|
أزمة العقل
البشري
في القرن
الواحد والعشرين
حوار
مع مصطفى المرابط
ماهر
عبد الله:
موضوع حوارنا هو هذه الأزمة التي تواجه
البشرية وهي تدخل قرنًا جديداً كانت تظن فيه
أن العلم سوف يحلُّ كلَّ مشكلاتها ويجيب عن
كلِّ أسئلتها. لكننا اليوم نفاجأ بأن
المؤسَّسة العلمية، لا سيما في الغرب الذي
يفاخر بهذه العلمية والذي بنى عليها حياته
وتصوراته، يدخل في أزمة وفي صراع مع نفسه. البشرية
اليوم تبحث عن فلسفة جديدة تحكم علاقاتها
المجتمعية، تماماً كما تحكم علاقاتها مع
الكون والطبيعة. والعقل المسلم، وإن لم يكن
بالضرورة مشاركاً، إلا أنه ليس غائباً تماماً
عن هذه الجدلية التي تحكم العلاقة بين العلم
والفلسفة وعن الطريقة التي تتطور بها
المجتمعات. يسعدني
أن أناقش هذا الموضوع مع د. مصطفى المرابط،
المدرِّس بكلية العلوم في جامعة وجدة
بالمملكة المغربية. د. مصطفى، أهلاً وسهلاً بك. مصطفى
المرابط: أهلاً
وسهلاً وشكراً جزيلاً. م
ع:
ماذا لو ابتدأنا بمظاهر هذه الأزمة. العالم
الغربي يبدو الآن أنه مأزوم. كان يسارياً ذات
يوم، وصار كلُّه ليبرالياً حراً، يدعو إلى
اقتصاد السوق. لكنه الآن يمرُّ بمخاض شديد،
يشكِّك، أو يعيد صياغة الأسس الفلسفية التي
قامت عليها الحضارة المادية، أي التي اتخذت
طابعاً مادياً في المقام الأول. م
م:
بدايةً، شكراً جزيلاً على هذه الدعوة الكريمة.
في الحقيقة أنا لست أدري إن كان من قبيل
الصدفة أن نقف على مشارف الألفية الثالثة،
وأسئلةٌ ضخمة فلسفية وجودية علمية تُثقِل
كاهلنا، خلافاً للقرن الماضي. إذ عندما
دخلتْه البشرية دخلتْه بآمال عريضة وبملفات
واعدة. فبعكس الدخول البشري إلى القرن الـ19
وإلى القرن الـ20، نحسًّ أن دخولنا إلى القرن
الـ21 ترافقه أسئلة مُثقِلة جداً، يخيِّم
عليها التشاؤم والنظرة السوداوية. لا
شك أنه خلال العشرية الأخيرة من هذا القرن
كانت هناك مراجعات على المستويين الفلسفي
والعلمي لكثير من النظريات التي كانت تؤطِّر
الإنسان والتي كانت تتحكم في مسار الحضارة
المعاصرة. باختصار، فإن خلاصة هذه المراجعات
تتَّسم بنظرة تشاؤمية وبنظرة سوداوية لأنه،
لأول مرة في تاريخ البشرية، تقف هذه على شفا
حفرة من التدمير الذاتي بحكم عوامل متعددة. الميزة
الثانية التي تختلف فيها الإنسانية اليوم مع
ما مضى من التاريخ البشري أننا – لأول مرة –
نحس بأن مشاكل حضارة ما قد تقودها إلى حتفها.
لسنا ندري كيف ستكون النهاية، لكننا نحس أن
هذه النهاية لن تكون نهاية حضارة بعينها بقدر
ما ستكون نهاية البشرية جمعاء. م
ع:
أنت، إذن، لا تنتقد الحضارة الغربية من باب
أننا أصحاب مشروع مغاير ومخالف. نحن منطلقون
في حديثنا هذا من أننا شركاء في هذه الإنسانية.
ألا يمكن أن تُتَّهم في كلامك، أو يُتَّهم
مسلمون كثر في كلامهم، بأننا نتجنَّى قليلاً،
من حيث إن هناك صراعاً ما بين الفكر الإسلامي،
على الأقل في صيغه المعاصرة، وبين الفكر
الغربي؟ م
م:
حتى نرفع مثل هذا اللبس من البداية، في
اعتقادي المتواضع أن الإنسانية اليوم، كما
تبدو عليه، كما يصوِّرها الكثير من الباحثين،
محمولة على زورق واحد، على كوكب واحد. وهذا
الكوكب – يا لروعته! – عندما يُنظَر إليه من
القمر يبدو كلؤلؤة زرقاء تحمل هذه الإنسانية
بأسرها. فاليوم لم يعد هناك، في اعتقادي،
مجالٌ للحديث عن الأنا وعن الآخر، عن الذات
وعن الآخر. فالحدود لم تعد متمايزة. لسنا هنا
في صدد محاكمة النوايا، بل في صدد الحديث عن
المسؤوليات. ولكن ما أصاب الحضارة المعاصرة
يطال الإنسانية بأجمعها. المشكلة،
إذن، مشكلة إنسانية بالدرجة الأولى، والحديث
عن هذه الأزمات ينطلق من هذا الأساس: هناك
أزمة، أزمة الإنسان المعاصر؛ والمشاركة في
هذا الجدال، في هذا الحوار العابر للقارات،
هو من باب البحث عن مخارج واستدعاء الأطراف
التي أقلَّت هذه الباخرة للمساهمة في الإبحار
بأمان وفي الوصول إلى برِّ السلامة. م
ع:
طيب، لو سألتك باختصار عن مظاهر هذه الأزمة.
نحن افترضنا أن أحد مسلَّمات أسباب هذا
النقاش أن هناك أزمة يواجهها الإنسان اليوم.
ما هي مظاهر هذه الأزمة كما تبدو لك؟ م
م:
في الحقيقة لا أجد كلمات تعبِّر عن هذا المشهد
الذي حاولت أن أتحدث عنه في البداية أبلغ من
الكلمات التي أطلقها المفكر الفرنسي ألبير
كامو بعد كارثة هيروشيما، إذ قال: "إذا كان
القرن السابع عشر هو قرن الرياضيات، والقرن
الثامن عشر هو قرن العلوم الفيزيائية، والقرن
التاسع عشر هو قرن العلوم البيولوجية، فإن
القرن العشرين هو قرن الخوف والقلق."
لماذا؟ لأن هذا القرن تراكمت فيه جملة
التحديات والأزمات التي صاحبت هذه الحضارة –
وسنحاول أن نبيِّن لماذا – لتضع البشرية أمام
سؤال وجودي: نكون أو لا نكون! بحيث إن البشرية
– لأول مرة – أصبحت مهددة في وجودها على
مستويين: المستوى البيولوجي والمستوى
الثقافي. المستوى
البيولوجي يتمثل بعوامل متعددة بدأت
إرهاصاتُها تُرى – وهي ليست بخافية على أحد –
من تراجع وانقراض للأنواع البيولوجية يهدد
الاستقرار – استقرار الحياة – إلى الأزمة
التي تعاني منها منظومتنا البيئية، إلى تخلخل
التوازن الإيكولوجي في العالم، من تلوث، وثقب
في طبقة الأوزون، إلخ، بحيث إنه صارت هناك
فعلاً علامات تهدد الحياة بالمعنى البيولوجي. الجانب
الآخر أو التحدي الآخر الذي يهدد البشرية
تحدٍّ الثقافي، لأن الإنسانية تتميز عن
الحيوانات الأخرى بكونها كائنات "بيوثقافية"
bioculturels؛
إذ إن الثقافة هي التي تميز الإنسان عن
الحيوان. حتى هذا البعد الذي كان يعطي للإنسان
فرادته وتميزه أصبح مهدداً بفعل طبيعة
الحضارة المعاصرة التي تنحو منحى تأحيدياً
نمذجياً يلغي التنوع الثقافي كلَّه
ويدمِّره، بحيث إننا أصبحنا اليوم أمام
ثقافات معدودة، بعضها حُوِّل إلى فولكلورات،
وبعضها ما زال يقاوم. ولكن ليس من مصلحة
الغرب نفسه أن نعيش هذه الأزمة، أزمة تراجع
التعددية الثقافية. بل إن التعددية
الثقافية أصبحت أحد المخارج الأساسية من
الأزمة التي يعيشها الغرب نفسه، ويعيشها
الإنسان المعاصر بعامة. طبعاً
للعلم، أو لمؤسَّسة العلم بالأصح، دور أساسي
فيما راكمتْه الحضارة المعاصرة من أزمات، من
ناحية أن هذا العلم انفرد بكونه المصدر
الوحيد للمعرفة. لذلك ليس غريباً أن يقول أحد
الفلاسفة الألمان مبكراً إن هذا العلم أعمى،
أو، على حدِّ قول بعض الفلاسفة المعاصرين، إن
العلم لا يفكِّر. إن
تتبُّع بعض حكماء هذه الحضارة لهذه الأزمة
جعل، مثلاً، عَلَماً من أعلام الفكر الغربي
هو مارتن هيدغر يصيح في آخر حياته، عندما وجد
نفسه أمام مآزق وجودية تهدد البشرية، صيحة ما
زالت تدوِّي في أرجاء الكون: "وحده الله
قادر على إنقاذنا!" إذن
هناك اعتراف ضمني بأن الحضارة المعاصرة، مع
كل الأزمات التي تعيشها، غير قادرة على أن
تبدع بدائل معينة، بمعنى أنها استنفدت
أغراضها. إن المتابع للإصدارات في الغرب، أو
للنقاشات والحوارات داخل المؤسَّسة الفكرية
الفلسفية العلمية في الغرب، يرصد إجماعاً على
نقد الحضارة المعاصرة ومسار العلم الحديث.
ولكن هناك عجزاً، عجزاً ظاهراً وبيِّناً... م
ع:
طيب، اسمح لي الآن، ونحن نتحدث عن مسار العلم،
أن نتحدث قبله عن دور العقل. العلم، في
التحليل النهائي، هو من إفراز العقل البشري.
والحضارة الغربية تُعَوِّل على العلم كثيراً
وتعطيه حجماً يبدو للشرقي من أمثالنا أنه
أكبر من دوره الطبيعي. إلى أي مدى يمكن
التعويل على العقل وإنزاله مكانة قد لا تكون
بالضرورة مكانته المناسبة؟ هل الحضارة
الغربية تعطي العقل دوراً أكبر مما يمكنه
القيام به؟ م
م:
طبعاً. هذا يحيلنا على السؤال عن الأسباب
الكامنة وراء ذلك. نحن الآن نتحدث عن النتائج
وعن حصيلة هذه الحضارة المعاصرة. طبعاً
السؤال الأساسي، ونحن على مشارف توديع القرن
الـ20، هو التالي: لماذا وصلنا إلى هذا الوضع
المزري، وما هي الأسباب التي أدَّت بالحضارة
المعاصرة إلى وضع الإنسانية بأجمعها في هذا
المأزق؟ في
رأيي أن التفكير في مثل هذه المسألة يحيلنا
أساساً على استنطاق "البنى الخيالية" أو
ما يسمى بالـ"مخيال" للحضارة المعاصرة،
لأن المِخْيال imaginaire
ليس انعكاساً للصورة أو للواقع وحسب، بل هو
الذي ينتج الصورة وينتج الواقع. لذلك فإن
استنطاق هذا المخيال سيضع في أيدينا مفاتيح
تقرِّبنا إلى فهم هذه الأزمة، وبالتالي
التفكير في مخارج وفي بدائل ممكنة. بالرجوع
إلى نشوء الحضارة المعاصرة نجد أن العقل
بخاصة قد اتخذ موقعاً لم تعرفه الحضارات
السابقة على الحضارة الغربية. العقل ليس بدعة
في الحضارة الغربية وليس جديداً؛ إنما طريقة
استعماله والمكانة التي احتلَّها في الحضارة
المعاصرة هو الجديد فيها، بحيث إنه يمكن أن
ننظر إلى الأزمة التي عرفتها الحضارة الغربية
مع الكنيسة كنقطة بداية لإخراج العقل من موقع
عرفته كلُّ الحضارات إلى موقع يتصدَّر فيه
القافلة الإنسانية أو القافلة الحضارية،
ويَتَمَوْقَع في المكان الذي كان يحتله "الله"
في الكنيسة المسيحية، بحيث نجد أن فيلسوفًا
إيرانياً هو داريوش شاياغان يقول ما مفاده
إنه منذ خمسة قرون، أي من القرن الـ15،
والحضارة الغربية تعرف نمواً سرطانياً
للمَلَكات الذهنية، بحيث جعلت الإنسان يتمتع
بالعقل وحده ويلغي ما دونه؛ حتى إنه صار، مع
نمو هذه المَلَكات الزائد عن الحد، إنساناً
عُصابياً يتميز بالعنف وبالشراسة. عندما
نسائل هذه الفترة التاريخية نجد أن العقل قد
تحول من أداة لفهم الظواهر الطبيعية،
وللتفاعل مع الكون، وللتحكم في الذات، إلى
إله جديد، حيث اعتبره الفيلسوف الألماني
نيتشه "صنم الفلاسفة الجدد"، بحيث
عُوِّل عليهِّ حلاً لكل المشاكل الإنسانية. إذاً
هذا الموقع الذي اتخذه العقل تحول من موقع
إنساني إلى موقع إطلاقي... صار مطلقاً. هذا
العقل إذاً لا بدَّ من أن يعيد ترتيب وتأثيث
الحضارة المعاصرة، وخاصة في جانبها
المخيالي، حتى يستحق هذه المكانة الجديدة.
هذا التأثيث سيجعله يفكر في أداة – واسطة –
تبشِّر به كمطلق جديد. هذه الواسطة الجديدة
ستتمثل في العلم. والعلم كذلك ليس طارئاً وليس
جديداً على الحضارة الغربية... م
ع:
طيب. قبل العلم، ما هو الخلل في هذا التعريف؟ م
م:
تعريف أيش؟ م
ع:
أرادوا أن يحوِّلوا العقل من مجرد آلة لفهم
الذات والطبيعة، وبالتالي لمحاولة السيطرة
عليهما، إلى شيء سمَّيته إلهاً جديداً. أين
الخلل في هذا التوصيف؟ م
م:
الخلل هو أن موقع العقل، أو ادِّعاءه أنه يحيط
بكل شيء، وأنه المصدر الوحيد للمعرفة، يتصادم
وطبيعة الإنسان أو تعقُّده، وتعقُّد الكون،
وتعقُّد الطبيعة. نحن
أمام أداة أو أمام جهاز يزعم أنه هو الذي
يحتوي الطبيعة؛ في حين أن الطبيعة هي التي
تحتوي العقل. نحن نعرف، مع تطور العلوم (خاصة
في مجال علوم الأعصاب)، أن العقل محدود في
إدراك الحقائق والظواهر، ومحدوديَّته لا
تختلف عن الحيوانات الأخرى إلا في مسائل
معينة. أما نعرف بأن هذا العقل لا يمكن أن يدرك
كل شيء؟ إن الهزَّات التي يعرفها العلم، وبعض
الثورات التي تختمر داخل مؤسَّسة العلم،
تنادي إلى عودة العقل إلى موقعه، وإضفاء
النسبية على دوره؛ إذ لا يمكن أن يزعم بأنه
إله يدرك كل شيء. هذه هي المشكلة الأساسية في
هذا الزمن. م
ع:
طيب، لنعد إلى العلم كوسيط استخدمه العقل. كنت
ستذكر أن العقل استخدم العلم، وبالعكس، حوَّل
العلم إلى مؤسَّسة علمية أو "علموية"
يستطيع من خلالها أن يضع ما أسميته بالتصور
الجديد عن الطبيعة. م
م:
بالنسبة للعلم، إنه، كما قلت، ليس طارئاً
وليس جديداً على الحضارة الغربية. هناك
نقاشات كبيرة جداً حول جذور العلم ومفهوم
العلم الذي ظهر في الحضارة الغربية. إنما
الجديد مع الحضارة الغربية أن هذا العلم تحول
إلى مؤسَّسة معتقدية، أو ما يسميه بعضهم إلى
علموية scientisme.
هذه العلموية ستتقمَّص دور الدين الذي كانت
تلعبه المسيحية، وتجعل من نفسها وحياً،
مصدراً وحيداً للمعرفة. وإلى
جانب العقل الذي تألَّه وصار مطلقاً، إلى
جانب العلم الذي تحول إلى علموية، نُفِخ في
الإنسان روح الاكتفاء. وروح الاكتفاء هذه
فلسفة يرتكز عليها العلم أو مؤسَّسة العلم
الحديث، ومفادها أنه ليس هناك مصدر للمعرفة
غير العقل عبر طريق المؤسَّسة العلموية. ومبكراً
في القرن الـ16 تحدث كريستوفر مارلو في كتابه الدكتور
فاوستوس معبِّراً عن هذا الهيجان، وعن هذه
الحالة الفكرية التي كانت سائدة، ليعطي لنا
مؤشراً على هذا التحوُّل. وهو يخاطب الإنسان
من خلال هذه المسرحية: "أيها الإنسان!
بدماغك القوي كُنْ إلهاً سيداً على كل
العناصر، وعلى كل الكون." فالمؤشر هو على
تحول عضو نسبي إلى عضو مطلق. هذه
المؤسَّسة العلموية التي ستتقمَّص دور
المعرفة المطلقة تحاول أن تقنع الإنسان
بالاكتفاء. والإنسان الآن أمام هذه العلموية
الجديدة لم يعد في حاجة إلى مصدر للمعرفة خارج
إطارها. وستعمل على إفراغ الكون من أية إحالة
على المطلق، أو على الدين، أو على الله، أو
على غيره... ستُفرِغه من بُعدِه المُتسامي، من
بعده الديني، من بعده الإلهي... بمعنى أن عملية
"العَلْمَنَة" ليست، كما يشاع في
الإنشاءات العربية، مجرَّد فصل الدين عن
الدولة، بحيث يُنظَر إليه من الزاوية، بل هي،
بحسب تعريف أ. عبد الوهاب المسيري: إفراغ
الكون من كل بُعدٍ غائي، ومن كل قيمة تربط
الكون بخالقه. إذاً إفراغ الكون من هذا
المحتوى وملؤه، عوضاً عن ذلك، بفلسفة
الاكتفاء ستجعل بعض العلماء ينطلقون منذ
البداية في عملية إعادة إنتاج صورته، لأن
العالم، أو صورة العالم، لا توجد إلا في علاقة.
لكل ثقافة ولكل حضارة صورة عن العالم، عن
الكون، عن الإنسان. فصورة الحضارة الغربية،
قبل ظهور العلم، لم تكن تختلف كثيراً عن
الثقافات الأخرى. وهنا
ستعمل حضارة المؤسَّسة العلموية على إعادة
إنتاج صورة جديدة، تملؤها روح الاكتفاء
والعلمنة، وعلى إقصاء كل الأبعاد الأخرى. من
هنا سيصيح مثلاً عالِم مثل بيل تيرو: "الكون
لم يعد يملك أسراره!" وهي بداية لسلسلة من
الإجراءات ستعمل على إعادة بناء صورة عن
الكون وعن الطبيعة وعن الإنسان. م
ع:
باختصار شديد – لو سمحت لي بالتلخيص: هناك
محاولة لاستبعاد الكتاب المقدس، باعتباره،
في الحضارة الغربية، مصدراً علمياً مفارقاً
للحياة البشرية، ومحاولة وضع العلم مكانه
ككتاب مقدس جديد، وبالتالي استبعاد الكنيسة
الدينية وإحلال كنيسة علمية علموية مكانها. تحدَّثنا،
د. مصطفى، عن تأليه العقل. لكن مقابل تأليه
العقل أيضاً كان هناك تَمْدِيَة matérialisation
لكلِّ شيء. المادة انتقلت في الحضارة الغربية
من كونها أحد مكوِّنات هذا الكون إلى جوهر
الأشياء في هذا الكون. أليست هذه مرتبطة
بأسباب هذه الأزمة التي نتحدث عنها أيضاً؟ م
م:
بالفعل، قلنا إن المؤسَّسة العلمية
العلموية، لمَّا أفرغت الكون من أبعاده
المتسامية والمتعالية التي كان للإله فيها
حضورٌ كبير، انطلقت في مسيرة جنونية إلى
إعادة إنتاج الصورة، وإعادة كتابة الكون
المفتوح. من هنا برزت المساعي الموسوعية
لاكتشاف لإعادة اكتشاف وقراءة المظاهر
الطبيعية. وفي اعتقادي أن الانطلاقة تأسَّست
وارتكزت على مثلث يتكون من نظرية نيوتن
الرياضية – وسنعود إليه لاحقاً –، ثم فلسفة
ديكارت التي ستحاول أن تؤسِّس لهذا المنحى،
ثم منهج فرنسيس بيكون التجريبي. هذا
المثلث هو الذي سيشكِّل الأرضية الفلسفية
الإيديولوجية (العَقَدية) لانطلاق الإنسان
لإعادة إنتاج صورة معينة للكون، بعدما تم
إفراغ الكون من الأبعاد الأخرى. لم تعد
مؤسَّسة العلموية تعترف إلا بالبعد المادي في
هذا الكون لأنه الجزء الوحيد الذي تمتلك
اللغة القدرة على التواصل معه، على إخضاعه
لمنهجها التجريبي بين قوسين. المادة
كذلك ليست اكتشافاً جديداً في الحضارة
الغربية؛ فالمادة عرفتها حضارات أخرى، وهي لا
تنكرها. ولكن المادة لم تعد ذلك المكوِّن
الأساسي، بل تحوَّلت إلى جوهر الوجود،
إلى فلسفة وجودية مادية يتمحور حولها الوجود
بأكمله. إذاً
هذا التحول هو الذي سيجعل العلم لا يقرأ الكون
إلا من هذه الزاوية، إلا من هذا المنطلق. لذلك
سنعرف تحولاً أو منعطفًا خطيراً، سننتقل من
نموذج الكون الذي كان يُنظَر إليه على أنه
بمثابة الأم المرضعة، في علاقة عضوية معه،
إلى مفهوم آخر – أو ما يسمى بالأنموذج paradigm
– مفاده أن الكون آلة ضخمة. وديكارت من روَّاد
هذه القراءة للكون، حيث إنه، عندما كان
يؤسِّس لها، اعتبر الإنسان سيداً على الطبيعة
ومالكاً لها؛ وبحكم موقعه هذا ووظيفته هذه،
سيُسمَح له بإعادة ترتيب هذه الصورة الجديدة
التي تتمحور أصلاً على المادة. يقول
فريتيوف كابرا، أحد الفيزيائيين الأمريكيين،
ما مفاده إن القاعدة الفلسفية لعلمنة
الطبيعة، لإفراغها من محتواها الروحي، تعود
إلى التقسيم الديكارتي بين الروح والمادة،
النفس والجسد، الإنسان والطبيعة، العقل
والعواطف، إلى آخره. وهكذا دخلنا في فلسفة
ثنائية تقسم كل شيء؛ حتى إن أ. روجيه غارودي
سمَّاها بـ"المرض التحليلي"، لأن هناك
نزوعاً، شغفاً مرضياً، بتقسيم كلِّ شيء إلى
ثنائية تبتدئ من العقل والمادة، انتهاءً
بالإنسان والطبيعة والله، مروراً بكل
التدرُّجات. التقاط
عنصر المادة كجوهر للوجود جعل الفلاسفة في
تلك الفترة يثيرون نقاشات كبيرة جداً: هل يمكن
أن نعتبر الكائنات الحية، بما فيها الإنسان،
خاضعة لهذا الأنموذج الإرشادي الجديد القائل
بآلية الكون؟ يقول ديكارت إننا، إذا أردنا أن
نكون متَّسقين ومنطقيين مع خيارنا الفلسفي،
لا بدَّ أن يدخل كل شيء في هذا المفهوم. ونعرف
أنه في القرن الـ18 أحدث كتاب لاميتري الإنسان
الآلة ضجة كبيرة، بل أصبحت المفاهيم التي
طرحها "تقليعة" فلسفية. فبدأ يُنظَر ليس
فقط إلى الكون والطبيعة، إنما إلى الكائنات
الحية على أنها آلات؛ بمعنى أن هذه الآلة، هذا
الكون، أُسقِطَت عليه صورة الآلة التي أنتجها
الإنسان. أصبحت الآلة هي النموذج، هي الأصل،
وأصبح الكون صورة خُلِعَت عليه صورة الآلة. إذاً،
إذا أردنا أن نفهم من الناحية العلمية هذا
الكون، هذه الآلة، لا بدَّ أن نحلِّلها إلى
الأجزاء التي تكوِّنها، ونحلِّل كلَّ جزء إلى
عناصره الأساسية؛ بمعنى أنه صار يُنظَر إلى
الأطراف المكوِّنة للكون بمعزل عن بعضيَّتها. م
ع:
اسمح لي عند هذه اللحظة أن نقطع النقاش قليلاً
للسماح لبعض الإخوة المتابعين للحوار
بالمشاركة معنا. معي الأخ عبد الواحد المولوي.
أخ عبد الواحد، أهلاً بك، تفضل. عبد
الواحد المولوي: أهلا وسهلاً وشكراً.
بالنسبة للكلام الذي تفضل به د. مصطفى
المرابط، فهو صحيح حتى عام 1905 عندما أتى ألبرت
أينشتاين بنظريته في النسبية، وأيضاً حتى سنة
1925 حينما أتى الفيزيائيان فيرنر هايزنبرغ
وبول ديراك وغيرهما في علم الفيزياء الكمومية
Quantum physics ليثبتوا
ضيق النظرة النيوتنية للأمور. فالنظريتان
الجديدتان – وهما النسبية والفيزياء
الكمومية – قلبتا رأساً على عقب
الإيديولوجيا النيوتنية والديكارتية التي
تأسَّست عليها معظم العلوم، سواء الاقتصادية
منها، مثل نظرية آدم سميث أو كارل ماركس، أو
أفكار كونت في النظرية الاجتماعية، أو جون
ستيوارت مِلْ في علم السياسة. لكن النظريتين،
وخصوصاً نظرية أينشتاين في النسبية، قلبت
التصور النيوتني للزمن والمكان رأساً على عقب.
وجاءت بعدها النظرية الكمومية لتدق الإسفين،
أو لتدق آخر المسامير في نعش النظرية
النيوتنية التي كانت سائدة. لذلك
نجد أن الفيزياء الكمومية في القرن العشرين
أثبتت أن العقل لا يستطيع أن يلمَّ بجميع
الأمور الكونية؛ إذ إنها وجدت أن الطبيعة
بذاتها محكومة بمبدأ اللايقين Uncertainty Principle.
والكتاب الذي ذكره د. المرابط للفيزيائي
الأمريكي فريتيوف كابرا نقطة الانعطاف،
معظمه يتكلَّم عن موضوع تأثير الفيزياء
الكمومية في "النقلة الأنموذجية" paradigm shift
في القرن العشرين، حيث إننا نرى تضارباً
كبيراً بين العقلية النيوتنية وما اكتشفته
الفيزياء الكمومية. من
جهة أخرى، فإن الفيزياء الكمومية أيضاً
قرَّبت النظرة العلمية للنظرة الصوفية [راجع
كتاب فريتيوف كابرا The
Tao of Physics]. ولذلك عندما نقرأ
الكتب الحديثة للعلماء الكبار في الغرب،
أمثال ستيفن هوكنغ، روجر بنروز، روبرت
شلدريك (في علم البيولوجيا)، أو بول ديفيز،
وغيرهم – وكلهم علماء كبار نبغوا في
مجالاتهم، وحصل بعضهم على جائزة نوبل – نجد
أنهم دائماً، في جميع الكتب التي كتبوها،
خصَّصوا فصولاً كاملة عن علاقة الدين
بالعلوم، لأن العلاقة التي كانت متشنجة في
القرن الـ19 بين العلم والدين أصبحت جدُّ
وثيقة في القرن العشرين بفضل الفيزياء
الكمومية. والفيزياء الكمومية اليوم تتاخم
الميتافيزياء. حتى بكمنستر فولِّر في كتابه Synergetics
يتوصل إلى أن العلم لم يُثبِت حتى الآن وجود
الكتلة، ولم يُثبِت وجود خط مستقيم، ولم
يُثبِت وجود السطح، بل في الآخِر يقول إن
عالمنا هذا عالم ميتافيزيائي، علم أشبه
بالحلم. وأحد الفيزيائيين قال إن العالم أشبه
بالفكرة العظيمة منه بالآلة الضخمة. وعلى
سبيل الإيجاز، أقول إن العلم اختلف تماماً
منذ عام 1905 حتى الآن. فالكلام الذي ذكره د.
المرابط صحيح تماماً حتى 1905. لكن منذ ذلك
التاريخ، وخاصة في عام 1925، انقلبت الأمور
وبدأت النظرة العلمية التقليدية تتكسر. م
ع:
شكراً جزيلاً يا أخ عبد الواحد. وإن شاء الله
سنعطي د. المرابط الفرصة للتعليق. معنا الآن
الأخ ضياء الحق من فرنسا. أخ ضياء، تفضَّل. ضياء
الحق:
نعم، أريد أن أتفق مع د. المرابط فيما ذهب إليه
في تصوُّره الفلسفة الغربية. ولكن السؤال
المطروح هو التالي: ما هو البديل عن الفلسفة
التقليدية؟ أو البديل لفعل الإنسان الباحث في
العالم تجاه القضايا العلمية بصفة عامة – ولن
أستثني من ذلك مسألة الاستنساخ. يعني الأمر
عبارة عن مبحث علمي، قوانين وضعها الله في
البشر، وعلى الإنسان أن يكتشفها. هذه هي
النقطة الأولى التي تخص العلماء. النقطة
الثانية: من ناحية البشر بصفة عامة، ما الذي
ينقص الإنسان؟ أرى أن د. المرابط يلمِّح أن
هناك شيئاً ينقص أداة المعرفة الإنسانية –
وهي العقل. فكأن هناك شيء لا تكتمل إلا به –
وأظن أن د. المرابط يرى أنه الروح. الروح تخص
المعرفة الإلهية وحدها بطبيعة الحال. إذن كيف
سنضيف هذا العنصر الروحي إلى العقل الباحث عن
المسائل العلمية؟ وشكراً. م
ع:
طيب، لو بدأنا بسؤال الأخ عبد الواحد. أظنه
فهم – وأعتقد أن سبب ذلك هو عدم انتهاء النقاش
– أنك تقول إن الحضارة الغربية والفكر الغربي
يسير في خط مستقيم مبتعد عن الدين. بينما هو
يعتقد أن هناك منحى معاكساً لذلك تماماً، وأن
تطورات الفيزياء الحديثة وتداخلاتها مع
الميتافيزياء تقرِّب بين النظرة العلمية
والنظرة الدينية. فما رأيك؟ م
م:
الأخ المتدخل الكريم الأول الذي أثار هذه
المسائل استبق النقاش فعلاً. أنا لم أكن أتحدث
من الناحية التاريخية بقدر ما أحاول أن أبحث
عن مكوِّنات هذا المخيال الذي أنتج هذه
الصورة. سآتي الآن إلى أن العلم الحديث، أو
العلم المعاصر، عبر الثورات أو الرجَّات التي
عرفها داخلياً، بدأ شيئاً فشيئاً يطلِّق
الصورة القديمة – الأنموذج – التي كنَّا
نتحدث عنها. الأخ فقط استبقني إلى عام 1905،
إنما لا شك أنه محق فيما قال. وسنأتي على ما
ذَكَرَه من قطيعة مع العلموية؛ إذ هناك فعلاً
نَفَس جديد داخل مؤسَّسة العلم لتطليق تلك
الصورة القديمة. قلنا
إنه لما نُظِر إلى المادة كجوهر للكون، وإلى
الطبيعة أو الكون، بما فيه الكائنات الحية
كآلة، نجد عَلَماً من أعلام هذا المثلث الذي
تكلَّمت عنه (نيوتن – ديكارت – فرنسيس بيكون)
يوصي العلماء بكيفية التعامل والتواصل مع
الكون، فنلحظ أن ثابت العنف منغرس في النظرة
النهضوية. نجد ظاهرة العنف أو ثابت العنف،
كمؤطِّر للعلاقة بين الإنسان وبين الطبيعة.
يقول فرنسيس بيكون إن هذه الطبيعة عدوة
للإنسان، وزيغُها قوي؛ فلا بدَّ أن نسيطر
عليها. نجدها
عند ديكارت في تعبير: "سيداً ومالكاً"،
ونجدها عند بيكون: لا بدَّ من السيطرة والتحكم
فيها واستعبادها. يعبِّر
هذا الثابت عن خلفية فلسفية نجد
تَمَظْهُراتِها في مواضع أخرى حضارية ستتبع
الحضارة المعاصرة. لذلك نجد، مثلاً، كما
ذكرت، بيل تيرو يقول إن الكون لم يعد يملك
أسراراً لأنه مثل الآلة. بل إن كوبرنيكوس نفسه
سيجرؤ على تخيِّل نفسه فوق الشمس يتفرَّج على
الكون! ماذا
تعطي لنا هذه الصورة أو هذا الانطباع؟ هذا
الانطباع يؤكد لنا أن الفكر العلموي، لما
أعاد بناء صورة العالم، لم يكن يعتقد أنه جزء
منها، بل يوقن أنه "يملك" تلك الصورة، أن
الكون بأكمله في قبضته؛ فهو ينظر إليه من
خارجه. إنما دوره هو في التحكم فيه، وإخضاعه،
ومراقبته، واستنطاقه، للقيام بما يعود على
الإنسان بالنفع. من
هنا فإن فكرة أن العلاقة بين الإنسان
والطبيعة، والعلاقة بين الإنسان والكون،
علاقة عدوانية ستنعكس على مناهج البحث في
العلم، بكل تخصُّصاته وتفرعاته. عندما تقول
لي بأن الطبيعة عدو، فالعلاقة، إذن، علاقة
صراع. هذه العلاقة الصراعية ستنتهي بغالب
ومغلوب؛ والغالب سيحاول أن يفعل بخصمه ما
يبرهن على قوته – بمعنى أنه لا بدَّ أن يترك
علامات تبرهن على قوة هذا الخصم، من تشويه،
ومن تمثيل، إلخ، حتى إننا نجد فيلسوفاً
معاصراً هو ميشيل سير، له قراءة لطيفة جداً
لظاهرة التلوث، يقول: إن التلوث ليس فعلاً
لاإرادياً، بل التلوث تعبير على المؤسَّسة
العلموية الموقنة أن الكون ملك لها. كيف؟ يقول
بأن الإنسان، عندما يملك شيئًا ما ويحس أن
هناك أطرافاً تتنافس على امتلاكه، فإنه
يشوِّه ما يملك حتى لا يطمع فيه الآخرون. هَبْ
أنك نافستَني على هذا الكأس، وأريد أن أمتلكه
لنفسي؛ فلا بدَّ عندئذٍ من أن أغيِّر طبيعة
مائه – أستسمحك – فأبصق في الماء حتى لا
تقترب إليه. و"البصق" هنا ليس تلويثاً
بقدر ما هو علامة على امتلاكي لهذا الشيء،
بحيث لا تقدر أنت على الدنو منه. يمكن،
إذن، أن نقرأ التلوث كعلامة بارزة أحدثتْها
المؤسَّسة العلموية لتبرهن على قوتها في
إخضاع عدوِّها. الآن، أمام هذه التحولات التي
بدأت تبرز – العقل الذي تقلَّد منصب الإله،
ثم العلموية التي خلعت الكنيسة أو الوحي
وحلَّت محلهما، والمادة كجوهر للطبيعة، إلخ
– كيف ستنظر المؤسَّسة العلموية إلى
الإنسان؟ هذا الإنسان، ستعمل البيولوجيا
التي أتت متأخرة على "التقعيد" العلمي
لهذه الفلسفة؛ بمعنى أن الإنسان لن ينجو من
هذه القاعدة: سيُنظَر إليه على أنه آلة، لا
بدَّ لفهمها من تجزيئها إلى مكوِّناتها
الأولية، ثم ندرس كل جُزَيء، ثم نكوِّن صورة
معينة. وهكذا لن يُلتقَط من الإنسان إلا البعد
المادي. وبالمثل، سيُنظَر إلى الجسم البشري
على أنه آلة. لكن
المشكلة هي أن المؤسَّسة العلموية ستجد نفسها
أمام إشكال وجودي هو التالي: كيف ستضمن
استمراريَّتها كدين جديد يُقنِع الإنسان أن
الدخول في أحضانها كفيل بأن يحقق سعادته؟ إذا
تم إفراغ الكون من كلِّ محتوياته التي تُحيل
على الدين، أو الأبعاد المتسامية، فإن الأمر
سيُطبَّق كذلك على الإنسان. سيُختزَل الإنسان
إلى بعده المادي، الذي عبَّر عنه، منذ أواخر
الستينات، هربرت ماركوزي تعبيراً دقيقاً
وشائقاً بـ"الإنسان ذو البعد الواحد" في
كتاب له بهذا العنوان. من هنا فإن الحضارة
الغربية ستُخمِد في هذا "الإنسان ذو البعد
الواحد" كل شيء إلا غرائزه، لأنها هي
التعبير الوحيد عن هذا البُعد، وسيضمُر فيه
البعدُ الروحي، والبعد العاطفي، إلخ، لأن مثل
هذه المسائل لا يعترف بها قاموس مؤسَّسة
العلموية. ولكن إذا كان البعد الواحد
المتحكِّم في الإنسان هو الذي تعترف به
مؤسَّسة العلموية، وأيقظت فيه غرائزه وجعلته
إنساناً شَرِهاً، يبحث عن تلبية هذه الرغبات
بشكل نَهِم، فإن المشكل المطروح أمام مؤسَّسة
العلموية هو التالي: كيف يمكن أن تضمن
استمرارية تلبية رغبات هذه الغرائز؟ – مع
الأخذ بعين الاعتبار أن الكائنات الحية
تتكاثر وفقاً لمتتالية هندسية، في حين أن
الإمكانات أو الموارد الطبيعية تتكاثر وفق
متتالية حسابية. كيف
يمكن أن يتم التوفيق إذن؟ هنا ستسعى
المؤسَّسة العلموية إلى ابتكار تشريع جديد،
منظومة قيمية جديدة، تسعى إلى تأطير هذا
الإنسان، ومحاولة البحث عن مصادر تضمن هذه
الاستمرارية؛ لأن المؤسَّسة العلموية كدين،
إذا أرادت أن تثبت جدارتها، وتستمر في
اعتبارها كذلك، لا بدَّ من أن تضمن بشكل
مطَّرد ما يلبِّي البعد الواحد في البعد
المادي للإنسان. م
ع:
طيب، سؤال الأخ ضياء الحق عن البدائل
سنؤجِّله لأنه سيأتي ضمن سياق طبيعي. لنعد مرة
أخرى إلى الإخوة المتابعين. الأخ محمد أبو
يونس من فرنسا. أخ محمد، تفضل. محمد
أبو يونس:
السلام عليكم. أنا عندي نظرة عملية حول
الموضوع. حتى الآن كان الأمر نظرياً أكثر مما
هو عملي. من جانبي أقول إننا يجب ألا نحلم بأن
الحضارة الغربية على وشك الاندثار. فهذه
الحضارة قوية بحدِّ ذاتها، لأنها تتعظ من
أخطائها. رغم خطورة الأخطاء التي تقع فيها،
فإنها تتعظ من جراء أخطائها. وهي تعيش في
تغيير مستمر. عندهم كل شيء يتغير إلا التغيير،
ولذلك تجد عندهم تحولاً في الفكر. فهم انتقلوا
من فكر تحليلي إلى فكر منظوماتي، امتدَّ الآن
إلى الاقتصاد كذلك الآن. تحولات كثيرة... وكذلك
في التعاملات العامة والخاصة، في الاقتصاد
وفي الشركات، إلى غير ذلك. فهو
عالم مَرَّ بمراحل إفراط وبمراحل تفريط؛
ولذلك يبحث الآن عن حلول وسطية. فهناك كثير من
الفلاسفة، كثير من المفكرين، وكثير من صانعي
القرار، يبحثون عن حلول وسطية. لذلك فإن العقل
عندهم ما زال يتمتع بالمكانة التي كانت له من
قبل؛ لكن يجب عليه أن يقوم بدور آخر، بدور
يحسب في فكره حساباً لكل الأمور التي نسيها أو
تناساها في الماضي. هنا يمكن أن يأتي دور
الحضارة الإسلامية. لقد
تكلَّمنا عن الحضارة الغربية وكأننا نعيش في
سفينة الغرب. لكن هناك دور للحضارة الإسلامية
في هذا الشأن؛ وهو أن الحضارة الإسلامية
قادرة على أن تعطي للغرب ما ينقصه؛ وما ينقصه،
حقيقة، يتمثل في الأزمة التي يعيش فيها، وهي
أزمة أخلاقية وروحية فقط. لذلك الحضارة
الإسلامية قادرة على أن تعطي لهذه الحضارة ما
ينقصها، وتتعايش كذلك مع هذه الحضارة. لن تقوم
على أنقاض هذه الحضارة، بل ستكون تلقيحاً
لهذه الحضارة بقيم روحية وأخلاقية. إذن،
الخلاصة أن الحضارة الغربية ليست حضارة سوف
تندثر، ولكن حضارة سوف تبقى. وإن شاء الله سوف
تستفيد من معطيات الحضارة الإسلامية، لأن
الحضارة الإسلامية قدَّمت دوراً للعلم فيما
قبل؛ والآن لها دور آخر وهو أن تعطي دروساً
للحضارة المعاصرة في الأخلاق، وحول الروح
والله – تبارك وتعالى. م
ع: مشكور يا أخ محمد. معنا الأخ مصطفى الراسي
من المغرب. أخ مصطفى، تفضل. مصطفى
الراسي:
السلام عليكم. بدايةً أود أن أشكر الأخ ماهر
عبد الله على استضافة د. مصطفى المرابط – وأنا
من المعجبين به والمتتبِّعين لكتاباته من
خلال مجلته المنعطف. وسؤالي باختصار هو: د. مصطفى
يعرف الكثيرين من المفكرين الغربيين، سواء من
أسلم منهم ومن لم يسلم. فهل هناك، على حدِّ
علمه، محاولات أو مجالات للالتقاء على مستوى
المفكرين الغربيين مع الإسلاميين لكي يحصل
تبادل في الأفكار وتلاقح، بحيث يطرح المسلمون
وجهة نظرهم لإنقاذ الحضارة الغربية، أو
الحضارة الإنسانية ككل، من توجُّهها العلمي
المادي البحت هذا؟ ولكم جزيل الشكر. م
ع:
مشكور جداً يا أخ مصطفى. طيب، لو بدأنا بسؤال
الأخ محمد يونس. أنا أعتقد أن تعليقه صحيح،
ومبني، ربما، على فهم جزئي لما قلت. لم نقل
بعدُ – فيما أظن – في هذا النقاش أن الحضارة
الغربية آيلة للسقوط. نحن اعتبرنا أنفسنا في
سفينة واحدة مع الحضارة الغربية، أليس كذلك؟
الحضارة الغربية، بلا شك، هي الآن حضارة
ناقدة لذاتها، ولا شك أن فيها منحى تحليلياً.
لو انتقلنا للجزء الأخير من تعليقه، المتعلق
بدور الحضارة الإسلامية. هل تتفق معه، أولاً،
على أن ما ينقص الحضارة الغربية هو فقط القضية
الأخلاقية والروحانية؟ هي تعاني من أزمة في
هذا الجانب؟ ثم هل يمكن للحضارة الإسلامية أن
تقدم هذا النقص أو تعوِّضه، ثم تتعايش معه،
لا على أنقاضه؟ م
م:
تقريباً. فكرتُه النهائية تلتقي مع الفكرة
الأولى بأنه لا يمكن تصور بديل من خارج هذه
الحضارة. لا يصح أن نتصور أنفسنا نعيش بمعزل
عن هذه الحضارة. نحن، أردنا أم لم نُرِدْ،
نعيش في كوكب واحد أو في سفينة واحدة. لكننا
يجب أن نتروَّى في الحكم قبل أن نطرح أزمة
الغرب، فنقول إن هذه الأزمة الغرب تكمن في
الجانب الأخلاقي أو الروحي فقط؛ إذ أعتقد أنه
منزع تبسيطي نوعاً ما، لأن الأزمة في جوهرها
أزمة وجودية، كما قلت. وهذه الأزمة الوجودية
تتصل مباشرة بقضية الأنموذج الإرشادي الذي
تحدثت عنه. صحيح أن هناك الآن تيارات داخل
الغرب نفسه، بل ومساعي لمحاولة تصحيح هذا
المسار. لكن هؤلاء الباحثون أنفسهم يعترفون
بأن سقف الحضارة المعاصرة لا يسمح لهم بتصور
إمكانية بديل للأنموذج الحالي. لذلك تكمن
المسألة الأساسية في فهم الجذور المعرفية
والعَقَدية للأزمة المعاصرة من مدخل
المؤسَّسة العلموية. قد تكون الأخلاق أو
الجانب الروحي أحد الجوانب، لكن هذه
المكوِّنات ترتبط بمحور أساسي، هو محور حضاري. م
ع:
دعني أسالك: أنت كرَّرت تعبير "المؤسَّسة
العلموية"؛ وأنا أتفق معك في أن هناك
مؤسَّسة. لكن كيف؟ قد يكون من المناسب أن نميز
بين العلم، من حيث هو علم محايد، لا ارتباطات
إيديولوجية له ولا فكرية ولا أي شيء من هذا
القبيل، وبين المؤسَّسة العلموية. يبدو لي أن
هناك توظيفاً للعلم – المؤسَّسة العلموية،
كما تسميها – هو الأقدر على توظيف العلم، ليس
بالضرورة بالطريقة المجردة من الأغراض التي
يجب أن تسود. فهل لك أن توضح قصدك؟ م
م:
العلم هو وسيلة من الوسائل لفهم ظواهر الكون
والتواصل معه – وسنأتي بعد قليل إلى
الإرهاصات التي بات يعيشها العلم اليوم.
العلم، إذن، وسيلة أساسية للمعرفة، ومن أبرز
ما ابتكره الإنسان للتواصل مع هذا الكون
وفهمه والتفاعل معه. ولكن مع الغرب سيزيغ
العلم أو سينزع منزعاً إطلاقياً، ويتحول إلى
علموية، بمعنى أنه لم يكتفِ بدور فهم الظواهر
وتجريبها وتوظيفها، إنما اعتبر نفسه مصدراً
وحيداً للمعرفة، مؤسَّسة معتقدية تشرِّع
للإنسان، مطلق الإنسان. م
ع:
طيب، لو رجعنا لسؤال الأخ مصطفى الراسي –
وأنا أعتبر أنه كان تطوراً منطقياً عن السؤال
السابق عن الحضارة الإسلامية. هذه الحضارة،
هل هي قادرة على تقديم ما ينقص الغرب؟ سؤاله
يتَّسم بشيء من العملية: هل هناك محاولات؟ هل
جرى لقاء بين مفكرين غربيين ومفكرين مسلمين
للتباحث في هذه القضايا الفلسفية من أجل
إنقاذ الإنسانية الغارقة في همومها
المشتركة؟ م
م:
عملياً، هناك محاولات عديدة، لا تنحصر فقط
بين المفكرين الغربيين والمفكرين المسلمين.
هناك الآن ملتقيات شبه دورية بين الذين
أسمِّيهم "حكماء الحضارة المعاصرة"، يتم
فيها استدعاء ممثلين عن الحضارات أو الثقافات
الأخرى التي تعيش على الهامش، أو التي كانت
تسمَّى حضارات أو ثقافات الأطراف. وهناك
جدال، هناك حوار، هناك تبادل للآراء، هناك
مواجهة فكرية أو تدافع فكري، بدأت تبرز
نتائجه، خاصة عندما نحاول أن نطلَّ على
إشكالات العالم المعاصرة من زاوية حضارية
وجودية. فهناك ملتقيات تصدر عنها كتب (نافت
الآن على العشرة) تنقل لنا هذه الأجواء التي
يعيشها هؤلاء الباحثون والعلماء داخل هذه
الملتقيات التي هي مؤشر إيجابي في الاتجاه
الصحيح. لكن،
مع القول بهذا الأمر والاعتراف به، فنحن
نشاطر المرحوم العالم الباكستاني عبد السلام
دهشته عندما يجد أن كل الأطراف الثقافية
والحضارية المختلفة قد بادرت إلى المساهمة
والمشاركة في هذا الحوار العابر للقارات حول
أزمة عالمنا وعصرنا، وأن العلم قد بدأ يأخذ
مكانة محترمة في كل الثقافات وكل الحضارات،
إلا عند المسلمين والمجتمعات الإسلامية، حيث
ما زال يُنظَر إلى العلم بازدراء، ويلعب
دوراً هامشياً داخل هذه المجتمعات. نحن كذلك
نتساءل: ما هي الأسباب التي جعلت المسلمين
ضعيفي المشاركة في هذا الحوار الحضاري؟ – رغم
أننا نعرف أن في كل المختبرات الأوروبية
والأمريكية عدداً كبيراً من العاملين ومن
الباحثين من أصول عربية أو مسلمة؛ ورغم ذلك
ليست هناك مشاركة فعالة، مثلما نجد، مثلاً،
مع المنتمين للحضارات الآسيوية المختلفة أو
الإفريقية أو حتى جنوب إفريقيا. هذه
مسألة تستجوبنا وتسائلنا بشكل كبير، لأن هذا
الغياب في اعتقادي ليس له مبرِّر يمكن أن
يعلَّل به – هذا الغياب المذهل الذي نتحَّمل
مسؤوليته نحن بالدرجة الأولى. قد يعود
ذلك، ربما، لطبيعة تكويننا في هذه المؤسَّسات
العلمية، وقد يكون كذلك من جراء نسق الأسئلة
التي نطرحها كتيارات تتوق إلى التغيير. فهذه
المساءلة – مساءلة المنظومة العلمية بما
تفرزه من نتائج مذهلة – تسائلنا الآن تساؤل
المنظومة الإسلامية... م
ع:
تتحدانا؟! م
م:
لا أشك في عظمة المنظومة الإسلامية وقدرتها
على تقديم أجوبة. قد لا تكون هذه الأجوبة
مطلقة؛ ولكنها، على الأقل، يمكن أن تساهم
مساهمة إيجابية في هذا النقاش الحضاري. م
ع:
طيب، لنعد للمتابعين مرة أخرى. معي الأخ د.
مجدي موافي من بريطانيا. أخ مجدي، تفضل. مجدي
موافي:
السلام عليكم. لو سمحت، أنا والله أود أن أقوم
بمداخلة بخصوص الحضارة الغربية والناحية
الدينية فيها. الحضارة الغربية يمثلها من
الناحية الدينية الدين المسيحي. ونحن نجد أن
هذا الدين قد تراجع، وخاصة في الـ20 سنة
المنصرمة. الكنيسة تراجعت، والدين المسيحي
تراجع في الغرب، حتى إنه يحاول أن يتكيَّف مع
الوضع العلماني القائم. ونجد حالياً مثلاً
بعض مظاهر هذا التراجع: إجازة الزواج من جديد
للمطلَّقين في الكنيسة، وتعيين سيدات
كقسيسات، وكذلك الشاذين جنسياً. حتى في
احتفال الألفية الثالثة تكلَّم كبير
الأساقفة الإنجليزي، رئيس الكنيسة
الأنكليكانية، حوالى ثلاث دقائق فقط بخصوص
هذا الاحتفال العلماني. ما أقصد أن أقوله هو
أن الحضارة الغربية من غير الدين المسيحي سوف
تنكمش. لو حصل هذا في الحضارة الإسلامية،
سيكون هذا طبعاً مدعاة لتخاذلنا. لكني أشك في
هذا. هذا ما أردت قوله بصدد مداخلة الحضارة
الغربية. م
ع:
طيب، مشكور جداً يا أخ مجدي. معي الأخ عمار
فتيتي من ألمانيا. أخ عمار، تفضل. عمار
فتيتي:
السلام عليكم. في البداية انطلق د. المرابط من
منطلق أنثروبولوجي وجودي. وكان بودي لو
توسَّع أكثر في هذا الموضوع. على كل حال فإن
الخوض في هذا الموضوع –بصفة عامة – موضوع لا
يهم الأمة الإسلامية. ولا أقول هذا باعتباري
معارضاً للفلسفة الإسلامية، بل لأني في
الحقيقة غصت في عمق هذا الموضوع. الخوض في
حيثيات الفلسفة عموماً يقود إلى مشاكل لا
صلة لنا بها. أقول هذا لا من باب الهروب من
الواقع، بل لأن هذه هي الحقيقة. والأستاذ
يتَّضح من خلال كلامه أنه أستاذ فلسفة، وهو
أعلم بذلك. في
البداية، ذكر الأستاذ أن المشكلة هي مشكلة
الإنسان من حيث هو إنسان. وكان بودي أن يوضح
هذا الموضوع أكثر. وأنا أتساءل: هذا الطرح سبق
أن طرحه ماركس، باعتباره يرى أن المسألة تهم
الإنسان من حيث هو إنسان. نفس الطرح طرحه
الفيلسوف الألماني كارل يلغا، وطرحه مارتن
هيدغر، الذي ذكره الدكتور. مارتن هيدغر
ونيتشه لا يلتقيان في هذا الطرح، على الرغم من
أنهما يطرحان الطرح نفسه. وبشكل أعمق وأغرب،
يطرح هذا الطرح اليوم بِل كلنتون! أي أن ماركس
وبِل كلنتون يلتقيان في نفس المصب. المشكلة،
إذن، هي مشكلة عولمة. ماذا تعني العولمة؟ النظرة
إلى الإنسان من حيث هو إنسان – كيف يمكن ذلك؟
هناك أيضاً موضوع العقل: ذكر د. المرابط موضوع
العقل، وموضوع تأليه العقل، وهلم جرا.
الحقيقة أنه ليس هناك عقل، بل عقول. هناك عقل
الفيلسوف، وعقل العالِم؛ والعقل الذي نوقش
اليوم – في الحقيقة – لا ينسحب على مفهوم
العقل باعتبار أن الذي تم الاهتمام به اليوم
هو موضوع التكنولوجيا والسلوك التكنولوجي،
والتلوث وإذلال الطبيعة، وهلم جرا... كل هذه
الأمور مسائل مناطة بعهدة التكنولوجيا التي
لا تُحسَب على العلم أصلاً، وهي في حقيقة
الأمر التي سببت هذه الفاجعة. والعلم قد تدخل،
ولو بصفة متأخرة نسبياً، لينقذ ما يمكن
إنقاذه اليوم. أي أن المسائل التي حُسبَت
سلفاً على العقل، هو في الحقيقة منها براء –
وإن كنت لا أبتغي تنزيه العقل هنا. أعود
وأقول: إن العقل محدود جداً. والأستاذ المرابط
يعلم أن مكوِّنات المعرفة – وهي بطبيعة الحال
الدور الأساسي للعقل في إدراك الإنسان لمحيطه
وذاته – تبين هذه الحقيقة. يعني أن العقل
محدود جداً باعتباره يستمد مدركاته من محيطه.
ومن بعدُ يصير التبجح بقدرة العقل على إدراك
كنه الوجود واللاوجود فعلاً من باب الغباء. وهذا
لا يعني أنني أناقض نفسي هنا؛ إذ أريد أن أشير
إلى الفصل بين منتوج التكنولوجيا، والمنتوج
العلمي، والمنتوج العقلي. أي أن هناك مرحلة
ثالثة يضطلع بها العقل، عقل الفيلسوف. أي أن
هناك عقل الفيلسوف، عقل العالِم، والمنتوج
التكنولوجي أو التقني. وشتان ما بين هذه
الثلاثة. نقطة
أخرى: هناك دعوات شتى لإحلال ديانات أخرى
كبديل عن الدين المسيحي. في الحقيقة، لا غرابة
في ذلك، باعتبار أن المسيحية، بكل أسف، صارت
ديناً خاوياً – ولا أقول هذا من باب السبِّ أو
التطاول على الغير، ولكن باعتبار أني أدرس
هنا في الغرب والذين يلقِّنونني هذه العلوم
فلاسفة مسيحيون تاريخياً. وقد يوجد بين الحين
والآخر كذلك من يعتقد حتى اليوم بضرورة
الدين، لا بضرورة المسيحية حصراً. إنها دعوة
إلى وجوب الدين أو الاعتراف بحقيقته كضرورة
حتمية في الحياة العامة. نجد أيضاً من يدعو
إلى الفلسفة كبديل للدين، كالفيلسوف كارل
يلغا. ونجد من يدعو كذلك إلى الرأسمالية لتحل
محلَّ الدين. نجد هنا في الحقيقة دعوة إلى
تأليه العقل، أو إلى وجود دين – أي دين – وليس
دعوة إلى المسيحية التي عفا عليها الدهر –
نظراً لدور الدين كحتمية لا فرار منها؛ أي أن
الدين في حياة البشر ضرورة لا بدَّ من وجودها.
بالنسبة للفكر المادي... م
ع:
طيب يا أخ عمار. هل لك أن تختصر لأن هناك إخوة
آخرين يودون تقديم مداخلات. ع
ف: نعم،
نقطة أخيرة فقط. هناك أخ من فرنسا قال إن
الدعوة إلى الوسطية في حقيقة الأمر هي في حدِّ
ذاتها حركة عقلية بحتة، ويعني الرجوع إلى
الوسطية. يبقى في النهاية أن وجود الفكر
المادي في الغرب – وهذه ربما مفاجأة غير
سارَّة للمسلمين – يعود إلى الإسلام وإلى
الفلسفة الإسلامية. وربما د. المرابط يعرف
كتابات هانس بلو الذي كتب في ذلك كثيراً.
والسلام عليكم. م
ع:
طيب مشكور جداً يا أخ عمار. معي الأخ عبده
السطو من سوريا. أخ عبده، تفضل. عبده
السطو:
أ. ماهر عبد الله، السلام عليكم، وتحية
للأستاذ مصطفى. لي مداخلة حول هذا الموضوع، لو
سمحت، د. مصطفى. عُرِف الفكر الغربي البشري
بالنظرة المادية والعقلية، وعُرِف الفكر
الشرقي – الهندي والفارسي والوثني – بالنظرة
الحدسية، وعجز كلٌّ من الفكرين أن يجمع بين
العقل والقلب، بين الروح والجسد، فأصبح كلُّ
فكر معادياً للآخر. ومن ثم فإن كلا المذهبين
قد حطَّم الإنسان، وهو يدَّعي تكريم الإنسان:
حطَّمه الفكر الغربي المادي بأن أنكر إرادته
ومسؤوليته. وقد
جاء الإسلام محرِّراً للناس من الفكر البشري
في اضطرابه وفساده، كاشفًا عن انحراف كلٍّ من
المسيحية واليهودية عن طبيعتهما، وأعلن
تحرير عقل الإنسان وفكره وتحطيم القيود
والأغلال المتراكمة. فما رأي الدكتور مصطفى
في مستقبل الحضارة الغربية؟ وما هو مستقبل
الإسلام في الغرب من وجهة نظر الدكتور
المرابط؟ شكراً لك أ. ماهر وشكراً لك د. مصطفى. م
ع:
مشكور جدًّا يا أخ عبده. أرى أن نبدأ بهذا
السؤال: من وجهة نظرك، ما هو مستقبل الحضارة
الغربية ومستقبل الإسلام في الغرب؟ م
م:
ربما أشرت في البداية إلى بعض المآلات التي
تخيم الآن على البشرية. ولكن على الرغم من هذه
النظرة السوداوية، هناك مخاض عظيم في العالم
اليوم، والحضارة الغربية حُبلى بإمكانات
وارِدة للخروج من هذا المأزق، على أساس
الاعتراف بالتعددية الثقافية، والتنوع
الثقافي، واستدعاء كل الأطراف التي تمثل
الإنسانية – هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى – وهذا
ما لم نتحدث عنه بعدُ – استدعاء كل الأشكال
المعرفية التي تميز الإنسان. نحن
رأينا بخصوص مسألة العلم أن الفلسفة العلموية
تقوم على أساس اعتبار اللغة الرياضية هي
اللغة الوحيدة للتفاعل والتواصل كمفتاح لفهم
الكون، في حين أن هناك الآن اكتشافات علمية،
داخل الفيزياء وداخل البيولوجيا، تنحو منحى
مغايراً لهذا المنطق. لا يمكن أن نفهم الإنسان
في بعده المادي فقط. يقول أ. علي عزة بيغوفيتش
معلِّقاً على هذه النظريات: إن الكون لم
يُفصَّل على طراز نيوتن، والإنسان كذلك لم
يُفصَّل على طراز داروِن! هناك نظريات جديدة.
فالعالم البيولوجي الفرنسي جان روستان يقول
بأن "النظرية تمر، ولكن الضفدعة تبقى."
النظريات هي "تخمينات"، مجرد إسقاطات
ذهنية على واقع ما. فإذا كانت إسقاطات، بمعنى
أنها نسبية، فهناك، بالتالي، دعوى إلى
مراجعتها وعدم اعتبارها مطلقة. من
هنا فإن الملفت للانتباه هو مسألة "النظر"
في الحضارة الإسلامية، أو التفكُّر
والتدبُّر. في القرآن آيات كثيرة تدعو
الإنسان – تدعوه بإلحاح – إلى أن ينظر،
ويتفكَّر، ويتدبر، لأن العلاقة التي تربطنا
بالكون هي علاقة اندهاش، علاقة إعجاب. النظر
تتولَّد عنه الدهشة. ولكن هذا النظر، عندما
يتحول في عقلنا إلى نظرية، نحنِّط النظر،
نحنِّط الظاهرة في لحظة معينة، فنفقد
الاندهاش. في حين أن النظر المتكرِّر – وهذه
دعوة للإحساس لكي لا يتبلَّد – ينتج عنه
الاندهاش. وهذا الاندهاش، حتى لا يخطف
الإنسان من نفسه ويُفقِده صوابَه، يقول
الإنسان المسلم أمامه: "سبحان الله!"
فيستحضر بُعداً غائياً في هذا الكون. لذلك
عندما يقول: "سبحان الله!" يجب أن يستحضر
عظمة هذا الخالق الذي أبدع هذا النظام فيقول:
"الحمد لله!": يحمد الله أنْ مكَّنه من
رصد هذه اللحظة، لحظة الاندهاش – وما أروعها!
عندما ينظر إليها العالِم أو الشاعر أو
الفيلسوف، لا شك أن انطباعهم يختلف. فـ"الحمد
لله!" هو اعتبار أن هذه الظاهرة تدل على قوة
الخالق. وحتى
لا تتحول هذه الظاهرة إلى مطلق يجب أن يستحضر
الإنسان المسلم أن هناك ما هو أكبر من هذه
الظاهرة. من هنا المناداة بـ"الله أكبر!"
– يعني أن هذه المسألة التي أنظر إليها، على
جماليَّتها ورغم روعتها، رغم اتِّساقها من
الناحية العلمية، هناك من هو أكبر منها. من
الأكيد أن هذه المسألة تُحيلنا على الدين،
ولكنها اليوم في صميم العلم، لأنها تضفي سمة
النسبية على نظر الإنسان، وعلى فهم الظواهر.
هذه الثورة الآن هي التي تحدَّث عنها الأخ عبد
الواحد الذي تدخل في البداية حول الثورة
الفيزيائية، خاصة الكوانتية. الفيزياء
الكوانتية اكتشفت بأن الواقع لا يوجد بحدِّ
ذاته، وبأن الكون ليس آلة. فعوضاً عن النظر
إلى الشيء في ذاته، لا بدَّ أن نلتفت إلى شبكة
العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض.
فالشيء لا يوجد بحدِّ ذاته، وإنما يوجد في
علاقة؛ والعلم مطالب إلى أن ينظر إلى هذه
العلاقة. لذلك أسرع العلماء إلى إضفاء
النسبية على نظرياتهم. فالنظريات هي مجرد
تخمينات لمقاربة حقيقة ما. ولذلك حصل في
البداية خلاف كبير بين أينشتاين ونيلز بوهر اللذين
ساهما في هذه الثورة الفيزيائية. فأينشتاين
كان يعتقد بوجود حقيقة، أو بوجود الواقع
مستقلاً بذاته، في حين أن بوهر لم يكن يعتقد
بهذا الزعم، بل كان يعتبر أننا لا نرى الحقيقة
ولا نرى الواقع، إنما نرى تَمَظْهُرَه.
ونتساءل مع كابرا: أين يكمن السبب، مع أنهما
فيزيائيان، وشاركا في إبداع هذه الثورة؟
عندما نبحث عن الأسباب التي كانت وراء هذا
الاختلاف في مقاربة ظاهرة ما، نجد أن شدة رسوخ
الأنموذج القديم هي التي تحول دون الانفتاح
على الجديد. أينشتاين نفسه اعترف قائلاً
بأنه، لما حصلت الثورة الكوانتية، فكأن الأرض
انشقت تحت قدميه، ولم يعد يجد متكئًا يقف
عليه، لأن عقله الديكارتي لم يسعفه في تمثل
هذه الثورة. هذا
الفيزيائي الباحث فريتيوف كابرا، وهو يتتبع
أسباب هذا الخلاف، وجد أن أينشتاين كان قد
استطاع أن يتجاوز نيوتن في مقاربته للكون،
لكنه بقي سجيناً للعقل الديكارتي؛ في أن حين
نيلز بوهر استطاع أن يتجاوز الاثنين معاً.
لماذا؟ لأن أينشتاين بقي حبيس النظرة
الغربية؛ في حين أن نيلز بوهر انفتح على
الثقافة الصينية التي تجمع بين المتناقضات
والتي منحته قدرة على مقاربة هذه الحقيقة
التي تبشِّر بها الفيزياء الكوانتية. لذلك
نجد فيزيائياً كبيراً مثل برنار ديسبانيا
يقول بأن الحقيقة أو الواقع محجوب، وبأن
نظرتنا أو مقارباتنا العلمية تزيح طرفاً من
الحجاب عن جزء من هذه الحقيقة. فالذي ندرسه هو
حقيقة ظاهراتية، وليس حقيقة بحدِّ ذاتها.
لذلك نجد حامل جائزة نوبل إيليا بريغوجين
يقول بأن الطبيعة تجيبنا حسب السؤال الذي
نطرحه (بمعنى أن حجم الجواب بحجم السؤال)،
ويختم بأنه ليس هناك شيء أبدعه الإنسان،
كالعلم مثلاً، في وسعه أن يحتل مكانة الإنصات
الشعري والتحاور مع الطبيعة. م
ع:
د. مصطفى، لو سمحت لي، بداية، أن أذكِّر الأخ
عمار أن د. مصطفى هو في الحقيقة دكتور في
البيولوجيا الجزئية، هو عالم أحياء في المقام
الأول، وليس دكتوراً في الفلسفة، كما اعتقد. هناك
تفصيلان في كلام الأخ عمار أثارا انتباهي.
التفصيل الأول ذكره في بداية كلامه، أنه يجب
علينا عدم الخوض في هذه الجوانب الفلسفية،
لأن المشاكل الفلسفية، باعتقاده، لا صلة لنا
بها. كان بودي أسأله، لكنْ لم تُتَح الفرصة. في
اعتقادك، لماذا توصَّل إلى هذه النتيجة: أنه
لا صلة لنا بالمباحث الفلسفية؟ م
م:
نحن لا نستطيع أن نقوِّله ما لم يقله. لكني
أعتقد جازماً أن زاوية النظر إلى مشكلات
العالم هي مصدر الخلاف؛ بمعنى أن تقويمنا
لأوضاع المسلمين ولأوضاع الإنسان عامة تختلف.
أنا قلت في البداية إن هذا الفصل لم يعد
وارداً. في سنوات مضت كنا نتحدث عن الصراع
الحضاري بين حضارة قوية وحضارة تريد أن تنهض.
الآن في اعتقادي انتقلنا من الصراع الحضاري
إلى الصراع الوجودي، لأن الأزمات التي تراكمت
والمشكلات التي تلوح في الأفق لا تستهدف
المسلمين فقط كحضارة، إنما تستهدف الإنسان من
حيث هو إنسان. ومساءلة هذه المنظومة ليست
ترفًا فكرياً بقدر هي ضرورة يفرضها بحثنا عن
الجذور التي ولَّدت لنا هذه الصورة. إذن،
معرفة هذه الجذور ستمنح لنا المفاتيح لفهم
عمق الأزمة، كما أشرت في البداية. لأول مرة في
التاريخ البشري يحدث أن لا تجني حضارة ما وحدها
ما ارتكبت من أخطاء، إنما تشدُّ إليها
الإنسانية قاطبة بحكم طبيعة هذه الحضارة التي
تعتمد على الإخضاع وعلى التبعية؛ أحكمت
سيطرتها على العالم بأسره وحملتنا معها في
هذه الباخرة. وأعتقد أنه ليس هناك، لوصف هذه
الحالة أو هذه الزاوية التي ننظر منها إلى
أزمة الإنسان المعاصر، أروع من الكلمات أو
القبسات التي وردت في حديث الرسول (ص) عندما
قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيه
كمثل قوم استهموا على سفينة، بعضهم أصاب
فوقها والبعض أصاب أسفلها. فكان الذين في
أسفلها إذا استقوا مرُّوا على من فوقهم
وآذوهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا لم نؤذِ
من فوقنا." ويستطرد الحديث: "إذا تركوهم
وما أرادوا هلكوا، وهلكوا جميعاً، وإذا أخذوا
على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً." وأعتقد
أن نموذج السفينة، كما جاء في هذا الحديث،
يسعفنا في فهم ما نتحدث عنه اليوم بخصوص
القرية الكونية والعولمة، وكذلك ربط
الإنسانية بأجمعها في مسار الحضارة الغربية.
إذن نحن كذلك مسؤولون إذا أردنا ألا
نُهلَك؛ ليس فقط ألا نُهلَك كمسلمين، وإنما
ألا يُهلَك الإنسان – مطلق الإنسان. فلا بدَّ
أن نأخذ على أيدي من يثقب في هذا الكون. م
ع:
طيب. في معرض كلامه، تحدث الأخ عمار عن
الوسطية بوصفها حركة عقلية بحتة. لكن الغريب
كان قوله أن الإسلام هو الذي صَدَّر المادية
إلى العالم الغربي، وأنه الأساس المادي
للحضارة الغربية. هل هناك أي أساس من الصحة
لهذا؟ م
م:
أنا لم أفهم هذا السؤال جيداً. م
ع:
للأسف هو ليس معنا لنسأله. في حيثيات الكلام
ذكر أن هناك عقل الفيلسوف، وهناك عقل العالم.
لقد ذكَّرني في الواقع بكلام يقوله بعض
العلمانيين العرب اليوم: أن العقل البشري
تدرَّج: ففي بداياته الأولى، في فترة الطفولة
البشرية، اعتمد الإنسان على ما يسمونه بالعقل
الديني؛ ثم ارتقت البشرية، فانتقلت إلى العقل
الفلسفي؛ ثم هي اليوم تعيش في مرحلة العقل
العلمي. واضح أن هذا التتالي هو المقصود، وله
مرامٍ عقائدية وإيديولوجية واضحة. لكن أنت،
من خلال صلتك بهذه المواضيع – ونحن نتحدث في
صميم هذا الموضوع – ما هو تعليقك على هذا
التقسيم: العقل الديني، فالفلسفي، ثم العلمي؟ م
م:
هذا التقسيم، في مراحله الثلاثة، جاء به
أوغست كونت. ومن خلاله نتفهم الخلفية
الفلسفية التي ظهرت فيها مثل هذه الاتجاهات.
لكن العلم الآن نفسه بات يعترف اليوم بأنه لا
يمكن أن نتحدث عن العقل بالألف واللام،
بالمفرد، بصيغة التعريف؛ إنما يجب أن نتحدث
عنه بصيغة الجمع. بمعنى أن لكل حضارة، لكل
ثقافة، منطقها وعقلها، لأن العقل يخضع
لمنظومة من المعايير يقيس بها، ويتفاعل بها،
مع الخارج ومع الذات. فمن بين المآخذ الآن
التي تؤخذ على المؤسَّسات العلموية أنها وضعت
"الكوجيتو" الديكارتي – "أنا أفكر،
إذن أنا موجود" – كشكل أوحد للعقل؛
وبالتالي فإن هذه الثورات لم تستطع إلى الآن
أن تخرج من تأثير المعادلات الرياضية بحيث
تؤثر في المجتمع، وتُتداوَل في اللغة اليومية.
أنا ذكرت مأزق أينشتاين عندما لم يستطع أن
يتمثل هذا الاكتشاف الكبير، لأن السقف الذي
وضعته "الديكارتية" لا يسمح بحصول
اختراق كهذا؛ إذ إن اللغة الوحيدة التي تعترف
بها هي اللغة الرياضية. العلم اليوم يبدو أكثر
نسبية، وأكثر تواضعاً بكثير. لم يعد هدفه، كما
قال بيرتولو، انتزاع الأسرار من الطبيعة. هدف
المعرفة اليوم هو التفاعل مع الكون في
مستويات متعددة، بمعنى أن مقولة لابلاس
لنابليون لم تعد يؤخَذ بها. (عندما أهدى
لابلاس كتابه الميكانيكا الشمسية
لنابليون سأله هذا الأخير متعجباً وهو ينظر
إلى هذا الكتاب الضخم: "كيف ألَّفت هذا
الكتاب عن الكون دون أن تشير – ولو مرة واحدة
– إلى مبدعه؟" فقال لابلاس متعجرفاً: "لم
أكن يا سيدي في حاجة إلى هذه الفرضية!") العلم
اليوم يقول العكس، بمعنى أن الإنسان في حاجة
إلى معايير أخرى تتسامى عن المنطق الرياضي
وعن المنطق الديكارتي أصلاً. لذلك ذكرت
الخلاف بين بوهر وبين أينشتاين. ومن الممكن أن
نتحدث عن الفرق بين فكر نيتشه بخصوص النظرة
إلى الإنسان وفكر العلم الحديث، وعن الحوار
الشائق بين أينشتاين وطاغور. لقد خلص طاغور
إلى أن الإنسان الذي ينتمي إلى حضارة خارج
الحضارة الغربية قد ينفتح ويعرف عن الآخر
ربما أكثر مما يعرف عن نفسه. ولكن الإنسان
الغربي يتقوقع في مركزيَّته لاعتقاده أنها هي
المطلق، أنها هي الحضارة بالألف واللام؛
وبالتالي، من الصعب أن يكون هناك حوار على
المستوى العام. في
اعتقادي أن موقفنا من هذه الاختمارات التي
تحكم بها المؤسَّسة العلموية نفسها يكمن في
التساؤل التالي: لماذا، رغم هذه الثورات التي
بدأت مع الفيزياء – والآن البيولوجيا بدأت
تقوم بثورتها، خاصة بيولوجيا علوم الوراثة
الجزيئية أو بيولوجيا الأعصاب – أقول: لماذا،
رغم اعترافهما بأن العقل الديكارتي عائق (تقرأ
مثلاً من عناوين الكتب الصادرة مؤخراً: هل
يجب إحراق ديكارت؟ أو نسمع عالم أعصاب يقول:
"إن الخطأ خطأ ديكارت في أنه ليس هناك مسرح
ديكارتي في عقولنا.") أقول: لماذا، رغم هذا
الاعتراف وهذا الإدراك، لن يستطيع هذا التيار
أن يتجاوز العقلية الديكارتية؟ يعود
السبب في رأيي – وهذه دعوة إلى التأمل
والتفكير في هذه المداخل – إلى ثلاثة أمور
أُجمِلُها كما يلي: الأمر
الأول هو ارتكاز المؤسَّسة العلموية على
اعتبار الإنسان مقياس كلِّ شيء، مركز ومقياس
كلِّ شيء: هذه المركزية التي سمحت للإنسان أن
يتألَّه بعقله، فبدأ يقيس أو يفصِّل الكون
على مزاجه؛ هذه المركزية عائق، ونحن في حاجة
إلى نظام معايير يتجاوز الإنسان، إلى نظام
معايير يحتوي العقل ولا يحتويه العقل، كما هو
شأن الفلسفة الديكارتية. العائق
الثاني هو اعتماد اللغة الرياضية كلغة واحدة
لتفسير الكون، حيث نجد أن مؤسِّسي العلوم
الحديثة نظروا إلى الكون كآلة. فالنظر إليه من
خلال لغة الأرقام والأشكال الهندسية فقط –
بلغة الرياضيات وحدها – عائق من العوائق التي
تمنعنا من النظرة الشمولية للكون... م
ع:
والعائق الثالث؟ م
م:
قد نتساءل: ما هي اللغات الأخرى؟ باعتقادي –
وهذا ما يعترف به العلم – أن اللغة الرياضية
هي واحدة من اللغات التي تسمح لنا بمقاربة جزء
من ظاهرة الحقيقة أو ظاهرة الواقع. فكما أن
اللغة الرياضية تسمح لنا بالمقاربة المنطقية
فإن اللغة الشعرية تسمح لنا بالإنصات الشعري
للكون. فالكون يبعث إلينا إشارات ورموز تحتاج
إلى من يفسِّرها ويترجمها. كذلك اللغة الفنية
تسمح لنا بالإنصات الجمالي للكون. إن تضافر
وتكامل هذه اللغات سيسمح لنا، أو بالأصح،
سيجعل الطبيعة تكشف حجابها عن ظاهرة الواقع؛
بمعنى أنه كلما تعددت لغات مساءلة الطبيعة
كانت الأجوبة أكثر شمولية. والعائق
الثالث هو مركزية الحضارة الغربية، اعتبار أن
الحضارة الغربية هي سقف البشرية، هي الحضارة
بالألف واللام. وهذا عائق من العوائق التي لا
تسمح بمقاربة الطبيعة والكون والإنسان
مقاربة شاملة؛ بمعنى أن مركزية الحضارة
الغربية فوَّتت عليها فرصة التنوع والتعددية
الثقافية. إذا كان تعدد اللغات ضرورة من
ضرورات الكشف عن الحُجُب التي تحجب عنا ظاهرة
الحقيقة فإن التنوع الثقافي هو تعدد في
الشاشات التي تنعكس عليها هذه الصور. فعندما
تتعدد الثقافات وتتنوع، فتخاطب وتسائل
بمنطقها – لأننا قلنا إن لكل ثقافة عقلها
ومنطقها –، ستسمح لنا بمقاربات متعددة،
ستسمح لنا بتشكيل صورة أكثر شمولية وأكثر
دنواً من الحقيقة. وهنا
ممكن أن نستحضر المثال الذي ذكرتُه عن الحوار
بين أينشتاين ونيلز بوهر. إن التعددية
الثقافية أو الانفتاح على الثقافات الأخرى هو
الذي سمح لبوهر أن يتحرر من سجن "الكوجيتو"
الديكارتي، في حين ظل أينشتاين حبيساً فيه. من
الممكن أن نذكر مثال عالم اللسانيات وندري
وولف. هذا العالم في اللسانيات كان يعمل مع
إحدى قبائل المايا لتفكيك رموز حضارة المايا،
فاكتشف بأن إنسان المايا ليس في حاجة إلى أن
يدخل الجامعة ليدرس ويستوعب بجهد جهيد
النظرية الكوانتية، وليتحدث عن الزمان
والمكان كمتَّصلين لأن لغته العادية تربط بين
الزمان والمكان – الشيء الذي لا تستطيع اللغة
الغربية أو الثقافة الغربية أن تفعله بحكم
طبيعة مقاربتها لهذه الحقيقة. إذا
لم نكن لا نستطيع ترجمة هذه الحقائق العلمية
إلا إلى لغة رياضية لا نفهمها – يعني أن
تمثلها حتى الآن يشكِّل عقبة – كيف يمكن أن
نفسِّر لعامة الناس، مثلاً، تداخل الزمان
والمكان، في حين أن إنسان المايا يستوعب
الأمر بشكل عادي في لغته اليومية. م
ع: طيب. دعني أسألك، باختصار شديد، السؤال
الذي وردنا في أول الاتصالات، ومفاده أن من
الواضح في ظل هذه الأزمة أنه ليست هناك بدائل
جاهزة عن الفلسفة الديكارتية. صحيح أن هناك
نقداً للفلسفة الديكارتية، لكن لا يمكن
الاستغناء عنها تماماً وإلقائها من النافذة.
فهل هناك من يتحدث عن حضارة ناقدة لذاتها؟ هل
هناك بدائل مطروحة؟ م
م: نعم، يحضرني الآن بيت لشاعر إسباني يقول:
"ليس هناك طريق موجود مسبَّقاً للمشي، إنما
المشي هو الذي يصنع الطريق." بمعنى أننا،
ونحن نتحدث عن منظومة الإسلام في قيمه
العظيمة، نقول بأن الإسلام يسكن المستقبل،
لأن القيم تتعالى عن معايير العقل، تشمل
العقل ولا يشملها العقل، لأنها من خالق يعرف
دقائق الحياة والوجود والكون. إذا كان
الإسلام يسكن المستقبل بالقوة، فإن
المسلمين مطالبون بتحويل هذه الظاهرة من
القوة إلى الفعل. وهذا يرتِّب علينا، كما
قلت، أن تسائلنا هذه المشكلات بالدرجة الأولى:
كيف يمكن أن نساهم في هذا النقاش العابر
للحضارات بقيمنا العظيمة؟ م
ع:
اسمح لي د. مصطفى أن نبقي هذا السؤال
مطروحاً للنقاش ومفتوحاً. وأنا أعتقد أن فيه
إيحاءات بالإجابة. *** *** *** ©
قناة الجزيرة، برنامج "الشريعة والحياة"،
الخميس 30/11/2000 |
|
|