|
الـقـيـمـة
تعدّ القيمة مبحثًا مهمًا من مباحث الفكر الإنساني، وهي قديمة قدم الإنسان ذاته، وتمتلك أهمية كبيرة في حياته. اصطبغت القيمة في استعمالها اليومي بصبغة اقتصادية إذ ارتبطت بمسائل البيع والشراء، ومع ذلك مازال بعضهم يتحدّث عن قيمة هذا الفعل الأخلاقي، أو هذا العمل الفني... الخ، ومعنى هذا أنّ هناك قيمًا كثيرة أخرى غير القيم الاقتصادية، إذ يمكن أن نطلق لفظ قيمة على كل ما نرغب فيه، أو نسعى لبلوغه، أو نحرص على تحقيقه، فالصحة قيمة، والثروة قيمة، والنجاح قيمة... الخ. ولعلَّ إعطاء معنى دقيق لمفهوم القيمة مسألة قد تكون في غاية الصعوبة، لأنّ مفهوم القيمة شأنه شأن جميع المفاهيم الفكرية الأخرى يحتمل تفسيرات شتّى. القيمة في اللغة العربية مشتقة من الأصل (ق. و. م.)، وقد استعمل جذره للدلالة على معانٍ متعدّدة ومختلفة، فالقيام نقيض الجلوس، يقال: قام يقوم قومًا وقيامًا. ويأتي القيام للدلالة على الوقوف والانتصاب، ويدّل في معنى آخر على الإصلاح والمحافظة. قال تعالى: "الرجال قوامون على النساء". وقد تفيد الاستقامة معنى الاعتدال، يقال استقام الأمر له، وقام الأمر واستقام أي اعتدل واستوى، وقد تأخذ القيم أحيانًا هذا المعنى للاستقامة يقول كعب بن زهير: فهم صرفوكم، حين جزتم عن الهدى بأسيافهم حتّى استقمتم على القيم وقِوام الأمر بالكسر هو نظام الشيء وعماده، والقَوام حسن الطول. وقد تجمع قامة الإنسان على قامات وقيم، ويقال بأنّه مقصور قيام وقد تغير لأجل حرف العلة. وقوّم السلعة واستقامها أي قدّرها، والقيمة واحدة القيم، وأصله الواو لأنّه يقوم مقام الشيء، فالقيمة إذن هي ثمن الشيء بالتقويم، يقال: تقاوموه فيما بينهم، ويقال: قامت الأمةُ بكذا أي بلغت قيمتها كذا. والأمر القيّم هو الأمر المستقيم، وفي الحديث ورد: ذلك الدين القيّم أي المستقيم الذي لا يزيغ عن الحق. ويتبيّن من مختلف المعاني الواردة لهذا المفهوم في اللغة العربية أنّ أهم مدلولاته اللغوية السعر والثمن، وقد يختلف هذا الثمن حسب موضوعه، المعروف بأنّه السلعة، فقد تكون رخيصة أو ثمينة، وقد يتوقف هذا على ما تمتلكه من صفات وخصائص. وربّما أسهمت هذه الفكرة الأساسية في انتقال دلالة اللفظ من المادي إلى المعنوي، بمعنى انتقال دلالة المفهوم من المجال المادي (السعر والثمن) إلى المجال الأخلاقي المعنوي الذي يعبر فيه المفهوم عمّا تحمله الأشياء من خير أو شر. أما في اللغات الأجنبية فمصطلح القيمة Value يرجع في أصله الاشتقاقي إلى الفعل اللاتيني Valeo الذي يدل على القوّة، ومعناه الأصلي أنا قوي، أو أنا أتمتع بصحة جيدة، فيشتمل من هذه الناحية على معاني الشجاعة والصلابة والقوة، ومعانٍ أخرى مختلفة كالتأثير في الأشياء، والقدرة على ترك بصمات قويّة عليها. ويبدو أنّ معنى القوّة والشجاعة من أقرب المعاني. أما المبحث الذي يدرس القيم، فيُطلق عليه الأكسيولوجيا Axiology من اليونانية Axia بمعنى قيمة، وLogos بمعنى علم أو مبحث، فيصبح معنى الكلمة نظرية القيم أو علم القيم، وهي مبحث فلسفي مستقل يدرس مشكلات القيم بمختلف أنواعها، من اقتصادية وأخلاقية... الخ. وعلى صعيد المصطلح لم يظهر هذا الميدان إلا منذ فترة قصيرة نسبيًا، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على أيدي إمانويل كانطEmmanuel Kant وغيره ممن اهتموا بالقيمة بشكل مغاير لما سبق. لكن ثمّة مسائل شتّى متعلقة بطبيعة القيم ومشكلاتها كانت قد طرحت على امتداد التاريخ الفلسفي، والأكسيولوجيا من حيث هي مبحث أخلاقي، تدرس مشكلتي الخير والشر، وتطرح مسائل أساسية مثل: ما الخير؟ هل الخير صفة موضوعية يطلق على تصرفات بشرية معينة؟ كيف يقيّم البشر تصرفاتهم بين الخير والشر؟ وما مصدر الخير وطبيعته في الوعي الأخلاقي البشري؟ وقد عرف تاريخ الفكر البشري محاولات عديدة للإجابة على هذه التساؤلات. ولعلَّ تحديد معان واضحة لمفهوم القيمة مسألة تكتنفها عدّة صعوبات، لأنّ مفهوم القيمة غالبًا ما يمثل مفهومًا متحركًا، ويشير أندريه لالاند Andre Lalande إلى أنّ للقيمة معنيين: الأوّل: المعنى الذاتي الذي يطلق على الأشياء عندما تمتلك طابعًا وخصائصًا يجعلانها مرغوبة لدى شخص من الأشخاص، أو جماعة من الجماعات، وتبقى الرغبة هنا نسبية، وليست مطلقة؛ والثّاني: المعنى الموضوعي للقيمة الذي يطلق على تلك الأشياء التي تتمتع بصفات تستحق أن يسعى الإنسان إليها لذاتها، وليس لأجل غاية تحققها، فهي بذاتها جديرة بأن تطلب لما تملكه بعيدًا عن النفع، أو اللذة التي قد تعطينا إياها. ومن جانب آخر، قد نتحدث عن مدلولات متعددة للقيمة: المادي، والمعنوي، والأحكام التقديرية. المدلول المادي: أو تلك الخاصة التي تجعل بعض الأشياء مرغوبة وتطلق عادة على الجانب المادي، وقد أسهب كارل ماركس Karl Marx في تبيان ذلك عندما جعل الإنسان مصدر القيم تحت تأثير البنية الاقتصاديّة حيث يعد الأخلاق والقيم والفن والسياسة آثارًا لبنية المجتمع الاقتصاديّة وعلامات عليها وتابعًا لها، وينضوي في هذا المدلول اصطلاحان: القيمة الاستعماليّة الذي يطلق على ما يمتلكه الشيء من قدر وثمن، في نظر الشخص الذي يطلبه، والقيمة التبادليّة: ويطلق على ذلك الثمن الاعتباري الذي يملكه شيء ما في مجتمع وزمن محدّدين، وهذا الثمن هو الذي يسمح بتداوله بين الناس، بسبب ندرته، وليس بسبب منفعته. المدلول المعنوي: ويرجع في نشأته إلى اللاهوتي Albrecht Ritschl ريتشل (1822م - 1889م) وكانت الغاية منه حماية الدين من هجمات العلم المتكررة، فحُدّدت الظواهر مجالاً للعلم، والقيم مجالاً للدين، فتمّ فصل المجالين عن بعضهما بعضًا، وتشير كلمة القيمة أحيانًا إلى مجموعة من الأحكام التقديرية، والأوامر والنصائح، وغيرها من الأمور. إن دراسة القيم في الفلسفة ليست دراسة موضوعيّة للأفعال أو ذاتيّة للنفس، بل دراسة ذاتيّة – موضوعيّة تقوم على تلك العلاقة المتبادلة بين الذات والموضوع. وتحديد القيمة في المجال الفلسفي يتوقف على عمليّة تقويم ذاتي للأشياء والموضوعات والأفعال وما تحتويه من حقيقة أو جمال، أو ما تنطوي عليه من خير وشر، فما يميز القيمة هنا أنّها علاقة بين ذات وموضوع. يؤكّد الاجتماعيون أنّ القيمة طريقة في الوجود أو السلوك، يعترف بها فرد أو جماعة، وينظر إليها على أنّها مثال يُحتذى. وهي بشكل عام مجموعة حقائق تعبر عن التركيب الاجتماعي، ويهتم عالم الاجتماع بتطبيقها على الأفراد والجماعات، بغية معرفة مستوياتهم الاجتماعية. كما يشير بعض المؤرخين، الذين اهتموا بالحضارات والآثار ودراساتها، إلى بعض جوانب القيم في سياق دراستهم للعادات والنظم والتقاليد، ويؤكدون أن القيمة هي ذلك السلوك الخلقي الذي يميز جماعة محددة في فترة زمنية محددة، ويظهر عمليًا في عدة صفات، نذكر منها الكرم والصبر... الخ. ويطلق على ميل الإنسان إلى القوّة، واهتمامه بها، مصطلح القيمة السياسية، فهي تهدف إلى السيطرة والتحكم سواء كان بالفرد ذاته أم بالأشخاص الآخرين. ولا يمكن للقيم السياسيّة أن تنفصل عن الناحية العمليّة، فهي تستلزم إنجازها بالفعل. أما القيمة الدينيّة فالمقصود بها ميل الفرد واهتمامه بمعرفة ما وراء العالم الظاهري، فهو يبحث دائمًا عن أصله ومصيره، ويشعر أنّ هناك قوّة ما مستقلة عنه تسيطر عليه وعلى العالم الذي يعيش فيه، ويسعى دائمًا للوصول إلى هذه القوّة بصورة ما. وفي علم الجمال تلازم القيمة الخلق الفني وتذوقه من جهة، وتجربتنا لتلك الصفات التي ترافق الفن بدقّة من جهة ثانية، وتتجسّد القيمة الجمالية في اهتمام الإنسان وميله نحو كل ما هو جميل سواء كان جماله خارجيًا أم داخليًا، فالجمال قيمة اختلفت حولها وجهات النظر ويبدو أنّه لا سبيل لمعرفته أو تحليله. ويطلق لفظ القيمة في الدراسات الأخلاقية على ما تدلّ عليه كلمة الخير، إذ يمتلك الفعل قيمة، بقدر ما يمتلك من خيريّة، وكلما ازدادت نسبة الخيريّة في الفعل ازدادت القيمة التي يمتلكها، وفي هذا الصدد تعرّف القيمة الأخلاقيّة بأنّها: "شكل لتجلي العلاقات الأخلاقيّة في المجتمع، وتدلّ القيم أولاً على البعد الأخلاقي للشخص ولتصرفاته...، وثانيًا على التصورات القيمية المتعلقة بميدان الوعي الأخلاقي". ويتمحور المعنى الحديث للقيمة الأخلاقيّة في كيفية تصرفنا تجاه من يتعرض للأذى والاستغلال أيًّا كان نوعه ومصدره. وتستخدم كلمة القيمة في مجالات أخرى متعددة، فهي مثلاً في الرياضيات تقابل العدد الذي يقيس كميّة ما. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المعاني المتعدّدة للقيمة ترتبط مع بعضها بعضا، وتشكل تنويعات قيمية مترابطة مع بعضها حينًا، ومتمايزة عن بعضها أحيانًا أخرى، فلا شك أنّ القيمة الأخلاقيّة ترتبط مع القيمة الجماليّة، وهناك علاقة وثيقة بين البحث في القيمة الجماليّة، والبحث في القيمة الأخلاقيّة، فكلتاهما تثيران المشكلات القيمية ذاتها، من حيث الإطلاقيّة والنسبيّة، ومدى الارتباط بالإنسان والوجود... الخ، ومع هذا لا يخلو الأمر من التمايز بينهما من حيث المحتوى، فالفعل الجمالي يتصف بالنسبية والتمركز على موضوع القيمة الجماليّة وليس على آثاره أو مضمونه كما في الفعل الخلقي، حيث استقلّ علم الجمال بعد أن عُدّ الجميل موضوعًا له، واستقلت القيمة الجماليّة لموضوع ما عن قيمته الأخلاقيّة من ناحية الماهية، بعد أن كان يكفي لأيّ عمل فني يتحدّث عن قيم أخلاقيّة أن يكون جميلاً، بل أن يكون رائعًا أكثر من أي شيء جمالي آخر ليس له قيمة أخلاقيّة. وهذا يوضح أن القيمة الأخلاقيّة والجماليّة، على علاقة وثيقة، بالرغم من التمايز في المحتوى. وعلاقة أخرى مشابهة تلك التي تقوم بين القيمة الاقتصاديّة والقيمة الأخلاقيّة، فقد يظنّ للوهلة الأولى أن لا علاقة بينهما، فهناك فرق بين مجاليهما، إلا أنّ هذا الرأي يفتقر إلى الدقّة إلى حد كبير، فلو بحثنا عن الغايات التي تنزع نحوها القيمة الاقتصاديّة لوجدناها متمثلة بالعدالة والمساواة، التي تنتمي إلى عالم القيم الأخلاقيّة، ولعلَّ أكبر مثال على ذلك هو تحديد ثمن البضائع أو السلع، فليس الهدف منه مقابلة شيء ما بثمن ما، بل عدالة هذا الثمن للبائع والمشتري، منعًا لاستغلال أحدهما للآخر. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ القيم الاقتصاديّة ليست قيم ماديّة محضة، بل تحتوي على جانب إنساني رفيع، لأن الإنسان هو من وضعها ليحافظ من خلالها على حياته بتأمين حاجاته، ومتطلباته بشكل أو بآخر. أما القيمة في المجال السياسي فترتبط أيضًا مع القيمة الأخلاقيّة، ولا يمكن أن تفترقا، لأنّهما مرتبطتان بجدل لا يمكن تمزيقه، فلا يمكن للفرد أن يحقق قيمه دون الجماعة، والعكس صحيح، الجماعة لا يمكن أن تحقق قيمها دون الفرد، فارتباط أخلاق الفرد بالجملة الأخلاقيّة والسياسيّة التي تمارسها الجماعة التي ينتمي إليها الجميع ليس بأقل من ارتباط هذه الجملة بأخلاق الفرد وقيمه التي يلتزم بها، ولم يعد ممكنًا قبول عدالة مجتمعية تختلف عن عدالة المواطن، وعلى الرغم من هذه العلاقة الوثيقة بينهما، إلا أنّ هناك بذرة التواء، بين القيم السياسيّة، والقيم الأخلاقيّة التي تواكبها، يميل إلى القول بها Raymond Polin ريمون بولان (1910م) فبينما تمتزج القيم الأخلاقيّة كل الامتزاج بنيّة أثرها، لا يمكن أن تنفصل القيم السياسيّة عن إنجازها بالفعل، فإذا لم يتحقق هذا الإنجاز تلاشت قيمتها كلها. وإذا كان لكل مجال من المجالات قيمته الخاصة به، فإن لكل من الفلاسفة وجهة نظره الخاصة في القيمة، حيث يخطئ من يعطي القيم تعاليًا وسمة موضوعيّة عند ريمون بولان لأنّ التعالي فعل يلازم الإنسان وحده، لأنّه ينبوع القيمة الوحيد، والقيمة ليست شيئًا معطى إطلاقًا، بل هي إبداع فاعل على الدوام، وهذا الإبداع ثلاثي التجلي، فهو من جهة يتجلى في مسعى نفي المعطى، ومن جهة ثانية يتجلى في مسعى التخيل، الذي يتجاوز المعطى، و يتجلى من جهة ثالثة في فعل إبداع يحقق القيمة في أثر من الآثار، ويمحوها في الوقت ذاته، واختراع القيم هو فاعلية تعالٍ ذاتيّة، تظل وقفًا على الشعور الفردي. أما Rene Le Senne رينيه لوسن (1882م - 1954م) فيوضح أنّ القيمة تجربة وإلزام بالتعالي في آن معًا، وهي تمثُل دائمًا وراء التحديدات التي تصنعها بذاتها، لا بوصفها عدمًا، بل بوصفها أكثر من الايجابيّة، ويرفض لوسن جميع المذاهب التي تحاول حبس القيمة في مفهوم، لأنّها تتصل بالشعور كله. وبناءً على هذا، يجب أن ننظر إلى القيمة المحضة نظرتنا إلى توسّع مستمر، وانتشار لا ينضب معينه. وتمثل القيمة في نظر لويس لافيل Louis Lavelle علاقة بين الشعور والسرمدي، وهي فكر ناشط واشتراك يتحقق في الحاضر إبداعيًا. ويحتفظ لافيل، أحيانًا، بكلمة القيمة للدلالة على الانتقال بين أقطاب ثلاثة: من الكون إلى الواقع إلى الوجود، وتنفرد القيمة عنده بأنّها تُراد، وما دامت تُراد فهي دائمًا موضع نقاش، وتهدف نظريّة القيم بصورة دقيقة إلى البحث في ما يجعل القيم تُراد بصورة مطلقة في كل زمان ومكان. وبرزت أصالة Max Scheler ماكس شلر (1874م - 1928م) عندما منح العاطفة دورًا مفارقًا في اكتشاف مفهوم القيمة، فهناك أمر قبلي يسبق الحساسيّة، ويطلعنا على مضمون القيمة قبل ارتباطه بأحد الموضوعات، ومع ذلك ليست القيمة من يستند إلى العاطفة، بل العكس صحيح، العاطفة هي التي تستند إلى القيمة، والقيم ليست علاقات، بل كيفيات ندركها عن طريق العاطفة من حيث علاقتنا بها، وليس في وسع العاطفة المحضة إدراك القيم في شكلها المنفصل، لأنّها ذوات لا عقليّة. ويأبى ماكس شلر تعريف القيمة على أنّها موضوع معرفة مباشرة ندركها كما هي، وتفيدنا في تعريف ظواهر أخرى غيرها، فهي تدرك دون وسيط، وليست موضوعًا معطى للمعرفة، بل تعطى لنا في تجربة عاطفيّة قبليّة. على سبيل المثال: نحن لا نحتاج إلى توسُط لإدراك سلوك ما على أنّه سلوك شجاع أو نبيل، لكن يجب التمييز هنا بين التجربة القيمية، والتجربة الحسية، فما نحسّه يختلف عمّا ندركه كتجربة قيمية، فقد نحسّ بحركات المحارب الشجاع، ونصوّر له فيلمًا، لكن لا نستطيع أن نصور تجربة الشجاعة بوصفها قيمة معنويّة، وهذا لا ينفي وجود حامل يحمل القيمة، لكن تجربة القيمة بعينها ليست تجربة لحاملها، وهنا ينبغي أن نقرر أنّ القيمة في وجودها مستقلة عن حواملها، والدليل على ذلك استطاعتنا إدراك أنّ لهذا الشيء قيمة أعلى وأسمى من ذاك، دون معرفة كليهما بدقة، وكذلك للقيمة صفات لا تتغير بتغير الأشياء، أي أنّها لا تتأثر بتغير حواملها، ومن هنا يطلق على القيم طابع الاشتراك، فهي من جهة مرتبطة بحامل، ومن جهة أخرى مستقلة عنه، كونها تدرك بتجربة تختلف عن تلك التي يدرك فيها حاملها. ويميز Nicolai Hartmann نيقولاي هارتمان (1882م - 1950م) ثلاث خصائص في القيمة، أولها: نفي صفة الوجود المستقل عن القيمة لأنّها ترتبط بالحامل، بالرغم من أنّ وجوده يختلف عن وجودها، فنحن لا ندرك الجميل، وإنما ندرك الجمال في جسم إنساني أو في منظر طبيعي، وهذا لا يغفل المعنى الكلي للقيمة، فالجميل يظل هو الجميل جمالاً كليًّا، لكن القيمة الكليّة القائمة بذاته لا يمكن إدراكها؛ وثانيها: أنّ وجود القيمة لا يتوقف على وجود الحامل، بالرغم من أنّ إدراكها لا يتم إلا بواسطته، ويمكن الحديث هنا عن عالم للقيم شبيه بعالم المثل الأفلاطونيّة، فالقيم ماهيات وأشياء في ذاتها أي معانٍ مطلقة؛ أما الخاصة الثالثة فناجمة عن معرفتنا بالقيمة معرفة قبليّة، إذ يدركها الإنسان عن طريق رؤيا باطنيّة وجدانيّة يستخدم فيها نوع من الوجدان أو العاطفة، وهذا ما يفسر به هارتمان إدراك القيم من قبل الجميع، الطفل والناضج، المثقف والجاهل. ويختلف السؤال عند Ralf Barton Perry رالف بارتون بيري (1876م - 1957م): ما الذي تعنيه القيمة؟ عن السؤال: ما الأشياء ذات القيمة؟ فكثيرًا ما جرى الخلط بينهما، إلا أنّ السؤالين يختلفان فيما بينهما، والبحث يدور دائمًا في محور السؤال الأول إذ يجب معرفة القيمة لكي نطلقها صفة على الأشياء، ولسوء الحظ، حسب بيري، أنّ بعض الفلاسفة يسألون سؤالهم الخاص حول القيمة، وكأنّ المعنى الذي ينطوي عليه هذا المفهوم قد حُدّد مسبقًا، ولم يبقَ إلا أن نوجه النظر إليه، إلا أنّ المشكلة ليست في اكتشاف معنى موجود للقيمة، فما أكثر المعاني الموجودة، كما أنّ المسألة لا تحل بسردها، لأنّ المشكلة هنا البحث عن معنى راجح ومفضل، أي تحديد معنى للمفهوم بطريقتين: إما اختيار أحد المعاني الموجودة بالفعل، أو خلق وابتكار معنى جديد، الأمر الذي يتطلب من الباحث البعد عن الأهواء، والرغبات الشخصيّة، ووجود ضابط أو مجموعة معايير تسوّغ هذا التعريف، أو تنبذه. ويقترح بيري تعريفًا للقيمة: فالشيء -أي شيء له قيمة- هو موضوع اهتمام أو نفع، ومن ثم تعرّف القيمة قياسًا للجدوى، الأمر الذي يجعل تعريفها متوقفًا على تعريف الجدوى، التي يعرّفها بيري بأنّها سلسلة من الأحداث يتحكّم فيها توقع نتيجتها. أعد المادة: منقذه العلاّن *** *** ***
|
|
|