|
الزمن والزمن
الموسيقي - 1
أبان
الزركلي
كان
الإنسان غارقاً تماماً في النظام الشمسي.
فحياته ظلت مجبولة به ومصيره مرهوناً
بدوريّته وبتقلُّباته المفاجئة. ولم يكن
الانفكاك عن هذا النظام أمراً مطروحاً
بالنسبة له. فهو موجود ضمنه، مغمور به، وليس
قادراً بعد حتى على التفكير بالانفكاك عنه. إن
كل الأعياد والمناسبات والتقاليد والآلهة
كانت مرتبطة تماماً بهذا النظام. التأريخ
الشمسي كان تأريخاً لحياة الإنسان نفسها.
فسيرورة حياته –
كسيرورة النظام الشمسي –
تمرُّ بالربيع والصيف والخريف والشتاء. فهي
تزهر، تستيقظ، وتولد من جديد مع الربيع؛
تمتلئ، تشبع، وتقوى بحصاد الصيف؛ ترتوي،
تنتعش، وتعجُّ بأمطار الخريف؛ تتبلّد، تسكن،
وتغطّ في سبات الشتاء، حتى تستيقظ من جديد في
الربيع وهكذا دواليك... لكأن
الإنسان – ضمن هذا السياق –
ليس إلا نسخة من النظام الشمسي نفسه. فالربيع:
الزهرة، الولادة والطفل؛ والصيف: الثمرة،
الشاب؛ والخريف: الاصفرار، الذويّ، الكهل،
والشتاء: الصقيع، الشيخ والموت. لقد
صارت دورة النظام الشمسي –
السنة الشمسية –
هي الوحدة الأساسية في قياس العمر الإنساني.
فالعمر هو عدد صحيح من الدورات الكاملة للأرض
حول الشمس. وعدد دورات هذا "العمر" قد تم
تقسيمه حسب العمل والإنتاج، المرتبطين تماماً بالنظام
الشمسي، إلى مراحل الطفولة –
العجز –،
والشباب –
القوة –،
والكهولة –
الضعف –،
والشيخوخة –
العجز. فالطفولة فترة عجز لأنها لا تشارك في
صراع الحفاظ على البقاء الذي يفرض النظام
الشمسي كلَّ شروطه، والشباب هو الانسجام
الكامل مع النظام والتساوق التام مع كل شروطه. لقد
كان كل شيء يبدو – أو هو في
الحقيقة – منسجماً تماماً.
وحتى عدد سنوات العمر، 30–50
عاماً كانت تؤكد وتعزِّز هذا التداخل الكامل
بين التأريخ للطبيعة والتأريخ لحياة الموجود
البشري. فالأربعون سنة أو الخمسون هي في
الحقيقة عدد صحيح مفهوم، ويمكن الإحاطة به
عدداً من مرات دورة النظام الشمسي، ويمكن
عدُّه وتقسيمه إلى مراحل تبدو، من جانب،
متناغمة ومنسجمة مع الحالة النوعية للموجود
البشري، إضافة إلى انسجامها وتناغمها مع
النظام الشمسي، من جانب آخر. ويمكن أن نفكر
بأن الحال ليست كذلك بالنسبة للفراشات مثلاً:
فالفراشة التي معدَّل عمرها شهران لا تكمل في
حياتها القصيرة إلا جزءاً من دورة النظام
الشمسي؛ وبالتالي يمكننا أن نكون متأكدين من
أن الفراشات لا تتخذ دورة النظام الشمسي
تأريخاً لحياتها. والليل
والنهار كانا نظام الحياة وتفسيرها في آن.
فالنهار الولادة، والليل الموت. الشمس
والإنسان يستيقظان معاً ليعملا معاً وينتجا
القمح ويتمّا عملية الصيد. ثم ينسحبان معاً
للنوم والراحة. ثم يولدان من جديد، وهلمّ جرا... وإن
تكرار النظام لنفسه ودوريّته أعطيا له
وللحياة المرتبطة به انسجاماً وتوافقاً
تكامليَّيْن. فالتكرار والدورية أصبحا
المصدر الأساسي لنقاط الارتكاز المطَمْئِنَة
التي كان الإنسان البدائي –
ولازلنا نحن –
بحاجة إليها كل الحاجة. كان
التكرار ثابتاً وصلباً، والدورية حتمية.
العالم، عند بعض الشعوب، دوريٌّ يتكرّر كل 260
سنة، وعند آخرين كل بضعة آلاف من السنين. عند
بعضهم هو نظام دوريّ مغلق، وعند آخرين خطِّي
مفتوح. ولكن عند الجميع هو تتالي نبضات
متساوية، شديدة الحتمية والصلابة. لقد
تلمَّس الوعي الذي بدأ يتشكَّل هذه الدورية.
الوعي هو انفصال عن الوجود ومَوْضَعَة له من
أجل مراقبته من الخارج، مما يتيح للوعي
الاحتيال عليه ومراوغة أنظمته. لقد تنامى
الوعي بتنامي الشروط الموضوعية التي زادت
قدرة الإنسان على التحكُّم والسيطرة. ومع
ازدياد نموّ الوعي ازدادت قدرته على الانفكاك
عن الوجود وقدرته على تحقيق نفسه – ولو ظاهرياً أو
لفترات قصيرة – خارج الشرط. استطاع
الوعي أن ينفصل عن النظام الشمسي الزمني. لقد
فكَّه من حياة الموجود البشري وأعطاه بنية
خاصة به، بنية مجرَّدة، مكتملة، دائمة
السيرورة، هي عبارة عن زمان مطلق. كما فكّ
الوعي المتغرِّب نفسَه عن الكون–المكان، فأصبحت
للمكان أيضاً بنية مطلقة. إن
الوعي، بفعله التفكيكي، قد انفصل عن بحر
الحياة البشرية نفسها. تغرَّب عنها ونظر
إليها من خارجها، فلم ير الحياة ممثَّلة إلا
بنقاط مرجعية، نقاط ارتكاز شديدة الصلابة – كنقطتي البداية
والنهاية – مغفِلاً كل
سيرورة الحياة. لقد فكَّك الوعي زمن السيرورة
الحياتية وحوَّله إلى قطعة مستقيمة تقاس
بالمسطرة، وأعطاه بنية مستقلة موجودة خارج
الوجود ذاته. وكذلك فعل بالمكان. ومن
الخارج المغترب، نظر إلى الموجود البشري
الفرد، فلم يره إلا نسخة عن كل الموجودات
البشرية الأخرى: كتل متشابهة واقعة في شبكة
زمنية، فتحاتها كبيرة، يتسرَّب الجميع منها
من الوجود إلى العدم أو إلى الوجود مرة أخرى.
لقد زالت كل الخصائص الذاتية ولم يبق إلا
الزمان المطلق الأبدي الحاكم في بنية مكانية
مطلقة. ثمّ –
ضمن هذا السياق –
نظر الوعي إلى نفسه كمرجعية خارجية مستقلة،
بما أنه يستطيع أن يكون خارج الموجودات كلها.
لقد كان نجاحه في رؤية الزمان من خارجه
والمكان من خارجه يعني أنه بذاته وحدة مستقلة
وهكذا تكوَّنت المفاهيم المستقلة: مفهوم
الزمان ومفهوم المكان ومفهوم الذات. ولكن
الوعي نفسه بدأ يركِّب مرة أخرى ما قد سبق
وفكَّكه. لقد رأى لايبنتس، الفيلسوف العالِم،
أن الزمان والمكان هما علاقات، أي لا يمكن أن
يكون هناك زمان خاوٍ أو مكان خاوٍ؛ بينما
استمر نيوتن في تأكيده على الزمان المطلق
والمكان المطلق. ثم جاءت نهاية القرن التاسع
عشر وبداية العشرين لتشهد إعادة التركيب بشكل
متراكم ومتساوق. لقد
انطلق أينشتاين ومعاصروه، معتمِدين على كشوف
واستنتاجات وتجارب سابقة –
منها تجربة مايكلسون ومورلي التي أكّدت ثبات
سرعة الضوء –؛
انطلقوا إلى فكرة متَّصل continuum الزمكان (=
الزمان–المكان
space-time).
إن الحادثة لا يمكن تحديدها بالزمان منفصلاً
وبالمكان منفصلاً. الحادثة لا يمكن تحديدها
إلا انطلاقاً من وقوعها في جملة من متَّصل
الزمكان، والراصد الذي يرصدها يقع أيضاً في
جملة من متَّصل الزمكان. لقد هزّ أينشتاين
مفاهيم كانت تبدو غاية في الثبات، كمفهوم
التزامن ومفهوم القَبْل والبَعْد، كانت
مرتبطة بمفهوم الزمان المطلق. وسآتي بمثال
بسيط يبيِّن هذا: لنفترض
وجود راصد أ يقع في جملة ساكنة بالنسبة
لقائد مركبة ب تمر بسرعة هائلة متجاوزة
الراصد أ، كما أن هناك قائد لمركبة ثانية ج
تمر بسرعة أكبر من سرعة المركبة ب وبنفس
اتجاهها متجاوزة الراصد أ. ولنفرض أنه في
اللحظة التي تمر المركبتان فيها عند أ
يُصدِر قائد المركبة ب، الجالس وسط
مركبته تماماً، إشارة ضوئية إلى طرفيها
الزجاجيين على اليمين وعلى اليسار فيضيء
الطرفان بالنسبة إليه في نفس اللحظة.
أما
بالنسبة للراصد أ فإن المركبة ب
السريعة التي تتجه من يمينه إلى يساره ستقطع
مسافة معينة خلال الزمن اللازم لوصول الإشارة
الضوئية التي أطلقها قائدها إلى طرفيها
الزجاجيين، وستكون المركبة بعد مرور هذا
الزمن بعيدة عنه بحيث يكون طرفها الأيمن أقرب
إليه من طرفها الأيسر. وبالتالي فإن وصول
الإشارة الضوئية إليه من طرف المركبة الأيمن
سيكون قبل وصول الإشارة إليه من طرفها الأيسر.
وبالتالي، ستكون إضاءة الطرف الأيمن،
بالنسبة إليه، قد حصلت قبل إضاءة الطرف
الأيسر. أما بالنسبة لقائد المركبة ج فإن
مركبته بعد مرور الزمن اللازم لوصول الإشارة
الضوئية إلى طرفي المركبة ب ستكون قد
ابتعدت عن المركبة ب بحيث يكون طرف
المركبة ب الأيسر أقرب إليها من طرفها
الأيمن. وبالتالي فإن وصول الإشارة الضوئية
إلى قائد المركبة ج من طرف المركبة ب
الأيسر سيكون قبل وصول الإشارة إليه من طرفها
الأيمن. وبالتالي ستكون إضاءة الطرف الأيسر،
بالنسبة إليه، قد حصلت قبل إضاءة الطرف
الأيمن. لقد
انهارت المفاهيم الزمنية الثابتة: مفهوم
التزامن الثابت، مفهوم "القَبْل" و"البَعْد"
الثابتين. لقد
هزّ أينشتاين ما صنعه الوعي بإحكام وتناسق
هائلين طوال آلاف من السنين إذ جعل –
أي الوعي –
من نفسه جملة مستقلة ثابتة ترى كل شيء من
الخارج مفكِّكة الداخل إلى بنى منعزلة، جملة
تستطيع الحكم على كل شيء حكماً ثابتاً
ونهائياً. لقد
أصبحنا وكأننا جملة متنقِّلة للإحداثيات
يمكن أن يكون مركزها هنا أو هناك، وبحسب
توضُّع مركزها تعقُل الحادثة. إننا بحسب
وضعنا النسبي نضع الحوادث في أزواج: أزواج
السببية. إن وضع أزواج السببية هو عملية
مشروطة بواقع معرفي وبإحداثيات النقطة التي
نشغلها في متصل الزمكان. وإن مفهوم القَبْل
والبَعْد الثابتين الذي كان منسجماً تماماً
مع زمان مطلق خطِّي مستقل لم يعد مقبولاً، حتى
إذا وسَّعنا مفهوم الزمان الخطِّي إلى مفهوم
زمان سطحي أو كروي. لا يمكن الآن تحديد مفهوم
للقَبْل وللبَعْد إلا إذا نظرنا إلى الحادثة
كمقطع في بنية متَّصل زمكاني نكون مشمولين
فيه. فالمتلقي
السابق لرسالة ما سيتبادل موقعه مع المتلقِّي
اللاحق بحسب موقعهما في مقطع الزمكان. وبشكل
أوسع، فقد لا تعني لنا حادثة أو رسالة أي معنى
على الإطلاق لأننا لم نكن في المقطع الزمكاني
المناسب لتلقِّيها. هاك مقبوس من أرض البشر
لسانت–إكزوبيري: وكانت
ربع التفاتة من البدوي كافية لإنقاذ حياتي… لقد
تاه إكزوبيري في الصحراء بدون ماء فدفن نفسه
في الرمال حابساً طاقة جسمه وماءه وانتظر. رأى
البدويَّ يمر فحاول الصراخ، لكن صراخه كان
أخرس إذ فقد كلَّ قوة. استمر البدوي في طريقه،
لكنه التفت…
و"كانت ربع التفاتة من البدوي كافية لإنقاذ
حياته"! لنفرض
أن بدوياً آخر مر بجانب إكزوبيري في اللحظة
التي مر فيها البدوي الأول، لكنه لم يلتفت.
عندئذٍ يكون المقطع الزمكاني للبدوي الثاني
قد استبعد إكزوبيري، فلم يره. أما المقطع
الزمكاني للبدوي الأول فضمّ إكزوبيري وحصلت
حادثة الإنقاذ. إن
إعادة توحيد ما سبق تفكيكه لم تقف عند هذا
الحدّ. لقد جاء الفيزيائيون الكوانتيون
العجيبون بفكرة بسيطة جداً تماثل في بساطتها
أفكار أينشتاين. وهذه الفكرة هي أن الراصد
يؤثر في المرصود، أو، بعبارة أخرى، لا يمكن
إتمام أي عملية رصد "موضوعية". وجملة
الراصد–المرصود لا يمكن
تفكيكها:
قال:
"أنا ليلى!" وزاد
الكوانتيون على ذلك أننا حينما نضع النظم
والقوانين لنفسِّر الحوادث فإننا في الحقيقة
لا نفسر الحوادث، بل نفسِّر علاقتنا مع هذه
الحوادث. وقال بور جملته الرائعة والعميقة
جداً: نحن
لسنا المشاهدين في الحياة، بل الممثلون. إن
بنية متَّصل الزمكان قد ضمّت إليها الذات،
وتشكَّل متَّصل الزمان–المكان–الذات.
لقد تركَّب مرة أخرى ما قد فُكِّك، وربما لن
يعاد تفكيكه مرة أخرى أبداً. واستمر
الفيزيائيون ليقولوا بأن المادة والطاقة ما
هما إلا شيء واحد ولا يمكن التفريق بينهما
بحدّ سكين قاطع. وإن فكرتنا الصلبة عن المادة
الصلبة ما هي إلا وهم: خطوة أخرى في سبيل رصّ
البنية الزمانية–المكانية–الذاتية. الله
نور السموات والأرض مَثَلُ نوره كمشكاةٍ فيها
مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب
درّي يُوقَد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية
ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسَسْه نار
نور على نور. لقد
تحوَّل العالم إلى مجموعة مقاطع زمانية–مكانية–ذاتية، كل منها
حادثة. والمادة أو الطاقة ذاتها – مادمنا
نحدِّدها بإسقاطها على بنية زمانية–مكانية–ذاتية –
صار يمكن فهمها كحادثة أو سلسلة حوادث. فإذا
كان الجسيم الذي نرصده ممتداً في الزمكان،
فما هو إلا مقطع في بنية متَّصل الزمان–المكان–الذات،
أو حادثة، وتاريخه هو سلسلة الحوادث. ولكن
ما الموسيقى التي نسمعها في ضوء ما تقدَّم؟ إنها
ببساطة حادثة. إنها ممتدة في المكان: الصوت
يعيد تكوين المكان، وقد يزلزله ويشوِّهه
تشويهاً تاماً. وهي ممتدة في الزمان طبعاً
وممتدة فينا.
|
|
|