|
هابرماس: المثقف السياسي
إلى هابرماس في عيد ميلاده الثمانين من يفكر ويكتب في مثل هذه المنعطفات التاريخية الكبرى، شأن يورغن هابرماس، فإنه، لا ريب، يأخذ بعين الاعتبار، وفي كل مرحلة من مراحل حياته، أن فكره سيلقى الكثير من الاحترام والتقدير. وكل كاتب يقدم على هذا المدح وذاك التقييم النقدي سيركز على نقاط أساسية تعكس فعله وفكره في هذا العمل الكبير. لكن كثيرين أيضًا من الكتاب سيفرحون لتناقضات هذا العمل وسيعمدون إلى استغلال ذلك لدعم وإعلاء شأن أنفسهم. أنا أيضًا لست متحررًا من هذا التقييم المغرق في الفردية لشخص وعمل يورغن هابرماس. سألت نفسي مرارًا عن مميزات تفكير وأسلوب حياة هذا الرجل الذي لم يؤثر شخص مثله في الحياة الثقافية لألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية ومنذ أواسط الستينات والذي أسس لما يمكن تسميته بثقافة الجدال السياسية-العلمية، والذي تجاوز تأثيره الساحة الألمانية بكثير. معيد لدى هابرماس تعبر أحيانًا تجارب حياتية صغيرة عن أمور جوهرية. وهذا ما ظل، فعلاً، عالقًا بذاكرتي من عملي معيدًا لدى هابرماس في جامعتي هايدلبرغ وفرانكفورت. ومن ذلك طريقة اختيار البروفيسور هابرماس للعاملين معه، (هابرماس كان عمره واحدًا وثلاثين سنة عندما حصل درجة بروفيسور، كان ذلك عام 1961) وهي طريقة غير معهودة داخل الجامعات الألمانية. فقد شعرت أنه يختار العاملين معه بالنظر إلى قدرتهم على الدفاع عن مواقفهم بصبر وأناة. إنه يختبر من يملك نفسًا طويلاً في عملية الاستدلال، معتمدًا على قواعده ومناهج بحثه الخاصة. وقد اختارني لأنه رأى، على ما يبدو، بأني أمثل موقفًا مترسخًا حتى في الحقل الحزبي فيما يتعلق بالأورثوذكسية الماركسية. لم يكن إذن انتمائي إلى موقفه ما يبحث عنه، أو طاعة الطالب واجتهاده ولكن الجدل مع أصحاب الآراء الأخرى. ولم ألتق يومًا في حياتي بشخص يعطي ذاك الثقل الكبير لتبادل الحجج في عملية البحث عن الحقيقة مثل هابرماس. لكن الأمر يتعلق بحوار يختلف عن الحوار الأفلاطوني. ففي الحوار الأفلاطوني يملك سقراط دائمًا الكلمة الأخيرة، وسيرورة الاستدلال تمضي غالبًا في حركة سطحية من الأسئلة والأجوبة، التي تكون دائمًا قد حسمت من قبل. لكن الحوار يختلف بشكل مطلق مع هابرماس، الذي كان يحتفظ دائمًا بالتناقضات إلى الجولة المقبلة. العقل التواصلي في هذا العصر ما بعد الميتافيزيق كما يصفه هابرماس لا توجد ضمانات الحقيقة في التراث ولا في العلم. وبالنسبة لهابرماس فإن العقل التواصلي أكثر من مجرد تعامل شهوي مع اللغة. فمع العقل، الذي يهدف إلى التفاهم، تنهض أشكال التوافق الاجتماعية، والتي لن يكون هناك سلم اجتماعي دون التحيين المستمر لعملية الاعتراف بها. ويعتبر هابرماس في هذا السياق تلميذًا لكانط، فكانط أوضح في نقد العقل المحض بأن العقل هو المحكمة الحقيقية لكل الصراعات الفكرية والسلوكية للبشر. ومن لا يريد أن يعترف بمحكمة العقل (الضمير ينظر إليه كمحكمة داخلية) فإنه يغامر بإشعال فتيل الحرب. فالثوابت الدينية والأورثوذكسية والدوغمائية تتضمن بالقوة أفعال عنف، إنها أشكال تواصل منقطعة أو أشكال تعبير ترفض المحاججة. ولذلك فليس من الصدفة أن هابرماس لم يتوقف عن طرح الخصومات العلمية العنيفة للنقاش العمومي. والخيط المقطوع للصراع العمومي حول المواقف العلمية، كما أسسه ماكس فيبر بداية القرن العشرين في ما سمي بصراع الأحكام المعيارية، سيمسك به هابرماس من جديد ويستثمره سياسيًا. وفي الحالتين معًا، "صراع المؤرخين" كما في الصراع السابق حول "الوضعية"، فإن الأمر تعلق بالدراسة النقدية لإرث ثقافي: ماذا يعني تقليد الفكر الجدلي بالنسبة لحضارتنا المعلمنة؟ وماذا سينتج عن ضبط التاريخ الألماني بالنسبة إلى الجراح المفتوحة لآوشفيتس؟ عملية تقدير للخسائر؟ لم يقدم هابرماس البتة حلولاً عملية سهلة. لكن الجدير بالملاحظة أن الأسئلة في تطور عمله الكبير ما ببرحت تزداد نموًا. أول كتاب نسقي له التحول البنيوي للمجال العام (1962)، يشير إلى التحول الاجتماعي لدولة القانون الليبرالية. تسييس المجال العام وتشريع أنظمة أمان الدولة الاجتماعية ساهما في أنسنة منطق السوق ورأس المال والحد من نتائجه الوخيمة. وسيحتفظ هابرماس بمصطلح "الرأسمالية المتأخرة" حتى نهاية السبعينات كسمت بنيوي للنظام الاجتماعي بأكمله. استعمار عالم الحياة بعد انهيار المعسكر الشرقي الذي كان له دور في دفع الديمقراطيات الغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى التنافس من أجل بناء مجتمع أكثر حرية وعدالة، وكان تبني نظام السوق الاجتماعي أهم وثيقة عن ذلك، بعد هذا الانهيار استحوذت ميكانيزمات الاقتصاد الرأسمالي على الشعوب بشكل لم يكن متصورًا قبل عشرين عامًا. وقد تحدث هابرماس في كتابه المركزي نظرية الفعل التواصلي الصادر سنة 1981 عن "استعمار عالم الحياة". وفي ساحات الصراع التي يصطدم فيها النظام وعالم الحياة، تتماس قوى الاحتجاج. وهو ما يشترط طبعًا مجالين للسلطة. العلاقات الاجتماعية الأساسية تغيرت بشكل جذري. وأقانيم النظام الاقتصادي كالمال والرأسمال والسوق تغزو بقوة عالم الحياة، بشكل ينتج داخل النظام الاجتماعي تناقضات جديدة (وفي الآن نفسه قديمة). مشاكل البطالة ومجتمع العمل تصبح في قلب الأحداث، وازدياد الفوارق بين الغني والفقير واستبدال طرق التفكير الاقتصادية السياسية، التي ترجح الاقتصادي، باستراتيجيات التقشف التي تسمح للشركات بترشيد نفقاتها على حساب الآخرين. ليس بمقدور أحد اليوم، في ظل سيرورة تاريخية جديدة، تقديم تحليل مقنع وبرامج عملية لأنظمتنا الاجتماعية المتقدمة تقنيًا وصناعيًا. لكن يورغن هابرماس ينتمي إلى ثلة صغيرة من المثقفين السياسيين الذين بفضل تفكيرهم المنفتح على المجال العمومي، وإن لم يتفق المرء مع مواقفهم، التي قد ترافقها ثغرات وأشكال تهميش وتناقضات، فإنهم يشجعون على التفكير الشخصي ويخلقون حوافز للاستمرار فيه. إن هابرماس ينهج بذلك طريق كبار مفكري الأنوار في القرن الثامن عشر. فالتنوير، كما قال كانط، خروج الانسان من قصوره الذي تسبب فيه بنفسه. وهو ما يتلائم بشكل جيد مع إنجاز يورغن هابرماس. وليس ذلك فقط ولكن أيضًا دعوة كانط الشهيرة: تجرأ على استعمال عقلك دون وصاية الآخرين! تجرأ على استعماله داخل المجتمع!. إن بلوغ يورغن هابرماس الثمانين يشكل فرصة جيدة لنهنئه فيها بشكل عمومي ونعبر له فيها عن شكرنا واعترافنا بعمله الكبير الذي قدمه لثقافتنا السياسية. تأليف: أوسكار نيغتترجمة: رشيد بوطيب *** *** *** مجلة فكر وفن، عدد 92 السنة التاسعة والأربعون 2010
|
|
|