التسامح والتعدُّدية

 

محمود منقذ الهاشمي

 

يقال في اللغة "سامحه في الأمر" و"بالأمر" أي "ساهله ولايَنَه ووافقه على مطلوبه". والتسامح فعل مشترك يدل على التساهل والملاينة والموافقة، وهو في معناه الحديث يدل على قبول اختلاف الآخرين – سواء في الدين أم العرق أم السياسة – أو عدم منع الآخرين من أن يكونوا آخرين أو إكراههم على التخلي عن آخريتهم.

والتسامح tolerance يعني الاستعداد لاتخاذ الموقف المتسامح. وهو لا يمكن أن يُعَدَّ فضيلة إلا عندما يمكن للمرء ألا يكون متسامحاً. فهو قريب من مفهوم "العفو". والقول المعروف "العفو عند المقدرة من شيم الكرام" يشير إلى المقدرة على العفو. وليس في استطاعتنا أن نتحدث عن موقف متسامح في حال شخص يضطر، وهو مضطهد وفي موقف ضعيف، أن يتحمل الآخرين. وهذا الشخص الذي يتحمل الظلم فإنه، في حال الضرورة ووفقاً للعرف الديمقراطي، له الحق في المعارضة والحق في الدفاع عن نفسه في وجه الاضطهاد والتميز. ولذلك فالتسامح حين يوجد هو، بالحديث العام، موقف الناس الذين هم في المراكز القوية، بمن فيهم السياسيون الحكوميون، نحو الناس الذين هم في مواقع أقل قوة؛ ولكنه يمكن أن يكون كذلك موقف الأكثرية السائدة من الأقلِّية.

لكن هناك نوع آخر من التسامح يأتي ببساطة من عدم التحيُّز impartiality. وينادي غوته، وهو يدعو إلى هذا النوع من التسامح، بتجاوز الموقف الذي يقتصر على التسامح مع شخصية شعب يختلف عن شعب المرء، والتقدم إلى موقف التقدير المناسب لخصائص هذا الشعب المختلفة جداً واحترام "آخريتهم" alterity. ولاريب أن النوع الثاني هو الأرقى.

ويكتسب التسامح أهمية خاصة إذا كان للناس ذوي القناعات الدينية والإيديولوجية والسياسية المختلفة أن يعيشوا معاً في مجتمع ديمقراطي تعدُّدي. وإذا كان التطور يعني، فيما يعنيه، الانتقال من البسيط إلى المركب ومن الأحادي إلى التعدُّدي، وإذا كان العصر الحديث يشهد – ولاسيما في أوروبا – بروز مجتمعات متعدِّدة الثقافات إلى مدى يتزايد باطراد، يتحقَّق فيه خلال فترة طويلة تنوُّعٌ في الفوارق الدينية والمذهبية، فإن ذلك يجعل فضيلة التسامح ضرورية إلى أقصى الحدود.

ولكن يحلو لبعض الغربيين ألا يروا عدم التسامح إلا في المسلمين أو الأصوليين الإسلاميين وقد استبد بهم الغرور بأن أخلاقهم هي أقوم الأخلاق. وهم لا يدركون أن هذا الغرور هو بعينه خطر على التسامح.

فالإسلام قد نص على التسامح مع مختلف الأديان وجاء في الآية 69 من سورة المائدة: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يخزنون." وهذا يعني أن الذين آمنوا (أي المسلمين) والذين هادوا (أي اليهود) وكذلك المسيحيين والصابئة، وباختصار: كل الذين يؤمنون بالله ويعملون ما هو صالح، لا يُخشى من أن يعذَّبوا في الآخرة أو أن يُحرَموا من النعيم. أليس في ذلك دليل على أن الإسلام يتجاوز في تسامحه طوائف المسلمين إلى بقية الأديان؟ وعندما كان الأمويون يحكمون الأندلس تسامحوا مع الجماعات اليهودية والمسيحية وشهد عصرهم، باعتراف الكتاب الغربيين أنفسهم، ازدهاراً لا يضاهى للثقافات الثلاث.

ولكن عهد هذا التسامح انتهى بإعادة فتح الغرب المسيحي لشبه الجزيرة الإيبيرية. فما فعله الإسبان من المعمودية الإجبارية للمسلمين واليهود وإحراق الهراطقة، وأخيراً "محكمة التفتيش" الدينية بعيد كل البعد عن أن يكون صفحات مجيدة في تاريخ التسامح الديني. والبروتستانت بإحراقهم السحرة لم يكونوا أفضل من الإسبان الكاثوليك على الإطلاق.

إنني لم أذكر هذه الأمثلة لأنفي التعصب وعدم التسامح عن تاريخ المسلمين نفياً مطلقاً، ولكن لأشير إلى أن التسامح موجود في صلب العقيدة الإسلامية وأن المسيحيين في ماضيهم لم يكونوا متسامحين على النحو الذي يتصوره بعضهم. فكما يقول المفكر المعروف إيرفنغ فتشر: "إن لشعوب النصرانية كل مسوغ في أن تكون خجلة من عدم تسامحها الديني والإيديولوجي في العصور السالفة. ويقيناً ليس لهم الحق في أن يشيروا بإصبع الاستهجان إلى الآخرين."

وفي البداية نشأت سياسات التسامح الأوروبية عن موقف الإدارة السياسية المتنوِّرة. وهو موقف نجم عن إدراك العواقب الوخيمة لعدم التسامح. وعندما أصبح واضحاً أن فرض التجانس الطائفي في كل أنحاء الدولة يتعارض مع الأمن المدني تخلى الحكام المتنورون عن هذه السياسة ومنحوا رعاياهم "مراسيم سياسة التسامح".

هكذا في 1598 خوَّل ملك فرنسا هنري الرابع بـ "مرسوم نانت" رعاياه الكالفينيين الحق في الممارسة الحرة لديانتهم. وعلى أية حال فإن الشروط التي يتضمنها هذا المرسوم تُظهِر أن الملك قد أخذ في حسبانه الموقف المتعصب لرعاياه الكاثوليك.

إن إلغاء مرسوم نانت سنة 1685 في ظل حكم الملك لويس الرابع عشر يظهر بوضوح أكثر من المرسوم نفسه كم أصبحت ضرورية سياسية المسامحة الدينية بالنسبة إلى الأمن الاجتماعي في العصر الذي كانت فيه فرنسا ضعيفة وفقيرة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، في حين أن البلدان التي كانت تريد استقبال هؤلاء اللاجئين كانت جنت فوائد ضخمة من هذه السياسة. وكانت هذه هي الحال في براننبورغ على وجه الخصوص، حيث أصدر الأمير على الفور مرسوماً في بوتسدام يلزم به رعاياه اللوثريين بالتسامح مع الإصلاحيين من إخوتهم في الدين. وكان يتميز بين الخدم المدنيين للدولة البروسية عدد هائل من الفرنسيين البروتستانت.

وأثبت فريدريك الكبير أنه عادل ومتسامح كجدِّه. وفي عدد من الكتابات المختلفة كان يزكِّي سياسة التسامح الديني ويصفها بأنها قاعدة الحكمة السياسية. وفي سنة 1740 كتب رداً على سؤال الإدارة الحكومية حول هل بوسع الكاثوليكي أن يكتسب الحقوق المدنية: "إن كل الأديان جيدة بالتساوي، وحسب الناس الذين يعلنون إيمانهم بها أن يكونوا صادقين. ولو أراد الأتراك والوثنيون أن يجيئوا إلينا ويقطنوا في بلدنا لبنينا لهم المساجد والمعابد. فكل امرىء في مملكتي حرٌّ في أن يؤمن بما يريد وحسبه أن يكون صادقاً." ومما لاشك فيه أن هذا التسامح الديني كان سهلاً بالنسبة إلى ربوبي متنوِّر اتخذ الموقف القائل بأن الوحي في الدين إنما هو مع العقيدة الكنسية مجرد "خدعة". ومع ذلك تظل حقيقة لافتة للنظر أن سياسة التسامح التي أيَّدها فريدريك لم تقتصر على المسيحيين. على أن بيير بايل كان أول من أوصل سياسة التسامح إلى حد الرغبة في إعطاء الحقوق المدنية حتى للملحدين.

وبينما كانت الحكمة السياسية في القارة الأوروبية هي العامل الأول في نشوء سياسات التسامح، كانت هذه الحكمة يصحبها في بريطانيا باعث ديني. فأعضاء الكنائس الحرة المخالفة للأكثرية الذين رفضوا سواء الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية أم كنيسة إنكلترا وهي مؤسسة كهنوتية أصروا كذلك على "حرية ضميرهم" التي لا يمكن في التحليل الأخير أن يضمنها إلا الانفصال الكلي عن كنيسة الدولة. وفي هذا السياق، يلح جون مِلْتون على أن الإيمان الديني العميق لا يمكن أن يأتي إلا من قراءة الكتاب المقدس مع الإشراقة الداخلية التي يعيشها الفرد، وأن هذا الإيمان، بالإضافة إلى ذلك، يمنح المرء اليقين بأن اعتقاده منسجم مع مشيئة الله.

والإكراه الذي يلصقه البروتستانت تأنيباً بالكاثوليك لإيمانهم بمعصومية البابا هو عند مِلْتون أمر بغيض، لكنه يرى أن الإغراء كذلك بغيض، كما في الأفضلية التي تعطى لأعضاء بعض الطوائف الدينية في التعيين في الدوائر الحكومية. ولكن مِلْتون لم يكن يريد أن يمنح الكاثوليك القائلين بتجديد العماد والآريوسيين القائلين بأن الابن غير مساوٍ للآب في الجوهر، والدوكيتيين وهم من الناس الذين لا يمكن أن يشك في سلوكهم الأخلاقي وجديتهم في مسائل الدين أية تنازلات. وهكذا لم تعترف بريطانيا رسمياً بالتسامح المذهبي تجاه الكاثوليك إلا في سنة 1829، ثم تجاه اليهود سنة 1842، والملحدين سنة 1888.

يرى بعضهم أن التعصب وعدم التسامح ملازمان للأديان التوحيدية وأن الأديان القائمة على القانون أو تعدُّد الآلهة أكثر تسامحاً وأقل تعصباً. ومثل هذا الرأي قد عبَّر عنه المؤرخ الفرنسي المعروف غوستاف لوبون الذي قال إن مصر ظلت مثالاً للتسامح الديني، سواء من داخلها أو ممن غزاها. فهذا يعترف بديانة ذلك، وذلك يعبد آلهة الآخر، إلى أن جاءها المسيحيون ثم المسلمون فعرفت التعصب الديني والاستعبادية. لكن المؤمنين بعدة آلهة في العصور الكلاسية القديمة واجهوا عدة مشكلات في تعايش معتقدات دينية مختلفة، بقطع النظر عن عبادة الإمبراطور الروماني التي كانت سياسية أكثر منها دينية. وإنه لصحيح أن حكومات العالم القديم لم تكن متسامحة على الوجه الكامل الذي يريدنا بعضهم أن نعتقد. فسقراط قد حُكِم عليه بالموت لأنه وثق بالصوت الذي في داخله الذي كان متعارضاً مع آلهة مدينة أثينا. وعلى الرغم من أن في الأديان التوحيدية مادة خصبة لتقوية التسامح، فلسوء الحظ لم تكن الكنائس المسيحية أو الأديان التوحيدية الأخرى متسامحة على الدوام.

والرأي عندي أن عدم التسامح كان يرتبط في معظم الأحوال بما لدى العقائد المختلفة من طموحات سياسية، وأن التسامح كان يتم إذا لم يكن المعتقَد يعبر عن ظاهرة سياسية.

إن تعايش الطاوية والبوذية والكونفوشية في الشرق الأقصى يمكن تفسيره بأنه ليست في أية ديانة منها خطورة سياسية. كما أن التاريخ يشهد بأن محكمة الزنادقة التي أقامها العباسيون لم تكن تتهم بالزندقة الزنادقة فقط. ولم يكن كل هؤلاء الزنادقة زنادقة حقاً، وإنما كان منهم من يُتَّهم بالزندقة لأسباب سياسية. وحتى الزنادقة الحقيقيون كانوا يشكلون ظاهرة سياسية.

وقد اتخذ الخلفاء من هذا الاتهام وسيلة للقضاء على خصومهم من الهاشميين. وعلى هذا النحو، اتُّهِم ابن من أبناء داود بن علي ثم يعقوب بن الفضل وجيء بهما إلى الخليفة المهدي. ولما كان الخليفة المهدي قد ارتبط من قبل بعهد ألا يقتلهما فإنه لم يستطع أن يأمر هو بقتلهما وإنما حبسهما وأشار إلى ابنه الهادي أن يقتلهما حينما يتولى الخلافة. بيد أن الهادي لم يتح له أن يقتل غير يعقوب لأن ابن داود بن علي مات في سجنه قبل أن يتولى الهادي الخلافة.

والقصة التالية التي ترويها كتب التاريخ تُظهِر لنا كيف تعامل الخليفة العباسي المنصور مع بعض الوثنيين بالحكمة وكيف تناسى أمرهم لأنه لا يرتبط بمشكلة سياسية. فلما مرّ المنصور بحران على رأس جيشه ليحارب إمبراطور بيزنطة أبدى عجبه من زي تزيَّا به بعض الذين قدموا من حران ليؤدوا فروض التحية والولاء، فرآهم مهدَّلي الشعر، يرتدون ملابس ضيقة تلاصق أجسادهم؛ وهذه علامات سيمائية على اختلاف عقيدتهم. ولما وقف على أمرهم وأنهم ليسوا نصارى ولا زرادشتيين ولا يهوداً ولا من أهل الكتاب، علم أنه استكشف مستعمرة وثنية في ملكه الإسلامي، فأمرهم أن يعتنقوا ديناً من الأديان ذوات الكتب قبل أن يعود من الحرب، وإلا فإنه يكون في حِلٍّ إذا حكَّم السيف في رقابهم. فاعتنق بعضهم الإسلام وبعضهم الدين النصراني أو الزرادشتي، وظل بعضهم أميناً لعقيدته الوثنية. غير أن هؤلاء ظلوا في حيرة من أمرهم حتى أدركهم ناصح عربي أعطوه مالاً لقاء ما ينصح به لهم من سبيل يخلصون به من سيف الخليفة. فنصح لهم بأن ينقلبوا "صابئين"، وهم من أهل الكتاب بنص القرآن. على أن الخليفة لم يمر بحران في عودته ولكن ظل الحرانيون الذين انتحلوا الصابئية آمنين بذلك النعت الجديد، في حين أن الذين اعتنقوا الإسلام أو المسيحية أو الزرادشتية ارتدّوا إلى دينهم تحت عنوان الصابئية.

وفي حين يصحّ أن الحاجة إلى السلوك المتسامح نحو الأقلِّيات العرقية التي تنتمي إلى ثقافة مختلفة يمثل تحدياً جديداً للكثير من الدول التي هي حتى اليوم متجانسة ثقافياً وعرقياً فإن العلاقات بين الأكثريات والأقلِّيات شكلت على الدوام مشكلة مركزية للديمقراطية.

لقد أدرك تراث الديمقراطية الليبرالية منذ فترة قديمة نسبياً في إنكلترا والولايات المتحدة ضرورة أحزاب المعارضة القانونية. وكان هذا يعني أن على حزب الأكثرية واجب التسامح مع حزب الأقلِّية المهزوم، وكان مفهوماً أنه من دون سياسة التسامح يمكن لسلطة الأكثرية في زمن معين أن تؤدي إلى الدكتاتورية. وهذا التسامح يعني، فيما يعنيه، أن القرارات والإجراءات التي تتخذها الأكثرية، بما فيها سن القوانين، يمكن أن تظل موضع انتقاد الجماهير.

إن أية محاولة لإعطاء قرارات الأكثرية صفة الإطلاق تعني إنكار طبيعتها المشروطة. والتسامح يوفر المعيار الذي يمكن به لقرار الأكثرية أن يُفهَم ويُفسَّر.

وفي كل هذا تتحمل الأكثرية المسؤولية عن الأقلِّية المهزومة، وليس لها الحق في أن تطالب بأن تكون قراراتها وآراؤها محترمة. ولا يجوز أن تتخذ القرارات بقصد إكراه الأقلِّية على قبول كل شيء في هذه القرارات. ولا ريب أن على الأقلِّية أن تحترم قرارات الأكثرية، بما في ذلك مثلاً طاعة القوانين التي سُنَّت. لكن هذا لا يعني أن تكون موافِقة كل الموافقة على هذه القرارات، فيظل لها الحق من خلال وسائل الإعلام في أن تطالب بتعديل القرارات التي تم إصدارها في فترة انتخابية أخرى. ولذلك يجب أن تكون قرارات الأكثرية ذات طبيعة قابلة للتسامح.

والإمكانية القانونية في تشكُّل أكثريات جديدة يعني أنه ليس للأكثرية في أي وقت الحق في أن تفعل كل ما في وسعها لمنع مثل هذا التغيير، حتى وإنْ لم تكن راغبة فيه: فعلى النقيض من ذلك، ينبغي للأكثرية الحاكمة أن تقبل هذه الإمكانية على أنها مسألة مبدئية. وإنها لعلامة على ما يمكن أن يدعى تسامحاً بنيوياً في جمهورية ديمقراطية أن يُسمَح قانونياً بتغيير الحكومة وأن يصبح التغيير ممكناً في الواقع. والشروط اللازمة لهذه "المسؤولية الحقيقية" هي حرية الإعلام والنشر مع حرية التنظيم والتظاهر. فللتعويض عن الحصانة القانونية القَبْلية التي يتمتع بها الحكام بفضل كونهم في السلطة فإن قواعد البروتوكول في مجلس العموم البريطاني تمنح حزب المعارضة بوجه خاص زمناً أطول للتحدث من حزب الحكومة في المناسبات المهمة، من نحو إعلان سياسة الحكومة أو التصويت على الميزانية.

والفيدرالية بالنسبة إلى الأقلِّيات التي لا تستطيع أن تصبح أكثريات هامة بوصفها عرفاً يضمن أن يطالها التسامح. وفي هذا المجال يقول فيرنر كيغي: "إن الفيدرالية نظام يجعل من الممكن للأقلِّيات أن تعيش معاً بحرية. إنها قائمة على تسامح الأكثرية مع الأقلِّيات المختلفة بطبيعتها وعلى الاحترام المتبادل بين الأقلِّيات المختلفة [] فالأقلِّيات لا يحميها تشريع خاص، بل القانون والنظام في ظل الكيان الفيدرالي. والشكل الفيدرالي للحكم، بما يقتضيه من التسامح مع الأقلِّيات، يخفف بطريقة صحية المطلقية الديمقراطية لمبدأ الأكثرية." إن حق الأقلِّيات في الحكم الذاتي ضمن الإطار الفيدرالي، كما في الجزء الناطق بالفرنسية من سويسرا، إنما هو تعويض عن أنها لن تشكل أكثرية.

إن ما تحقَّق في هذا العصر في بعض المجتمعات قد مهَّدت له القرون الماضية بتجاربها ومفكريها الأحرار. وكان سبينوزا في القرن السابع عشر من الذين قاموا بدور بارز في تاريخ التسامح. هوذا يقول: "ما لا يمكن منعه يجب السماح به." وهذا المبدأ هو الأهم في شؤون الإيمان والقرار الحرّ، وهو الفضيلة التي لا غنى عنها لتطور الفن والعلم. وإذا قامت الدولة بقمع التعبير عن الآراء المختلفة فإن الناس، كما يقول سبينوزا، "سيفكرون بطريقة تختلف نظامياً عن الطريقة التي يتكلَّمون بها. والنتيجة هي القضاء على الموثوقية والولاء الضروريين للمحافظة على الدولة. وهذا سيؤدي إلى نشوء ما نمقته من الرياء والخيانة." ونحن نعلم بعد تجاربنا مع الأنظمة الاستبدادية التوتاليتارية أن هذه الحكومات، لأنها لا تثق بأتباعها بعد إكراههم على أن يصبحوا منافقين، تستخدم البوليس السري والمخبرين لتكتشف ما يفكر فيه الناس حقاً. ونرى إذن أن قمع حرية الاعتقاد والرأي يؤدي إلى شرّ آخر هو التجسس على الناس واتّهامهم.

ويضيف سبينوزا إلى ذلك عدداً من الملاحظات الأخرى التي سيؤكدها أي امرىء يعلم من التجربة الشخصية ما هي الدولة الاستبدادية التوتاليتارية. فكلما ازداد قمع حرية الكلام اشتدت معارضة بعض الناس على الأقل لهذه السياسة. و"لن تأتي هذه المعارضة – كما يقول سبينوزا – من الطفيليين أو الطماعين أو الحمقى، بل من ذوي الثقافة الجيدة والشخصية المستقيمة، الطاهرين في أسلوب حياتهم ممَّن تكون الحرية عندهم ضرورة." ويتساءل: "أيمكن للمرء أن يتصور كارثة أكبر للدولة من أن يُنفى الناس المحترمون وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأن آراءهم تختلف، ولأنهم لم يريدوا أن يسلكوا سلوك المنافقين، وأن يُعدُّوا أعداء للدولة لا لجريمة ارتكبوها بل لأنهم يحبون الحرية!"

والسؤال الآن هو: هل هناك حدود للتسامح؟ أينبغي التسامح حتى مع الجماعات والأحزاب والطوائف التي هي غير متسامحة؟ تأتي في المقدمة ضرورة تجنب العنف. فيجب أن تسير المجادلات بالطرق السلمية. ولكن يجب قبول التظاهر وسيلة للتعبير عن بعض الجماعات التي ليست لها طريقة أخرى لجعل آرائها ورغباتها معلومة بتأكيد خاص. وثمة حاجة إلى التسامح فيما يتعلق بالتعبير عن الرأي ولكن هذا لا يعني التسامح مع العنف.

لقد ناقش جون رولز في كتابه نظرية العدالة مسألة القدرة على التسامح مع غير المتسامحين نقاشاً مفصَّلاً. وللعثور على جواب صحيح عن السؤال "هل ينبغي التسامح مع غير المتسامحين؟"، يقسم السؤال إلى قسمين. الأول هو: هل ينبغي للجماعات غير المتسامحة أن تتذمَّر عندما لا يجري التسامح معها؛ الثاني هو: هل للجماعات أو الحكومات المتسامحة الحق في ألا تتسامح مع غير المتسامحين؟ إن السؤال الأول من الممكن الإجابة عنه بالرجوع إلى القاعدة الذهبية: "عامِل الناس بما تحب أن يعاملوك به." وليس للجماعات غير المتسامحة الحق في أن تتذمر عندما لا يجري التسامح معها. بالمقابل، على الدولة أن تعامل غير المتسامحين بطريقة متسامحة.

وغني عن القول أن لكل امرىء الحق في الدفاع عن نفسه عندما تهدَّد حريته. ويرى رولز أنه حين لا يتهدد سريان الدستور العادل فمن الأفضل التسامح مع غير المتسامحين. وعلى المواطنين المنصفين أن يناضلوا لحماية الدستور مع كل حرياته حتى لا تتعرض الحرية للخطر. ولكن عندما يكون الدستور آمناً، فلا داعي لقمع حرية عدم التسامح. ووفقاً لخبرته في التسامح بعيد المدى فهناك فرصة لتربية الناس غير المتسامحين على التسامح أفضل مما يخلِّفه الإكراه الحكومي.

ومايزال ثمة سؤال صعب يعذِّب الناس المتديِّنين، وهو كيف يمكن التوفيق بين قوة معتقد المرء وروح التسامح الديني؟ وعن هذا السؤال يجيب اللاهوتي البروتستانتي باول تيليش بمنتهى الوضوح: "إن نوع التسامح الذي هو نسبوية خالصة، أي الموقف الذي لا يتطلب شيئاً غير مشروط، من شأنه أن يكون سلبياً وعديم الأهمية. إنه منفتح على إمكانية التحول المحتوم إلى نقيضه. إنه الرغبة المتسامحة في القوة. وعلى النقيض من نوع التسامح الذي لا يأتي إلا من عدم الاكتراث والنسبوية فإن على الدين المسيحي أن يوحِّد بين أمرين هما التسامح الذي هو إدراك للطبيعة المشروطة لكل معتقد خاص واليقين الذي يعتمد على غير المشروط."

ولا يمكن تجنب التعصب إلا بالتمييز بين الإيمان وصور التعبير عن هذا الإيمان؛ وهو أمر صعب إلا أنه ضروري. ويمكن أن يُعَدَّ التصوف في كل الأديان محاولة لتجاوز حدود الصور. وفي هذا السياق من الشائق أن نلاحظ أن الصوفية كانوا في العادة أناساً متسامحين. يقول الشيخ محي الدين بن عربي:

 

إذا لم يـكـن ديـني إلى ديـنـه دان

 

لقـد كنت قـبـل الـيوم أنكر صاحبـي

فـمـرعـى لغـزلان وديـر لرهـبان

 

وقـد صـار قلبي قـابـلاً كـل صورة

وألـواح تـوراة ومـصحـف قـرآن

 

وبـيـت لأوثـان وكـعـبـة طـائـف

ركائـبـه فالحـب دينـي وإيـمانـي

 

أديـن بـديـن الحـب أنـّى توجـَّهتْ

 

والعالم اليوم موزَّع بين الادعاءات المطلقية absolutism للأمم والأحزاب والطوائف بامتلاك الحقيقة الجوهرية والكلية، والنسبوية relativism التي تنكر التسويغ الموضوعي لكل الادعاءات بالحقيقة. والمطلقية سبب للنزاع في العالم لأنها تحطّ من قدر المعتقدات ونماذج السلوك التي تختلف عن معتقداتها ونماذج سلوكها، وتَسِمُها بأنها نتاجات الجهل أو الانحراف. والنسبوية، بالمقابل، انتهازية أحياناً. فهي بإنكارها الموضوعية الحقيقية والقيم تلتزم بما يحقق مصالحها من قيم الأشخاص والجماعات. وإذا لم يكن ثمة غير التفضيل الشخصي والثقافي مما يربط الفرد بقيمه الخاصة فمن الممكن له حين تهاجَم هذه القيم أن يحوِّل ولاءه إلى فئة مختلفة طمعاً في الفائدة وتجنباً للخسارة وأن يكرر العملية حين تنشأ صعوبات جديدة. والنسبوية هي باختصار فلسفة الإخلاص في أحوال الرخاء، وهي تسير يداً بيد مع مذهب المتعة hedonism الذي يجتنب الألم ويبحث عن اللذة كلما كان ذلك ممكناً.

والتعدُّدية pluralism هي الموقف الثالث الذي يختلف عن كل من المطلقية والنسبوية. وهي تعتقد أن الحقيقة والقيم متعدِّدة الأبعاد بحيث لا يمكن لأي فرد أو جماعة الادعاء الواعي بامتلاك أكثر من بضعة وجوه لأي منها. وعليه أن يحترم المزاعم المشابهة للأشخاص والجماعات المسؤولة الأخرى. "التسامح" الذي تعتز به النسبوية ليس أكثر من فضيلة مؤقتة عند التعدُّدية. وعلى حين تتطلب التعدُّدية الجهد الفعال لإدراك حقائق الآخرين وقيمهم وتقويمها والاستفادة منها (حين يكون ذلك ملائماً) فإن "مسامحة" الآخرين – على الطريقة النسبوية - يمكن التعبير عنها بتجاهلهم.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود