|
ألبير كامو (1913-1960)
يُعتبَر ألبير كامو من كبار فلاسفة القرن العشرين. ومن ضمن الكثير من الموضوعات التي بحث فيها هناك موضوعا العبث والتمرد. لقد ناقش فلاسفة كثيرون، على مدى العصور، قضايا تتمثل في موضوعات مثل تناقض العالم والوجود، المغزى الحقيقي للحياة، العلاقة مع الحرية، تقييم مكانة الإنسان ودوره في العالم والمجتمع، لكنها أضحت أكثر حيوية في القرن العشرين، الذي عُرِفَ بعصر التطور التقني، عصر الحروب الكبيرة والمأساوية. وقد اعتمد ألبير كامو على أفكار المدارس الفلسفية المعاصرة عندما شكَّل وجهة نظره الخاصة في مفهومَي العبث والتمرد. وهذا ما يجعل القارئ يستمتع أكثر في دراستهما. في بداية مقالته عن العبث، أكد كامو أن مسألة ماهية الحياة هي المسألة الرئيسية التي تبحث فيها الفلسفة. وهنا أراد كامو أن ينظر في عمق إلى علاقة الوجود العبثي والشعور العبثي بالحياة والانتحار وبالأمل والحرية وتأثيرهما فيها. حاول كامو أن يفهم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى الانتحار، فتوصل إلى مفهوم الشعور العبثي، حيث اعتبر أنه يظهر على أساس التناقض بين الإنسان والمحيط الخارجي، أو كما شبَّهه قائلاً: "بين الممثل والديكورات." ففي حال تمكَّن الإنسانُ من تفسير العالم تفسيرًا مقنعًا، على الأقل، يصبح هذا العالم في نظره مفهومًا ومقبولاً إلى حدٍّ ما. لكن حينما يدرك الإنسان "وهم" هذا التفسير سرعان ما يشعر على الفور بنفسه غريبًا في الكون، فيقف أمام سؤال: هل تستحق الحياة أن أعيشها؟ وهنا يلد الشعور العبثي. لقد شرح كامو، في اختصار، العوامل الخاصة المتعلقة بهذا الشعور، معتبرًا أن العبث يتغلغل في وعي الإنسان تغلغلاً مفاجئًا في اللحظة التي يشعر بها الإنسانُ بالفراغ، بإرهاق من الوجود اليومي أو الحياة اليومية، لأن الوعي في هذه اللحظة يتوقف عن استيعاب الغاية من هذه الحياة اليومية، وتنقطع سلسلة التصرفات الاعتيادية والروتينية. وفي هذه اللحظة بالذات، اعتبر كامو أن وعي الإنسان الذي كان راكدًا من قبلُ بدأ بالحركة والنشاط. والوقت هو أيضًا عامل آخر من عوامل العبث: فالإنسان الذي يعيش من أجل المستقبل، يدرك أن الوقت يتحول إلى عدو. وقد عبَّر كامو عن هذا قائلاً: "يظهر ما يشبه ثورة الجسد الموجَّهة ضد تأثيرات الزمن." الخطوة التالية هي عبارة عن إحساس الإنسان بغربته في العالم المحيط، فتعكس كثافةُ العالم وغربته عن عبث الوجود. إضافة إلى أن الإنسان يخفي في داخله شيئًا من اللإنسانية، التي تظهر في تصرفاته وحركاته؛ وهذه اللإنسانية ترينا الوجه الحقيقي للإنسان من الناحية الفسيولوجية. وهنا أيضًا نجد العبث. إن موت الإنسان وحتمية الموت تضفيان على العبث وزنًا إضافيًّا. توقف كامو عند مسألة العقل والفكر ومعرفة العالم. فمعرفة العالم في نظر الإنسان تتلخص في دمجها بالمفاهيم المتداولة عنده. ولكن هناك تناقضًا بين الإنسان الذي يعتقد أنه يعرف وبين ما يعرفه في الواقع. ولا يمكن الاعتماد على النماذج الإبداعية، كالأدب والرسم وغيرهما، في التوصل إلى المعرفة الكاملة لأنها افتراضية، ولا على العلم لأنه قادر فقط على تمييز ظواهر معينة وتعدادها – علمًا أن كامو اعتبر أن العالم ظاهرة غير عقلانية، وليس ظاهرة عبثية. فالعبثية تتلخص في اصطدام هذه اللاَّمعرفة بالعالم بالتعطش إلى الوضوح الذي يصرخ في روح الإنسان. وإذن، فالعبث إنما يولد من اصطدام رغبة الإنسان بأن يكون سعيدًا ويصل إلى عقلانية العالم، من جانب، مع اللاعقلانية الصامتة لهذا العالم، من جانب آخر. وبهذه النتيجة يكون كامو قد عارض الكثير من المدارس الفلسفية، التي أكدت أن كلَّ ما هو موجود هو عقلاني وأن كلَّ شيء يمكن له أن يُفهَم بواسطة العقل. عندما تعمَّق كامو في تحليله لمفهوم العبث، أشار إلى أن الشعور به لا يظهر عند النظر في الحقائق والتأثيرات الأحادية، بل في المقارنة بين الوضع والواقع. وأضاف كامو أن العبث لا يختبئ في الإنسان ولا في العالم، إنما في اختلاطهما، فيصبح العبث هو الخيط الوحيد المشترك بينهما. ثم طوَّر كامو هذه الفكرة، فتوصل إلى نوع من الاتحاد الثلاثي: العبث – الوعي الإنساني – العالم؛ وفي حال استثنينا حدًّا واحدًا منها سيؤدي ذلك إلى تفكيك هذا الاتحاد. إن تصادم حدود هذا الثلاثي أو تصارعها يشير إلى انعدام الأمل والإنكار المستمر وعدم الرضا المدرَك. وإذا تمكنَّا من تجاوُز هذه الظروف فإن العبث يزول، لأن التوافق يزيل الخلاف. فالعبث يُقاس بنسبة عدم توافُقنا. وبذلك يصل كامو إلى نتيجة هامة، وهي أن تجربة العبث والانتحار مقولتان غير متوافقتين، حيث إن الإنسان الذي أدرك عبثية الوجود يجد أن معنى الحياة يوجد في النزاع الدائم بين العقل وبين الواقع الذي يفوقه. ووفقًا لذلك، فإن اختزال الواقع وتيسيره يعني إفقار الإنسان لنفسه. وقد اعتبر كامو أن النتيجة الرئيسية للعبث هي ارتقاء الوعي الإنساني تدريجيًّا، ليصبح شاهدًا على الحقيقة التي تتحدى العالم المتفوق عليه. وفيما يخص مفهوم العبث، أشار كامو أيضًا إلى أنه يؤدي إلى حذف جميع فرص الإنسان للوصول إلى الحرية الشفافة والأبدية التي جاءت بها الأديان، ولكنه يعيد حرية التصرف ويستلهمها. فبعد إدراك العبث يتفهم الإنسان ما يلي: إن الحرية الأعظم هي حرية الوجود التي تخدم أسُس الحقيقة. إن مصدر الحرية الداخلية للإنسان العبثي يأتي من إدراكه عدمَ وجود مفهوم لانتظارِ حدوث أمر بعينه في المستقبل، والعودة إلى إدراك واضح للهروب من حلم يومي – وهذا الإدراك لا غنى عنه للحرية العبثية. وبحسب رأي المفكر، فإن إدراك العبث يتطلب استبدال "كمية" تجربة الوجود بـ"نوعيتها"، وفي عبارة أخرى، أن لا يحيا الإنسان بشكل أفضل، بل أن يعيش لحظات أكثر؛ وهذا، بدوره، يمنحه الإحساس بالحياة والتمرد والحرية بأقوى شكل ممكن. فكما ذكرنا سابقًا، يُظهِر العبث نفسه في الوجود الإنساني في شكل يدفع الوعي والعقل إلى النشاط والعمل، متمخضًا بذلك عن الحرية الداخلية. عدا عن ذلك، تساءل كامو عن تأثير العبث على الجانب الأخلاقي للإنسان، وعن كيفية تعايُش العبث مع الأخلاق، فاعتبر أن الإنسان العبثي يستطيع أن يتقبل الأخلاق الإلهية فقط، تلك التي أملاها عليه الرب؛ أما في خصوص أنواع الأخلاق الأخرى، فيعتبرها مجرد أساليب لتبرير الذات، وهو ليس في حاجة إلى التبرير، ولكنه في نفس الوقت يعيش من دون إله. ومن الخطأ الظن أن العبث يسمح بالقيام بأية تصرفات كانت، لأن العبث، بحسب كامو، يجعل نتائج التصرفات متكافئة. إن مفهوم الأخلاق يرتكز على قاعدة مُفادها أن التصرف يؤدي إلى نتائج، إما أن يبرِّرها هذا المفهومُ ويتقبلها وإما أن يدينها ويرفضها. أما العبث، فعلى العكس يعتبر أن علينا أن نتقبل نتائج التصرفات في هدوء. يعتبر كامو أن جميع أنواع التجارب في الوجود متساوية. لذلك إذا كان الإنسان يملك وعيًا واضحًا فجميع تصرفاته ستصب في خدمته؛ وإذا كان الأمر خلاف ذلك، فستسبِّب تصرفاتُه المشكلات. وهنا تقع المسؤولية على عاتقه هو، وليس على عاتق الظروف. الوعي وانعدام الأمل أمران يصف بهما كامو الإنسان العبثي: فهو لا يعرف الشعور بالحزن الناتج عن تصرف ما أو عن أمر لم يتحقق. وهنا استعان المفكر في تحليلاته بشخصية دون جوان، الذي كان يدرك إدراكًا واضحًا أنه مجرد مُغْوٍ عادي لا يطمح إلى إيجاد حبٍّ كامل ومثالي. وفي رأي كامو، هناك ظاهرة تبيِّن العبث تبيانًا واضحًا، ألا وهي المسرح: فالمسرحية التي تمثَّل على الخشبة ما هي إلا مرآة تعكس عبثية الوجود. فخلال بضع ساعات، وفي مكان مغلق، يحاول الممثلون أن يجسدوا أقدارًا كاملة وفريدة. فالمقارنة التي يهدف إليها المفكر مفهومة وواضحة، كما هي حياة الإنسان: محددة بفترة زمنية معينة، وتسير في إطار العالم المتفوق عليه. هناك مثال آخر يأتي به كامو على ضوء ما ذُكِرَ، ألا وهو البطل–الفاتح أو المغامر. وهذا الإنسان هو بمثابة غاية في حدِّ ذاته: فهو صاحب القرار، وكل ما يريده سيهدف إلى الحصول عليه في حياته، دون أن يعتمد على أحد. والفاتح أو المغامر يعرف مدى عظمته وقدراته على الوصول إلى أكثر ما يطمح إليه الآخرون وعلى نيله. وإذن، فالأشخاص الذين يدركون العبث هم أشخاص يفكرون في وضوح، يعرفون إمكاناتهم، ولا يتكلون على الآمال. وعندما وصل كامو إلى تحليل العبث في الإبداع، لاحظ أن العمل الإبداعي (لوحة رسم أو مقطوعة موسيقية أو رواية) يعطي أقل مما كان مفترَضًا فيه أن يعطي في البداية. وهذا يعود، بحسب كامو، إلى أن العالم غير عقلاني ولا يمكن اكتشافه بالعقل. لذا فإن العمل الإبداعي العبقري يرفض ميزات الأفكار ويؤيد أن تبقى مجرد قوى محرِّكة للعقل تؤدي إلى تغيير المظهر الخارجي للظواهر وتحويلها إلى نموذج. يتبع المبدع العبثي هدفين في آنٍ واحد: فهو، من جهة، يرفض، ومن جهة أخرى، يؤيد. وكما قال كامو: "على المبدع أن يمنح لونًا للفراغ." الإبداع يعني إعطاء شكل للقدر. وفي حال مَنَحَ الموت المعنى النهائي لجميع أعمال المبدع، فحياته، إذن، هي التي كانت تسكب ضوءًا ساطعًا عليها. وفي نهاية تأملاته في العبث، يذكِّرنا كامو بقصة سيسيفوس الذي بمساعدتها كشف عن تأثير العبث على الوجود الإنساني. فيتكلم، من جهة، على العذاب الذي يمر به سيسيفوس تحت وطأة الصخرة الكبيرة، – وهذا هو ذلك العالم المتوافق الذي تكلَّم عليه كامو سابقًا، – ومن جهة أخرى، على العقل الواضح الذي يسمح له بأن يقاوم هذا العالم: فهو يرتقي فوق القدر، مدركًا أن هذا هو طريقه وهو صاحب قراره. يصور كامو سيسيفوس سعيدًا لأنه يدرك جميع الظروف القاهرة التي يمر بها ويعترف بها، وبهذا يتمكن من أن يعلو ويتفوق عليها. وبعد تحليل مفهوم العبث، حدَّد كامو ثلاث نتائج له: الوعي الواضح الذي يساعد الإنسان على مقاومة العالم؛ الحرية الداخلية؛ وتعدُّد التجارب الوجودية. فعبر عمل العقل والوعي العبثي يلتفت الإنسانُ إلى قوانين الحياة، وبذا يكتسب الأمرُ، الذي كان في السابق دافعًا إلى الموت، معنى للوجود – وبهذا يرفض خيار الانتحار. يمنح الشعور بالعبث الذي يتشكل نتيجة عمل الوعي الإنسانَ فرصةً لتقييم قَدَره. وهذا يمكن أن نعتبره مقدمة، أو شرطًا أوليًّا حتى، لمفهوم آخر نظر فيه كامو، ألا وهو التمرد. فعندما يستيقظ الوعي تتضح للإنسان عبثيةُ الوجود وعدم إدراك المصير الإنساني وظلمه. وهذا ما يولد التمرد، الذي يهدف إلى التغيير. وقد اعتبر كامو أن السبب الرئيسي للتمرد هو أن "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرفض أن يكون ما هو عليه". فالإنسان المتمرد هو الإنسان الذي يقول: لا. وعلى الرغم من هذه الـ"لا"، التي هي عبارة عن معارضته لنظام أمور معينة، فهو في الوقت نفسه يعترف بوجود حدود وخطوط ما سمح، عبرها، للظروف السلبية بأن تتدخل في حياته. يتضمن التمرد، دون أدنى شك، قيمة معينة. فالإنسان المتمرد يعارض كلَّ ما هو غير نافع ومضر به. ولكن تطور التمرد يضفي عليه خاصية جماعية. فقد توصل كامو إلى نتيجة عندما ضرب مثالاً على العبد الذي تمرد على سيده: فالعبد قام على نظام لا يعترف بحقوق مجتمع من الأشخاص المضطهَدين. وهنا تخسر الذات المكانة التي على المتمرد أن يدافع عنها، لأن القيمة هنا تصب في مضمون مجموعة من الأشخاص. وهنا يُبعد كامو مفهوم التمرد عن الحقد، لأن الحقد مصدره الحسد، وهو دومًا موجَّه ضد الموضوع الذي يشكل ذلك الحسد. أما التمرد فهو يأخذ وضعية الدفاع عن القناعات: المتمرد يدافع عن نفسه، عن وحدة شخصيته، مطالبًا باحترامها. وبهذا الشكل استنتج كامو أن الحقد يحمل بداية سلبية؛ أما التمرد فينطوي على إيجابية. وبهذا الفكرة يدخل كامو في جدل مع بعض الفلاسفة الذين ساووا بين روح التمرد والحقد. عندما نظر كامو إلى مفهوم التمرد من منظار اجتماعي، لحظ أنه من غير الممكن ظهوره في مجتمعات تطغى عليها اللامساواة طغيانًا كبيرًا أو تطغى عليها مساواة مطلقة. وإذن، فالتمرد، بحسب كامو، ممكن في مجتمعات تتوارى فيها لامساواة واقعية وراء مساواة نظرية. عدا عن ذلك، فإن التمرد يخص إنسانًا عارفًا ومطلعًا، وليس جاهلاً، إنسانًا مدركًا لحقوقه. وعليه، فلا يمكن للإنسان المتمرد أن يظهر في مجتمعات بدائية، حيث تسود المعتقداتُ الخرافيةُ والتقاليدُ وتفسَّر الظواهرُ الحياتيةُ على أسُس قدسية وتحريمية. ويؤكد كامو أن التاريخ وأحداثه يجبران على الاعتراف بأن التمرد هو إحدى الصفات المبدئية للإنسان، حيث إنه واقع تاريخي للإنسانية. فلا يجوز الهروب من هذا الواقع، بل إيجاد قيم وتجارب تصب في مصلحة الإنسانية. وإحدى قيم التمرد هي أنه يدعو إلى وجود مجتمع إنساني بعيد عن القداسة. ولكي يحيا الإنسان عليه أن يتمرد، ولكن شريطة ألا يتخطى حدود الوجود الحقيقي للبشر. إن إدراك عبثية الوجود ولاعقلانية العالم هما بداية التمرد. ولكن في حال العبث فإن العذاب يكون شخصيًّا؛ أما في حال التمرد فهو جماعي. فإذا عبَّرنا عن التمرد في بدايته بعبارة: "أنا أتمرد، إذن أنا موجود"، فبعد تطور التمرد ليصبح جماعيًّا يمكن لنا أن نعبِّر عنه بقولنا: "أنا أتمرد، إذن نحن موجودون." وقد ميز كامو عدة فئات من التمرد، واضعًا لكلٍّ منها صفات وخصائص معينة: فالتمرد الميتافيزيقي، كما عرَّف به، هو تمرد الإنسان ضد مصيره وضد الكون أجمع. فإذا كان العبد يتمرد على وضعه، فإن المتمرد الميتافيزيقي يتمرد على قدره المحتَّم عليه كإنسان: فهو يعلن بأنه مخدوع ومظلوم من الخالق نفسه. وهنا يشير كامو إلى أمر مهم: كما أن العبد الذي تمرد على سيده يعترف بوجود السيد وبسلطانه عليه، كذلك فإن المتمرد الميتافيزيقي يتمرد هو الآخر على قوى تسيطر على مساره وتحدِّده، وبذلك يؤكد واقعية هذه القوى. ومن هذا يمكن لنا أن نصل إلى استنتاج مُفاده أن التمرد الميتافيزيقي لا ينطوي على الإلحاد: فالتمرد لا ينكر القوة الإلهية العظمى، بل يتحداها. أما الفئة الثانية من التمرد، بحسب كامو، فهي التمرد التاريخي الذي يهدف بشكل رئيسي إلى الحرية والعدالة. فهو يحاول أن يضفي على الإنسان صفة الحاكم للوقت وللتاريخ. وقد عزل كامو مفهوم التمرد عن الثورة، معتبرًا أن الثورة تنبت من فكرة، بينما التمرد هو حركة تبدأ من تجربة ذاتية وتوصل إلى الفكرة. وهنا يأتي كامو بجملة تقول: "الإنسانية لم تعرف بعدُ الثورات الحقيقية." فالثورة الحقيقية تضع أهدافها للوصول إلى اتحاد شامل ونهاية حتمية للتاريخ؛ أما الثورات التي نشبت إلى يومنا هذا فقد تمكنت فقط من تغيير سلطة سياسية بأخرى. حتى الثورة التي بدأت كثورة اقتصادية انتهت لتصبح سياسية. وهنا أيضًا يظهر الفارق بين التمرد والثورة. ناهيك عن أن أهداف كلٍّ من الثورة والتمرد مختلفة جذريًّا: فالثورة تصنع من الإنسان مادةً للتاريخ؛ أما التمرد فهو يؤكد على مفهوم الإنسانية وطبيعة الإنسان غير الخاضعَين لقوى العالم. التمرد يخرج من الإنكار باسم التأكيد؛ الثورة تخرج من الاستنكار المطلق، وبذلك تحكم على نفسها بالعبودية والإرهاب لبلوغ غايتها. ويتوصل كامو إلى نتيجة هامة للغاية، مُفادها أن التمرد أمر خلاق؛ أما الثورة فأمر عدمي، لأن التمرد يدعو الإنسانية إلى العيش بهدف إنشاء نفسها، عوضًا عن أن تقتل وتموت في سبيل إنشاء وجود غير متوافق معها. الفئة الثالثة والأخيرة هي فئة التمرد في الفن. إن الفن هو إبداع ينطوي على تمرد يُظهِر الإنكار والتأكيد في آنٍ واحد. فالتمرد في الفن، بحسب كامو، هو خالق الكون. المبدع يعتبر أن العالم غير كامل، ويحاول أن يعيد صياغته ويعطيه ذلك الشكل الذي ينقصه. ويقول كامو إن الفن يجادل الواقع، ولكنه لا يتحاشاه. كما أن الفن يقود المبدع إلى مصدر التمرد بنفس النسبة التي يعطي بها شكلاً للقيم غير المرئية، ولكنها مرئية في نظره ويشعر بها هو كمبدع. وفي نهاية بحثه، قام كامو بمقارنة التمرد بمفهوم القتل، كما قارن سابقًا ما بين العبث والانتحار. فقيمة التمرد تتلخص في وضعه حدًّا للاضطهاد؛ وبذلك يكون قد صنع خاصية حميدة للبشر. وإذن، فالتمرد يحمل بداية إبداعية. وبهذا يكون مفهوما القتل والتمرد متناقضين على مستوى المنطق. فإذا ارتكب المتمرد القتل يكون بذلك قد قسم العالم وحطَّم تلك الوحدة البشرية. وهكذا تظهر المعادلة التي تقول: "أنا أتمرد، إذن نحن موجودون." وهنا نصل إلى نتيجة مُفادها أن كامو أعطى العبث والتمرد معنى إيجابيًّا وخُلُقيًّا. ففي الواقع، الشعور العبثي يوقظ وعي الإنسان ويرفعه فوق مصيره ويعطيه معنى آخرًا أو بُعدًا آخرًا للوجود. والوعي، بدوره، هو المصدر الأول للتمرد – السعي إلى التغيير. إن تمرد الإنسان بمرور الوقت وتطوره يتحول إلى قيمة للكثير من البشر، واضعًا أسُسًا لاتحادهم كقوة خلاقة. * * * أعدَّ المادة: هالة رسلان
|
|
|