|
حلم يقظة
أميمة
الخشّ
ممدَّد
أنا على الأرض فوق فراش إسفنجي ضيق. ذراعاي
مطويتان تحت رأسي المثقل. فصل الخريف يثير فيّ
الشجون. أنفاسه تثقل صدري كجبل وتملأ مخيلتي
بخواطر حزينة شاحبة، تغزو كياني كجحافل مدمرة
وتتركه هامداً وقد سلبته الرغبة. الوقت
مساء، والمطر خفيف ينقر النافذة المسدلة
الستائر، ينبهني بين الفنية والأخرى من غفلتي، لتجول عيناي
قليلاً في أنحاء الغرفة
كأنهما تتفقدان من غير اهتمام أشياءها
القليلة المتواضعة. ما
الذي يحتاجه طالب مثلي أتى إلى المدينة
الكبيرة، تحتويه إحدى غرفها الصغيرة، ريثما
ينهي تحصيله العالي ويعود إلى بلدته موشحاً
بوسام الجامعة الباهت في زمن يبحث ناسه عن شيء
يبرق، ولو كان معلّقاً على عمود مكهرب؟ عن
سرير حديدي وسط الغرفة، تحت نافذة هي كوتي على
العالم الخارجي اللاهث، وطاولتين تتكدس
عليهما كتب متنوعة الميول والأهواء، بدءاً
بالمختصة بالدراسة الجامعية إلى ألفية ابن مالك والعقد
الفريد، مروراً بالنظام العالمي،
ودواوين لشاعر المرأة المدللة التي حوّلها في
لمحة بصر خاطفة إلى خولة بنت الأزور من غير ما
حصان ولا سيف يماني! الضوء
الشاحب، متآخياً مع جو فصل الكآبة، ينعكس على
عينيّ نصف المغمضتين، فيزيد في تراخي جفنيهما
لحظات، بينما ينسرق النظر من خلالهما مستطلعاً الأشكال المرسومة على ورق الجدار
اللاصق، مربعات ومستطيلات، وأشكال هندسية
تحتاج إلى مهندس يقيس طول الأرض وعرضها، ثم
يتوصل إلى خلاصة مفادها أن الأرض كروية، وأن
لها قطراً ومحوراً اعتبارياً تدور حوله، وفي
الوقت نفسه تدور حول الشمس، ثم يتساءل: "وماذا
بعد؟" في تلك اللحظة التي يطرح فيها سؤاله،
يترك آلاته الحسابية، ويسبح في عالم مجهول لا
يُدرَك كنهه. الأشكال
الهندسية بزواياها الحادة تضغط عادة على نفسي
فأحاول تغطيتها ببعض اللوحات المعلقة هنا
وهناك مهداة من صديق ترك دراسته الجامعية
واكتفى بتزويق أوراق يغرينا باقتنائها
كدعاية لعالم قريب، يكون الإنسان فيه سعيداً
ومبتسماً، وتكون الطبيعة في كامل بهائها
وخضرتها، ويكون الجو ناعشاً وخالياً من
الفساد والتلوث! يثبت
نظري على العين الزرقاء المعلقة أمام مفرشي
تماماً، يطل من ورائها وجه جدتي المتغضّن،
ويلوح أمامي فمها الذي يشبه كهفاً مهجوراً من
سنين طويلة، ينفتح وينغلق فتخرج منه حروف
واجفة النبرات: "هذه العين ستحرسك في غربتك
يا عامر. ثق بكلام جدتك يا ابني، فالحسد يهد
الجبال الشامخة، فما بالك بالإنسان الضعيف؟" أضحك
وأضمها إلى صدري، وأنا أودعها وأقول، وأصابعي
تداعب وجنتيها اللتين حفر الزمن فيهما أخاديد
وممرات لا تمحى: "وعلام يحسد الناس العبد
الفقير الواقف أمامك يا جدة؟ ألأنه يملك نصف
العالم.. ربع العالم.. متراً منه.. شبراً.. فتراً..
لاشيء؟!" أضمها أكثر، وأنا غارق في ضحك أشعر
معه بغصة تجرني إلى بكاء صامت. أهو حزن الفراق
بعد لقاء الأهل والأحبة؟ أم هو الحزن
المتغلغل في أعماق النفس منذ زمن لا أعيه
تماماً في ذاكرتي. أما ما بقي منه بعد ذلك فهو
الوحشة والفطام. ومنذ أن تغلغل الحليب
الدافىء في جوف الثرى الطري وكياني ظامىء حتى
الجفاف. تتردد
كلمات جدتي في مسمعي، تذكرني باليوم الأول
الذي غادرت فيه البلدة الصغيرة إلى المدينة
الطاحون. زودتني يومها بأشياء كثيرة لاتنفع،
لكنها لم تنس أن ترفع الصورة الكبيرة لوالدتي
المتوفاة من مكانها، وتضعها في كيس منفرد
بحرص شديد، وتسلّمني إياها باليد بعد أن تهمس
في أذني جملتها التي حمّلتها الكثير من معاني
الوجد: "كلما عطشت يا بني انظر إلى هذه
الصورة، وسوف تحس بالارتواء." كانت تلك
الصورة النصفية الوحيدة الباقية لأمي التي
فطمني الموت عن حليب ثدييها وأنا طفل لا أعي
بعد وجودي. فعشت طوال عمري أحس بالظمأ يقتل
الحياة في كياني المتعطش. ومع
أني علقت الصورة على جدار غرفتي الباردة،
عاملاً بوصية جدتي، وكنت أحدق إلى الوجه
الصبوح والصدر العامر المكتنز، وأطيل
التحديق حتى أغيب بين مسام الثديين، مفتشاً
عن قطرة ماء بيضاء واحدة، فما كنتُ أعيش إلا
الوهم اللذيذ، ينتزعني منه واقع قاحل، مشيراً
إليّ بإصبعه المعروقة كي أعود إلى رشدي وأعيش
كبقية خلق الله، الذين تركوا أحاسيسهم مركونة
إلى جوارهم دون أن يزعجوها بلمساتهم الرقيقة
الحارقة. لكني أعلنت فشلي أمام الواقع،
وتقهقر كياني دون ظمئه المستمر. تنقر
حبات المطر المتهامرة في الخارج زجاج النافذة، فتنفتح عيناي نصف
انفتاحة، ليسترق
سمعي صوت وقع الحبات على الأرض والأرصفة. تجول
مخيلتي في الشوارع مع قلة من الناس في هذه
الساعة المتأخرة من الليل، وهم يتّقونه
بالمظلات أو الطواقي، فيزداد عطشي. أتمنى
أن أقوى على النهوض وفتح باب الغرفة
والانطلاق عبر الشوارع والأزقة فاتحاً صدري
وفمي لقطرات الماء البيضاء التي غاب مذاقها
عن فمي منذ زمن بعيد. وكل ما جاء بعده كان قحطاً
ومواتاً. يعود
جفناي إلى الانكسار مع ازدياد تأثير انعكاس
الضوء الشاحب عليهما، وتجتاحني حاجة قوية
للنوم، يقاومها نظري المنسرق من بين الأجفان
إلى الرمز المعلق على الجدار قرب صورة أمي
النصفية. أبتسم في سري: "مفتاح الحياة!"
أتذكر صديقي الذي كان يمشي على رصيف اليسار،
وقد عاد منذ أشهر من غربته يحمل رموزاً خشبية.
نثرها علينا، ونحن نستقبله في المطار. كان
يصيح بأعلى صوته: "باعني إياها متسول مؤمن
في محطة من محطات المترو وهو يشرح لي بجدية
تامة أنها مصنوعة من خشب مقدس باركه الله ذاته، ولذلك فهي تحمي من الشرور والمصائب."
وراح يضحك حتى وقع مغشياً عليه. كان كلامه
أقرب إلى النشيج وهو يروي لنا قصة كسوف الشمس
أو خسوف القمر في ذلك البلد البعيد. حطّ
نظري ملياً على الرمز: "مفتاح الحياة!"
بدا لنظري الزائغ أشبه بشاهدة قبر. تساءلت:
"ترى ما الذي كان يعنيه عند قدامى المصريين؟
الطريق إلى العالم الداخلي، حيث الكهوف
المعتمة تنتظر الشعلة تنير لها الدرب وتصلها
بالأعالي التي تتوق إلى معرفتها واكتناه
أسرارها؟" يذكرني
المفتاح بالشواهد والقبور. أقول في سري: "لكن
الميت يرتاح لفترة من عناء البحث والتقصّي
وخوض التجربة، أما أنا فأحس الآن بالموات.
وهذا المفتاح هو شاهدة قبري الذي يُعَدُّ لي
منذ الآن." أرى
نفسي ميتاً، وقد وصل نبأ موتي في هذه الساعة
إلى بلدتي الصغيرة. تدوّي في أذنيّ وَلْوَلات
أهلي وأقربائي، وأهل حارتي، وأراهم يتراكضون
هلعين، وقد أثقلهم الحزن وعرقل خطواتهم، فلم
يعودوا قادرين على ترتيب الوضع لاستقبال
جثماني. أحس
وأنا مغمض العينين نصف إغماضة أن جثماني وصل
البلدة. وها هي ذي السواعد ترتفع لحمل النعش
من السيارة التي تقلّه. تدخل به فناء بيتنا
القديم متخطية عويل النسوة وندبهن، مبتعدة به
عن مرمى حركاتهن المندفعة للمسه وبثه شحنات
حنانهن الدافق. أرى جثتي في الحمام عارية كما
كانت حين لفظها الرحم المفتوح. وهذا جارنا أبو
زهير يقوم بعملية الغسل المعهودة، ويقرأ آيات
حفظها من أجل موقف كهذا. أرى الدموع في عيون
المحيطين بي جميعاً إلا عينيه هو. لقد ألف أبو
زهير وظيفته حتى فقد الإحساس بالحزن والفرح
معاً. لاشك أنه الحكيم الوحيد في هذا الحشد
الغفير لأنه توصل بخبرته إلى قناعة تقول إن
الحياة والموت وجهان لعملة واحدة، وإنهما
مهما تصارعا لن يحقق واحد منهما انتصاره على
الآخر. فهما متلازمان تلازم الليل والنهار،
والخير والشر، وكل الأضداد الأخرى التي رمانا
بها النظام الكوني على سطح هذا الكوكب لخوض
التجربة الكبرى. هو
ذا أبو معروف يُحضِر مع اثنين من رجال الحارة
الثياب البيضاء والكفن. وتبدأ العملية بتأنٍّ
ورويّة العارفين بهذه الأمور عن خبرة قديمة
تحدّرت إليهم من ليل الدهور. تتعاون الأيدي
جميعاً، بينما الصمت يغلّف المكان حتى لا
تكاد تندّ عن أي رجل من الحاضرين أية همسة أو
حركة في غير مكانها ووقتها. وها أنا ذا أُحمل
وأوضع في النعش مرة أخرى. يُغلَق النعش لتحمله
السواعد، وتخرج به من الحمام، فتندفع النسوة،
بينهن جدتي التي زاد الهم في انحناءة ظهرها،
وضاقت عيناها كثيراً حتى لم تسمح لدموعها
المحتقنة بالانفراج. هي ذي فاطمة أختي الكبرى
التي رعتني صغيراً وأغدقت عليّ حنانها، لكنها
لم تستطع أن تعيد إليّ ثديي أمي الفوَّارين
بالماء الأبيض. أسمع صوت نحيبها يملأ فناء
الدار. تتدافع مع قريباتي الأخريات يلمسن
النعش ويرتمين بأجسامهن عليه، ضاربات على
صدورهن، بينما تتعالى زفراتهن الحارقة لتملأ
الجو بلهب الحزن القاتل. في
تلك اللحظة غامت الصور أمام عيني فلم تعد جلية
تماماً، وأحسست بجسمي يخف متخلصاً من ثقله،
ثم يقوم من على الفراش الإسفنجي الضيق، يمشي
بخطى ثابتة نحو باب الغرفة، يفتحه وينطلق
يعدو في الطرقات. ها
أنا ذا أرى نفسي في أزقة البلدة الصغيرة.. في
حارتنا القديمة. أرى الجيران متجهين صوب باب
بيتنا. ألقي عليهم التحية فلا يرد أحد! ألم
يروني يا ترى؟! ألم يروا عامراً الحي جاء
بلدته وحارته وبيته؟! أدخل
البيت والجمع محتشد يدور بالنعش في الفناء
مودِّعاً أركانه قبل أن يخرج به إلى المقبرة
إلى غير رجعة. أركض خلف أختي فاطمة.. خلف جدتي..
أنظر في وجهيهما الحزينين. أمدّ يدي مصافحاً،
فلا تمتد يد ترد تحيتي، ولا يعيرني أحد من
الجموع المحتشدة أي التفاتة اهتمام. أفكر: "هل
أذهلتهم المفاجأة لدرجة فقدان الوعي، أم أنني
ميت فعلاً في ذهن الجميع؟!" أتقدم
إلى النعش. أرفعه مع الرافعين الكُثُر، وأرى
نفسي منخرطاً مع الجميع في نحيب لا ينقطع.
عامر الحي يبكي عامراً الميت، ويحمل نعشه إلى
المقبرة! على
باب المقبرة أرى أصدقاء الدراسة ممن سمعوا
بالنبأ، فتركوا المدينة وهبوا للتعزية. أمد
يدي لتقبّل التعزية فلا تمتد يد واحدة منهم
لتضغط على كفي وتصبّرني. شغلهم عني حزنهم على
الميت، وقد تعلقت أنظارهم بالنعش الذي وصل
المقبرة، ووُضِع في فسحة مكشوفة ليُصلّى عليه
قبل أن يوارى الثرى. أرى
نفسي واقفاً مع الناس أصلي على نفسي. يرفع
الناس النعش فأتقدم لأرفعه معهم، وأبالغ في
بذل جهدي لفتحه ورفع الجثة من داخله. أرفع
الجثة بكل تؤدة وعناية، وأنزل بها الحفرة
المعدة مع اثنين من رفاقي. أتأنى كثيراً لوضع
الجثة بموضع صحيح ومريح. أنا عامر الحي أسجي
جثة عامر الميت، ثم أخرج من الحفرة بعزيمة
قوية، فخوراً بإنجاز عمل على درجة كبيرة من
القيمة والأهمية. أثبت فوق الحفرة الحجر
المصقول، ثم أُهيل التراب حتى يغمرها تماماً.
أغرس الشاهدة بيديّ الاثنتين، وأنقش عليها
اسمي بحروف كبيرة. في
اللحظة التي ينهال فيها التراب على الجثة
الهامدة أراه ندياً، كأن عين ماء روّته على
التو. أمد إصبعي وأغرسها في التراب المندّى،
ثم ألعقها، فأحس بطعم الحليب في فمي. أمّاه!
أصرخ بين الجموع: "لقد تعبت وظمئت، وأريد
ماءً أبيض!" لا يسمعني أحد! أركض في أرجاء
المقبرة. أحاول أن أوقف أصدقائي، أشكو لهم همي، أعزيهم في صديقهم الميت.. أقربائي.. أهلي.
لا يلتفت إليّ أحد. يتحول صراخي إلى صمت مع
انفضاض الجموع، وغياب الشمس وراء الأفق
الأرجواني. أرى
نفسي وحيداً في شارع خالٍ إلا من بعض العجائز
اللواتي أنهكهن المشهد، فرُحن يجرجرن
أقدامهن ويبذلن في ذلك جهداً كبيراً خوفاً من
يد تشدّهن من جديد باتجاه المقبرة. يغمرني
شعور بالوحدة والوحشة، ويجتاحني ظمأ شديد،
فأحس بعروقي تكاد تنفر من تحت جلدي. أقف وحيداً قرب باب
بيتنا، وأجهش في بكاء مرير.
أبكي وأنشج.. أشهق كأني أبكي عن عمري الماضي
كله! بلمحة،
يعيدني صوت بكائي العالي من حلم يقظتي لأجد
نفسي ملقى على الفراش الإسفنجي الضيق. ذراعاي
مطويتان تحت رأسي، وبصري ينسرب من تحت جفوني
نصف المغلقة، وقد تندّت بالدموع. يحط من جديد
على مشاهد الغرفة، السرير القريب الخالي،
النافذة المغلقة بستائرها المسدلة،
الطاولتين المثقلتين بالكتب المتنوعة
اللهجات، والحيطان ذات الأشكال الهندسية
برموزها وتمائمها المعلقة. أتبيّن
أشياء أخرى جدّت على المشاهد المعتادة. الصمت
القاتل، وشدة سواد الليل، وغزارة الأمطار،
وتعاظم ظمئي، وصورة والدتي النصفية بثدييها
العامرين ونقطة الماء الأبيض تندفع من الحلمة
المغلّفة بقماش أخضر، يتلقفها فمي المفتوح،
فتدخل كهفي المظلم، لتنير فيه شمعة تكون صلتي
الأولى مع الأرض. *
هذه القصة واحدة من قصص مجموعة لأميمة الخش
بعنوان الرُّشيم،
صادرة عن دار مكتبة إيزيس، دمشق، 1999. للحصول
على الكتاب يرجى الاتصال بدار مكتبة إيزيس:
شارع العابد، جادة الجزائر، دمشق، ص ب 33226،
تلفاكس 2322603، بريد إلكتروني isisbookstore@yahoo.com
|
|
|