هل كان على حقّ؟
(حالة
ضمير)
لا
أقول إن المسيحية أخفقت، بل إنها لم
تُجرَّب بعد.
تيودور
مونود
هل كان على حق ذلك
المعلِّم الجليلي الذي قال منذ ألفي عام:
"أحبُّوا أعداءكم وصلُّوا من أجل
مضطهديكم، لتصيروا بني أبيكم الذي في
السَّموات، لأنه يطلع شمسه على الأشرار
والأخيار، وينزل المطر على الأبرار
والفُجَّار. فإن أحببتم من يحبُّكم، فأيُّ
أجر لكم؟" (متى 5: 44-46)؟
وهل مات من أجل وَهْم
تلميذُه الذي كتب: "لا تدع الشر يقهرك،
بل كن بالخير للشر قاهراً" (روما 12: 21)؟
وهل
كان جباناً ابن آدم الأول حين قال لأخيه
وقد طوَّعت له نفسُ هذا الأخير أن يقتله:
"لئن بسطتَ إليَّ يدكَ لتقتلني ما أنا
بباسطٍ يدي إليك لأقتلك إني أخاف ربَّ
العالمين" (المائدة 28)؟
هذه
أسئلة، في جملة أسئلة كثيرة، تحتشد في
أذهاننا، وربما أذهان أناس آخرين، ونحن
نشهد ما يجري اليوم عموماً في العالم،
وخصوصاً في المنطقة التي قُيِّض لنا أن
نولد فيها، ونرضع محبَّة زيتونها،
والغيمة التي تقطر عليها، والنسمة التي
تهبُّ على جبالها وأوديتها.
لقد
ظلت هذه المنطقة من العالم، على كرِّ
تاريخها المديد، محلَّ طموحات سادة
العالم وأطماعهم، وموطئ زحف جيوش جرارة،
ونطعاً سالت عليه الدماء أنهاراً. لكنها
ظلت أيضاً أرض تفاعل وحوار حضاري، ثقافي
وروحي، قلَّما شهد له التاريخ نظيراً. كما
ظلت أيضاً وأيضاً –
ويا للمفارقة –
أرض وفادة للعطشى إلى المعرفة، وجنَّة
مأوى للغرباء، وبرَّ سلام للمضَّطهَدين.
هل
ثمة جماعة إثنية لم تجنح بها سفينة
التقادير إلى شواطئ هذه المنطقة –
باستثناء، ربما، "هنود" الأمريكتين
وسكان أوستراليا الأصليين!! – سواء كان ذلك
ابتغاء الاستقرار فيها والاندماج عضوياً
في نسيجها الاجتماعي، أو البقاء فيها بصفة
مؤقتة بغرض العمل أو أي سبب آخر؟ وهل لقي
كل هؤلاء في أغلب الأحيان إلا الترحاب
وحسن الوفادة؟
على
أن ثمة ظاهرة بدأت مع نهاية القرن التاسع
عشر، وتواصلت متصاعدة حتى أواسط القرن
العشرين، متسنِّمة ذروتها مع تأسيس ما
يصطلح الإعلام اليوم على تسميته بـ"الدولة
العبرية"، وهي ما تزال مستمرة حتى اليوم
–
هذه الظاهرة تتمثل بجمع شمل يهود "الشتات"
من جميع أنحاء العالم وتوطينهم في بقعة من
هذه المنطقة هي فلسطين. وبصرف النظر عن
الأسباب المباشرة وغير المباشرة لتأسيس
إسرائيل كدولة (فههنا ليس موضع مناقشتها)،
وعن الأطراف الدولية والمحلِّية التي
لعبت دوراً في هذه العملية الضخمة، لا
يستطيع أي إنسان سويّ عاقل مطَّلع، أياً
كان انتماؤه الديني أو الإيديولوجي، إلا
أن يدين ما جرى، وأعني سياسة توطين اليهود
في فلسطين التي لخَّصها في يومياته
الصهيوني يوسف فايتس، مدير مصلحة الأراضي
في الصندوق القومي اليهودي، بتاريخ 20
كانون الأول 1940: "ينبغي أن يكون من
الواضح أنه لا مكان لشعبين في هذا البلد
[...]، وأن الحل الأوحد هو تخليص أرض إسرائيل، أو على الأقل الجزء الغربي من
أرض إسرائيل، من العرب. ليس هناك تنازل
ممكن حول هذه النقطة! [...] ما من وسيلة أخرى
غير إبعاد العرب من هنا إلى الأقطار
المجاورة. [...] ما من قرية يجب أن تبقى، ما
من عشيرة بدو."
هكذا
فقد تم اقتلاع حوالى 000 800 فلسطيني في غضون
عشرين شهراً من أراضيهم ومنازلهم، على
مرأى من العالم ومسمع منه، و"وحدهم قلّة
أقروا بأن قصة العودة، قصة افتداء وتحرير
آبائهم، كانت قصة غزو وترحيل وطغيان وموت"،
على حد قول الكاتب الإسرائيلي يارون
إزراشي في كتابه الرصاص المطاطي.
والمأساة هي أن هذه السياسة، في خطوطها
العريضة، ماتزال تتواصل إلى الآن، الأمر
الذي أوصل المنطقة إلى ما أوصلها من حال
أزمة وعنف وتخبط، وأوصل الشعب الفلسطيني
إلى تلك الحالة من اليأس التي أدت إلى "الانتفاضة".
ولكن هذا ليس موضوع بحثنا. إنما الموضوع
الذي سوف نحاول التطرق إليه في هذه
الافتتاحية، والذي هو بنظرنا "حالة
ضمير"، يتناول الوسيلة والغاية، العنف
واللاعنف.
ومنطلقنا
هو ما لحظناه من واقع يشهد أنه إبان نصف
قرن ونيِّف مضى على ذلك، لم يستجب العرب
لهذا العدوان، في الأعم الأغلب، إلا بردود
أفعال مرتجَلة يعوزها التخطيط الستراتيجي
والعمل المنظَّم، وظل الخصم دائماً هو
المبادر إلى الفعل، وهو، بالتالي، الفائز
دوماً بحصة الأسد. أفلا يشير هذا إلى إفلاس
الوسائل المتَّبعة حتى الآن في مقاومة ظلم
الخصم، وإلى ضرورة تجريب وسائل جديدة لدرأ
العنف والعدوان الملازمين له؟
إن
افتقار تراثنا إجمالاً إلى المثال
التاريخي الحيّ الذي يجسِّد روحية ابن آدم
الأول في رفضه الردّ على أخيه بالمثل،
والاعتقاد العام، حتى عند المسيحيين، بأن
مشروع يسوع الناصري في مقاومة الانحطاط
الروحي وضيق الأفق والاعتقاد باحتكار
الحقيقة المطلقة، بما فيها الإله نفسه، قد
باء بالإخفاق –
إن افتقار تراثنا، والتراث العالمي عموماً، إلى مثل هذه المثال
الحيّ يحول
بين غالبية الناس وبين الوقوف بجدية عند
تجارب مثل ساتياغراها (="قوة الحق")
المهاتما غاندي في كل من جنوب أفريقيا
والهند، وتجربة مارتن لوثر كنغ في
الولايات المتحدة، وتجربة الدالاي لاما
ورهبانه في نضالهم السلمي ضد الاحتلال
الصيني للتيبت. فعندما تُضرَب هذه التجارب
كمثال على طريقة للمقاومة مختلفة قد تكون
أكثر جدوى بكثير من الطرق المتَّبعة حتى
الآن، سرعان ما يتملَّص المخاطَب من
الوقوف عندها (وهو غالباً يجهل عن
تفاصيلها كل شيء تقريباً) ويرفض التوغُّل
في الحديث بدعوى أن ظروف الهند آنذاك كانت
مؤاتية لتطبيق ذلك المنهج، وأن تلك الظروف
الاستثنائية لا يمكن أن تجدي اليوم
أمام عدوان كالعدوان الإسرائيلي، وظلم
كالظلم الذي يُنزَل بعرب فلسطين اليوم.
وهذا المخاطَب غالباً مسلَّح بترسانة من
الأمثلة على "الحروب العادلة" التي
غالباً ما يأخذها من تاريخه الخاص بعد أن
يجرِّدها من ظروفها وملابساتها وهوامشها
الدموية لكي يجعل منها المثال الصحيح
الواجب العمل به اليوم.
إن
مثل هذا المخاطَب يتخيل النضال السلمي
نوعاً من الاستسلام للظلم والرضوخ
للعدوان، وقد يذهب به الظن إلى اتهام
حاملي مثل هذه القناعة بالعمل، من حيث لا
يدرون، في خدمة المعتدي، متجاهلاً بذلك أن
الضرورة الأخلاقية التي قد تجعل الفرد
ينأى عن كل لجوء إلى العنف لاسترداد حقِّه
تتطلب منه قطعاً النضال ضد الظلم الواقع
على الجماعة التي ينتمي إليها. ذلك أن
الشطر الثاني من المعادلة –
أي النضال –
هو الشرط اللازم، وإنْ غير الكافي، لتحقيق
الشطر الأول –
أي الامتناع عن كل عنف.
ذلك
أن القدر الفردي للإنسان ومصيره التاريخي
لا معنى له بغير الارتباط بقدر الجماعة،
وفيما يتعداها ومن خلالها، بقدر
الإنسانية قاطبة. إن الإنسان الذي اختار
المسالمة على وعي بأنه لا يستطيع أن يجد أي
نوع من أنواع الرضا الذاتي في عزلة عن
مجتمعه، وعلى مثل هذا الإنسان، بالتالي،
أن يناضل سلمياً في مجتمعه حيث يمارَس
الظلم والعدوان. فالمسالمة التزام نحو
الآخر القريب بمقدار ما هي التزام نحو
الذات. والالتزام الثاني لا يجد تعبيره
الأمثل إلا في الأول.
أجل،
إن المناضل السلمي يرفض العنف لكي يتجنب
الوقوع في آلية غاشمة من شأنها أن تجرِّده
من إنسانيته. لكن هذا الرفض ليس إلا البعد
السلبي لمبدأ يتمثل بعده الإيجابي في
مقاومة الظلم، أي في إحقاق الحق والعدل في
العلاقات بين البشر. إن إحقاق الحق هذا هو
الغاية التي يسعى المناضل السلمي إلى
بلوغها، وليس الامتناع عن العنف بحد ذاته
وحسب. ومع علمه أنه قد يواجه الموت لكي لا
يتنصل من المبادئ التي تمنح حياته المعنى
والغاية فهو لا يرمي نفسه مجاناً إلى
التهلكة. إذ إنه عندما يخاطر بحياته واعياً فهذا ليس لكي يحافظ على "طهره"،
بل لكي يقاوم الظلم الواقع على قريبه،
ولكي يفضح الأكاذيب التي يسوِّغ بها
الظالم ظلمه.
إن
الخيار بين العنف واللاعنف غير موجود إلا
عند المرء الذي اختار أصلاً أن يعمل ضد
الظلم، فوجد نفسه أمام أحد اختيارين
لمقاومة الظلم وبين إحدى طريقتين لمواجهة
عنف الخصم. ففي كلا الحالين يمكن للموقف أن
يكون شجاعاً غير هيَّاب، والنِيَّة طيبة
وصافية، والعزيمة صلبة غير متوانية، ما في
ذلك ريب. ما نتساءل عنه هنا هو مدى صلاحية
كل من الطريقتين – العنف واللاعنف –
للنضال ضد الظلم، إنْ من حيث أخلاقيَّتهما، أو من حيث جدواهما في بلوغ
الغاية المرجوة.
بالطبع
لا يصح أن نطلق الحكم الأخلاقي نفسه على
عنف الظالم والعنف المضاد للمظلوم، لكننا
يجب أن نعترف بأن كل فعل عنيف، بصرف النظر
عن دوافعه، يصدر عن المرء وهو "خارج عن
طوره". بعبارة أخرى، ليس العنف حالة
سوية في الإنسان، بل حالة غير سوية. وههنا
مكمن تناقض أساسي يتجاهله غالباً الذين
يسوِّغون ضرورة العنف باسم "الحرب
العادلة": إنهم يضفون المشروعية على
العنف–الوسيلة
متذرِّعين بالعدل–الغاية.
كل
عنف فهو دليل على إخفاق البشر في تحقيق
إنسانيتهم، أي عيش حالتهم الإنسانية
السوية. وهذا الإخفاق يجب ألا يتنصل منه
أحد –
حتى المظلوم. إن تسويغ العنف تحت غطاء
الضرورة هو جعل العنف ضرورياً فعلاً، وهو
تسويغ لكل عنف مقبل، ورفض مسبق لكل إبداع
يسمح بتحرير المستقبل من الماضي وفتحه على
إمكانات جديدة.
إن
التناقض في العنف بين الوسيلة والغاية ليس
نظرياً وحسب، بل هو عملي إلى أقصى حد: ألا
يسوِّغ عنفُ المظلوم رداً أعنف من الظالم
الذي يصير بوسعه أن يتذرَّع بالدفاع عن
قضية عادلة تعطي عنفَه مشروعية أمام الرأي
العام؟ الظالم لا يستطيع أن يحيا بدون "عدو"
يصب عليه جام عنفه، فيتحيَّن أقل ردّ عنيف
من جانب هذا "العدو" المفترض لكي يردّ، ويتلهَّى بذلك عن مواجهة نفسه
بحالته غير السوية. "العدو" للإنسان
العنيف يصير بمثابة "مانعة الصواعق"
التي تدرأ عن نفسه الاحتراق من الداخل
بعنفه.
بالإضافة
إلى ذلك، فإن العنف يفلت من زمام المرء
الذي يمارسه ولا يتبع إلا منطقه الخاص. لذا
فإن المرء الذي يختار العنف لا يستطيع في
أي وقت أن يدَّعي التحكُّم بنتائج أفعاله.
عنف الظالم يسوِّغ عنف المظلوم الذي،
بدوره، يسوِّغ عنف الظالم من جديد. من هنا
فإن إضفاء الشرعية على العنف من العوامل
الحاسمة التي تجعل العنف "ضرورياً"
في التاريخ. هكذا فإن العنف يوجِد
حتميَّته: المظلوم يحاكي عنف الظالم،
بينما يحاكي الظالم الشرعية التي أضفاها
المظلوم على العنف، بحيث إن كلاهما، في
المآل الأخير، يخضع لمنطق العنف الفالت من
عقاله.
قد
تبدو حجة المظلوم الذي يلجأ إلى العنف
للردّ على عنف الظالم قوية، لكن هذه القوة
نظرية أكثر منها عملية. إذ إن دارس تاريخ
الأمس واليوم لن يعدم أن يلحظ بأن العمل
بهذه الحجة قد حرض عموماً مسلسلات من
العنف كانت أبعد ما تكون عن "الضرورة"؛
إذ بدلاً من أن يضع عنف المظلوم حداً لعنف
الظالم، فإنه يغذيه كما يغذي الوقودُ
النارَ. التاريخ يبرهن أن العنف–الوسيلة غالباً
ما يحل محل العدل–الغاية
ويغيِّبه من الأذهان.
من
ناحية أخرى، فإن "المظلوم" الذي يقرر
اللجوء إلى العنف لاسترداد حقه قلما
ينفِّذ قراره بنفسه؛ إنه يعطي أمر التنفيذ
لآخرين هم غالباً أبعد ما يكونون عن وعي
ضرورة العمل من أجل رفع الظلم ليس إلا. إن
نيَّة رفع الظلم التي هي الباعث النظري
إلى العمل تتلاشى في الغالب عندما يدخل
المنفِّذون في منطق العنف الأعمى الذي لا
هدف له سوى نفسه. إذ كثيراً ما يصير الباعث
هو "الثأر" أو "الموت للعدو". إن
رجل السياسة الذي يزعم (على افتراض صدق
نيَّته) أنه يلجأ إلى العنف اضطراراً لرفع
الظلم عن شعبه واسترداد حقه يتناسى أنه
لكي يستخدم العنف يجب أن يطالب شعبه
بالعنف، وأنه بذلك لا يحرض قوى "معقولة"،
منظَّمة، بل قوى هوجاء قابلة للإفلات من
عقالها حال استخدامها. هنا لابد من حشد كل
وسائل التعبئة العقائدية المتوفرة (دينية،
قومية، إلخ.) لإزالة التناقض المذكور بين
الغاية والوسيلة في أذهان الناس واستنهاض
هِمَّتهم (=هواهم) بإقناعهم أنهم يناضلون
من أجل أنبل الغايات وأسماها. إن الهوى،
وليس العقل، هو الذي يطلق الزناد على "العدو".
إذا
سايرنا منطقَ العنف خطوة أخرى نجد أن
الإنسان، كلما أمعن في الانقياد لهذا
المنطق، تجرَّد من إنسانيته وتحول إلى محض
أداة منفِّذة. يبدأ الأمر من إضفاء النبل
على القضية وتقديس المضحِّين بنفوسهم في
سبيلها، وينتهي بتسويغ أبشع الجرائم. إن
المنطق الرسمي للعنف يمكن أن يُختَزَل إلى
"القتل من أجل درأ الموت عن النفس"،
لكن ما يؤخذ على هذا المنطق (على افتراض
صدق نِيَّته مرة أخرى) هو أنه لم يهتم بما
يكفي بعواقب قراره الذي يحمِّل "العدوَّ"
مسؤوليته. بعبارة أخرى، فإن العنف يقوم
على مناقبية النِيَّة التي تستبعد، في
الأعم الأغلب، مناقبية المسؤولية.
يبيِّن
التاريخ أن العبور النظري سهل جداً بين
العنف كضرورة تكتيكية وبين تسويغه كفضيلة
أخلاقية. لذا تحرص كل الأطراف المتنازعة
على تشييد صرح إيديولوجي يردم الهوة بين
الغاية والوسيلة، متجاهلة حقيقة أن
الغاية العادلة، المتجذِّرة في إنسانية
الإنسان، لا يمكن بلوغها أبداً بوسيلة غير
عادلة، أي غير خليقة بإنسانية الإنسان.
إن في
العودة إلى الأمثلة التاريخية على النضال
العنيف ضد قوى الظلم والعدوان دليل على ضرورة
النضال، وليس على حتمية العنف، من حيث
إن خيار النضال السلمي، غير العنيف، لم
يُجرَّب بعد لأنه لم يُطرَح كوسيلة أصلاً.
من هنا يحق للإنسان أن يتساءل عن وجود
وسائل عمل نضالي أخرى غير متناقضة مع
غايته المرجوَّة. بالطبع يجب على هذه
الوسائل أن لا تكون أخلاقية وحسب، بل وأن
تتصف بالفعالية التكتيكية التي يحتاج
إليها رجل السياسة.
إن
النضال ضد الظلم في التاريخ لا يمكن بأي
حال من الأحوال أن يقتصر على الحوار
والمناقشة الراميين إلى ثني الظالم عن
غِيِّه؛ إذ إن ما يميز الظالم هو بالضبط
رفض الحوار والمناقشة، وإنْ تظاهرَ
تكتيكياً بقبولهما. من هنا فإن اللجوء إلى
العنف لرفع الظلم يساير منطق الرفض هذا
ويرسِّخ الظالم في عنفه، بينما النضال
السلمي يعاكس هذا المنطق ويجرِّد الظالم
من مسوِّغاته.
والسؤال
الذي يطرح نفسه هنا: هل يقتصر دور اللاعنف
على موقفه الأخلاقي أمام التاريخ، أم أنه
يمكن أن يصير موقفاً مسؤولاً أمام التاريخ،
موقفاً يسهم بقسطه في صنع
هذا التاريخ؟ إن اتباع الموقف الأخلاقي من
التاريخ، القائم على رفض القتل وحده، قد
يضمن للإنسان ميتة كريمة، لائقة
بإنسانيته، لكنه لا يكفي قطعاً لتأمين
حياة كريمة له. من هنا فإن السؤال المطروح
يتضمن معرفة ما إذا كان اللاعنف يمكن أن
يؤسِّس لأخلاق فاعلة، قابلة للتطبيق في
التاريخ، حكمة عملية، تسمح للمرء لا
بأن يموت في سبيل قناعاته العادلة، بل بأن
يحيا أيضاً من أجلها.
لذا
يجب دراسة إمكانية "تطبيق" اللاعنف
كطريقة نضال فعالة ضد الظلم والقمع
والعدوان. فهل يمكن للاعنف أن يصير مثالاً
عملياً ملهِماً لسلوك الفرد والجماعة في
نضالها لاسترداد حقها؟ بعبارة أخرى، هل
يمكن للنضال السلمي أن ينطوي على ما يكفي
من احتمالات النجاح بحيث يختاره الإنسان
الراغب ليس في الموت وحسب، وإنما في
الحياة أيضاً؟ بدقة أكبر، هل يتمتع
اللاعنف بأية حظوظ في احتواء العنف في
العلاقة مع الخصم، وفي امتصاصه على المدى
الطويل؟ بالطبع، لسنا هنا من التفاؤل بحيث
نستبعد إمكانية الإخفاق التي يمكن أن تؤدي
إلى موت الفرد، بل وحتى الجماعة. لكن هذا
ينسحب أيضاً على العنف، لأن الموت أصلاً
جزء لا يتجزأ من الحياة نفسها. إن حظوظ
العنف في الإخفاق لا تقل قطعاً عن حظوظ
اللاعنف، كما برهن تاريخ القضية
الفلسطينية حتى الآن.
إن
ضعف اللاعنف متأتٍّ من كونه غير منظَّم،
ومن كون العنف منظَّماً ومدججاً بكل أنواع
السلاح. من هنا فإن الكمون الذي ينطوي عليه
اللاعنف لا يمكن أن يجرَّب في التاريخ،
على صعيد الجماعات الإنسانية، إلا إذا قرر
المجتمع، ممثلاً بقيادته، إما تنظيمه، أو
إفساح المجال للأفراد المقتنعين بفعاليته
للقيام بهذا التنظيم –
على افتراض وجود أكثرية اجتماعية مقتنعة
ليس بضرورة اللاعنف وحسب، بل وبإمكانية
تطبيقه أيضاً.
قبل
أن ننهي هذه الخواطر، لابد من الإشارة إلى
أن الإنسان يتعذر عليه أن يتنبأ بدقة
بعواقب أفعاله. وهذا ينطبق على العمل
العنيف مثلما ينطبق على العمل السلمي. من
هنا ضرورة التحلِّي بحذر شديد كلما كان
علينا أن نتخذ قراراً. ويلوح لنا بأن الحذر
يملي علينا أن نفضِّل العمل السلمي ونجتنب
العمل العنيف؛ إذ إن الأول يسمح بالتنبؤ
بعواقبه البعيدة المدى أكثر بكثير من
الثاني. إن فعالية أي عمل –
والعنف من باب أولى –
لا تقاس بنتائجه المباشرة وحسب، إنما
بعواقبه على المدى الطويل، وفي أماكن أخرى
من العالم. قد يبدو للوهلة الأولى أن
النضال العنيف ضد الظلم أثمر عن نتائج
مباشرة حدَّت من سطوته في التاريخ. لكن،
بمرور الزمن، يتضح أن له عواقب غير مباشرة
سلبية، وأنه تسبب في زيادة الظلم في
العالم، وليس في إنقاصه.
إن
الفارق بين من اختار النضال السلمي لإحقاق
الحق، وبين من ارتضى لنفسه اللجوء إلى
العنف، ليس موقف الأول المثالي من
اللاعنف، كما يبدو للوهلة الأولى، إنما
موقفه الواقعي من العنف. ذلك أن العنف، في
التحليل النهائي، يوطوبيا utopia. واليوطوبيا،
كما تدل لفظتها، هي ما ليس موجوداً في أي
مكان. فإذا كان العنف موجوداً اليوم في
كل مكان، فإنه لن يستطيع في أي مكان أن
يبلغ الغاية التي تزعم تسويغه. لن يستطيع
العنف في أي مكان أن يحقق العدالة بين
البشر أو أن يكون حلاً إنسانياً للنزاعات
البشرية المحتومة التي تحوك نسيج التاريخ.
أخيراً،
نعود إلى التساؤل الذي انطلقنا منه: أما
كان على حق التلميذ الذي كتب: "لا تدع
الشر يقهرك، بل كن بالخير للشر قاهراً"؟
|