إيمانويل ليفيناس: حياته، فلسفته، أعماله
د. جلال بدلة
حياته
وُلد ليفيناس عام 1906 في ليتوانيا ونشأ في ظلِّ ثقافة يهودية.
فرَّ مع عائلته عام 1914 إلى مدينة خاركوف في أوكرانيا. تعرَّف
على الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى عبر قراءته للأدب الروسي.
كان يافعًا عندما جرت أحداث قضية درايفوس. مثلَّت هذه القضية
بالنسبة إليه نموذجًا قويًا للأخلاق المنتصرة على السياسة. ذهب
إلى ستراسبورغ عام 1923. اكتشف أولاً فلسفة برغسون، وتأثر
بجدّة فلسفة هيدغر. جمعته مع موريس بلانشو صداقة مميزة. أعجب
بلغته الأنيقة، وحساسيته وفكره ذي الذوق الرفيع، وبِراهنيَّة
كتاباته ورفضه للسهولة. قرأ بفضله بروست وفاليري. دامت هذه
الصداقة 40 عامًا.
قرأ الأبحاث المنطقية لـ هوسرل التي فتحت له "أفقًا
فكرية جديدة" – وفق تعبيره. من شدة إعجابه بهذه الفلسفة، ذهب
عام 1928 إلى فرايبورغ ليتابع محاضرات هوسرل بنفسه خلال عام
كامل. توقف هوسرل شتاء 1929 عن محاضراته مكرِّسًا وقته لتنظيم
مؤلفاته، فحلَّ محله مارتن هيدغر، وكانت فرصة ليلتقي به
ليفيناس الذي كان قد قرأ الكينونة والزمان بالألمانية.
كان يحضر أيضًا الأمسيات الفلسفية التي كان ينظمها غابرييل
مارسيل كل يوم سبت.
شجعه هيدغر وموريس بلوندل على المشاركة في لقاءات دافوس
الفلسفية المنتظمة التي جمعته مع الفرنسيين ليون برنشفيك
وموريس كوندياك والألماني إرنست كاسيرر. ظهر ليفيناس في هذه
اللقاءات مدافعًا عن هوسرل وهيدغر، ونشر حينها مقالته الأولى
عن هوسرل.
قدَّم أطروحة الدكتوراه عام 1930 تحت عنوان نظرية الحدس في
فينومينولوجيا هوسرل ونالت إعجاب برنشفيك.
حضر في السوربون دوروس برنشفيك، "بابا الفلسفة في فرنسا" - كما
يقول ليفيناس. وترجم في هذا الوقت كتاب هوسرل التأملات
الديكارتية. فوجئ عام 1933 بإعجاب هيدغر بهتلر. وفوجئ
أيضًا بالطريقة التي تناول بها بلانشو اليهود في الصحافة
الفرنسية متأثرًا بفكرة قومية معينة عن فرنسا.
لم ينشر خلال هذه المرحلة إلا نصًّا فلسفيًا واحدًا (عن
الهروب – 1935). كتب مقالات عديدة في المجلات
اليهودية، موضوعها الحالة الجديدة التي خلقتها الهترلية
واعتبرها "المحنة الأكبر التي عانتها اليهودية".
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، عمل ليفيناس مترجمًا عن
اللغة الروسية. وكونه حاز على الجنسية الفرنسية التحق بالجيش
الفرنسي ليتم أسره وإرساله إلى ألمانيا ويقضي خمس سنوات هناك.
تكثفت في هذه الأثناء قراءاته، وبدأ بكتابة من الوجود إلى
الموجود.
قُتلت عائلته التي بقيت في ليتوانيا، واستطاعت زوجته وابنته
اللجوء والهرب إلى قرب أورليان في فرنسا.
نصحه جان وول بإنجاز دكتوراه دولة نشرها عام 1961 بعنوان
الكلّانية واللامتناهي، لتفتح له أبواب الجامعات على
مصراعيها وتمنحه الشهرة. درَّس عام 1961 في بواتييه، وانتقل
بعدها إلى نانتير ليبقى فيها من 1968 حتى 1972. تابع بحذر
الأحداث الطلابية عام 68، وذلك على العكس من صديقه بلانشو الذي
انخرط فيها إلى جهة المحتجين. أصبح أستاذًا في السوربون عام 73
وبقي فيها حتى 76. تقاعد عن التدريس عام 79. كتب في هذه
الأثناء: إنسانية الإنسان الآخر (1972) – غير
الكينونة أو ما وراء الماهية (1974) – أسماء علم
(1976) – حول موريس بلانشو (1976) – عن الله الذي
يطرأ على فكرنا (1982) – الأخلاق واللامتناهي
(1982) – التعالي والمعقولية (1984) – بيننا
(1991). تُوفي عام 1995.
فلسفته:
العنوان الأساس والأبرز لفلسفة ليفيناس هو "الأخلاق كفلسفة
أولى"، أي، الأخلاق كميتافيزيقا. الفلسفة الأولى (أو
الميتافيزيقا)، وفق انطلاقتها الأولى مع أرسطو، هي المبحث
المعرفي في العلل الأولى التي تفسِّر معنى الكينونة. بهذا
المعنى، يقول ليفيناس إنَّ الأخلاق وحدها القادرة على تبيان
الدلالة الأولى التي أعطت الكينونة الإنسانية معناها. هي وحدها
القادرة على فهم الحدث الأول الذي أسَّس لسؤال معنى الكينونة
الذي طرحه هيدغر في كتابه الكينونة والزمان. وهي بذلك
تتقدم على الأنطولوجيا (أي، علم الوجود)، لأنها تُشير إلى
فضاءٍ أكثر أصليَّة من هذه الأخيرة. الحدث الأول الذي منه
تأتَّى سؤال الحقيقة وصاغ معنى الكينونة وانبثق إمكان السؤال
هو اللقاء وجهًا-لـِ-وجه مع الآخر الإنساني. على هذا النحو
يتشكل التعارض بين الأخلاق والأنطولوجيا. فالأخلاق تُشير إلى
مستوى ميتافيزيقي لا يمكن الأنطولوجيا بلوغه، وهو: الآخرية.
بالتالي، إنَّ أولية الأخلاق تقوم على أوليَّة الآخر، وذلك
بالتعارض مع الأوليَّة التي تمنحها الأنطولوجيا للذات. ليس
لهذه الأولية معنى منطقي أو كرونولوجي حصري؛ إنها أولية
ميتافيزيقية. يقول ليفيناس في الصفحات الأخيرة من كتابه الأساس
الكلانية واللامتناهي: الأخلاق "ليست فرعًا من الفلسفة،
وإنما هي الفلسفة الأولى"[1]
فهي وحدها القادرة على تعقب أثر "الدلالة من دون سياق"
للكينونة الإنسانية، وذلك بالتعارض مع الأنطولوجيا التي هي علم
الدلالة التي لا تعمل إلا من خلال السياقات، أي، مدلولات ترتبط
مع بعضها البعض من دون إمكان كسر السلسلة المكوِّنة لها.
ولفهم معنى الأخلاق الميتافيزيقية هذا ينبغي نفيه عن معنى
الأخلاق التي تسنُّ الأوامر القطعية. فهي لا تقول لنا ما يجب
فعله في هذه الحالة أو تلك. على العكس من ذلك، تعبِّر أخلاق
ليفيناس عن ضرورة ترك هذا النوع من القوانين التي تمحي ما في
الوجود الإنساني من فرادة واستثناء. يجب التمييز هنا بين
الأخلاق بمعنى الإطيقا
éthique
والأخلاق القطعية
moral.
تبعًا لهذا التمييز، الأخلاق الليفيناسيَّة
éthique
حياديَّة أخلاقيًا
moralement.
إنَّ الضابط الأخلاقي الوحيد في فلسفة ليفيناس هو لقاء الأنا
مع الآخر، أي، الـ وجهًا-لـِ-وجه. ينتج عن هذا اللقاء، وضعُ
تلقائيتي وحريتي موضع تساؤل وشك، وذلك نتيجة لغرائبية الآخر أو
عدم إمكان اختزاله إلى الأنا.
وبالعودة إلى اقتران كلمة أخلاق بالميتافيزيقا، فإن لهذا
الاقتران ما يبرره، وهو أنَّ الحقيقة الأولى – بالمعنى الدقيق
للكلمة – هي الحقيقة الإنسانية. وهذه الحقيقة أخذت شكل وصية أو
تعليم: "لا تقتل". هذه الوصية أملاها الوجه، وأرست المعنى
الأول للإنساني الذي وجد صوغه الأمثل مع ظهور الدِّين. الدين
هو العلاقة التي تنشأ بين الأنا والآخر والتي لا يمكن أن تندرج
داخل الكلَّانية. وليفيناس يقيم تعارضًا بين السياسة (الاسم
الآخر للأنطولوجيا) والدِّين: فالسياسة تنزع نحو الاعتراف
المتبادل ونحو المساواة، لتضمن بذلك السعادة، والقانون السياسي
هو صراع من أجل الاعتراف، أمَّا الدِّين فرغبة وليس صراعًا. هو
الفائض الممكن في مجتمع يقوم بين متساويين.
هذه الأوليَّة للأخلاق لا يمكن فهمها إلا في سياق دحض الأولية
التي أعطاها هيدغر لمشروعه في "الأنطولوجيا الأساسية". كل كلمة
كتبها ليفيناس كانت ضد هيدغر، الأمر الذي يمكن قراءته بسهولة
منذ الصفحات الأولى من الزمان والآخر، أو حتى من
العنوان الذي يمكن اعتباره ردًّا على الكينونة والزمان.
يتساءل هيدغر في آخر سطور كتابه: "هل ثمة سبيل تقود من الزمان
الأصلي إلى معنى الكينونة؟ وهل يتجلى الزمان ذاته بوصفه أفق
الكينونة؟"[2]
كان ينبغي أن يكون هذا السؤال فاتحةً لكتاب مكمل لـ
الكينونة والزمان، تحت عنوان الزمان والكينونة،
يبحث فيه هيدغر مفهوم الزمان كأفق، أو ما وراء الكينونة، وليس
معنىً يتشكل في صلب الكينونة. هيدغر لم يكتب الجزء الثاني، أو
كتبه وأتلفه على ما يقول شرَّاحه ومتابعوه، وكانت الانعطافة
نحو مسألة "تجاوز الميتافيزيقا".
ينبغي فهم الزمان والآخر داخل هذا السياق. وسؤال
ليفيناس في أولى سطور هذا الكتاب هو في الحقيقة جواب عن سؤال
هيدغر السابق: "هل الزمان تحديد الكينونة المتناهية أم علاقة
هذه الكينونة المتناهية مع الله؟" تحاول فلسفة هيدغر إظهار
أنَّ الزمان ليس إطارًا للوجود الإنساني. فتزمُّن الزمان هو
حدث فهم الكينونة. الزمان هو الفهم في طور الحدوث. الزمان هو
في أساس الفهم، وهو شرط تمفصلات هذا الفهم. أمَّا الفهم فهو
نمط وجود الإنسان. هو لا يحدد ماهية الإنسان، وإنَّما كينونته.
حضور دائم لـ هيدغر، وحوار مستمر معه لمغادرة فضاء هذه الفلسفة
التي ندين لها "بأسف" – يقول ليفيناس. لكن، من دون الوقوع في
فكر يخلط بين الكائن وكينونته، من دون الوقوع في
"الميتافيزيقا" كما حددها هيدغر. انتبه ليفيناس إلى الاختلاف
الذي أقامه هيدغر بين الكائن والكينونة، إلا أنَّه يرى أنَّ
هذا الاختلاف يقوم بين فعل (الكينونة) واسم (الكائن). إنَّ فكر
الكينونة هو فكر فعل الكون، ولا يحمل الكليَّة التي نسبها إليه
هيدغر. ليفيناس لا يرى نتيجة أخرى لـ الكينونة والزمان.
يقول في الإطار:
نتكلم عادةً عن الكلمة كينونة كما لو أنها اسم، إلا أنها فعلٌ
بامتياز. في الفرنسية، يمكننا القول الـ كينونة
l'être أو
كائن
un
être. مع
هيدغر، انبثق من جديد أصل الكلمة كفعل، وهو بذاته حدثٌ[3].
بالتالي، إنَّ الفلسفة الغربية قامت على أساس هذا النسيان
الأصلي لفعليَّة هذه الكلمة، أي أنها نتجت عن هذا النسيان.
ويكفي مغادرة هذه اللغة لمغادرة مشكلة الكينونة بأسرها.
غير أنَّ شرط إمكان بلوغ معنى الإنساني هو الهروب خارج
الكينونة. في كتابه في الهروب، يقول ليفيناس:
إنَّ حاجة الهروب... تقودنا إلى صميم الفلسفة، وتسمح لنا
بتجديد المشكلة القديمة للكينونة بما هي كينونة.
الماهية هي الطريقة التي يكون وفقها الكائن في العالم، وعالقًا
في إمكاناته. لكن هذه الطريقة ليست كليَّة فهي تحمل علامة
الحضارة الغربية. إنَّ خصيصة هذه الطريقة في الوجود هي أنَّها
تمنع كل تعالٍ ممكن. هذا المنع ناتج عن لا-تحدد الكينونة. فعلى
الرغم من كون الكينونة متناهية، لكنها من دون حدود. لذلك يصفها
ليفيناس بـ "الشر". إنَّ خبرة الموجود بهذا اللا-تحدد تدعوه
للهروب نحو الخارجانية، أي، نحو ما وراء الكينونة: نحو الآخر.
فالآخر هو الذي يُعطي معنى الكينونة ويحدُّه معًا. الموجود
يعيش هذا الخروج كخلاص نحو الخير. وهنا يلتقي ليفيناس مع
أفلاطون الذي جعل من الخير – حتى وإن جعل له مثالاً – في ما
وراء الكينونة. هذا التحرر تعيشه الأنا كعلاقة مع الآخر
الإنساني.
في مقدمة الكلّانية واللامتناهي، يرسم ليفيناس لوحة
تختزل الصورة القاتمة التي تشكل حاضر وماضي الوجود البشري
مفادها أنَّ الوجود حرب، فيعارض بين أنطولوجيا الحرب وبين
اسكاتولوجيا
eschatologie
السلام. هذه هي دعوى فلسفة الخروج أو الهروب، أي: "الإمكان
الدائم للحرب" الذي يعلًق الأخلاق. فالحرب ليست مجرد محنة
أخلاقية – كما يقول ليفيناس – وإنما تجعل من الأخلاق سخيفة.
ويعرِّف السياسة كفنِّ الفوز بالحرب عبر الوسائل كافة. الحرب
خبرة محضة بالكينونة المحضة. ووجه الكينونة الذي يتجلى من خلال
الحرب يتثبت من خلال مفهوم الكلَّانية الذي حكم الفلسفة
الغربية، حيث يختزل الأفراد إلى حاملي قوة وينهلون معناهم من
هذه الكلانية. كما أنَّ السلام الحاصل بين القوى الخارجة من
الحرب يرتكز على الحرب. فهو لا يُعيد الهويات الضائعة إلى
الموجودات المُستلبة. السلام المحض لا يحصل إلا عبر الهروب من
الوجود من خلال العلاقة مع الآخر، وعبر مفهوم للذاتية يستند
إلى خبرة فينومينولوجية يراها ليفيناس مبهرة: أن يكون بإمكان
الذات احتواء أكثر مما يمكنها احتواؤه: ذاتية مضّيافة للآخر،
ذاتية كضيافة. فما أطلبه من نفسي لا يتقايس مع ما بوسعي طلبه
من الآخر. أنتظر من نفسي أكثر مما انتظر من الآخر. هذه الخبرة
البسيطة تُشير إلى لا تناظر ميتافيزيقي: استحالة أن أتحدث عن
نفسي وعن الآخر بالمعنى نفسه، أي، استحالة تضمين الأنا والآخر
ضمن كلانية واحدة. هذا اللاتناظر الميتافيزيقي يعود إلى علوِّ
الآخر. ولا يعني هذا العلو أنَّ الآخر يمتلك قدرة تعلو على
قدرتي. على العكس، فالآخر هو "اليتيم والأرملة" – كما يقول
ليفيناس في الزمان والآخر. علوُّه يعني خارجانيته،
ويعني أنه لا يشكل جزءًا من عالمي. من هذا العلو، ينتج أنه لا
يمكن العلاقة بين الأنا والآخر أن تكون عكوسة، لأنه لا يوجد
تقابل أو تناظر بين الأنا والآخر. كما لا يمكن أن تكون تضادًا،
وإلا شكَّل الآخر جزءًا من الكل. ولا يمكن أن تكون علاقة
تملُّك أيضًا، ولا تحديد: فالأنا لا تمتلك الآخر والآخر لا
يحدُّ الأنا. كما أنها لا يمكن أن تكون علاقة سلب، فالسالب
والمسلوب ينتمون للنظام ذاته ويشكلان الكلانية. العلاقة
الوحيدة هي اللاعلاقة، أو، الانفصال. أمَّا طرق الاتصال الأخرى
جميعها، كالتَّيْمَمَة
thématisation
والفهم والمقابلة والتمثُّل والمعرفة والمفهمة – هذه الطرق
كلها أنطولوجية، وستقود إلى اختزال آخرية الآخر.
تشكل فكرة الانفصال الحجر الأساس في أخلاق ليفيناس. فالانفصال
ضروري لامتلاك فكرة اللامتناهي. إلا أنَّ هذا الانفصال ليس
أثرًا لهذه الفكرة، وإلا وصلنا إلى توازٍ يُفضي إلى كلانية. إن
كانت الكلانية ممتنعة، فهذا لأن اللامتناهي يمتنع عن الدمج.
ليس عدم كفاية الأنا ما يعطل إنجاز الكلانية، وإنما لاتناهي
الآخر. يتصل الكائن المنفصل عن اللامتناهي معه في
الميتافيزيقا. يتصل معه بعلاقة لا تُلغي فسحة الانفصال. في
الميتافيزيقا، يرتبط الكائن مع ما لا يمكن استغراقه ووعيه.
يُسمي ليفيناس هذه العلاقة – الـ من دون علاقة – الدين.
"إنَّه
لمَجدٌ أن يستطيع الخالق خلقَ كائن قادرٍ على الإلحاد"
– يقول ليفيناس. إنَّ الانفصال الإلحادي للكائن المنفصل تتطلبه
فكرة اللامتناهي. والعلاقة بين الأنا والآخر لا تُلغي
الانفصال، وإنما تتثبت داخل التعالي.
لا تقوم أعجوبة الخلق على الخلق من العدم وحسب، وإنما على بلوغ
كينونة قادرة على تلقّي تجلٍّ، وهي تعلم أنها مخلوقة لتبدأ
بوضع نفسها موضع تساؤل. إن أعجوبة الخلق تقوم على خلق كائن
أخلاقي، وهذا يفترض الإلحادية[4].
وحده الكائن الملحد يمكنه الاتصال بالآخر. هذا الاتصال لا
يتمُّ بواسطة المشاركة، أي إنَّ التعالي لا يتم عبر الاتصال مع
المتعالي. وحده الكائن المنفصل (الملحد) يمكنه استقبال تجلي
الآخر. الإلحادية تشرط علاقة حقَّة مع إله حقٍّ. هذه العلاقة
تختلف عن المشاركة وعن المعرفة. يسميها ليفيناس دين، أو "ضيافة
الوجه"؛ علاقة من دون عنف، وسلام محض مع الآخرية المطلقة، أو،
"سماع الكلام الرباني".
إنَّ سماع الكلام الرباني لا يعني معرفة موضوع، إنما يعني
الدخول في علاقة مع جوهر مجاوز للفكرة التي أحملها عنه، مجاوز
لما كان ديكارت يدعوه الوجود الموضوعي[5].
الانفصال شرط سماع الكلام الرباني. وهذا ما يظهر في تأويل
ليفيناس لقصة ابراهيم. اهتم ليفيناس بالصوت الذي منع إبراهيم
من التضحية بابنه وأمره أن يستبدل حملاً به. هذا الصوت هو
القانون الأخلاقي:
أن يطيع إبراهيم – يكتب ليفيناس – الصوت الأول أمرٌ مدهش، لكن
أن يكون قد احتفظ إزاء هذه الطاعة بمسافة كافية ليكون قادرًا
على سماع الصوت الثاني – هذا هو الجوهري[6].
هذه المسافة هي التي منعت محنة ابراهيم من أن تتحول إلى جريمة
دامية.
الآخر المطلق – أو، اللامتناهي – الذي لا ينتمي إلى عالمي، ليس
أنا أخرى، ليس حضورًا، وإنما غياب مطلق. "الآخر بما هو آخر
هو الآخر الإنساني"[7].
وما أراه من الآخر هو وجهه وحسب. "أن تلتقي بالآخر، هذا
يعني ألا تلحظ لون عينيه"، يقول ليفيناس. إنَّ الغياب الذي
هو الآخر المطلق يترك أثره في الوجه. الأثر هو الما وراء، هو
أثر الغائب والغياب، وليس أثر حضورٍ مضى. الآخر الذي يترك
غيابُه أثرًا في وجه الآخر الإنساني لم يحضر قط. الأثر يشير
إلى ماضٍ غير عكوس، ولا يمكن لأي ذاكرة اللحاق به. كما يشير
إلى ما وراء الكينونة، وإلى الضمير الغائب: الـ "هُوَ".
هُوَويّة هي "كل لاتناهي الآخر المطلق المنفلت من
الأنطولوجيا". "هُوَ" يعطيه ليفيناس اسم "الله":
الله الذي مضى ليس النموذج الذي يكون الوجه على صورته. لا يعني
الكون على صورة الله الكون كأيقونة لله، وإنما الخروج في
ًاثَرِه.
والخروج في أثره لا يعني الذهاب نحوه، وإنما نحو الآخرين حيث
يتجلى أثر الغائب. والأثر ليس علامة. ينكشف غياب الأشياء من
خلال العلامة، لكن الأثر لا يكشف شيئًا، هو يدل من دون أن يظهر
شيء عبره. هو أثر لغياب وليس مجرد تعديل لحاضر مضى. وبالتالي،
لا يمكن لأي فينومينولوجيا اختزاله. أثرٌ لـ "ماضٍ لم يكن
حاضرًا يومًا"، ولا يمكن أن يكون موضوع تمثُّل. أثر سابق
على كل أصل وكل ابتداء. هو الما قبل أصلي أو الهُوَويّة. هو ما
كان هُنا دائمًا من دون أن يحضر (ماضٍ سحيق)؛ وبما هو كذلك،
يشكل الأساس لكل وصيَّة أخلاقيَّة باعتباره الوعد الذي يشكل
أفق المستقبل. هو ماضٍ لم يحضر قط، وآتٍ لن يصل أبدًا.
الأنا جسد:
انطلاقة من الذات وعودة إلى الذات تكتشف في أثنائها الأنا
جسدَها. تحضر الأنا في العالم من خلال جسدها، وهي – تعريفًا –
هذا "الانهمام الغبي" بالجسد، أمَّا الآخر فوجه، والبعد
الرباني يُشرَّع انطلاقًا من الوجه. إنَّ ظهور الآخر يقوم على
مناداتنا عبر بؤسه في وجه الغريب والأرملة واليتيم. إنَّ
علاقتنا مع الآخر هي سلوك أخلاقي وليست لاهوتًا أو معرفة
بخصائص الله عبر التماثل. الآخر الإنساني ليس تجسدًا لله، لكنه
"ظهورٌ للعلوّ حيث يتجلى الله"[8].
الوجه هو الطريقة التي يحضر الآخر من خلالها، وهو يشير إلى قدم
الكائن بالنسبة للكينونة. الوجه خارجانية لا تستدعي لا القدرة
ولا التملُّك، لا يمكن اختزالها إلى داخلانية الذكرى كما عند
أفلاطون. الوجه ليس صورة أو شكل، هو ما يتعدَّى حدود الصورة.
هذا التعدي هو التعبير، تعبير عبر القول والنظرة. تعبير هو
تعليم
enseignement
أيضًا. لذلك، فالآخر معلمي، ليس لأنه ذو مقدرة أكبر من مقدرتي،
وإنما لأنه هشاشة وبؤس وضعف. الآخر هو من يمكنني قتله، لِضعفه
وهشاشته. لكن هو أيضًا مَن قوله وتعليمه الأول يكون: "لا
تقتل". الوجه يمتنع عن التملك وعن إمكاناتي. ما هو حسي في ظهور
الوجه يفلت من قبضة الإدراك. لا تنتج هذه المقاومة عن صلابته
أو بُعده المكاني. فالتعبير الذي يقوم الوجه بإدخاله في
العالم، لا يتحدى ضعف إمكاناتي، وإنما إمكان الإمكان. الوجه
يدعوني إلى علاقة لا تُقاس مع أي إمكان – أكان لذة أم معرفة.
الوجه ليس الظاهر، أو علامة حقيقة شخصية مختبئة ومتوارية خلف
الهيئة الشكلية. كما أنه ليس علامة لإله متوارٍ يقوم ببعث
الآخر بديلاً عنه. الوجه أثر، وأثر لأثر: أثر لماضٍ سحيق،
لغياب هو نمط حضور الآخر. أثر لماضٍ سحيق في الوجه لا يعني
غيابًا لحاضرٍ لم يتجلَّ بعد، وإنما لماض لم يكن حاضرًا أبدًا،
ماضٍ لا يمكن أن يكون أصلاً لشيء، لأنه لم يحضر قط. ماضٍ ما
قبل أصلي لا يمكن استرداده أو تذكره عبر الإمساك
rétention.
هذا الماضي يشير إلى نفسه عبر الوجه. أثرُ غياب الآخر المطلق
يلمع في وجه الآخر الإنساني. الوجه يعني لي مسؤولية لا يمكنني
الاعتراض عليها. مسؤولية سابقة على كل اتفاق وعقد. الوجه يهرب
من التمثُّل؛ هو إخلالٌ بالظاهراتية، لأنه "أقل" من الظاهرة.
فانكشافه "عُريٌ وتقدم في السن وموت، وافتقارٌ وجلد متجعِّد":
إننا أمام استقامة الوجه، وانعراضه المباشر وبلا مقاومة. يوجد
في الوجه فقر وعري نحاول عبثًا مواراتهما. الوجه منعرض ومهدد،
كأنه يدعونا إلى ممارسة العنف عليه. لكن، في الوقت نفسه، الوجه
هو الذي يُنهي عن القتل. الوجه دلالة من دون سياق. لا يمكن أن
يصبح مضمونًا يمكن الفكر تناوله. لذلك، فإن دلالة الوجه تُخرجه
من الكينونة بما هي معرفة.
لا يمكن الحديث عن فينومينولوجيا الوجه، لأن الفينومينولوجيا
تصف ما يظهر. كما لا يمكننا الحديث عن نظرة تتجه نحو الوجه،
لأن النظرة معرفة وإدراك. العلاقة مع الوجه أخلاقية، هو ما لا
يمكننا قتله، أو – على الأقل – معناه يقوم على القول: "لا
تقتل". لا شك أنَّ فعل القتل اعتيادي: يمكننا قتل الآخر،
فالإلزام الأخلاقي يختلف عن الضرورة الأنطولوجية. فالنهي عن
القتل لا يجعل من القتل مستحيلاً. الوجه والقول متلازمان،
فالوجه يتكلم، والكلام الأول هو "لا تقتل"، وهي وصيَّة، أي كما
لو أن سيدًا يأمرني بذلك. الآخر علوٌّ، هو أعلى مني، ومع ذلك
هو "الفقير واليتيم". أنا الغني وهو الفقير، أنا من يجهد ليجد
المنابع للاستجابة لندائه. أنا من يقول "ها أنذا"، استجابة
لندائه. القتل يمارس سلطة على ما يفلت من كل سلطة. إنَّ
"الآخرية" التي تعبر عن نفسها في الوجه تقدم "المادة" الوحيدة
الممكنة للإلغاء الكلي. فلا يمكنني أن أريد قتل إلا كائن مستقل
نهائيًا، أي: الكائن الذي يتجاوز إمكاناتي وبذلك يشلُّ إمكان
إمكاناتي: "الآخر هو الكائن الوحيد الذي يمكنني أن أريد
قتله"[9].
فالآخر الذي قد يقول لي "لا"، يعرِّض نفسه لعنفي. يمكن أن يقيم
معي صراعًا، لكن هذا الصراع لا ينتج من قوة مقاومة، وإنما من
ردة فعله غير المتوقعة. وبالتالي، هو لا يتعارض معي عبر قوة
أكبر من قوتي، وإنما عبر تعالي كينونته بالنسبة لهذا الكل. هذا
التعالي ليس حدًا أقصى للقوة، وإنما لاتناهي تعاليه. هذا
اللاتناهي يقاوم عبر الوجه، وهو الوجه؛ هو التعبير الأصلي
والكلمة الأولى :"لا تقتل". القتل لا يعني إلغاء حاجز أو عقبة،
وإنما يقصد العري والضعف في الوجه. العنف لا يقصد إلا الوجه.
الوجه المنعرض أمامي، والمنكشف بين "القدسية والصورة
الهزيلة"، لا يمكن الأنا أمامه الإمساك أو الفهم – لا
يمكنها إلا القتل. القتل إمكان أنطولوجي، أمَّا الـ "لا تقتل"،
فوصية أخلاقية.
***
أعماله:
-
Théorie
de l'intuition dans la phénoménologie de Husserl, 1930. Vrin,
Paris.
-
De
l'existence à l'existant, 1947. Vrin, Paris.
-
Le
temps et l'autre, 1983. PUF, Paris. (1ère parution : 1947)
-
En
découvrant l'existence avec Husserl et Heidegger, 1949. Vrin,
Paris.
-
Liberté
et commandement, 1994. Fata Morgana, Montpellier. (1ère
parution : 1953)
-
Totalité et infini. Essai sur l'extériorité, 1961. Nijhoff,
La Haye.
-
Difficile liberté, 1963. Albin Michel, Paris.
-
Quatre
lectures talmudiques, 1968. Editions de Minuit, Paris.
-
Humanisme de l'autre homme, 1972. Fata morgana, Montpellier.
-
Autrement qu'être ou au-delà de l'essence, 1974. Nijhoff, La
Haye.
-
Sur
Maurice Blanchot, 1975. Fata Morgana, Montpellier.
-
Noms
propres, 1975. Fata Morgana, Montpellier.
-
Du
sacré au saint. Cinq lectures talmudiques, 1977. Editions de
Minuit, Paris.
-
De Dieu
qui nous vient à l'idée, 1986. Vrin, Paris. (1ère parution :
1982)
-
L'au-delà du verset, 1982. Editions de Minuit, Paris.
-
De
l'évasion, 1982. Fata Morgana, Montpellier.(1ère parution:
1935)
-
Ethique
et infini, 1982. Fayard, Paris.
-
Transcendance et intelligibilité, 1984. Labor et Fides,
Genève.
-
Entre
nous. Essais sur la pensée-à-l'autre, 1998. Librairie
générale française, 1995. (1ère parution : 1991)
-
Dieu,
la mort et le temps, 1995. Fata Morgana, Montpellier.
-
Altérité et transcendance, 1995. Fata Morgana, Montpellier.
-
Traduction de l'allemand
-
Husserl
: Méditations cartésiennes, 1931. Vrin, Paris.
*** *** ***
[1]
Totalité et infini. p. 281.