّمته من حكماء كبار، مثل كريشنامورتي أو سواه: الانتقال من الانغلاق إلى الانفتاح.

تكون البذرة منغلقة أولاً؛ ثم تنشأ منها شجرة، تعود إلى الانغلاق في بذرة من جديد. كذلك برعم الورد ليس له شذى؛ لكنه عندما يتفتح عن وردة فإن شذاها لا يبقى لها، بل للآخرين. عملية الانفتاح، إذن، عملية رائعة جدًّا نادى بها كبار الحكماء في هذا العالم. حتى في الفيزياء نستطيع أن نرى ذلك فيما يسمَّى بـ"المستوى ما دون الذري" subatomic level، وهو مجال البنى الأساسية التي كان يعتقد الإغريق (ديموقريطس) أنها تشكل جوهر المادة وتشكل الحياة وتشكل الوعي. فبالوصول إلى أصغر جزء ممكن، نجد أنه لا وجود للكتلة، بل يصير كل شيء طاقة. وقد قام علماء نفس أفذاذ باستقاء هذا الأنموذج paradigm من الفيزياء، وطبَّقوه على معرفة النفس.

الآن، لقد أتيت إلى هذا العالم، فصُنِّفتُ منذ الصغر بحسب عقيدة معينة، وليس فقط العقيدة الدينية، بل الطائفة. بل لعل أمِّي قالت لي يومًا: "لا تلعب مع ابن الجيران، فهو ليس من مستوانا الاجتماعي"، إلخ إلخ. هذا النوع من التربية الانفعالية الذي تم التركيز عليه أدى إلى تصليب أنانيتي. الأنا هي الأنا. ثم جاءت الأنا التجمعية. وأنا بعدُ صغير، كنت أحب أن يكون لي أصدقاء من جميع الفئات. اعترضتْ عائلتي – والعائلة غير الأسرة، العائلة كبيرة –، فكانت حين تسألني أقول إنني أرافق أولادًا من جميع الانتماءات.

تصلُّب الأنا يقود إلى عدم قبولها أيَّ شيء على الإطلاق؛ أي أنها تصير واحدة الاتجاه. كلمة "واحدة"، للأسف، ذات صلة مع "الوحدة". لذلك الأصح ألا نقول "واحدة الاتجاه" بل مركزية التوجه. أو لنقل إن الأنا تصير بلا اتجاه، فتدور حول نفسها. وليتنا نستطيع أن نقول إنها "تدور في فراغ"، لأن الفراغ في الفيزياء هو حقل من الطاقة. تصلُّب الأنا عملية تركيز وعملية تفريغ للأنا من فهم ذاتها. يعجبني، في هذا الصدد، تمييز ابن عربي بين الأنانية والأنانة. الأنانية مركزية؛ أما الأنانة، كما فهمتها، فهي فهم الأنا لذاتها. من هنا تبدأ عملية ترسيخ المبادئ، عملية الحرية والانعتاق.

إذ ذاك قد يسألني أحدهم: "هل نرفض كلَّ شيء إذن؟" فأجيبه: نحن لا نطلب من الإنسان أن يغيِّر اسمه. أنا، مثلاً، ولدت في أمريكا الجنوبية التي اكتشفها كريستوف كولومبُس (مع أن أخلافه، مثل كورتيز، أبادوا الشعوب التي كانت تقطن تلك المناطق). وقد أراد والداي أن يسمياني "كريستوف" (وهو اسم لا يعني شيئًا!)، ثم غيروا اسمي إلى ندره. ما هو الفرق؟ لا فرق على الإطلاق! لذلك، في بعض الفلسفات، التي لا تدرَّس في الجامعات للأسف، هناك ما يسمَّى "الاسمية"[4]. الاسمية Nominalism في الحقيقة اسم بلا مسمَّى! لذلك نترك الاسمية إلى الهوية identity. فالهوية هي التي لها معنى: هويتي إنسانية. أما الاسمية فترتبط بكلِّ ما يريد الناس تصنيفه. يسألونني: "ندره، هل أنت مسيحي؟" أجيب: نعم. "أرثوذكسي أم كاثوليكي؟" – وهكذا. وهذا يحدث للمرء في الأديان كلِّها. لذلك أقول: أنا لا أريد أن أرفض كلَّ شيء، بل أسعى إلى التطوير وإلى مزيد من تفتيح الوعي.

لقد وقعنا في الاسمية. والاسمية هي "تقنين" الشخص، "تعقيده". فكيف يمكن التخلص منها؟ أنا، مثلاً، وُلدتُ في كولومبيا، فعُمِّدتُ عند طائفة اللاتين. ثم عاد والدي إلى مرمريتا. نحن، كعائلة، أرثوذكس. والدي أراد أن يصير كاثوليكيًّا، فاحتجَّت العائلة على ذلك. ثم أرسلني والدي صغيرًا إلى مدارس أمريكية. وحين تقدمتُ للعمل إلى وزارة الخارجية في 1955، عام تخرجي، لم أُقبَل هناك لأني درست في مدارس "الپروتستانت"، فصُنِّفتُ ضمن ما نسميه "العقيدة". هذا في خصوص وضعي؛ وغيري أيضًا عانى قطعًا من الشيء نفسه.

لنعد إلى مركزية الأنا. يعترف علم نفس الأعماق التكاملي بالأنا، وهذا صحيح. لكني لست شكلي الخارجي. في بطاقة الهوية ندره طوله كذا، لون عينيه كذا. ولكن الهوية أعمق من ذلك بكثير! علم نفس الأعماق يريد أن يدخل إلى الباطن، كالفيزياء التي تجاوزت ظاهر المادة. علماء الفيزياء استفادوا من تقدم الفيزياء. في علم نفس السلوك كان اتجاه البحث نحو الخارج. عندئذٍ قال العلماء: لماذا لا ندخل إلى الداخل ونرى ماذا يوجد هناك؟ وجدوا أن هناك مركزية الأنا. فلنوسِّعها قليلاً، لنصل إلى مركزية الأسرة: أنا، مثلاً، فلان ابن فلان، ولي أخ أو أخوان، أخت أو أكثر، ولدي التزامات تجاههم. بذا صار التزامي أكبر: أخي يجب أن أساعده ويجب أن يساعدني. ثم تأتي مركزية المجتمع الاجتماعية. طبعًا هناك دوائر صغيرة ودوائر أوسع. ضمن الدوائر الصغيرة، يكون مجتمعي العائلة، مثلاً، ثم العشيرة، فالقبيلة، فالطبقة. لقد أصبحت لدي مسؤوليات أوسع، لكني ما أزال محتجَزًا. مركزية الأنا، مركزية الأسرة، المجتمع، الوطن، إلخ، تنتج عنها مسؤوليات. توسعت الدائرة. لذا يجب ألا أخرب شيئًا، بل يجب أن أحب وطني. المسؤولية توسعت. هناك الآن مركزية العالم: أفكر بماذا يفكر غيري، كيف يتصرف، ماذا يقول. وأخيرًا، نصل إلى المركزية الكونية.

عندما أبلغ حدَّ مركزية العالم، تصبح لديَّ القدرة على الإطلال على المركزية الكونية والقدرة على السمو بمركزيتي – الأنا، الأسرة، المجتمع، الوطن – نحو الانفتاح. عندئذٍ أعرف أنني كائن كوني. محبتي تصبح واضحة، شخصيتي تتألق بالمحبة، بالقدرة على الحوار، بالتسامح. عندئذٍ لا مجال للعنف.

غالبًا ما يأتي العنف من العقيدة – عقيدة (= عقدة) الأنا، مركزية الأنا المنغلقة، التعصب لأهلي فقط، لعشيرتي، لطائفتي، لأمتي، إلخ. في مؤلَّفاتي تكلمت على المركزية التجمعية. أتصور، مثلاً، أنني كنت أمشي في البرية، فرأيت بستان تفاح وأغصان شجرة متدلية على الطريق، فأحببت أن أقطف تفاحة؛ لكن الحارس رآني وصاح بي ليمنعني من ذلك. عندئذٍ لا أجرؤ وأبتعد. لكن لو كان معي ثلاثة أو أربعة أشخاص، وأحببت أن أقطف التفاحة، ومنعني الحارس، لقلت له: "سأقطفها، وأنت لا تستطيع منعي!" هنا أصبحت الأنا تجمعية، لا اجتماعية.

إذًا العقيدة أو التصلب في الرأي، على أيِّ مستوى كان، يبعدني عن الآخر. ولكن كلما توسعت دائرة "أنا"، كمثل قطرة ماء نلقيها في بركة فتصنع دوائر متوسعة، يكون الانطلاق من مركزيتها إلى المركزية الكونية.

ندره ع. يازجي: هل تقصد بـ"المركزية" معنى مكانيًّا؟ – المركز في الوسط وهناك أطراف – أم تقصد بها معنى الهوية؟ هل لك أن توضح؟

ندره اليازجي: في خصوص كلمة "مركزية"، عنيت أن هذه المركزية مرتبطة بالأنا. للتوضيح أعود إلى مفهومَي "الاجتماع" و"التجمع". عشرة من المتكبرين (= الأنانيين)، مثلاً، إذ التقوا، يكون لقاؤهم "تجمعًا". فإذا أحضرنا متكبرًا واحدًا إضافيًّا كانت الزيادة كمية فقط. أما إذا التقى عشرة من المتواضعين (= الطيبين)، وزدناهم متواضعًا واحدًا، يزداد حضور الطاقة، فتكون الزيادة هنا كمية ونوعية معًا. المركزية هي الشيء نفسه. هؤلاء العشرة من الأنانيين، أين كانوا؟ كانوا في غرفة. نُخرِجُهم ونضع مكانهم، في الغرفة نفسها، عشرة من المحبين (= المضحين). الغرفة نفسها جمعت أولئك بمعنى "التجمع" وهؤلاء بمعنى "الاجتماع".

الأنا، إذا كانت متحقِّقة بوظائفها النفسية كلِّها[5]، كما يقول يونغ، يتم التكامل الداخلي. الأنا واحدة، كالغرفة التي جمعت "التجمعيين" و"الاجتماعيين". كلا الفريقين يلتقيان على صعيد واحد: التجمعيون بتجمعيتهم (المتكبرون، مثلاً، يساعدون بعضهم بعضًا)، والاجتماعيون باجتماعيتهم كذلك. الأنا لها مركزية واحدة؛ ولدينا الوظائف النفسية التي، إذا كانت اجتماعية، متفاعلة بعضها مع بعض باتجاه التلاقي، فإنها تنحو نحو الأنانة. أما إذا كانت متضاربة، منقسمة على ذاتها، أو متمركزة في الأنا، تصير أنانية تريد تفسير كلِّ شيء وتسويغه لمصلحتها. وهذا ما تفعله العقائد، سواء على مستوى إيديولوجي، أو سياسي، ديني، مذهبي، تجمعي، إلخ. الأنا قوة توحيد، مركز توحيد. فإما أن تتوحد الوظائف النفسية ويصبح الإنسان متكاملاً في الأنانة، وإما لا، فيبقى الإنسان مشتتًا من الداخل، نهبًا لأنانيته.

هذا ما ركَّز عليه اليوغا. وللأسف قلما ما يُفهم اليوغا الذي هو الاتحاد: الاتحاد مع النفس، الذي من دونه لا يمكن الاتحاد مع الله. الأنا، إذن، لا تشير إلى الأنانية بقدر ما هي مركز توحيد القوى الفاعلة في النفس، أي الوظائف النفسية. وكذلك إذا طبَّقناها على الدائرة التي، إذا قمنا بتقليصها، تصير إلى نقطة. وهذا النقطة، إذا كانت "تجمعًا"، فهي مركزية الأنا. عناصر هذه المركزية، إما أن تكون متوحدة عبر تفاعلها بعضها مع بعض، وإما مشتتة، وإما متمركزة حول الأنا، بادعاءاتها على أساس العقيدة أو العائلة أو العرق إلخ، لكنها متمركزة على ذاتها ومتصلبة في نوع من التوحيد الكاذب. هناك إذن مركزية أخرى، لكنها جامعة، ندعوها الأنانة، بمعنى فهم الأنا. وكلما ازداد فهمُ الإنسان لنفسه زاد تعمقُه في عالم الوعي الذي يساعد على الانفتاح أكثر وأكثر.

تطبيق هذه العملية صعب لأننا مؤطَّرون، مشروطون. منذ الصغر، تعلمت أن أحب فلانًا ولا أحب علانًا، تعلمت الغيبة والنفاق والتمييز بين الناس. أهلي، مثلاً، يقولون عن شخص ما إنه "ثقيل الظل"، ثم عندما يأتي يهرعون للترحيب به! أو يقولون: هذا ليس من فئتك الاجتماعية، هذا ليس من طائفتك أو لا يدين بعقيدتك!

ندره ع. يازجي: هل النفس على استعداد دائم لتلقِّي هذه الأشياء تلقيًا إيجابيًّا؟ أم أن من الممكن اتخاذ موقف. مثلاً، أتلقَّى مؤثراتٍ من الخارج، وأنفِّذ، فيكون صراع بين الداخل والخارج...

ندره اليازجي: عملية الوعي أساسية. لذلك ميزت في كتاباتي بين التربية الانفعالية والتربية الإنسانية. تقوم التربية الانفعالية بتوحيد وظائفي النفسية، لكنْ في اتجاه الأنانية؛ أما التربية الإنسانية فتساعدني على تحقيق انفتاحي. بالطبع، هناك مركزية للأنا: الأنا تبقى أنا. فأنا لا يمكن لي أن أغير نفسي، طولي، شكلي، إلخ. لقد سُمِّيتُ باسم معين رغمًا عني، مُنهِجْتُ، أُشرِطْتُ، إلخ. لكن عملية الوعي هي التي تستطيع أن تحررني. عملية الوعي تساعد على الانفتاح، سواء كان انفتاحًا قلبيًّا أو عقليًّا، الذي، في النتيجة، يساعدني على محبة العالم، التعاطف مع الآخرين، رؤية الحقيقة في كلِّ فرع من فروع المعرفة.

قرأت كتبًا عديدة، أي أني استقيت معلوماتٍ من العالم كلِّه – من فيثاغوراس، على سبيل المثال. طُلِبَ ذات يوم من أساتذة فلسفة أن يتحدثوا عن فيلسوف، بغضِّ النظر عما إذا كانوا يطبقون آراءه أو لا يطبقون، كالمغني الذي يؤدي أغنية لا يشعر بكلماتها! أحدهم يُعلِّم عن سقراط فقط: سقراط قال كذا وكذا. أسأله: وأنت، ما علاقتك به؟! المعرفة عملية تمثل، كالشجرة تتمثل ضوءَ الشمس فيصبح جزءًا من كيانها، تقتات من الأرض فيصبح القوت في كيانها. هذا ما أسمِّيه التربية الإنسانية.

نلقَّن الأخلاق على شكل أوامر أو نواه. الأمور السلبية تأتي على شكل نواه: "لا تكذب!" لقد عارضت هذا الأسلوب في الحضِّ على الأخلاق؛ إذ إن معناه افتراض وجود الكذب كجوهر: فهل الكذب موجود في الفضاء مثلاً؟! بينما أعتقد أن العبارة يجب أن تأتي على شكل أمر أخلاقي: "كن صادقًا!" لا تكذب؟! ما هو الكذب؟ وكيف لا أكذب؟ أين المشكلة في الأوامر والنواهي؟

لقد وجدت أن أساس غالبية العقائد نواه: لا تفعل هذا، لا تفعل ذاك، إلخ. أما الأوامر، مثل "قم بواجبك!"، فأهميتها متأتية من أن الضرورة الوجودية تقتضي القيام بالواجب. إنني من أنصار فلسفة الواجب، ولست من أنصار فلسفة الحق. فالسارق أيضًا ينادي بحقِّه، كل متكبر يطالب بحقِّه! وحتى إذا وَرَدَ أمرٌ في العقائد يصير الأمرُ مُلزِمًا يشبه النهي؛ إذ يكون الأمر متعلقًا بالعقيدة فقط، دون أن يتسع إلى مفهوم الواجب الأخلاقي في حدِّ ذاته.

لهذا نلاحظ أن العقيدة مغلقة إجمالاً. فإذا ما جاء فيها أمر، تجده يأمرك مثلاً: "أحبب أخاك في الدين" – كما كان الأمر عليه في العصبية القبلية تمامًا! هذه الأخلاق نسمِّيها الأخلاق المغلقة. قرأت ذات يوم كتابًا بعنوان الأخلاق دون إلزام. الأخلاق المغلقة تأمرني: خليك هون! بها تتعقَّد الأنا الفردية إلى أنا تجمعية متصلبة. على النحو نفسه تمامًا، إذا كنتُ متكبرًا، وحضرت إلى مجتمع، أسأل عمن معه مال، فأجتمع بهم، وهكذا دواليك.

ما أصعب خروجي من عقيدتي الضيقة، الناتجة عن التربية الانفعالية. لقد رُبِّينا تربيةً انفعالية، مع الأسف. ولكن إذا انبثق فينا الوعي، نعرف معنى اللاعنف والمحبة والتواضع والبساطة. إذا قلت لأحد اليوم إنه "بسيط" فقد ينزعج! علميًّا، "الجوهر البسيط" هو الجوهر غير القابل للانقسام، المتكامل في ذاته.

اعذروني إنْ أطلت عليكم.

زينب نطفجي: سألتكَ في مقدمة محاضرتك عن التسامح، هل هو ثقافة أم فلسفة؟ وإلى أي حدٍّ يمكن لنا أن نتقدم ونتكلم على الإقرار بوجود التنوع والتعدد في مجتمعاتنا: القبول بحقِّ الاختلاف، ثم إقراره، ثم شرعَنَته؟ لأن عدم الاعتراف بالقبول المتبادل، بمعنى عدم القبول بحقِّ الاختلاف، مسألةٌ مضت عليها آلاف السنين، ومازال العنف يطل برأسه علينا ويفعل فعله التخريبي في مجتمعاتنا، سواء على مستوى الأديان المختلفة أو حتى على مستوى الطوائف أو حتى المذاهب داخل الدين الواحد. هذا الكلام كله على التسامح لم يُجْدِ، لأني عندما أريد أن "أتسامح" فهذا يعني أن أحدًا ما مخطئ وأنا على حق، سواء أنا تسامحتُ مع غيري أم غيري تسامَح معي. فإلى أي حدٍّ يمكن لنا الانتقال إلى إقرار حقِّ الاختلاف والقبول به، الإقرار بأننا مجتمعات قائمة على التعدد والتنوع وقبول الآخر؟ هناك مَن يتكلم عن هذا، لكنْ في أوساط ما تزال ضيقة ومغلقة، للأسف. ربما هناك قبول للآخر على مستوى عالمي؛ أما على المستوى الداخلي فإن الصوت، عندما نتكلم عن ذلك، أقل سريانًا ولا يُعطى الفرصة الكافية كي ينتشر اجتماعيًّا. الآن أطالب بثلاثة أشياء: القبول، فالإقرار، فالشرعنة، التي تقود إلى القَوْنَنَة. ما هو رأيك؟

ندره اليازجي: لا جواب لدي أحسن مما قلت، لأن التعدد والتنوع والاختلاف، بالفعل، شيء واحد في الجوهر، وعلى الأصعدة كلِّها. المهم ألا يكون هناك خلاف. الاختلاف يجب ألا يؤدي إلى خلاف، وذلك لأن منطق الأرض هو منطق التعدد والتنوع.

عندما درست فكر تِلار دُه شاردان، وجدت لديه فكرة جميلة عن الطبيعة: إذ يقول بأنها كانت، يومًا ما، في حالة لاتمايز – "عجين"، إذا صحَّ التعبير –؛ ومن بعدُ وُضِعَتْ في قطع من هذا العجين "خمائر" مختلفة: خميرة أولى، لنقل خميرة النبات، ثم خميرة ثانية، لنقل خميرة الحيوان، ثم خميرة الإنسان – وهذا كله خرج من شجرة واحدة. وتمايزت قطع العجين هذه إلى مختلف أشكال الحياة، بحسب نسبة الخمائر الموضوعة فيها. الحيوان أصبح متعددًا ومتنوعًا (حيوانات المنطقة القطبية غير حيوانات المنطقة الاستوائية)، والنباتات كذلك. هناك مئات آلاف أنواع النبات والحيوان. البشر، أيضًا، تنوعوا على إيقاع القانون ذاته. التعدد والتنوع، في الأساس، قانون طبيعي.

نأتي إلى المجتمع، فنجد أن التنوع قانون طبيعي أيضًا. التنوع، إذن، قانون اجتماعي وقانون إنساني. وعلى صعيد أعلى، ميتافيزيقي، إذا وضعنا الفكرة في قالب لاهوتي، نسأل: مَن أراد هذا التنوع؟ الله هو الذي أراده. إذن فالتنوع قانون طبيعي وإنساني وإلهي يجب احترامه.

في أرض واحدة يُزرَعُ التفاح والمشمش والكرز والخوخ. هذه الثمار كلها طيبة، كلها يقتات من الأرض نفسها، كلها يتمثل ضوء الشمس نفسه، كلها يعيش في تربة واحدة ويتبع قانونًا واحدًا. إذًا هناك اختلاف، لا خلاف. الخلاف لا يكون إلا على مستوى البشر. ما سبب ذلك؟ لقد عرضت لفكرة العقيدة في حديثي. الله أراد الاختلاف، ولم يُرِد الخلاف. الأديان كلها أوصت باحترام الآخر: "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتَعارفوا" [الحجرات 13]. فكيف يكون التعارف؟ في الأديان جميعًا، السماوية وغير السماوية، نجد الاعتراف بالاختلاف، لا بالخلاف. لكن، للأسف، يدخل عامل مخرِّب هم أصحاب المصالح.

قرأت يومًا ما كتابًا بعنوان فقه المصالح. فهل للمصلحة "فقه"؟! هذه "المصالح" هي التي تتحكم في تفكير الناس؛ وقد أوردتُها ضمنيًّا عندما أتيت على ذكر العقيدة، بمعنى التعصب المؤدي إلى العنف في النتيجة. وفي حديثي كلِّه أردت – وأريد دومًا – أن أركز على التنوع الذي يكمن في الاختلاف ويعمل فيه، دون الخلاف. أصحاب المصالح هم الذين يفتعلون الخلاف. يقول صاحب المصلحة: "أنتم جماعتي التي يجب ألا تخرج عن المعيار الذي وضعتُه لها."

الاجتماع مع أصحاب الطرق كلِّهم من جميع الفئات شيء مُغْنٍ. افعله! فعندما تزور بلدًا من البلدان لا يكفي أن تتجول في شارع واحد فقط، بل تريد أن تدرس البنية الفكرية لهذا البلد. ذهبت لأزور فئة من الناس، لأجتمع معهم، فأفهم أفكارهم عن قرب، لأني لا أستطيع أن أعرفهم حقًّا عبر الكتب وحدها. يستطيع المرء أن يكتب في الكتاب ما شاء، لكن عالَم التطبيق هو الأهم.

"فقه المصالح"، بكلِّ أسف، هو الذي يلعب الدور الرئيسي بين الناس – وهذا ما يقنِّننا. هذا "التقنين" يضعنا ضمن حدين لا يجوز لنا الخروج عنهما. قد يسأل أحدهم: "هل هم صنعوا ذلك، أم أنه موجود في أساس الدين؟" هناك شيء منه في أساس الدين طبعًا؛ ولكن عندما نفهمه بوعي أكبر لا يبقى له المعنى نفسه الذي نجده في فقه المصالح. من المسؤولون عن ذلك إذن؟

كلما بحثتُ في موضوع ديني، يأتيني حراس الدين – المرشدون – فيقولون لي: "لا يحق لك الكلام في هذا الموضوع لأنك لست متخصصًا فيه!" أنا درست الاقتصاد أساسًا، لكنني اهتممت بالدراسات الإنسانية، وأغنيت نفسي بدراسة الأديان جميعًا، والأساطير، والفلسفات. ثم باشرت دراسة الفلسفة الأخلاقية، فالمنطق، ثم فلسفة العلوم. بذلك أصبح التنوع راسخًا في بنيتي العقلية والنفسية. ثم حاولت، في كتاباتي، أن أُحدِثَ نوعًا من التأليف بين جميع المعارف التي تلقيتها. هكذا علَّمنا يونغ: العقل قادر، في الوعي، على التأليف بين التيارات العديدة ليصبح عقلاً ناضجًا؛ وهذا التأليف يسميه "الأسطورة الشخصية". لقد تأثرت بهذا الكلام، دون أن أدَّعي أن عقلي ناضج، فوجدت أن هناك خلفيةً واحدةً تأتلف فيها جميع النطاقات.

تحدثنا عن المبادئ، أجل؛ لكننا، مع الأسف، عندما نأتي إلى التطبيق نجد العقائد. مَن أصحابها؟ هم الذين يريدون الاهتمام بمصالحهم، سواء على مستوى اقتصادي أو إيديولوجي أو سياسي أو اجتماعي أو ديني (وإذا لم أقل "ديني" أقول مذهبي أو طائفي). وللأسف شُوِّه الاختلاف وانحرف إلى خلاف ونزاع. مَن يدير المجتمعات البشرية الآن؟ إنهم العقائديون!

محمد العمار: أعتقد أن العقائديين حاضرون بسبب غياب "المبدئيين". عندي ثلاث ملاحظات على كلامك هي: أولاً، تحدثتَ عن الانفتاح، ومن حديثك فهمت أن لديك دائرة، أيًّا كان مستواها، سواء كان الذات أو الأسرة أو العائلة، وهي دومًا في توسع. فأنا أفهم أن هناك دائرة ينفتح محيطها بحيث تكون دومًا في توسع...

ندره اليازجي: الاتساع مع العمق...

محمد العمار: ومع ذلك فوجئت! كنت أتمنى على الأستاذ ندره – الإنساني الكبير، والمسيحي أيضًا – أن يذكر المسيح. لا أستطيع أن أتقبل أن يُستحضَر تِلار دُه شاردان، أو أي حكيم هندي، ويغيب المسيح، إن لم يكن لأن المسيح أهل للحضور، فلأن المسيحيين حاضرون هنا! عندما نتحدث عن الوحدة والتنوع، يجب أن نقبل الشراكة والتفاعل، لكن دون أن نفقد ملامحنا الخاصة. قد يكون الأستاذ ندره أغفل ذكر المسيح مراعاةً لمشاعرنا، نحن المسلمين الحاضرين هنا. ولكن مَن يأتي إلى هذا المكان يجب – سلفًا – ألا يكون عنده إشكال مع هذا الموضوع.

في تصوري أننا، في منطق الشرق الأوسط، عندما نبدأ بالتوسع يجب أن نحترم منطق التدرج. مثلاً، أنا كمسلم، عندما أتوسع، يجب أن "أبتلع" المسيحي أولاً، بمعنى أن أقبله، قبل أن "أبتلع" الهندوسي. أرى أننا في الحوارات بين الأديان، كالحوار المسيحي–الإسلامي، يبدو المُحاور وكأنه لا يقبل مذهبه. فإذ كنت لا تقبل مذهبك حتى، كيف يمكن لك أن تباشر الحوار مع الآخر إذن، وعلى أيِّ أساس؟ أشعر، مثلاً، أن الانفتاح الذي يمارسه الأستاذ ندره، ممارسةً عاقلةً وواعيةً وإنسانية، يصير، عند كثير من الشباب ممَّن اطلعوا على الفلسفات الهندية والإشراقية، نوعًا من الاستلاب، بحيث إن المسلم يرفض الإسلام والمسيحي يرفض المسيحية إلخ.

ثانيًا: ذكرت موضوع المصلحة. أعتقد أن المصلحة مهمة جدًّا. فأنا لو لم تكن عندي "مصلحة" في القدوم إلى هنا لما قدمت، لما تحملت خسارة إغلاق عيادتي! لدي حتمًا مصلحة في هذا الموضوع. لكننا يجب أن نضع معايير للمصلحة. لذلك أعتقد أن المصلحة، بقدر ما تكون إنسانية، دائمة، وعامة...

ندره اليازجي: تقصد المنفعة؟

محمد العمار: المنفعة، طبعًا، لكني لا أريد للألفاظ أن تستهلكني. أنا، كإنسان، أسعى باتجاه منفعتي. وهذه المنفعة قد تكون صغيرة، محدودة بي، قد تكون ذاتية، ولو على حساب الآخرين؛ كما يمكن لها أن تكون منفعة إنسانية، عامة وشاملة. أشعر أن المصلحة أو المنفعة ليست مشكلة في حدِّ ذاتها، لكن المشكلة هي في الإطار الذي تجيَّر المصلحة ضمنه.

ثالثًا: بخصوص التسامح أو التجاوز والتفهم، خطر ببالي اسم مجلة معابر الذي يعني "العبور". يذكِّرني العبور بعبور الأنهار: بمعنى أنه يجب أن تقفز فوق شيء، ويجب أن تكون لديك الإمكانات والطاقة للقيام بذلك. لا يمكن لك أن تتفهم الآخر إلا إذا كنت أنضج منه، سواء كنت تعي ذلك أو لا تعيه. هناك خطوة يقطعها الفرد لكي يتمكن من وضع نفسه مكان الآخر.

تذكرت الآن أمرًا يتعلق بموضوع المصلحة. لقد كانت معركة المسيح الأساسية مع الكتبة والفريسيين، وأقسى الكلمات التي قالها كانت في حقِّهم...

ندره اليازجي: لأنهم كانوا أصحاب مصالح...

محمد العمار: أقصد أن المشكلة لم تكن في الدين ذاته، بل في الأشخاص الذين جيَّروا الدين لمصالحهم الشخصية. وهذا موجود حتى في الشيوعية، التي هي أصلاً دعوة للتحرير، لكنها أوجدت ملايين العبيد الجدد.

ندره اليازجي: لقد بدأت حديثي بالمبادئ، أليس كذلك؟ أريد الآن أن أطرح المبادئ على المستويات كافة. وكنت قد أتيت في حديثي على رفض الاسمية. قلت إن الاسمية تجرنا إلى ويلات، ولذلك أفضل الحديث في المبادئ. وهذا يعني أني قد ضمَّنتُ كلامي شيئًا من تعاليم المسيح وبوذا وغيرهما دون أن أذكر أسماءهم. أحيانًا أضطر إلى ذكر أسماء. لكني، إجمالاً، لا أريد أن أتعرف إلى شخص من خلال اسمه كي لا أقع، ولو قليلاً، في التصنيف. لقد وضعت في أواخر الستينيات كتابًا عن المسيحية[6]. لكن هذا الكتاب مرفوض من المؤسسة الدينية لأنني بحثت في المفاهيم والمبادئ، لا في العقائد. لم أكن متمذهبًا ولا منتميًا إلى أية فئة من الفئات المذهبية أو الطائفية. وهذا طبعًا ترفضه الطوائف!

أود الآن أن أضرب مثالاً على التأليف. مثلاً، لقب المسيح باليونانية هو Chrèstos؛ وكلمة "خريستوس" تشير، بحسب مفردات الأسرار القديمة، إلى المرشح لتحقيق الله في ذاته أو الإنسان المتألِّه. من هنا أخذت هذه الكلمة، وتحدثت من خلالها عن الإنسان الذي يسعى إلى تحقيق الله في كيانه – وهذا مبدأ، وليس عقيدة. لذا أصررت على "المبادئ" ونبذت الاسمية. ثم وجدت، من خلال بحثي، أن الجذر نفسه موجود في اللغة السنسكريتية القديمة، وقد اشتُقَّ منه اسم "كرستنا" الذي صار "كريشنا"، أحد التجسدات الإلهية في الهندوسية. وفي اللغة المصرية القديمة وجدت كذلك لفظة "كريتوس" الهيروغليفية التي لها المؤدَّى نفسه. "خريستوس"، إذن، كلمة شاملة، تُطلَق على كلِّ إنسان يسعى إلى التأله، إلى تحقيق الألوهة في ذاته – وهذا الإنسان إنسان مبادئ. أما عندما نحصر الكلام في الشخص التاريخي، فغالبًا ما يميل المستمع إلى العقائدية.

حميدة تعمري: في المقدمة التي قدَّم بها ديمتري الأستاذ ندره قال ما معناه إن مُحاضرنا، في أثناء تدريسه لطلابه، جرَّد العناوين من الاسمية، كمثال "المسيحي والصداقة"، فتحدث عن مجرد الصداقة، وكما في موضوع الهيكل–الإنسان. هذا، باعتقادي، هو المفصل الأساسي للمبدأ، للإنسان في ذاته بعيدًا عن العقائد.

ندره اليازجي: توضع كتب التربية الدينية بحسب الطائفة. ولذلك كنت أعلِّم العقلانية الروحانية، راميًا بذلك إلى رَوْحَنَة العقل. هذا كتاب موضوع بحسب الطائفة الفلانية، وذاك بحسب طائفة أخرى. إذًا جذور العقيدة موجودة في هذه الكتب؛ وأنا لا أريد أن أعلِّم عقيدة، أريد أن أعلِّم مبادئ.

عندما درَّستُ علم النفس في باب توما [من أحياء دمشق]، قبل أن آتي إلى "معهد الحرية" (مدرسة "اللاييك" سابقًا ثم "معهد باسل الأسد" حاليًّا)، كنت أعلِّم الطلاب بالطريقة نفسها. كان منطلق أسلوبي أن أصدقائي الأصغر مني سنًّا يجب أن يتعلَّموا عملية التفكير – وهذا لا يتم إلا من خلال المبادئ. جاءت احتجاجات كثيرة على طريقة تدريسي، لكني حافظت على أسلوبي لأني إنسان مبادئ، ولست على وفاق مع العقائدية. ولا أدل على ذلك، على المستوى السياسي، أن جهات عدة طلبت مني الانتساب إليها، لكني رفضت. فأنا يجب أن أكون مواطنًا صالحًا أولاً، إنسانًا على المستوى الوطني، وإنسانًا واعيًا لحقيقة وجوده ثانيًا. البقاء ضمن المبادئ عملية صعبة غالبًا؛ وقد يتفق لك أن تجد نفسك وحيدًا في هذا العالم! لكني لست أفضل من المسيح الذي لم يرافقه يوم آلامه إلا واحد فقط من تلاميذه. لهذه الأسباب مجتمعةً أتجاوز الاسمية إلى المضمون. عرضتُ جوهر المسيحية في كلامي، لكنْ دون أن أسمِّي، وذكرت، احترامًا للآخرين، أسماءهم.

على سبيل المثال، ألقيت ذات يوم محاضرةً في اتحاد الكتاب العرب بعنوان "المنحى الإنساني في الفلسفة"، حضرها عددٌ من أساتذة قسم الفلسفة في الجامعة، وكانوا خمسة أو ستة فلاسفة كبار. جئت في محاضرتي على ذكر إنسان مشهور في العالم قال: "الفضل يعود إلى أمي." فكم كانت أمه عظيمة! لكنها غير مذكورة في الكتب المنهجية. وقال آخر: "الفضل يعود إلى أبي"، وهذا الأب هو الآخر غير مذكور. احتجَّ الأساتذة، فكان بيننا حوار. ممن تعلمت؟ في أول كتاب وضعتُه أوردتُ في بداية أحد فصوله عبارةً وضعتُها بين أهلَّة ولم أذكر لمن هي. لو كانت العبارة لسقراط لكان الأمر مهمًّا! لكنها عبارة تفوَّه بها نجارٌ في القرية تعلَّمتُ منه صغيرًا الكثير. كان ينطق بكلام حكيم وجدتُه لاحقًا في بطون الكتب الرائعة. وإذن فقد تعلَّمتُ منه مبدأ. لهذا يجب أن نهتم بالمبادئ حصرًا. فعندما نفهم المبادئ، نرى الكلمات والأسماء مترادفة، لكنها غير أساسية في الموضوع.

في الفيزياء، يقال إنه إذا تفاعل إلكترونان في الكون تبقى الصلة بينهما إلى الأبدية، مهما تباعدا. قلت لنفسي: حقِّقْ هذا المثال! تأتيني فكرة، أتواصل معها، أتمثَّلها في داخلي. تساءلت في كتاب لي: عندما أتحدث عن فيثاغوراس مَن يتكلم في داخلي، فيثاغوراس أم ندره؟ الاثنان معًا. ندره تمثَّل فيثاغوراس. هذا التمثل هو المهم، هذا التلاقي. كذلك الأمر عندما أؤلف. ما معنى "التأليف"؟ هو التوفيق والمناغمة بين أفكار عديدة. سُئلت مرة عن الترجمة. الترجمة ليست مجرد نقل هذا الكتاب إلى لغتي وقولي أنا مترجمُه. فغالبية أفكاري هي "ترجمة" لقراءات وأفكار تمثَّلتُها وأعدت إنتاجها.

عندما أصل إلى عالم المبادئ وعالم الوعي فإن الأمور الأخرى، كالمذهب والطائفة والاسمية، تتضاءل. أنا روحاني التفكير، ولست متدينًا، لست طائفيًّا.

محمد العمار: لكن الطائفية غير التدين، وقد ذكرتَ هذا في محاضرتك.

ندره اليازجي: لماذا جمعتُ بين الاثنين؟ على افتراض أنِّي مسيحي متدين، مثلاً، إذا شئتُ أن أدعو شخصًا غير مسيحي إلى المسيحية، فإلامَ أدعوه حقًّا؟ أدعوه إلى طائفتي! لذلك علَّمتُ المسيحية والبوذية والإسلام، درستُ القرآن كما درست أيَّ كتاب حكمة آخر، وهكذا. هذه المفاهيم موجودة في الإسلام والمسيحية وغيرهما. لكني عندما أدعو شخصًا إلى ديني، أدعوه في الواقع إلى عقيدتي، وليس إلى الإسلام أو المسيحية. فأين المبادئ هنا؟ عندما أدعوه إلى "المسيحية"، بمعنى إلى عقيدة طائفتي، هل أنا فعلاً أفهم المسيحية كما يجب؟ ويح قلبي!

عندما أُسأل: "ما رأيك في المؤسسة الدينية–الطائفية؟" أجيب: لا يجوز القضاء على المؤسسة. ولذلك قلت: من العقائدية أستطيع أن أنفذ إلى المبادئ. أنا أعترف بالمؤسسة؛ إنما يجب أن أهزَّها من حين إلى آخر، وذلك لأن الناس تتطور والعلوم الحديثة موجودة.

شيء مرعب أن أنصِّب نفسي مرجعًا للحكمة وأنا في الوقع لا أدعو إلا إلى الاسمية!

مرمريتا، 21 تموز 2007

*** *** ***


horizontal rule

[1] خلاصة تعليم الأستاذ ندره اليازجي في هذه المسائل وغيرها مضمَّنة في كتابه رسائل في مبادئ الحياة المنشور في الأعمال الكاملة، مجلد 1: "الرسائل الإنسانية"، دار الغربال، دمشق، 1998. (المحرِّر)

[2] تنادي الحركة الثيوصوفية بالمبادئ الثلاثة الرئيسية التالية: أ. تشكيل نواة للأخوة الإنسانية العالمية، دون تمييز بين العرق أو المذهب أو الجنس أو الطائفة أو اللون؛ ب. تشجيع الدراسة المقارنة بين الأديان والفلسفات والعلوم؛ ج. دراسة قوانين الطبيعة غير المفسَّرة والقدرات الكامنة في الإنسان. (المحرِّر)

[3] راجع: ندره اليازجي، الأعمال الكاملة، مجلد 6، دار أمواج، بيروت، 2004. (المحرِّر)

[4] "الاسمية" Nominalism أو Terminism: مذهب فلسفي يقول بأن المفهوم ليس غير اسم وبأنه لا يوجد بالفعل إلا الأفراد الذين تحيل إليهم الأسماءُ أو المصطلحات. (المحرِّر)

[5] تكلم كارل يونغ على أربع وظائف نفسية: الفكر في مقابل الحدس، والإحساس في مقابل الشعور. (المحرِّر)

[6] راجع: ندره اليازجي، رد على اليهودية واليهودية المسيحية، في الأعمال الكاملة، مجلد 5، دار أمواج، بيروت، 2001. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود