أبيات فيثاغوراس الذهبية

 

أكرم أنطاكي

 

[...] كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم. كـان في العالم وكُـوِّن العالم به ولم يعرفه العالم. إلى خاصَّته جـاء وخاصّته لم تقبلـه [...].
الإنجيل بحسب القدّيس يوحنا
(1: 9-11)

1
وكانت قصيدة

غامضة الأصول تقول إنه:

بادئ ذي بدء، بَجِّل الآلهة بحسب المنزلة اللائقة بها، واحترم كلامك، وأكرِم الأبطال الشرفاء والجان تحت الأرض. فإنك بذلك تعمل بما توصي به الشرائع.

أكرِم كذلك والديك والأقربين إليك بالدم، واتَّخذ لنفسك أحبَّة بين أهل الفضيلة من الآخرين.

أصغِ لرقيق الكلام، ولا تُعَرقِل مفيدَ الأعمال، ولا تحقد على صديق من جراء خطأ طفيف.

وهذا بمقدار ما تطيق، لأن الممكن يجاور الضروري، و

تشرَّب الوصايا المذكورة أعلاه، ولكنْ فلتضبط شهوتك ونومك، ثم أهواءك وغضبك، و

لا ترتكب أي فعل مخجِل، وحدك أو بالاشتراك مع غيرك. فالأولى بك أن تحترم شخصك.

ثم تمرَّس في فعل الحق في أفعالك وأقوالك، وتعلَّم أيضًا ألا تتصرف قط تصرُّفًا لم تمعن التفكير فيه، و

اعلم أن الموت ناموس لا مفرَّ منه للجميع، و

تعوَّد على فقد الأشياء في أية لحظة بمقدار تعوُّدك على اقتنائها، و

أمًّا المصائب التي يتحمَّلها البشر، من جراء التقادير الإلهية، فتحمَّل نصيبك منها بلا تذمُّر، ولكنْ اجتهد في تصويبها بما في وسعك، وقل لنفسك إن المصائب التي يُبتلى بها الإنسان الشريف ليست بهذه الكثرة.

إن كلامًا كثيرًا، فيه الطالح وفيه الصالح، يطرق مسامع البشر. فلا يساورنَّك خوف منه، ولا تَحِدْ كذلك عن دربك لكي تجتنب سماعه، والزم الهدوء إذا سمعت كلامًا كاذبًا.

بيد أن ما سأقول لك عليك أن تعمل به في كل الظروف: فلا تدعنَّ أحدًا، قولاً أو فعلاً، يقودك إلى فعل أي شيء مما يتعارض مع طبيعتك الحقَّة، و

تفكَّر قبل أن تفعل تجنُّبًا للحماقات - فالفعل والكلام بلا تروٍّ صفة الجاهل -، وأدِّ بالحري ما لن يعود بالضرر عليك، و

لا تفعل أي شيء بلا علم به، وتعلَّم ما ينبغي أن تعلم. تلكم قاعدة الحياة الهنيئة، و

لا تهمل كذلك صحَّتك، وكن معتدلاً في شرابك وطعامك ورياضتك. وأقصد بالاعتدال فيما لن يضرَّ بك، و

وطِّن نفسك على نظام صحيح، خلو من الخمول، واجتنب فعل كل ما من شأنه أن يحرِّض الرغبة، و

اجتنب إنفاق المال في غير محلِّه، على غرار ما يفعل من لم يخبَر الأمانة قط، إنما

كن متساهلاً، فإن الاعتدال في كل شيء هو الأفضل، و

افعل ما لا يسيء إلى طبيعتك الحقَّة، وتفكَّر قبل أن تفعل، و

لا تدع النوم يغزو عينيك المرهقتين قبل أن تفحص كل يوم ضميرك، متسائلاً: "فيم قصَّرتُ؟ وماذا فعلت؟ وأي واجباتي أغفلت؟"، و

ابدأ من البداية، مسائلاً نفسك عن هذه المسائل واحدة واحدة. فإذا أسأتَ التصرف، لُمْ مسلكك. أما إذا أحسنتَه فابتهج.

هذا ما يجب أن تجتهد فيه، وتوليه كل عنايتك. هذا ما يجب أن تتمسَّك به بكل قواك. فوحدها هذه الاهتمامات من شأنها أن تضعك على درب الحكمة الإلهية.

والذي أعطانا الرابوع، مبدأ الطبيعة الأزلية، على ما أقول شهيد.

ألا فباشر عملك بعد أن تسبِّح الآلهة حتى تتوفَّق فيه.

فإذا ملكتَ هذه المبادئ عرفتَ جوهر الآلهة الخالدة والآلهة الفانية، والفوارق بين الأشياء والروابط التي تشدُّها بعضها إلى بعض.

ولسوف تعرف حدود الحلال، حيث الطبيعة هي هي في كل شيء، وبذلك لن تأمل فيما لا أمل منه ولن يخفى عليك شيء.

ولسوف تعرف البشر، ضحايا المصائب التي ينزلونها بأنفسهم، وتعرف بؤسهم، وتعرف العاجزين، لا بالنظر ولا بالسمع، عن إدراك الخيرات القريبة منهم إلى هذا الحد، إذ قلة من بينهم تعرف كيف تنجو من الشقاء.

ذلكم هو القضاء النازل بنفوس الفانين. فهي كالكريَّات تتدحرج هنا وهناك معرَّضة لآلام لا تنتهي، فـ

الشقاق، رفيقهم الفاجع، يودي بهم من حيث لا يدرون. الشقاق الذي يظهر لدى ولادتهم، والذي يجب الامتناع عن إثارته، وتجنُّبه بالانقياد له.

آه، زفس، أيها الأب الكلِّي. إنك لتعتق الإنسان حقًا من الكثير من الأوجاع إذا دلَلَت البشر على الشيطان الذي يخضعون له.

أما أنتَ. فكن على ثقة، بما أن البشر من سلالة إلهية وأن الطبيعة المقدسة تدُّلهم وتكشف لهم كل الأسرار.

فإذا أخذت نصيبك منها، عملت بوصاياي، وبفضل هذا الدواء، حرَّرت نفسك من هذه الهموم.

ألا فامتنع عن المآكل التي ذكرنا، وفي التطهُّرات كما في انعتاق النفس بانفصالها عن البدن، أعمِل محاكمتك، وتفكَّر في كل شيء، متساميًا بعقلك الذي هو خير المرشدين، و

لئن غادرتَ جسمك محلِّقًا حتى أعالي الأثير المطلقة، أصبحت إلهًا مخلَّدًا، لا يلحق بك فساد، ولا يطالك الموت.

هي قصيدة، تُنسَب إلى فيثاغوراس، وتعرف بـ الأبيات الذهبية. والكل يعلم أن "المعلِّم" لم يترك أي أثر مكتوب. ولكن القصيدة التي سمعناها إنما تضم زبدة تعاليمه الأخلاقية والثيوصوفية.

فمن كان فيثاغوراس وماذا كانت تعاليمه؟ هذا ما سنحاول، بخشوع، رفع طرف النقاب عنه من خلال عرضنا الذي نبدأه بحلم يتحدث عن...

2
موت أورفيوس

حيث.. بعد أن استمع أورفيوس حزينًا إلى حديث كبير الكهنة أجابه:

ليس بالقتال وإنما بالكلمة الحق يدافَع عن الألوهة. لذا سأدع لك صولجاني أيها العجوز المشكِّك وأذهب لملاقاة مصيري والالتحاق بالآلهة.

ويترك أورفيوس الكهنة المفجوعين ويخرج من المعبد ليلتقي تلميذه ديلفيوس، صديقه الحبيب، فيقول له:

لقد حانت ساعتي. ربما فهمني الآخرون، أما أنت فقد أحببتني. إني ذاهب إلى معسكر التارسيين. فاتبعني.

ويسير الصديقان في الغابة جنبًا إلى جنب.. فيحدِّث أورفيوس صديقه عن كيف اكتشف السعادة من خلال حبِّه الطاهر لإفريذيكي. وكيف اكتشف الحقيقة من خلال موتها. فحبُّه لها، جعله يغوص في أعماق الجحيم من أجلها حتى لامس من خلال محبَّته ذيونيسوس والحقيقة الأزلية.

ويصل أورفيوس وصديقه إلى معسكر التارسيين الذين كانت تحرِّضهم الشريرة أوجلانيس. ويجابه النبيُّ الموسيقي الشاعر الجنودَ بسحر كلامه ومحبَّته فيكاد أن يقنعهم ولكن ينقضُّ عليه بعضهم بدافع من أوجلانيس فيقتلونه. وتكون المعجزة. أن تنفتح عينا أورفيوس بعد موته، فينظر بمحبَّة إلى قاتليه مردِّدًا اسم إفريذيكي التي أحبها. فيزول السحر الأسود، ويتنبَّه الجند لخطيئتهم، فيعتنقون دين أورفيوس الذي حلَّ بروح محبَّته على جميع الحاضرين.

ويتذكَّر التلميذ المحب تعاليم أستاذه الذي كان يقول أنْ

... غِصْ في أعماق نفسك كي تتواصل من خلالها مع جوهر الأشياء. مع ذلك الثالوث الأكبر المتألِّق في الأثير الطاهر. دعِ الفكر يسيطر على الجسد وترفَّع عن المادة كما تترفَّع النار عن الخشب الذي تلتهمه. عندئذ، ستحلِّق روحك في أعالي الأثير الطاهر للعلل الأزلية كما يحلِّق الصقر فوق عرش زفس.

فما أخبرُك به هو سرُّ هذه العوالم. هو روح الطبيعة وجوهر الألوهة. هو الكائن الواحد الأحد. المالك في السماء والمالك في الجحيم. هو زفس مالك الرعد. زفس الأثيري.

نكتفي من هذه الأسطورة بهذا القدر. فما أردنا من خلال عرضها الموجز كان التأكيد على تلك الروح التي عبرت كالشهاب، في ذلك الزمان الغابر، سماء اليونان الوليدة. وبقيت الملهِمة الرئيسية للمسارَرين Initiates هناك، رغم الظلامية التي كانت ولم تزل - مع الأسف - سائدة.

فالعقيدة الأورفية المتعلقة بالروح ومصيرها وبقائها وخلاصها وخلودها كانت قطعًا من أهم العقائد الكوسموغونية القديمة. ففيها نجد خلاصة التصورات المصرية وجوهر التعاليم الهندوسية، وبخاصة منها تلك المتعلقة بعَوْد الروح للتجسُّد. وأيضًا فيها نجد ما كان يميِّز تلك العقيدة عن سواها ويشكِّل جوهرها. والذي هو نظرتها إلى "سقوط" النفس في الجسد (المادة) بسبب الخطيئة (المعرفة)، وضرورة التكفير من خلال تطهير تلك النفس وعتقها من مادِّيتها. فجوهر الأسطورة الأورفية، المتمثِّل بنزول أورفيوس إلى أعماق الجحيم بحثًا عن إفريديكي، هو، في نفس الوقت، تكرار لأسطورة ذيونيسوس بن زفس الذي افترسته الجبابرة التي كان يصارعها، فأنقذ زفس قلبه وأعاده إلى الوجود. بينما أضحى رماد الجبابرة التي صعقتها نار زفس ذلك الجنس البشري الذي تمتزج فيه المادة مع روح ذيونيسوس الخالدة. وهذا الجنس البشري كان ممثَّلاً في الأسطورة اليونانية القديمة بالإله أبولون، شقيق ذيونيسوس.

فأساس العقيدة الأورفية كان ممثلاً أيضًا بالثنائية الظاهرة لذيونيسوس وأبولون. حيث كان ذيونيسوس يمثِّل الباطن، أو لنقل الجوهر الإلهي. بينما كان توأمه أبولون يمثِّل الإنسانية التي تتزاوج فيها الروح بالمادة، ولكن - وهذا هو الأساس - حيث تسعى تلك الروح من خلال المعرفة الحقَّة للمسارَرين إلى الانعتاق للتواصل من جديد مع أصولها الإلهية.

وكان في ذلك الزمان، في القرن السادس قبل الميلاد، أن تجلَّت روح ذيونيسوس وأبولون على أرض اليونان، وفي العالم أجمع. ونتوقف هنا قليلاً.

لنلفت الانتباه إلى هذا القرن السادس قبل الميلاد تحديدًا، فنؤكِّد على ما أجمع عليه جميع الباحثين في العلوم السرَّانية والقائل إن هذا القرن كان قطعًا من أمْيَز القرون التي طبعت البشرية. ففيه ترسَّخت إنسانيتنا في "عصرها الحديدي". ذلك العصر الذي يشكِّل المرحلة الأخيرة من الطور الإنساني هذا الذي يدعوه الهندوس بالـكالي يوغا kali yuga. فكان من جهة، تعميقًا لسقوط الروح من الأعالي ولغوصها في أعماق المادة التي ابتلعتها. وكان أيضًا تأكيدًا لعناية إلهية وُجِدت منذ الأزل، وستبقى، كمقابل لذلك السقوط، صعودًا للروح الإنسانية نحو الأعالي حيث...

في هذا القرن تحديدًا، على أرض الصين، ولد وعاش لاوتسُه. وأيضًا، في هذا القرن تحديدًا كان آخِر بوذا ينقل لمعذَّبي الأرض على ضفاف الغانج دعوته الخالدة. وأيضًا، في هذا القرن في بلاد فارس كان زرا دشت. وعلى ضفاف الفرات، في بابل، جُمع العهد القديم. وأيضًا، في هذا القرن ولد في جزيرة ساموس اليونانية من عرفته الأسطورة و عرَّفه هيغل بـ

3
المعلِّم الإنساني الأول

قلت أيضًا الأسطورة، وأنا أعني ما أقول. حيث، كما سبق وأشرت، لم يصلنا عنه أي أثر مكتوب. ما وصلنا كان فقط لتلامذة لاحقين انتسبوا و/أو ادَّعوا الانتساب إلى مدرسته. سِيَر أسطورية عن حياته لجمبليخوس وفيلولاوس، وتعاليم وقصائد لسقراط وأفلاطون وأتباع مدرستيهما. ورغم كل هذا، يبقى ما وصلنا عنه عظيمًا. لذلك

نقول "أسطورة"، ونؤكد على ما نقول. فكل ما عرفناه عن حياة "المعلِّم" كان أسطوريًا فعلاً، حيث يقال إنه

ولد من أب فاضل كان يعمل في نحت الحجارة الكريمة يدعى فيثارخوس ومن أم فاضلة تدعى بارثينيس (العذراء)، وكان والداه من نَسَب عريق يعود في أصوله إلى البطل أنيسوس بن زفس، مؤسِّس ساموس وراعيها.

أسماه والده "فيثاغوراس" (حامل البشارة) بعد أن تنبأت له كاهنة ذلفس بمستقبل باهر لصالح الجنس البشري.

عاش طفولته الأولى مع أهله في صور حيث لجأت العائلة لتحمي وليدها من تلك الفوضى التي كانت تعمُّ آنذاك أرض اليونان الوليدة.

(هذا ونسجل هنا على الهامش وجود تقارب ملفت للنظر بين أساطير الميلاد والطفولة المبكرة لكل من فيثاغوراس والسيد المسيح)

تلقى علمه الأول، بعد أن عاد أهله إلى ساموس، على يد هيرموداموس الذي لقَّنه الإلياذة والأوذيسة، ثم على يد فيرسيذيس السيروسي الذي حدَّثه عن الروح وخلودها ولقَّنه التقاليد الأورفية، ثم على يد أناكسامنذرس الذي علَّمه أسس الرياضيات، فـتاليس الذي عمَّق تعليمه للرياضيات ولقَّنه مبادئ العلوم الباطنية مما دفعه للبحث عن المزيد من المعرفة.

ولمَّا كانت مصر في ذاك الزمان هي مركز المعرفة، فقد انتقل إليها مريدُنا عن طريق فينيقيا.

وفي مصر بقي فيثاغوراس، كما تقول الأسطورة، اثنين وعشرين عامًا تلقّى خلالها المعرفة على يد كهنتها. وارتقى في معابدها إلى أعالي سلالم المعرفة السرَّانية. فأضحى، وقد نقش معلِّموه الذين أضحوا تلامذته على ساقه "الغصن الذهبي" لأوزيريس، يُعرَف بلقب فيثاغوراس الذهبي الساق Pythagoras Chrysomeros.

في ذلك الحين، في نهاية إقامة فيثاغوراس على أرض مصر، كان غزو قمبيز وجهالته. وكان نفيه لكهنة مصر، وفي جملتهم فيثاغوراس، إلى بابل حيث قضى اثني عشر عامًا. تفتَّحت أمامه فيها آفاق معرفية جديدة. فتعرَّف إلى كهنتها واطَّلع منهم على ما تملَّكوه من علوم سرَّانية، والتقى، على حدِّ ما ينقل فرفيريوس، بـ زاراتاس الذي يرى فيه بعضهم زرادشت.

ومن بابل عاد فيثاغوراس إلى ساموس، مباشرًا رسالته على أرض آبائه وأجداده. ولكن دعوته لم تلق هناك آذانًا مصغية. فلم يطل الإقامة فيها وغادرها إلى كروتونا حيث تقول الأسطورة.

... إن الطريق الرملي القديم الموازي للبحر والرابط بين سيباريس وكروتونا كان مزدحمًا في ذلك اليوم. وقد امتلأ بالصيادين الذين سحبوا من البحر شباكهم المليئة بالسمك. حين توقف رجل غريب وقور وقال لهم:

-       من منكم أيها الأصدقاء يقبل الرهان أن بوسعي إعطاءكم العدد الفعلي لما اصطدتموه من أسماك؟

وقبل الصيادون الرهان الطريف بأنْ يلبُّوا طلبًا لذلك الغريب إذا ربح رهانه. وربح الغريب، الذي لم يكن سوى فيثاغوراس، الرهان. فطلب من الصيادين إعادة أسماكهم إلى البحر ودخل المدينة مقابَلاً بالترحاب، وقد سبقه صيتُه، ليصبح من بعد صيادًا للبشر.

وكان خطاب فيثاغوراس الأول في ملعب المدينة موجهًا إلى صفوة شبابها. فيه حدَّثهم عن التقوى وعن حب الوالدين وعن الصداقة الإنسانية الصرفة. ونستذكر معًا "أبياته الذهبية" تقول إن:

بادئ ذي بدء، بجِّل الآلهة بحسب المنزلة اللائقة بها، واحترم كلامك، وأكرِم الأبطال الشرفاء والجان تحت الأرض. فإنك بذلك تعمل بما توصي به الشرائع.

أكرِم كذلك والديك والأقربين إليك بالدم، واتَّخذ لنفسك أحبَّة بين أهل الفضيلة من الآخرين.

أصغِ لرقيق الكلام، ولا تُعَرْقل مفيد الأعمال، ولا تحقد على صديق من جراء خطأ طفيف.

وأيضًا... حدَّث المعلِّم الشباب عن النفس وارتقائها عن طريق الفضيلة، و

... في التطهّرات مثلما في انعتاق النفس بانفصالها عن البدن، أعمِل محاكمتك، وتفكَّر في كل شيء، متساميًا بعقلك الذي هو خير المرشدين، فـ

لئن تركت جسمك محلِّقًا حتى أعالي الأثير المطلقة، أصبحت إلهًا مخلَّدًا، لا يلحق بك فساد، ولا يطالك الموت.

كما جاء في أبياته الذهبية فسَحَر بتعاليمه ألباب شباب المدينة الذين تحوَّلت غالبيتهم، فأضحوا من مناصريه. مما أثار تساؤلات وارتياب آبائهم من شيوخ المدينة وحكَّامها الذين دعوه للمثول أمامهم ليحاوروه.

وكان مثوله أمام "مجلس الألف" أو "مجلس شيوخ" المدينة. فحدَّثهم عن ضرورة ارتباط السلطة الحقَّة بالاعتدال والمحبَّة والفضيلة. كما قال في أبياته الذهبية.

لا ترتكب أي فعل مخجِل، وحدك أو بالاشتراك مع غيرك. فالأولى بك أن تحترم شخصك، و

لا تدعنَّ أحدًا، قولاً أو فعلاً، يقودك إلى فعل أي شيء مما يتعارض مع طبيعتك الحقَّة، و

تفكَّر قبل أن تفعل تجنُّبًا للحماقات - فالفعل والكلام بلا تروٍّ صفة الجاهل -، و.. أدِّ بالحري ما لن يعود بالضرر عليك، و

ثم تمرَّس في فعل الحق في أفعالك وأقوالك، وتعلَّم أيضًا ألا تتصرف قط تصرّفًا لم تمعن التفكير فيه، و

لا تفعل أي شيء بلا علم. تلكم قاعدة الحياة الهنيئة، و

اجتنب إنفاق المال في غير محلِّه، على غرار ما يفعل من لم يخبَر الأمانة قط، إنما

كن متساهلاً، فإن الاعتدال في كل شيء هو الأفضل.

فالآباء يجب أن يكونوا مثالاً وقدوة لأبنائهم. والسلطة الحقة - سلطة الآباء - يجب أن تمتاز برويَّتها وأن تكون نخبوية حقًا. والنخبة أو الأرستقراطية الحقيقية، حسب فيثاغوراس، هي نخبة الفكر والأخلاق، وكل ما عداها هراء.

ويسحر المعلِّم الآباء هذه المرة، كما سحر أبناءهم. فيتخلُّون عن حياة الفسق التي كانوا يحيونها لصالح الخير العام والعدالة. ويصبحون، كأبنائهم، من أنصاره. ويقررون إقامة مدرسة له في مدينتهم.

وأخيرًا، حتى يستكمل المعلِّم، عن طريق الكلمة، غزوه للمدينة. كان لقاؤه مع نسائها اللواتي جئن يشكرنه على إعادة أبنائهن وأزواجهن إلى الصراط المستقيم. فحاز أيضًا على قلوبهن. فتخلَّين بعد لقائه معهن عن بهرجتهن وحليِّهن وتبرَّعن بها لصالح ما أضحى يعرف بـ ..

4
المدرسة (أو المؤسَّسة) الفيثاغورية

وأية مدرسة كانت هذه المدرسةالمؤسسة، التي هيمنت في ذلك الزمان ما يقارب الـ 25 عامًا (بشكل غير مباشر) على حياة كروتونا والعديد من المدن الإغريقية الواقعة في الأرخبيل اليوناني وفي جنوب إيطاليا. فأقامت فيها بالإقناع ما يمكن أن ندعوه اليوم نظامًا أريسطوقراطيًا وشيوعيًا معًا، نظامًا قائمًا على التقشف ponos والفضيلة arete، كما كانوا يقولون باليونانية. مبدئيًا، كان بوسع أيٍّ كان الانتساب إلى هذه المدرسة التي كانت مشرعة الأبواب تقبل حتى النساء والغرباء. ولكن، في الوقت نفسه، كم كان صعبًا الانتساب إليها، حيث.

من منطلق التناغم الذي يشكّل أساس أية مؤسسة إنسانية ناجحة، ومن منطلق فهم نخبوي وأرستقراطي حقيقيين، كان تشدُّد فيثاغوراس في قبول الراغبين في الانتساب إلى مؤسسته. وهو الذي قال يومًا إنه "ليس من أي خشب يُنحت هرمس". لذا، كان على الراغب بالانتساب إلى المدرسة تجاوزُ مرحلة اختبارية قد تصل مدَّتها إلى ثلاث سنوات يقوم الأساتذة - فيثاغوراس تحديدًا - خلالها بدراسة نفسيَّته. وأيضًا، كان على من يرغب بالانتساب إلى هذه المدرسة التخلِّي عن كل ما يملك لصالح المؤسَّسة التي تستثمر تلك الأملاك والأموال لما فيه الصالح العام، مع ملاحظة أنه كان بوسع الطالب استرداد كل شيء إذا ترك المؤسَّسة. بعدئذٍ...

إذا وصل الطالب إلى العتبة، وقُبِل مبدئيًا مريدًا كان عليه أن يتجاوز مرحلة تحضيرية، قد تصل مدَّتها إلى خمس سنوات، يمتنع خلالها عن الكلام كلّيًا فيصبح مستمعًا akkousmatikos، فيُمنَع من النقاش ومن رؤية المعلِّم والتحدُّث إليه. كان مسموحًا له فقط الاستماع إليه من وراء الستار والتأمُّل فيما يستمع ويتلقى من دروس منه ومن الأقدمين. فالمريد، في هذه المرحلة، ما يزال يعتبر "خارج العتبة" oi-exo حسب التعبير اليوناني. هذا ونشير هنا إلى أن أستاذ هذه المرحلة كان هيباسيوس الميتابونطيّ الذي يُنسَب إليه كتاب في الروحانيات أو المسطيقا. ثم...

إن تجاوز المريد العتبة وأصبح من أهل الباطن، وأصبح في وسعه النقاش مع زملائه ورؤية المعلِّم والحديث إليه. بدأ تعليمه الفعلي الذي كان ينقسم حسب جمبليخوس إلى ثلاث درجات:

أولاها، درجة الفيزيائيين أو الرياضيين، أو من كانوا يعرفون بالـ physikoi أو mathematikoi، حيث كان يدرس الفيزياء والفلك والهندسة والرياضيات وعلم العدد و...

ثانيتها، درجة السرَّانيين، أو من كانوا يعرفون بالـ hermetistes أو الـ sebastikoi، ويدرس فيها كافة العلوم السرَّانية، ومنها تلك المتعلِّقة بأصول الروح ومصيرها والتقمُّص... إلخ، و...

ثالثتها، درجة عرفت ظاهرًا بالاجتماعيين أو السياسيين، أو من كانوا يعرفون بالـ politikoi، وهي في الواقع درجة الكُمَّل أو الـ teleiotes، وتُدرَّس فيها تلك الصفوة من الصفوة المنتقاة لنشر المعرفة والقيادة، مبادئ القانون والوفاق الاجتماعي والتناغم الروحي. وأيضًا

كانت الحياة في المدرسةالمؤسَّسة تدور حول شخصية المعلِّم الذي أحيط بهالة من القداسة. فبالنسبة لهم كان المعلِّم رسولاً فعلاً لا قولاً (كما هي الحال غالبًا). كان محظورًا التلفُّظ باسمه، وحين كان ينسب إليه قول ما كانوا يقولون: autos-epha، أي "هكذا قال هو". ولكن هذا التقديس للمعلِّم كصفة كان يقابَل بتواضع لامتناهٍ من قبل المعلِّم كشخص، حيث يقال مثلاً إن في حضرة "الطاغية" ليونيداس، حاكم فيليونتي، الذي دعاه يومًا بالحكيم Sophos، أجابه إن الحكمة هي للألوهة فقط، وأنه يكتفي لنفسه بلقب "صديق الحكمة" أو philo-sophos.. فكان فعلاً، كما عبَّر هو عن نفسه، أوَّل الفلاسفة. وأيضًا...

كانوا جميعًا يستيقظون مع شروق الشمس، وينامون مع غيابها. يصرفون وقتهم في العمل والدراسة والتأمل والصلاة. يراجعون أنفسهم مرتين في اليوم على الأقل، عند الصباح مبدئيًا وقبل النوم حتمًا.. كما علَّمهم هو حين قال في الأبيات الذهبية أنْ:

لا تدع النوم يغزو عينيك المرهقتين قبل أن تفحص كل يوم ضميرك، متسائلاً: "فيم قصَّرتُ؟ وماذا فعلت؟ وأي واجباتي أغفلت؟"، و

ابدأ من البداية، مسائلاً نفسك عن هذه المسائل واحدة واحدة. فإذا أسأتَ التصرف، لُمْ مسلكك. أما إذا أحسنتًه فابتهج.

وأيضًا، كانوا جميعًا نباتيين، يحظرون على أنفسهم تناول أي طعام ناجم عن قتل روح حيَّة.

وأيضًا، كانت جميع علومهم سرَّانية، يُحظَر الحديث عنها وكتابتها وتداولها خارج المدرسة. هذا ونشير هنا إلى أننا سنناقش موضوع سرَّانية العلوم لاحقًا في سياق البحث، أما الآن فنكتفي بالقول إن هذه "القاعدة الذهبية" بقيت سائدة حتى أيام أفلاطون وأرسطو. وحتى ما نسب إلى جمبليخوس من تعليق حول مخطوط لسبوسيبوس يتعلَّق بالـ

5
الأعداد والرياضيات الفيثاغورية

كل شيء كان بالنسبة للفيثاغوريين عددًا.

والحقُّ يقال، إنهم لم يكونوا ينظرون إلى العدد ككمية مجرَّدة وإنما كتجلٍّ إلهي وكانعكاس للواحد الأحد الذي هو منبع وأساس التناغم الكوني. لذا فعلم الأعداد كان بالنسبة لهم جزءًا من عملية فهم القوى الحيَّة، إن لم نقل جزءًا من عملية فهم ذلك الفيض الفاعل في جميع العوالم ومن بينها عالمنا الإنساني.

والأعداد الفيثاغورية كانت من حيث الأساس أعدادًا صحيحة وموجبة ومرتبطة بالملموس. ففي البدء، لم يكن الفيثاغوريون، على ما يبدو، يميِّزون بين العدد وبين المحسوس، إنما حصل هذا التمايز لاحقًا على يد أفلاطون وجماعته. وأيضًا...

كانت الأعداد الفيثاغورية تنقسم إلى وتر (أعداد فردية) وشفع (أعداد زوجية)، وكانت تمثَّل بنقاط هندسية موزعة كمتتاليات بواسطة زوايا كما يلي:

.

.            .

.            .            .

.            .            .            .

حيث تمثل الأعداد الموجبة أو المربَّعة، شكلاً هندسيًا متوازنًا، إن لم نقل كاملاً من منطلق نسبتها التي هي n / n بينما تمثل الثانية أي الأرقام الفردية مستطيلاً، أي شكلاً هندسيًا غير متوازن من خلال نسبتها التي هي n / n + 1  . وأيضًا..

كان العدد الأول الـ 1 يمثِّل بالنسبة لهم أول الأرقام ورمز الألوهة. فعنه ينبع كل شيء. وهو، بحكم كونه رمزًا، تحدُّه نسبيتنا ومحدوديَّتنا. منبثق عن العدم أو اللانهاية التي عبَّر عنها ابن عربي يومًا بـ"غيب الغيب" أو "الغيب المطلق" الذي ليس بوسعنا استيعابه. أما على مستوانا فيبقى الواحد 1 هو المنطلق والأساس لجميع الأعداد. فهو إذن محور الكون، وهو البداية و

منه ينبع الثنائي أو الـ 2. والثنائي هو النسبي وهو الخليقة، ويُرمَز له عادة بخط مستقيم. ونتوصل مع الفيثاغوريين من بداية هذا النقاش الرقمي الرمزي إلى الجدول التالي الذي يمثِّل عددًا من الثنائيات الفيثاغورية.

1. لامحدود / محدود

6. سكون / حركة

2. مفرد / مزدوج

7. منحني / مستقيم

3. واحد / عدد

8. ظلام / ضوء

4. يسار / يمين

9. خير / شرّ

5. ذكر / أنثى

10. مستطيل / مربع

أما الثلاثي 3، وهو أول عدد كامل يلي الواحد، فقد كان يمثل عند الفيثاغوريين البداية والنهاية وما بينهما. وهو عدد فردي، يجمع العددين الأول والثاني. وهو غير قابل للقسمة. ومن هنا يعيدنا إلى الألوهة كرمز. وأيضًا...

من قلب ذلك الثلاثي 3 الذي عاد إلى البداية 1، و/أو من تلك الخليقة، إن لم نقل ذلك الثنائي 2 المتوالد، كان الرابوع أو الـ 4. رمز عالمنا المادي والمجسَّم من حيث الشكل. ونتذكر أبياتنا الذهبية التي تقسم بـ

... الذي أعطانا الرابوع، مبدأ الطبيعة الأزلية.

وأيضًا، فإن جمع الأرقام الأربع الأُوَل، 1 و2 و3 و4، يعطينا الـ 10. الرابوع tetraktis المقدَّس عند الفيثاغوريين. وتلك، من خلال الرابوع، تعيدنا من جديد إلى الـ 1. ففي الرابوع تتمثل حسب الفيثاغوري أرشيتياس التارانتي الأعداد والأبعاد والعناصر والأشكال والمواهب كما يلي:

الأعداد

1

2

3

4

الأبعاد

نقطة

خط

سطح

مجسّم

العناصر

نار

هواء

ماء

تراب

الأشكال

رباعي وجوه

مثمَّن

عشرونيَّ وجوه

مكعَّب

المواهب

فكر

علم

رأي

إحساس

ونتابع التحليق مع الأرقام الفيثاغورية، فنشير، باختصار شديد، إلى أن هذه المدرسة كانت أول من أعطانا ما نعرفه اليوم في الرياضيات بـنظرية النسب الرياضية (b - m = m - a) والنسب الهندسية (a / m = m / b) والتناغمية (m - a / b - m = a / b). وأيضًا...

من خلال ما يعرفه العامة بنظرية فيثاغوراس، أو AB² +AC² = BC² أي مجموع مربعي ضلعي مثلث قائم يساوي مربع الوتر، توصَّل الفيثاغوريون إلى معرفة العدد غير الصحيح. الأمر الذي كان يشكِّل في حينه مأزقًا فلسفيًا لا يمكن استيعابه، كما لا يستوعب الكثيرون اليوم القصد العميق لمفهوم الفوضى أو الـ entropy في الكون. فالعدد غير الصحيح كان ربما أول تعبير فلسفي واقعي ملموس لهذه الفوضى المفترضة، وكما تبدو من منظورنا. ونسجِّل هنا أن هذا الاكتشاف تحديدًا كان ما دفع زينون وجماعته في حينه إلى معارضة المدرسة الفيثاغورية ومفاهيمها الثورية. وأيضًا...

كان الفيثاغوريون أول من عرف ما ندعوه اليوم بالنسبة الذهبية أو العدد الذهبي أو 1.618 الذي فتن العديد من العلماء، بدءًا من أفلاطون، مرورًا بليوناردو دافنشي، وصولاً إلى المعماري المعاصر الكبير لوكوربوزييه. فالعدد الذهبي أو الـ modulor قد يكون أصدق تعبير رياضي لهذا التناغم الكوني الذي يستوعبنا. وهذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه قليلاً من خلال ما سيتيسَّر لنا عرضه عن

6
الموسيقى وعلم الفلك الفيثاغوريين

حيث تقول الأسطورة إن فيثاغوراس اكتشف النوطة الموسيقية من خلال إصغائه ذات يوم إلى تواترات أنغام مطارق الحدَّادين. وهذا الحديث قد يكون صحيحًا، وقد يكون مجرَّد أقصوصة. ولكن، مما لاشك فيه، أن الفيثاغوريين كانوا أول من اكتشف سرَّ وأول من وضع أسس النوطة الموسيقية التي أضحت معتمدة من بعد وبقيت حتى يومنا وحيث الـ

Ut = 1,    Re = (2/3)2,      Mi = (2/3)4,      Fa = 3/2,    Sol = 2/3,      La = (2/3)3,    Si = (2/3)5

من خلال اكتشاف نسبة الـ 2/3 وتشعباتها. وأيضًا...

كما أوضح أفلاطون في مؤلفه الرئيسي الجمهورية، حاول الفيثاغوريون تعميم مفهوم التناغم الموسيقي على الكون برمَّته. فالكون، كمفهوم، كان بالنسبة لهم رديفًا للتناغم. أفلا تعني كلمة Kosmos  - وهي تلك التسمية اليونانية التي أطلقوها على الكون - النظام والجمال؟ لذا نراهم

يضعون فرضية تناغم الكرات التي تحدث عنها لاحقًا أفلاطون وأرسطو. وحيث كانت مجالات تباعد النوطات الموسيقية الأساسية السبع متوافقة مع حركة وتباعد الكواكب السبع عن الأرض وبعضها بالنسبة لبعض. فالعدد عندهم كان يسود في كل مكان ويسود في الكون. وأيضًا...

يلاحظ العلماء اليوم أن الفيثاغوريين قد تجاوزوا قطعًا ما كان متبعًا في زمانهم من حيث الرصد الظاهري للكواكب والنجوم وحركتها وتسجيلها. وأنهم توصَّلوا إلى فهم نظري متكامل تجاوز بكثير الفهم التقليدي الذي كان سائدًا في حينه والذي جعل من الأرض مركزًا للكون. فاستبدلوا به فهمًا رياضيًا هيأ منذ ذلك الحين الطريق للمفهوم اللامركزي الذي اعتمده كوبرنيكوس لاحقًا جدًا (أي بعد 2200 سنة). لا بل أكثر من ذلك، يعتقد بعض العلماء اليوم أن فيثاغوراس كان أول من تحدث عن كروية الأرض والكون. أفلم تكن الكرة بالنسبة له هي الجسم الأكمل؟ أو لم يكن تلميذه فيلولاوس أول من قدَّم فهمًا كرويًا مركزيًا لكون تتحرك مكوِّناته في الأثير بتناغم موسيقي حول كرة نارية مركزية اعتبروها في حينه مركزًا للعالم؟

وأيضًا، مع مفهوم الأثير، يكون الفيثاغوريون قد تجاوزوا في حينه مفهوم العناصر الأساسية الأربعة. فإذا كانت النار بالنسبة لهم ممثَّلة رمزًا بالإله آرِس (مارس)، وكانت الأرض ممثَّلة بهاذِس (العالم الأسفل)، والماء بكرونوس (الزمن)، والهواء بذيونيسوس، فإن الأثير الممثَّل رمزًا بزفس أبي الآلهة يستوعبها جميعها.

وأخيرًا وليس آخرًا، نلاحظ أن المدرسة الفيثاغورية قد ربطت بشكل غير قابل للانفصام بين مفهومين أساسيين يبدوان بالنسبة لنا اليوم متعارضين أقصد مفهومي...

7
العلم والدين

ففيما مضى، في زمن غابر كما يقال، كانت العلوم مرتبطةً بالمعرفة كمفهوم مقدَّس. فعلوم تلك الأزمنة، كما نعرِّف بها اليوم، كانت علومًا منقولة sciences traditionnelles.

"منقولة" بمعنى أنها كانت تنطلق من قاعدة تراثية عريقة، أي من قاعدة تربط كما يعرِّفها رونيه غينون العلوم بمجموعها بمبدأ متعالٍ transcendant، إن لم نقل ألوهي. يقول غينون:

كانت الفيزياء بالنسبة لأرسطو تابعة للميتافيزياء، بمعنى أنها لم تكن مستقلة عنها إنما، كانت مجرَّد تطبيق على صعيد الطبيعة للمبادئ العليا ومجرَّد انعكاس لقوانين هذه المبادئ العليا. أما العلوم الحديثة [أو الدنيوية profanes حسب جينون] فهي تدعو خلافًا لذلك إلى عزل العلوم من خلال رفض كل ما يتجاوزها.

وما يتجاوز علومنا "الدنيوية" فعلاً اليوم كان وما زال وسيبقى، ذلك الأساس المقدَّس الذي لا ندركه. وفصل هذا الأساس المقدَّس عن العلوم يعني عمليًا (أيضًا حسب غينون):

... تفريغ العلوم من مضمونها العميق، وتسطيحها.

من خلال جعلها تطبيقية فقط وبالتالي بلا غاية حقيقية.

وهذا يشكل كما نتلمس اليوم، جانبًا أساسيًا من جوانب أزمة عالمنا المعاصر. ولكن، لماذا وكيف حدث ذلك؟ ربما لأن الإنسانية أخطأت المسار عمومًا؟ أو ربما لأن أبناء المعرفة من البشر اختاروا طريقهم من خلال العقل وحده فتجبَّروا؟ أو ربما لأن القوَّامين على الشرائع رفضوا العقل وحجبوا الحقيقة فضلُّوا، وضلَّلوا؟ أو ربما لهذه الأسباب مجتمعة؟ ولكن، وأيضًا، وخاصة، لأن هذا كان قطعًا قدر الإنسان الذي حمل، بمشيئة الله، الأمانة. وكما جاء حقًا في الكتاب الكريم:

... إنَّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقبلها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً.

المهم أن انفصالاً معينًا مترافقًا مع جهالة معينة قد حصل فأوصلنا إلى ما أوصلنا إليه. كما حصل أيضًا، منذ بدء الخليقة الواعية وحتى الساعة، أن سعى أبناء المعرفة، على مرِّ العصور، إلى جمع ما يصوِّرهما الفهمُ الظاهر للأشياء بالنقيضين وأقصد المعرفة والدين، إن لم نقل العقل والإيمان.

العقل من خلال العلوم والمعرفة والسعي الدؤوب لإعادتها إلى قدسيَّتها البدئية. والإيمان من خلال الأديان والسعي الدؤوب المستمر لإعادتها من حيث الجوهر إلى وحدانيتها.

وهنا، تحديدًا، كانت المحاولة الفيثاغورية ملفتة للنظر حيث كان الفيثاغوريون، انطلاقًا من تفهُّمهم العميق للأصول المشتركة لجميع الأديان، ينظرون إليها جميعًا، كجوهر وكعمق، انطلاقًا من مستويات المعرفة وتفاوتها عند البشر. ونفصِّل هذه النقطة الهامة قليلاً حيث...

بالنسبة لهم كان النظر إلى الألوهة من خلال المشاعر والأحاسيس سرعان ما يؤدي من خلال تعدُّد مظاهر هذه المشاعر والأحاسيس ولاتناهيها في العدد إلى تعدد الآلهة كفهم كان مسيطرًا عند أغلبية الشعوب والأمم البدائية. ولكن...

إن نظر الإنسان إلى الألوهة من خلال النفس العاقلة وجد أن المظهر سرعان ما يتغير فيصبح ثنائيًا ومزدوجًا، أي خيرًا وشرًا، وروحًا ومادة، إلخ. وكما كان يعتقد في زمان فيثاغوراس مثلاً الزرادشتيون. وأيضًا...

إن ارتقى الفهم فأضحى من خلال الروح والنفس والمادة مجردًا أصبح فهم الألوهة معه ثلاثي التجلِّي، كما كانت الحال في زمن فيثاغوراس عند الهندوسية التي اعتمدت مبدأ ألوهة مثلَّثة التجلِّي وممثَّلة بـ: برهما وفشنو وشيفا. وأخيرًا...

إن ارتقى الفهم عند أبناء المعرفة في جميع الملل، من خلال تلك الإرادة الواحدة الجامعة التي تتجاوز الجميع. سرعان ما يعود فهم الألوهة أحاديًا، كما كانت حال جميع العارفين قبل فيثاغوراس وبعده، وكما كانت وأضحت الحال مع الديانات التوحيدية الكبرى الثلاث. ولكن...

قد يعترض البعض هنا قائلاً إنه إذا كان ما عرضناه يمثل الفهم الفيثاغوري للألوهة والعلم فما الداعي، إذن، كما سبق وأشرنا، إلى هذا الإصرار الكبير من قبل المعلِّم وأنصاره على ما سبق وعرَّفنا به بوصفه...

8
سرَّانية المعرفة

وأتذكر هنا نقاشًا دار حول الموضوع نفسه بين الصديق موسى الخوري، عقب محاضرة له بعنوان بين الفيثاغورية وإخوان الصفا، وأحد الحضور الكرام. وأيضًا، أتذكر متبسمًا كيف اعترضت يوم أدائي القسم كمهندس متخرج قبل 26 عامًا على فقرة وردت في ذلك النص الجميل في حينه حول "الحفاظ على سرّ المهنة".

ومنطقي آنذاك، كمنطق ذلك الأخ الكريم من الحضور الذي اعترض في حينه على ما جاء في محاضرة الصديق موسى الرائعة حول سرَّانية المعرفة عند الفيثاغوريين وإخوان الصفا، وكمنطق غالبية مثقَّفينا المعاصريين، كان ربما ذلك الفهم الشعبوي الملقَّب بالديموقراطي والسائد اليوم من خلال عقلياتنا الذرائعية. ولكن...

ما بوسعي اليوم أن أقوله، ما بوسعي أن أجزم به من خلال تجربتي المتواضعة هو أن هذا الفهم كان في الدرجة الأولى تبسيطيًا جدًا، وبالتالي، كان خاطئًا جدًا.

كان تبسيطيًا وبالتالي كان خاطئًا لأنه تجاهل قبل كل شيء ما تعنيه المعرفة، أية معرفة، من سلطة على الآخرين وبالتالي ضرورة أن تكون هذه السلطة على الآخرين، أخلاقية أولاً وآخرًا.

وأتأمل بمرارة كم من أطبائنا اليوم وقد أضحى التعليم "ديموقراطيًا" يتذكَّر وهو يعاين مرضاه "قسم هيبوقراط"؟ وأيضًا...

أتأمل كيف أضحى بوسعنا من خلال الطاقة النووية تدمير كوكبنا وكل ما يحتويه من مظاهر الحياة، وكيف أضحى علماء نوويون في أواخر قرننا يبيعون اليوم رغم ذلك معارفهم ونتاجهم لمن يدفع. وأيضًا...

أتأمل فيما حقَّقناه في علم السبرنيتيكا وكيف أضحت الفيروسات المبرمجة من أهم منجزاتها. وفي منجزاتنا في علم الجينات وبتلك الأمراض الجديدة المنفلتة من عقالها والتي باتت تهدد الجميع. وأتساءل هل نحن اليوم على حقٍّ من خلال شعاراتنا الجوفاء وخاصة منها تلك الداعية إلى "ديموقراطية المعرفة".

ثم لم لا نتوقف قليلاً عن خداع أنفسنا وعن خداع الآخرين من خلال هذا الشعار الكاذب الداعي إلى ديموقراطية المعرفة. وكل عاقل يعرف اليوم أن المعرفة في جميع أنحاء المعمورة هي في طريقها لأن تتحول إلى احتكار تتملَّكه نوادٍ شبه مغلقة تتحكم فيها "النخب" المسيطرة على عالم اليوم والقائمة على العنف والذرائعية والمصلحة المادية المباشرة. وأقارن هذا الواقع بما كان يدعو إليه فيثاغوراس من نخبوية حقَّة قائمة على الأخلاق وعلى قدسيَّة المعرفة التي كانت تشكل بالنسبة له أساسًا دينيًا. وأدع لكم أيها الأخوة مجال الحكم على ما حقّقناه من حيث العمق من تقدُّم.

سرَّانية المعرفة، بالنسبة لفيثاعوراس، لم تكن تعني قطعًا إخفاءها واحتكارها وإنما كانت ولم تزل، ربما، وحتى يرتقي الإنسان إلى المستوى المطلوب لاقتنائها، حاجة تفرضها ضرورة الحفاظ على قدسيَّتها. ويُلزِمنا سياق بحثنا على التوقف قليلاً هنا أمام المفهوم الفيثاغوري لكل من...

9
الديموقراطية والأرستقراطية

حيث، كما سبق وأشرنا، كان فيثاغوراس يتعامل مع "الديموقراطية" كوسيلة وليس كغاية بحد ذاتها. كوسيلة بمعنى أنها مجرد أداة. ربما أفضل أداة يستطيع المجتمع الإنساني بواسطتها ومن خلالها تأمين تكافؤ حقيقي في الفرص بهدف الوصول إلى مبتغاه. أما المبتغى الاجتماعي، أما الغاية الاجتماعية للديموقراطية، فقد كانت بالنسبة لفيثاغوراس النخبوية أو "الأرستقراطية".

وفهمه للأرستقراطية أو للنخبوية كان مبنيًا، كما سبق وبينَّا، على تملِّكها التصاعدي العميق للمعرفة المقدَّسة من خلال سرَّانيتها، وعلى الأخلاق من خلال الدين والعبادة الحقيقيين. وكما تقول "الأبيات الذهبية" أنْ:

لا تفعل أي شيء بلا علم، به وتعلَّم ما ينبغي أن تعلم. فتلكم قاعدة الحياة الهنيئة و

باشر عملك بعد أن تسبِّح الآلهة حتى تتوفَّق فيها فـ

إذا ملكت هذه المبادئ عرفت جوهر الآلهة الخالدة والآلهة الفانية، والفوارق بين الأشياء والروابط التي تشدها بعضها إلى بعض.

وعرفت حدود الحلال، حيث الطبيعة هي هي في كل شيء، وبذلك لن تأمل فيما لا أمل فيه ولن يخفى عليك شيء.

فالافتقاد العملي لهذه المبادئ الخالدة هو الذي شكَّل، ربما، على مرِّ العصور، جانبًا أساسيًا من جوانب الأزمة الإنسانية. وأستذكر ما أورده بهذا الخصوص رونيه جينون إذ قال:

لعل الفردية individualism هي من المسبِّبات الأساسية للانحطاط. وما نقصده بالفردية هو نفي أي مبدأ متعالٍ يفوق الفرد مما يعني، عمليًا، حصر الحضارة في مختلف مجالاتها بما هو بشري فقط ليس غير [...] فالمجتمع الإنساني المؤلف من المجموع الحسابي لأفراده يصبح غير خاضع لأي مبدأ سام يعلو بمضمونه على الأفراد، وبالتالي يسوده قانون العدد الأكبر. ذلك القانون الذي يعني عمليًا. قانون المادة، إن لم نقل قانون القوة الغاشمة.

ونسجل هنا أن ما كانت المدرسة الفيثاغورية تسعى إليه أساسًا كان القضاء على هذه الفردية من خلال المعرفة والمحبة التي تستلزم "الاشتراكية"، وحيث "يفترض أن تكون جميع الأشياء مشتركة بين الأصدقاء"، كما قال المعلِّم ذات يوم.

ونكتفي حول هذه النقطة بهذا القدر. ونتابع مع الأسطورة الفيثاغورية وقد وصلنا معكم أيها الإخوة إلى...

10
النهاية

تلك النهاية التي يمكن تلمُّسها ربما من خلال الأبيات الذهبية التي عكست بمرارة ما شعر به المعلِّم وتلاميذه في أيامهم الأخيرة تقول إن:

لسوف تعرف البشر، ضحايا المصائب التي ينزلونها بأنفسهم، وعلى بؤسهم، على العاجزين، لا بالنظر ولا بالسمع، عن إدراك الخيرات القريبة منهم إلى هذا الحد، إذ قلة من بينهم تعرف كيف تنجو من الشقاء.

ذلكم هو القضاء النازل بنفوس الفانين. فهي كالكريَّات تتدحرج هنا وهناك معرَّضة لآلام لا تنتهي، فـ

الشقاق، رفيقهم الفاجع، يودي بهم من حيث لا يدرون. الشقاق الذي يظهر لدى ولادتهم، الذي يجب الامتناع عن إثارته، وتجنُّبه بالانقياد له.

فالأسطورة تقول إنه في عام 500 قبل الميلاد، حصل في مدينة سيباريس الغنية المجاورة لكروتونا، التي كانت تحكمها ككروتونا نخبة أرستقراطية عريقة، تمرَّد قائد طاغية يدعى تيليس استولى على السلطة هناك، فأعدم وقتل الكثير من معارضيه الفيثاغوريين. لكن بعضًا منهم تمكن من الهرب إلى كروتونا حيث طلبوا حق اللجوء.

ويُمنَح هؤلاء الفارين من سيباريس إلى كروتونا حقَّ اللجوء، رغم معارضة بعض أعضاء مجلس شيوخها، نتيجة التدخل المباشر لفيثاغوراس، مما أثار غضب طاغية سيباريس الذي أعلن الحرب على كروتونا.

وكان أنْ ربحت كروتونا (التي كان يقود جيشها البطل الأولمبي والفيثاغوري ميلون) في حينه تلك الحرب التي فُرِضت عليها ولكن...

كنتيجة لتلك الحرب ازدادت قوة "الحزب العامِّي" المعارض للنخبة الفيثاغورية الحاكمة وازدادت شقة الخلاف بين أبناء المدينة. وطبعًا، تجلى الخلاف حول غنائم الحرب والأراضي المستولى عليها من سيباريس التي طالب "الحزب العامِّي" بضرورة توزيعها على أفراد الشعب، بينما عارض مجلس الشيوخ الذي كان يقوده الفيثاغوريون ذلك مفضلاً أن تُستثمَر للصالح العام.

وكان يقود ذلك "الحزب العامِّي" في حينه ابن عائلة كروتونية غنية يدعى سيلون سبق أن رفض فيثاغوراس انتسابَه إلى مدرسته بسبب عنفه وسوء أخلاقه. مما أدى إلى تحوُّله إلى عدو لدود للفيثاغوريين. ويحرض سيلون العامَّة من خلال استثارة أحطِّ غرائزها على التخلُّص من فيثاغوراس وجماعته.

وكانت مجزرة أودت بحياة معظم هؤلاء. وكانوا مجتمعين في منزل القائد ميلون. وحيث، كما تقول الأسطورة، لم ينج منهم إلا اثنان.

وتشتَّتت الطائفة بعد أن فشلت من خلال نظامها السياسي الذي كان قائمًا على العمل والفضيلة في إصلاح المدينة.

أما فيثاغوراس - ولم يكن أحد الناجين - فلا أحد يعرف ما حلَّ به. حيث يقول بعضهم، ومنهم هيبوليتوس ونيانتيس، أنه قتل في حينه مع رفاقه في منزل ميلون على يد المتمرِّدين. ويقول بعضهم الآخر، ومنهم ساتيروس، إنه تمكن من الهرب واللجوء إلى معبد في ميتابونتي حيث قضى آخر أيامه في الصلاة صائمًا حتى وافته المنيَّة. وتختلف الأقاصيص، لكنها تتفق جميعها على غموض نهايته حيث...

لم يجد أحد جثمانه الذي يقول أتباعه إن الآلهة حملته إلى أعالي جبال الأولمب حيث مازال إلى يومنا هذا يتابع سعي أبنائه المستمر في سبيل الحقيقة.

تلك الحقيقة التي تعلو على كل شيء، والتي مع خاتمة "الأبيات الذهبية" كانت وستبقى تؤكد، رغم كل شيء، لجميع المريدين الذين آمنوا بها أن...

... البشر من سلالة إلهية وأن الطبيعة المقدسة ستدلُّهم وتكشف لهم كلَّ أسرارها.

*** *** ***

المراجع

-       الكتاب المقدَّس، "العهد الجديد".

-       القرآن الكريم.

-      Jean Mallinger, Pythagore et les Mystères.

-      Edouard Schuré, Les grands Initiés.

-      Jean Voilquin, Les penseurs grecs avant Socrate.

-      Jacques Chevalier, Histoire de la pensée, Tome 1.

-      Dictionnaire des œuvres philosophiques.

-      René Guénon, La crise du monde moderne.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني