فويرباخ (1804-1872)

حياة فويرباخ ومؤلَّفاته

ولد لودڤغ فويرباخ Ludwig Feuerbach في 28 تموز من العام 1804 في مدينة لاندسهوت الألمانية من أعمال باڤاريا. وعلى الرغم من نشأته الكاثوليكية، فقد تربَّى على المذهب الپروتستانتي. وقد أبدى اهتمامًا بالدين وهو ما يزال طالبًا في مرحلة الدراسة الإعدادية. وفي العام 1823، درس في جامعة هيدلبرغ العلوم الدينية الپروتستانتية، لكنه لم يُتم تعليمَه ذلك، فتحول في العام 1824 إلى دراسة الفلسفة في برلين بإشراف أستاذه هيغل (1770-1831). وعلى مدى عامين، واظب لودڤغ فويرباخ على الاستماع إلى محاضرات هيغل في علم المنطق. وفي العام 1826، اضطر إلى العودة لدراسة التاريخ في جامعة إرلَنغن. وبعد سنة دراسية واحدة، كتب أطروحة جامعية في موضوع بعنوان في العقل الواحد، الكلي، اللامتناهي؛ وفي حزيران من العام 1828، تخرَّج من الجامعة في اختصاص الفلسفة، ثم حصل في نهاية العام نفسه على شهادة الدكتوراه، وفي غضون الأسابيع القليلة اللاحقة، باشر وظيفة التدريس في جامعة إرلَنغن.

كان كتابه خواطر حول الموت والخلود باكورة مؤلَّفاته، وقد نُشِرَ غفلاً من اسمه في العام 1830 بعد الأحداث التي هزت ألمانيا نتيجة ثورة تموز الباريسية. وبحجَّة احتواء الكتاب على آراء ناقدة للدين، تمَّ حظرُه بعد نشره مباشرة، وتعرَّض الكاتبُ بسبب ذلك للملاحقة البوليسية. ونتيجة الإحباط، توقف فويرباخ عن التدريس في الجامعة ابتداءً من ربيع العام 1832.

كتب فويرباخ في موضوع تاريخ الفلسفة الحديثة من بيكون حتى اسپينوزا. وما إن انتشر صدى تلك الكتابات، حتى استدعت "جمعية النقد العلمي الهيغلية" فويرباخ للمشاركة في تحرير مؤلَّفها السنوي. وقد لفت الأنظار موضوعان مما نشره فويرباخ في الكتاب السنوي، كونهما يتعرَّضان بالنقد إلى مدرسة هيغل المثالية. وألقى فويرباخ آخر محاضراته في الفلسفة في جامعة إرلَنغن ضمن الفصل الشتائي للعام الدراسي 1835-1836.

في العام 1837، تزوج المالكة الصناعية برتا لوڤ، وسكن معها في جناح من أجنحة مصنع الخزف الذي كانت تملكه في بروكبرغ، مما مكَّنه من التفرغ للتأليف الفلسفي. اهتم بنظريات عالِم الرياضيات والفيلسوف الألماني لايبنتس، وتلقى من أرنولد روغِه دعوةً للعمل معه في "جمعية الهيغليين الشباب"، وذلك بالمشاركة في إصدار الكتاب السنوي للجمعية في العام 1838. وجد فويرباخ في ذلك المطبوع فرصة جيدة للتفاعل مع إيديولوجية عصر النهضة وأفكاره، فنشر كتابيه نقد الفلسفة الوضعية (1838) ونقد الفلسفة الهيغلية (1839). وفي العام 1841، صدر كتابُه الأشهر جوهر المسيحية الذي طوَّر فيه نقدَه للدين تطويرًا كبيرًا. وفي العام 1842، بدأ بكتابة مواضيع معاصرة حول إصلاح الفلسفة، تأخر إصدارُها في كتاب بسبب الرقابة حتى خريف العام 1843. وفي هذا الكتاب، تطرَّق فويرباخ إلى السؤال التقليدي حول كيفية توصُّل الإنسان إلى فكرة الأنا التي كوَّنت الوجود وإلى نشوء الفكرة المطلقة (الحقيقية المطلقة).

في أثناء ذلك، تعرَّض فويرباخ لضائقة مالية بسبب تراجُع أرباح مصنع زوجته. وفي فرانكفورت، عقد علاقةً مع كتلة برلمانية متطرفة كانت تُعرَف باسم "نادي دونرزبرغ" (يساريين ديموقراطيين). وقد اكتشف فويرباخ في وقت مبكر عدم جدوى الجهود البرلمانية ولم يعول عليها كثيرًا.

انتقل في خريف العام 1848 إلى هيدلبرغ، بناءً على دعوة طلاب الجامعة هناك، لإلقاء 30 محاضرة فلسفية مفتوحة في موضوع طبيعة الدين، استمرت لغاية آذار من العام 1849، استنادًا إلى كتابه جوهر الدين. وقد تمنَّى طلابُه آنذاك عليه أن ينضم إلى الهيئة التدريسية لجامعة هيدلبرغ، لكن إدارة الجامعة مانعت في شدة وآثرت عدم التعاون معه، بتأثير مباشر من رجال الكنيسة، فقررت عدم السماح له بإلقاء المحاضرات في قاعاتها، مما اضطره إلى استخدام قاعة دار البلدية لهذا الغرض. وقد تنوع زوار محاضراته، الذين بلغ عددُهم 250 مستمعًا، بين طلبة الجامعة، الذين شكلوا نسبة الثلث، وبين المواطنين من خارج الجامعة، الذين شكلوا الثلثين الآخرين. وقد جمع فويرباخ محاضراته الثلاثين التي ألقاها في هيدلبرغ في كتاب صدر في العام 1851 في ثمانية أجزاء أسماه: محاضرات في جوهر الدين.

وبعد اندلاع ثورة آذار 1848، طُلِبَ من فويرباخ الترشح نائبًا في برلمان فرانكفورت. ثم عاد في العام 1849 إلى بروكبرغ تملأ قلبَه المرارةُ ليراقب انحسار الثورة في عموم القارة الأوروبية. وقد نشر آنذاك مقالتين ساخرتين كتبهما بأسلوب مفعم بالانتقاد اللاذع لقوى الرجعية المنتصرة، اشتُهر في إحداهما – وكانت بعنوان درس في المواد الغذائية للمواطن – بقدرته الفائقة على استخدام العبارات البليغة لأغراض النقد، مثل: "إن الإنسان هو ما يأكل." وفيما هاجر زملاءُ فويرباخ النشطاء إلى كلِّ مكان خارج ألمانيا هربًا من الملاحقة البوليسية، قرر هو الهجرة إلى الولايات المتحدة، لكنه عدل عن الفكرة بسبب عجزه عن الحصول على المال اللازم لتغطية أكلاف الرحلة.

وفي العام 1859، أفلس مصنع بروكبرغ كليًّا، فلم يخسر فويرباخ وزوجته كلَّ مدخراتهما وحسب، وإنما طُرِدا أيضًا من السكن فيه. وبعد جهود مضنية، استطاع العثور على دار قديمة للسكن في بلدة ريشنبرغ على مقربة من نورنبرغ؛ وقد ساعده أصدقاؤه من زمن الثورة على ترتيب الدار ونقل أثاثه إليها وعلى تغطية نفقات المعيشة، وذلك من خلال جمع التبرعات. وقد انخفض معدَّل كتاباته كثيرًا، واقتصرت على المقالات البسيطة حول الروحيات والماديات وحرية الاختيار. وهزت الحرب بين پروسيا والنمسا التي نشبت في العام 1866 فويرباخ من الأعماق، فبدأ، على غير عادته، يهتم بالأوضاع السياسية. لكنه رفض تمامًا مشروع بسمارك الوحدوي وعدَّه مشروعًا تعسفيًّا لا يترك للناس حرية تقرير مصيرهم. وقد انكب في تلك الفترة من حياته على دراسة الجزء الأول من كتاب رأس المال لكارل ماركس، كما أبدى تضامنه مع الحركة النسوية، المتصاعدة آنذاك في الولايات المتحدة والمطالِبة بتحرر المرأة.

وفي العام 1868، بدأ كتابة مؤلَّفه الجديد حول الأخلاق وحرية الاختيار، ولكنه لم يتمه. التحق في العام 1869 بحزب العمال الاجتماعي الديموقراطي، استجابةً للعلاقة مع بعض الأصدقاء. وفي نهاية العام 1871، ظهر على صفحات جريدة الحزب نداءٌ يدعو القراء إلى جمع التبرعات للفيلسوف الذي أصابه الفقرُ المدقع، وكررت صحف أخرى نشر النداء، فاستجاب القراء، وتوفَّر لديه مبلغٌ من المال كافٍ لضمان معيشته مع زوجته وابنته حتى رحيله في العام 1872.

فلسفة فويرباخ

فتاة ذات عشرين ربيعًا تزوجتْه لأنه شاب يسكن قرب أحد الأضرحة المقدسة – لهذا السبب فقط تزوجته! وبعد عام لا أكثر، طردها من بيته ليتزوج أخرى، وهي الآن تعيش على الصدقة في حيِّنا مع طفلها الرضيع، وقطعان الذئاب تحوم حولها تنتظر متى تسقط. (قصة حقيقية)

قال إنجلز تعقيبًا على كتاب فويرباخ جوهر المسيحية:

يجب على المرء أن يختبر بنفسه الفعل المحرِّر لهذا الكتاب لكي يكوِّن فكرةً عنه. كان الحماس عامًّا: صرنا جميعًا فويرباخيين بصفة مؤقتة.

إنها الفويرباخية الجديدة التي أفرغت الدين من محتواه وجعلتْه يخرج من دوائر الزيف كلِّها. يُعتبَر لودڤغ فويرباخ من أنصار المادية في بداية حياته، لكنه فيما بعد اعتنق المثالية الذاتية في تيارها الملحد، داعيًا إلى فكرة "سقوط الله" وإقامة "مملكة الإنسان الحقيقية" (مدرسة نيتشه). الدين عند فويرباخ هو وعي الذات اللاواعي، والإنسان هو الذي اخترع فكرة الإله الذي لا يمكن أن يُعَد كيانًا ماديًّا، بل هو نتاج الفكر البشري: إن الإله هو ذلك الكائن المجرد الذي ينشأ من الفكر الإنساني المطلق وحده، وهو ليس خالق كلِّ الأشياء لأنه مصنوعة بشرية بحتة. لذا فإن المادة، بحسب فويرباخ، هي تاج الحياة وهي وحدها الخالدة. أما الإنسان فهو ناتج للمادة، يُصنَع فيها ومن خلالها ويتطور منها، لذلك يصح القول: "إن الإنسان هو ما يأكل."

من ناحية أخرى، اتهم فويرباخ في كتابه الدين بتجريده الإنسان من حريته وبوضعه في حالة اغتراب وفصام مع ذاته وكيانه؛ الأمر الذي يتطلب منه التخلص من الدين ليصبح قادرًا على استيعاب دوره كليًّا وإدراك حقيقة أولوية المادة في الطبيعة. حينذاك فقط يمكن للإنسان أن يستوعب معنى الحياة على هذا الكوكب.

إن الإنسان، بحسب فويرباخ، هو مقياس واقعي لجميع الأشياء، كما وأنه مقياس للحقيقة. لذا يجب إلغاء جميع التناقضات في الواقع، حيث تُؤنسَن الآلهة وتتحول وهمًا إلى واقع يجري تقديسه. وفيما يتعلق بكيان الإله، رأى فويرباخ أن "وعي اللانهائي لا يعدو أن يكون وعيًا للانهائية الوعي". وعليه، فإن "وعي الإله ما هو إلا الوعي الشخصي للإنسان، ومعرفة الإله ما هي إلا معرفة الإنسان لِذاته". إن الإله هو الاعتراف الصريح بأسرار الحب والخوف المخزونين في داخله وانعكاسها إلى الخارج. وإن الإله هو محض تعبير عن الذكاء البشري والإرادة البشرية، بما فيها الكمال والحب. وفي إمكان خيال الإنسان أن يخلق من القوى والغرائز والرغبات وجودًا حقيقيًّا هو ما سماه "الإله" (الناتج الكلِّي) الذي يجسِّد هذه الأشياء كلها تجسيدًا متكاملاً. إن الدين هو "سلوك الإنسان تجاه ذاته" (عملية إرجاع الشفرات الأصلية إلى وجودها المجرد).

يُعتبَر فويرباخ الجذر الأول الذي بدأت عنده الماركسية ومصدرها الأول من الناحية الفلسفية: إذ إنه جرَّد مثالية هيغل من مطلقها الغيبي وأعطاها صفة الواقعية. ومن الممكن أن نلخِّص رسالة فويرباخ إلى البشرية بالكلمات الآتية على لسانه في أحد المحافل:

تحويل الفقهاء إلى علماء إنسان، ورجال الكهنوت إلى فلاسفة، تطوير حكماء كلِّ الأزمنة إلى مستوى طلاب حداثة، وتحرير العبيد من هيمنة الدين والسلطة الأرستقراطية، ليصبحوا مواطنين أحرارًا، مفعمين بالوعي والإرادة الحرة.

ومن أقوال فويرباخ أيضًا:

الدين ما هو إلا محاولة بدائية بائسة لإضفاء صفة الإطلاق على السلوك البشري.

المقبرة البشرية هي المكان الذي تولد فيه الآلهة.

حقًّا يختلف الرجل والمرأة جسديًّا وعقليًّا، الأمر الذي جعل هذا الفرق يقود إلى هيمنة الرجل على المرأة، وعزلها عن النشاطات الفكرية عمومًا، ووضعها بين جدران المنزل. وأنا على ثقة من أنها لو مارست السياسة ستكون مثل الرجل، وربما ستصنع سياسةً مختلفة، سياسةً أفضل من السياسات التي يصنعها الرجال.

سأذهب إلى هيدلبرغ لإلقاء محاضرات حول جوهر الدين. ولو أن بذرة واحدة فقط مما سوف أزرع هناك نبتت بعد مئة عام وأصبحت شجرة، فإنني أكون قد أديت خدمة إلى البشرية.

أعدَّ المادة: عماد الربيعي

* * *

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني