احترام وجود الآخر أم إلغاؤه

 

خالص جلبي

  

لئن بسطتَ إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلكَ إني أخاف الله رب العالمين.

(القرآن الكريم، المائدة 28)

 

مع كتابة هذه السطور تتصاعد وتيرة العنف، سواء الديني منه أو العرقي، في أماكن متفرقة من العالم، ومنها العالم العربي. لقد رحتُ أرصد هذه الظاهرة وأتعمق في تضاعيفها، لعلي أقدح نوراً في هذه الظلمات، وأضع يدي على جذر مشكلة العنف الإنساني.

"لئن بسطتَ إليَّ يدكَ لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليكَ لأقتلكَ إني أخاف الله ربَّ العالمين". بين سطور هذه القصة المرويَّة في القرآن (المائدة 27-32) يكمن مغزى فلسفي عميق عن كيفية مواجهة المشكلات الخطيرة، وعن كيفية إيجاد الحلول لهذه المشكلات الإنسانية في أثناء احتدام الصراع البشري. فدعنا نتأمل بداية القصة كما جاءت في القرآن ابتغاء مزيد من الفهم: "واتلُ عليهم نبأ ابنَيْ آدم بالحق إذ قرَّبا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يُتَقبَّل من الآخر قال لأقتلنَّك قال إنما يتقبل الله من المتَّقين" (27).

ملاحظتي الأولى المستنتَجة من هذه القصة أن القرآن يستخدم أساليب قريبة من الفهم الإنساني. فهو يستخدم هنا القصة القصيرة، وفي أمكنة أخرى القصة الطويلة (كما هي الحال في سورة يوسف)، وأحياناً المثل؛ وباستخدامه القصة فإنه ينزل إلى الواقع ويستخلص منه ما يريد. ونظراً لأن الصراع البشري له مسبِّباته ونتائجه التي تحكمه فإن النزول إلى "الواقع" لأخذ العيِّنة منه ثم نقلها إلى معمل التاريخ له ما يبرِّره تماماً، بل يشكل الطريق السليم لمعرفة مصدر الصراعات.

 "الواقع" أكبر من النصوص لأنه يشكل المصدر الذي يراه البشر جميعاً، ولأن الواقع هو النصُّ مجسداً؛ في حين أن النصوص تتعلق بالخلفية الثقافية التي يحملها البشر، والتي بموجبها يفهمون النصوص ويتعاملون بها، ويختلفون، بل ويتنازعون، بل ويفتك بعضهم ببعض من أجل خلافات في وجهات النظر ("لأقتلنَّك") وهم يواجهون النصوص. وما حرب الخليج الأخيرة إلا نموذج لعجز النصوص عن حلِّ المشكلات؛ إذ عُقِدَت المؤتمرات الإسلامية لدى طرفي الصراع المتنازعين، واستُخدِمَت النصوص لدعم موقف كل فريق: "وكل حزب بما لديهم فرحون" (الروم 32). لكن الذي حلَّ المشكلة في النهاية هو طرف خارجي؛ ولم يكن حلُّها بالاستناد إلى النصوص ولا بالرجوع إليها.

لماذا نذهب بعيداً؟ فلنتذكر معركة صفين القديمة، حيث رُفِعَت المصاحف على رؤوس الرماح ادعاءً للرغبة في الاحتكام إلى النصوص، وحُلَّتْ بدون تدخل "فريق خارجي"، ولم يكن الطرف الذي طلب الاحتكام إلى النصوص بأنزه الطرفين ولا أتقاهما! ويعلِّمنا التاريخ أن الاحتكام القديم إلى النصوص لم يحل المشكلة، إن لم يكن قد زادها تعقيداً.

وفي الحرب العراقية–الإيرانية تم توظيف الدين سياسياً مرة أخرى، حيث اعتبر العراق أنها معركة القادسية، في الوقت الذي اعتبرها فيه الإيرانيون معركة كربلاء. ومات في معركة القادسية–كربلاء رقم 5 هذه قرابة 65000 إنسان، منهم 45000 إيراني و20000 عراقي، أي ما يعادل عدد سكان مدينة متوسطة الحجم؛ كما مات مئات الألوف من الإيرانيين وهم يقاتلون "الطاغوت يزيد العصر". وسوف تتكرر معارك صفين أخرى في أماكن أخرى ما دمنا ندفع ثمن "نعال الجمال": يروى أن وصياً على غلام كان يعرض حساباته السنوية، ويذكر فيها بعض المصاريف في شراء نعال للجمال (كذا!). ولما تعجب الغلام في إحدى السنوات قائلاً: "ولكن، يا عمَّاه، ما أعرفه أن الجمال لا توضع لها نعال!" أجابه الوصيُّ: "بدأت تفهم، وبإمكانك التصرف في ثروتك الآن. فلقد رشدت."

وفي الحقيقة أن تجسيد النص على الأرض هو "الواقع"؛ أي أن "النص" و"الواقع" يشكلان معادلة أشبه بمعادلة علاقة الطاقة بالمادة. غير أن "المصدر" هو دوماً الواقع؛ في حين أن النص هو محاولة تعبير عن لغة الواقع. وحول هذه النقطة يحصل الخلاف البشري، أي حول "تفسير" الواقع. وإلا فإن جميع البشر يرون الشمس والقمر والسحاب، كما يرون تساقط المياه وتبخر الماء وذوبان الشمع وانفجار البارود وتمدد المعادن، كما يرون الخلية ونمو الشجر وولادة الأشياء وظاهرة الموت.

هذه النقطة هي رمز الإنسان، من جهة، كما هي رمز عذابه ومعاناته: "لقد خلقنا الإنسان في كبد" (البلد 4). جدلية الإنسان، إذن، هي في كونه يختلف مع أخيه الإنسان على تفسير الواقع. إلا أن صورة الاختلاف إما أن تكون رحمة ومصدر نمو واقتراب متواصل من الحقيقة النسبية، وإما أن تتحول إلى مصدر صراع ضارٍّ يتردَّى إلى مستوى سفك الدماء وتصفية الآخر، كما هي الحال في القصة التي بين أيدينا.

كذلك نرى في الحديث قصة تنحو هذا المنحى، أي إبراز أهمية الواقع كمصدر للفهم. جاء هذا في حديث ابن لبيد حينما ذكر رسول الله (ص) أمراً فقال: "وذلك في زمان ذهاب العلم." فلما سأله الصحابي: "وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، وسنُقرِئ أبناءنا القرآن، وأبناؤنا سيُقرِئون أبناءهم القرآن؟!" لم يكن جواب الرسول (ص) "قال الله تعالى: ..."، كما أنه لم يقل: "أتكذِّبني وأنا رسول الله؟!" بل أخذ بيده إلى الواقع، فمنه الدليل: "أوليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء!"

الملاحظة الثانية: الإشارة إلى ابنَيْ آدم لا تعني بالضرورة أولاداً معيَّنين تاريخياً، كما ذهب إلى ذلك العهد القديم تحت اسمين بعينهما هما قابيل وهابيل. فابنا آدم هما رمز لبني الإنسان وصراعاتهم. وقد اهتم القرآن بتتبُّع أشكال الصراع البشري منذ بداية فجر التاريخ البشري.

وهذا الأسلوب، أي الترميز، والدخول إلى المطلق، وتفكيك الحدث وتركيبه، ثم استخلاص القانون الذي يحكمه، أو إبراز العِبرة التي تعني، بعبارة أخرى، مدى أية تجربة إنسانية أو جدواها – هذا الأسلوب، نقول، مكرر في القرآن. فحيثما تتابعت الأحداث المثيرة أو القصص ذات الدلالات العميقة نرى الترميز القرآني ينحو إلى أن يتجاوز الحادثة من حيث علائقها التاريخية ليدخل بها إلى عالم المطلق، فيحذف الشخص والزمان والمكان ليؤكد على القانون الذي يحكم الحادثة.

تأمل معي نموذجين: الأول لحادثة فردية، والثاني لكارثة جماعية. فأما الحادثة الفردية فهي قصة ذلك الذي تعرض للموت مئة عام هو وحماره؛ وأما الحادثة الثانية فهي تلك الألوف المؤلَّفة التي تعرضت للموت الجماعي، ثم كتب الله لها الحياة بصورة من الصور. دعنا نتأمل النص القرآني: "أو كالذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها" (البقرة 259): "أو كالذي..." – من هو؟ لا نعرف؛ لقد حُذِفَ اسمه وشخصيته. "مرَّ على..." – متى مر؟ لا نعرف؛ كل ما نعرف أنه مرَّ في وقت ما. "على قرية..." – ما اسم هذه القرية؟ أين مكانها الجغرافي؟ ومتى عمرت هذه القرية؟ ثم ما الذي أسلمها إلى الخراب؟ لا نعرف عن هذا شيئاً البتة. والقرآن يقصد من ذلك أن يأتي إلى الحدث التاريخي، فيدخل في تضاعيفه، ثم يبدأ في تفكيكه وقطع علائقه التاريخية ليعود به إلى المطلق، أي الحدث السُّنَنِي التاريخي. هذا الأسلوب يتكرر في أكثر من موضع، بحيث يُكسِب القرآن طريقة منهجية خاصة به في بناء العقل الإنساني، من خلال فهم الوجود على أنه سُنَنٌ مسيطرة على الوجود، بما فيها الوجود النفسي والاجتماعي والتاريخي.

انظر مرة أخرى إلى نماذج مشابهة من مثل: "ألم ترَ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم" (البقرة 243) نحن لا نعرف من هم؛ نحن لا نعرف متى خرجوا؛ نحن لا نعرف، للمرة الثالثة، أين كانت ديارهم؛ فضلاً عن ملابسات خروجهم وموقعها على الخريطة التاريخية. القرآن يشير فقط إلى مجموعات هائلة من الناس، تُقدَّر بالألوف، فارَّة على وجهها لا تلوي على شيء من جراء كارثة أحاطت بها. هل كانت زلزالاً؟ هل كانت جائحة مرضية، من نحو الطاعون الذي كان يفاجئ المدن والحضارات بين الحين والآخر؟ هل كانت غزواً عسكرياً بربرياً من الأنواع التي نسمع بها كطوفان التتار مثلاً؟ أو الصرب وفظاعاتهم، من نحو ما حدث في البوسنة، بحيث فرَّ أمامهم الألوف، بل الملايين؟

هناك طريقة يلجأ إليها بائعو الحبوب بالجملة. فعندما تريد بيع كيس من الحنطة لا يُشترَط أن تفتح الكيس كلَّه وتدلقه في الأرض ليراه حبة حبة؛ فهي طريقة غير عملية. لذا يحتفظ التجار في جيوبهم بما يسمونه "القلم"، وهو قمع معدني بطول الكف، يضرب به التاجر الكيس الذي يريده ويأخذ عيِّنة بمقدار الكف لعرضه للبيع. كذلك القرآن، حين يريد عرض نماذج تاريخية، يكفي أن يعمد إلى قبضة من التاريخ ليعرضها على الفهم الإنساني. ولذلك لا يدخل القرآن في التفاصيل التاريخية الدقيقة، من نحو الاسم والمكان والزمان؛ إذ ما فائدة الاسم؟ إن اسم أحمد أو بدر من الحضارة الإسلامية، أو جاك وجورج من الحضارة المسيحية، أو كيم وهونغ وشن من الحضارة البوذية، أو رحبعام أو مردخاي من الوسط اليهودي، إلخ – هذه الأسماء تكرِّر نفسها، ولكن في حوادث مختلفة. هذا ينطبق أيضاً على المكان والزمان، حيث تتكرر الآلية نفسها، أي ميكانيزم التاريخ. لذا كان حرص القرآن كبيراً على استخلاص القانون العام الذي يحكم الحوادث المتفرقة.

من الملفت للنظر حقاً أنه، في مقابل هذا الاتجاه الذي ينتهجه القرآن، أي ما يمكن أن نسميه "منهجية سيطرة السنن"، قام بعض المسلمين ببناء اتجاه مختلف عنه، حيث عمد بعض المفسِّرين إلى اعتماد عكسه تماماً. إن لهذا نتائجه الخطيرة على العقل، لأنه يعني أن كتاباً عظيماً مثل القرآن، الذي هو عند المسلمين المصدر اليقيني، لأن مصدره المطلق (الله)، سوف يصبح حسرة على المسلمين، لأنهم سيفهمون منه عكس ما يريده منهم. لذا فإن القرآن يصف بعض من يسمع القرآن بقوله: "وهو عليهم عمى" (فصلت 44).

نعرض الآن لنموذج من هذا الفكر المعكوس، المنكَّس، والمقلوب على عقبيه، فنتناول قصة أصحاب الكهف (الكهف 9-26). فالقرآن تعمَّد ألا يذكر أسماءهم، ولا مكانهم، ولا الوقت التاريخي للحدث العجيب الذي حدث معهم، بنفس الوقت الذي يمطط فيه إمكانية الفهم الإنساني ليرى أبعاداً جديدة في إمكانيات جديدة، من أمثال بقاء الإنسان على قيد الحياة في حالة ما تشبه السبات الشتوي لمدة تزيد عن ثلاثة قرون. حاول المفسِّرون معرفة اسم المكان وأسماء الفتية وعجزوا عن ذلك؛ لا بل إنهم تنطَّحوا لمعرفة لون الكلب وطول ذنبه وشكله![1]

أضيف هنا أنني اكتشفت في أحد الأيام في كتب التفسير هذه الملاحظة على كلمة "سياحة". ففي سورة التوبة توجد هذه الكلمة في الآية 112: "التائبون العابدون الحامدون السائحون..."؛ وهي تخص الذكور، كما ترى. إلا أن كلمة "سياحة" ترد في مكان آخر، ولكنها هذه المرة تخص الإناث: "عسى ربه إن طلقكنَّ... قانتات تائبات عابدات سائحات..." (التحريم 5) ولفظة "سياحة" معروفة؛ إلا أن المفسرين وقفوا متردِّدين أمام هذه الصفة التفضيلية لنوع من النساء أراد الله أن يكرم نبيَّه به. هذه الميزة الجديدة لنوع من النساء تتحرك وتسيح في الأرض، كيف يمكن تفسيرها؟ لقد خرج المفسِّر القديم بأنها "الصيام"! فقلت: يا سبحان الله! نفس الكلمة تنقلب، بسحر ساحر، من معنى "السياحة" إلى معنى "الصوم"؟ وحده شذَّ عن هذا التفسير المفسِّر المحدِّث نسبياً القاسمي، حيث جاء في تفسيره تحت "تنبيه": "ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد من "سائحات" صائمات أو مهاجرات. وقد قدَّمنا في سورة التوبة في تفسير "السائحون" أن الحق فيه هو المعنى الحقيقي، لعدم ما يمنع منه – ولا يصار إلى المجاز إلا لمانع –؛ ولذا قال بعض المحقِّقين: إنه يُستفاد من هذه الآية مشروعية السياحة للنساء كما هي كذلك للرجال. فمعنى قوله تعالى "سائحات" مسافرات، سواء كان لهجرة أو اعتبار أو اطلاع على آثار الأمم البائدة...". ثم أضاف: "كأن الذي دعا البعض لتفسير الـ"سائحات" بالصائمات، أو بخصوص المهاجرات، تصوُّره أن السياحة في البلاد لا تناسب طبيعة النساء المأمورات بالحجاب، وكأنه يفهم من الحجاب أنه الحبس المؤبد، أو كأن الهواء نعمة مخصوصة بغير النساء، أو كأنهن لم يخلق لهن من هذه الدنيا الرحيبة سوى بيت واحد."[2]

كل هذا إن دل على شيء فهو يدل على العقلية والثقافة التي كانت تتعامل مع النصوص. لذا لا غرابة إن رأينا أن ابن كثير استهوتْه كثيراً قصة "هاروت وماروت"، فكتب فيها عشر صفحات؛ في حين أن سيد قطب استهوتْه فكرة الحاكمية – "اجعلني على خزائن الأرض" (يوسف 55) – فكتب فيها قريباً من ذلك. وهكذا كُتِبَت السيرة أيضاً، حيث سُجِّلَت أحداثها الكرونولوجية وكأنها مسلسل متتابع من الغزوات والسريَّات؛ وكأن الرسول (ص) كان لا ينام إلا على غزوة، ولا يستيقظ إلا على معركة (المصطلق، قرد، ذات الرقاع، مؤتة، خيبر، إلخ). كما كُتِبَت أيضاً مضمَّخةً بعبق الأجواء السحرية؛ فكلها أيضاً سلسلة من "المعجزات" – مع أن القرآن رسم منهجيَّته الخاصة على أساس تجنب المعجزات لأن الكون يقوم على السُّنَن، وهو بصدد إرساء وترسيخ العقل المنهجي.

تأمل هذه الآيات – ونظيراتها العشرات من الآيات المتفرقة في القرآن – على نفس الطريقة: "وقالوا لن نؤمن لك – حتى ماذا؟ - حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا..." (الإسراء 90-92)، إلى آخر الطلبات الصبيانية بفتح بئر ارتوازي، أو حديقة لشرب "الأركيلة"، أو إدخال الخلل إلى النظام الكوني في صورة هدم السموات، أو أن يأتي الله مع الملائكة فيما يشبه الاستعراض العسكري، كي يقف أهل قريش أمام هذا المنظر الخلاب... وبعدها يفكرون في إمكانية منح محمد (ص) الثقة على كلامه – والثقة هي في الأصل من داخل كلامه وليست من خارجه. وهذا هو السر في أن الإسلام لم يعتمد مبدأ المعجزة في حوار الإنسان، كما يصر أتباع "شهود يهوه" في هذه الأيام!

جاء في كتاب الفيلسوف محمد إقبال تجديد التفكير الديني تحت فصل "روح الثقافة الإسلامية" ما يلي: "إن الإنسان، لكي يحصِّل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترَك ليعتمد في النهاية على وسائله هو. إن إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، ومناشدة القرآن للعقل وللتجربة على الدوام، وإصراره على النظر في الكون والوقوف على أخبار الأوَّلين من مصادر المعرفة الإنسانية... كل ذلك صور مختلفة لفكرة ختم النبوة. وفي الحق أن الطريقة التي استعمل بها القرآن لفظ "الوحي" تبيِّن أنه يعتبر الوحي صفة عامة من صفات الوجود، وإن كانت حقيقته وطبيعته تختلفان باختلاف مراحل التدرج والتطور في الوجود. وفي طفولة البشرية تتطور القوة الروحانية إلى ما أسمِّيه "الوعي النبوي"، وهو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي والاختيار الشخصي، وذلك بتزويد الناس بأحكام واختيارات وأساليب للعمل أُعِدَّت من قبل. ولكن الوجود أخذ بمولد العقل وظهور ملكة النقد والتمحيص طريقاً آخر، فتنكَّبت الحياة – رعايةً لمصالحها – التكوين والنمو لأحوال المعرفة التي لا تعتمد على العقل، والتي فاضت القوى الروحانية خلالها في مرحلة مبكرة من مراحل تطور الإنسانية. أما العقل الاستدلالي – وهو وحده الذي يجعل الإنسان سيداً لبيئته – فأمر كسبي. فإذا حصَّلناه مرة وجب أن نثبِّت دعائمه ونشدَّ من أزره، وذلك بكبت أساليب المعرفة التي لا تعتمد عليه. فإذا نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية وجدنا أن نبي الإسلام (ص) يبدو أنه يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث. فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها. فللحياة في نظره مصادر أخرى للمعرفة تلائم اتجاهها الجديد. ورياضة الباطن ليست إلا مصدراً واحداً من مصادر العلم. فالقرآن يصرِّح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ. وروح الإسلام تتجلَّى على أحسن صورها في فتح طريق البحث في هذين المصدرين... ومولد الإسلام بذلك هو مولد العقل الاستدلالي."

ونظراً لأن القرآن لم ينزل لجماعة بعينها، فقد ارتفع ذكر الحدث عن مستوى وواقع جماعة بعينها ليرتبط بالقانون العام الذي يحرِّك الجماعات الإنسانية. وبالطبع فإن فهماً كهذا يعني اتِّقاد العقل وحركته لفهم مغزى هذه القصص. إلا أن بعض المفسِّرين أراد، على غير ذلك، أن يسلخ الحدث القرآني عن حركته – أي كما يحدث أثناء تشغيل الفيلم أن تقف أمام صورة بعينها. وبالطبع فإن صورة بعينها لن تمنحك فهم الحدث ما لم تعرف ما قبلها وما بعدها، أي تحوز على الرؤية الشاملة ما أمكن للحدث التاريخي ولآلية نظم هذه الحادثة – أي لميكانيزم التاريخ.

إن رؤية فيلم تعطي فهماً مختلفاً عنه لدى رؤية صورة مفردة ساكنة، منتزَعة من سياق الحركة التاريخية، مهما كانت جميلة أو مرعبة أو مريعة، كما هي في صورة البوسنة، على سبيل المثال؛ وذلك لأن فيلم البوسنة لم يبدأ عام 1992، بل عام 1389 م، حيث إن أهل الصرب احتفلوا عام 1989 بمناسبة مرور 600 عام على معركة أمسل فيلد في منطقة كوسوفا التي تسكنها غالبية ألبانية.[3]

إن كل حدث يَتَمَوْضَع في علاقة جدلية ضمن سلسلة الأحداث؛ فهو نتيجة لما قبله بنفس الوقت الذي هو سبب لما سيأتي بعده. لا توجد ثمة حادثة واقفة في الهواء وحدها، كما لا توجد صخرة ليس لها مكان في تشكيل الجبل العظيم، لأنها تحمل الصخرة التي فوقها وتقف على الصخرة التي تحتها. ونحن حين نقف على أقدامنا فهي تحمل جسدنا، ولكن الأرض التي تحتها تحمل هذه الأقدام بدورها. وهكذا تترابط علاقات الحياة.

لذا جاء في الحديث النبوي الشريف أن "مَن سَنَّ سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سَنَّ سُنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة." يشير هذا الحديث إلى جريمة ابن آدم الأول. فمع أن المبدأ القرآني ينص على أن "لا تزر وازرة وزر أخرى" (الإسراء 15، على سبيل المثال)، وأن الإنسان لا يُسأل إلا عما باشر وفعل، إلا أن الأثر غير المباشر يقع بانتقال هذه الفكرة للبشر الآخرين؛ ذلك أن عدوى الأفكار قائمة مثل عدوى الجراثيم. ولقد اعتبر المفكر الجزائري مالك بن نبي أن الأفكار هي بمثابة الجراثيم الاجتماعية؛ فإذا كانت البيولوجيا والأمراض تعمل بآلية انتقال الجراثيم فإن الأمراض الاجتماعية تنتقل بواسطة الأفكار التي هي النموذج الجديد للجراثيم النوعية. وكما أن البيولوجيا فيها الجراثيم التي لا غنى عنها لتوازن الوسط الحيوي، كذلك فيها الجراثيم المُمْرِضة التي تفتك. وهذا تمثيل للجراثيم الموجبة والسالبة.

إذن، في ضوء فكرة من هذا النوع، يمكن فهم آيات صراع ابنَي آدم، التي هي تصوير للصراع البشري الأولي التي مازالت تكرر نفسها في صور شتى، سواء في صورة صراع شخصين ينتسبان لنفس المهنة، أو في صور الحروب الرهيبة بين الدول؛ وذلك لأن صورة الصراع الأولي البسيطة هي بذرة الصراع المروِّع الأخير.

إن هذه الآيات التي سلَّطنا الضوء عليها تُعتبَر من آخر ما نزل من القرآن. ومن الغريب أنه لم يسلَّط الضوءُ عليها كي تُفهَم في ضوء الصورة العامة، "البانورامية"، لنظرة القرآن للمشكلات وكيفية حلها. لذا وجب أن توضع هذه الآية أساساً لطريقة مبتكرة جديدة لحلِّ المشكلات؛ وهي طريقة مفتوحة عبر التاريخ يستطيع البشر استخدامها أو الوصول إلى مستواها من خلال التربية؛ وهي مفتاح لحلِّ مشكلات النزاعات البشرية، لو أمكن تطبيقها من خلال عدة مبادئ متفرعة عن المبدأ الرئيسي.

أ‌.       المبدأ الأول: يستمر الصراع إلى مداه الأقصى ما دام الطرفان مصمِّمين على النزاع؛ لأن النزاع يتطلب طرفين مصمِّمين، بينما يتوقف النزاع حينما يتنازل أحد الطرفين عنه، لأنه لا يُعقَل أن يتصارع الفرد مع نفسه.

ب‌.  المبدأ الثاني: يتم إيقاف الصراع بالتخلِّي عن القوة من طرف واحد.

ت‌.  المبدأ الثالث: لا يعني التنازل عن القوة من طرف واحد أن يتراجع الطرفُ الذي يرى الحقَّ في جانبه، بل يحاور الطرف الآخر ويتحمَّل أذاه. المهم هو عدم الردِّ على الأذى بالأذى، بل الثبات حتى الموت من أجل الفكرة. وهذا هو مفهوم "الشهادة".

وبالطبع، فإن تربية من هذا النوع في العالم العربي لم تتشكل بعد؛ ناهيك عن الانطلاق في تنفيذها الميداني.

لا يعبأ القرآن في هذه القصة بنوعية القربان، أي "الشيء" الذي نشب حوله الصراع لأن له صوراً لا تنتهي؛ إنما يكتفي النص بالإشارة إلى أنه "قربان" تمَّ قبولُه من الأول ورُفِضَ من الثاني. مرة أخرى، نلاحظ في القصة عدم التعرض للاسم وللمكان وللزمان إلخ. ومع أن الأول لم يسئ مباشرة إلى الثاني إلا أن الثاني اعترض على النتيجة التي حدثت. الآن، كيف يرى كل طرف أن معه الحق؟ الأول بدليل نجاحه وقبول قربانه؛ والثاني يرى أيضاً أن الحق معه لأن "الانتخابات مزوَّرة"! وإذا كان كل طرف يرى أنه صاحب الحق المطلق فكيف تُحَلُّ المشكلة إذن؟!

الطرف الثاني الخاسر في الانتخابات، الذي يعتقد أنها كانت مزوَّرة، يرى أن حلَّ المشكلة هو في التصفية الجسدية للطرف الآخر (انظر تعبير "لأقتلنَّك"). هذا الأسلوب، أي الصراع الدموي، هو أشد ما ابتُلِيَت به الإنسانية منذ أن وعى الإنسان وجوده. بل إن بعض الفلاسفة يرون في هذا المرض جرثومة إبادة الدول، وانحطاط القوى العظمى، وانهيار الحضارات.[4] ومن الغريب أن ظاهرة الحرب هذه، التي هي أبشع من كل مرض وأشد من كل داء والتي قضت على البشر أكثر من كل الأمراض التي عرفتها وما تزال تعرفها البشرية حتى الآن، لم تُدرَس حتى الآن في أكاديمية مستقلة كظاهرة إنسانية، كما هي الحال في دراسة الأمراض المستوطنة والسارية! ثم إن لفظة "لأقتلنَّك" تشير إلى تصعيد الصراع البشري من مستوى الخلاف في الآراء والمصالح إلى القتال والتصفية الجسدية، أي إلغاء الطرف الآخر. وهذا الأسلوب هو المعاكس تماماً للحوار، الذي هو محاولة حلِّ المشكلة بين الطرفين الإنسانيين بدون أن يُحذَف أي منهما.

هذا الحذف يعتمد طبعاً إلغاء جدلية الوجود كلِّها، بحيث يمكن نقل هذا الإلغاء، أو هذه الجدلية، من مستوى فرد–فرد إلى مستوى فرد–أمة، حين يلغي الفردُ إرادةَ الأمة من خلال النظام الفردي؛ إذ إن الأنظمة الديكتاتورية تعتمد إلغاء إرادة الأمة، وهي ثمرة خبيثة من الشجرة الخبيثة الأولى الضاربة جذورها في الكلمة الخبيثة "لأقتلنَّك": "ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار" (إبراهيم 26). الملفت للنظر هنا هو أن الآية القرآنية قارنت بين "الكلمة الطيبة" و"الشجرة الطيبة"، وبين "الكلمة الخبيثة" و"الشجرة الخبيثة"، بمعنى أن الكلمة الطيبة تنمو، كما أن الكلمة الخبيثة تنمو. وكما أن الكلمة الطيبة تبلغ في نموِّها قامة شجرة زاهية باسقة، فإن الكلمة الخبيثة، هي الأخرى، تنمو حتى تصير شجرة. إذن، فمن طبيعة الكون، على ما يبدو، أن الفساد ينمو أيضاً ويكبر ويضخم ويقوى؛ وهو ما نشهده بالفعل في الحياة اليومية في صور شتى. إلا أن هناك، بنفس الوقت، آلية خاصة – ميكانيزماً خاصاً – في الطبيعة تعتمد على تفتيت الباطل والضارِّ والسيئ وهدمه؛ وهو قانون في الطاقة والمادة والروح، في الطبيعة والتاريخ والبنية النفسية والكيان الاجتماعي: "فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" (الرعد 17)؛ "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق" (الأنبياء 18).

إن أكبر دليل على سلبية الحقد والحسد والكراهية تأثيراتها البيولوجية. ونتساءل بهذا الصدد: هل الغضب مفيد بيولوجياً؟ فلنقارن تأثيراته مع تأثيرات الحب الذي هو أسرع بريد في نقل المعلومات. إن الأول يفرز من الناحية البيولوجية السموم؛ في حين تنتشر السعادة مع بدء عمل الثاني. لذا فإن أسلوب "لأقتلنَّك" هو إلغاء الطرف الآخر بإلغاء الحوار وإمكانية التفاهم والالتقاء في مكان ما من طريق الحوار.

وبالطبع فإن هناك عقليَّتين متباينتين خلف كل من الكلمتين: "لأقتلنَّك" في طرف؛ و"ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك" في الطرف الآخر. فعقلية "لأقتلنَّك" هي تلك العقلية الدوغمائية الوثوقية إلى درجة اليقين المرعب؛ إنها العقلية الواقعة تحت تأثير الاعتقاد الجامد بأنها امتلكت الحقيقة المطلقة. وهذه سمة بارزة في أصحاب الاتجاهات المتطرفة، أياً كانت ساحتها، دينية، أم قومية، علمانية، أو حزبية. في حين أن العقلية الثانية ترى أن هناك هامشاً للخطأ والصواب. وهذا التحليل تترتب عليه نتائج خطيرة وعظيمة للغاية. فما دامت العقلية الثانية تقرُّ بوجود هامش للخطأ والصواب في الفكر الذي تحمله فإنها تميل إلى المراجعة والنقد الذاتي، فتفتح، بالتالي، المجال للنمو والنضج وتصحيح الأخطاء؛ في حين أن العقلية الأولى تترتب عليها نتائج مخالفة تماماً ومريعة جداً؛ فما دامت تمتلك الحقيقة النهائية، فهذا يعني، بشكل آلي، أنه ليس هناك هامش للخطأ، بل هي، باعتقادها، على صواب دائماً؛ وبالتالي، لا حاجة للمراجعة؛ وبالتالي، لا نمو ولا نضج، أي لا حياة. بذلك يُستلُّ نور الحياة تدريجياً من هذه العقلية، فتنتقل، بالتالي، إلى مرحلة يتوقف فيها نبض الحياة. ومحصِّلة هذه السيرورة هي التجمد والتحجُّر والتحول إلى كائنات محنَّطة في متحف الحياة المتحرك.

إن الله الذي خلق الطرفين، وأنعم بالوجود على جانبي الخلاف والصراع، لم يُلغِ طرفاً على حساب طرف، بل منح الوجود للطرفين. إلا أن طرف "لأقتلنَّك" لا يرضى بهذا، بل يعمد إلى إلغاء الطرف الآخر! فإذا قال الطرف الأول: "إن الله أوجَدَني ومنحني نعمة المشاركة"، يكون جواب الطرف الأول العملي: "نعم إن الله منحك الوجود؛ لكني أكبر منك وأقوى، ولذلك سوف ألغيك!" – "إنْ في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه" (غافر 56).

من الناحية العملية، تفضي العقليتان إما إلى مجتمع مزدهر، أو إلى حرب أهلية مبطَّنة أو قائمة. فحين تترك العقلية الثانية المجال لهامش من الخطأ، وبالتالي للمراجعة وللنقد الذاتي، فإنها تؤسِّس للتسامح مع الطرف الآخر، بل لاحترامه، بل لطلبه وحمايته؛ إذ إنه، بمجادلة الطرف الآخر، يميل الطرف الأول إلى التصحيح، وتقويم الأخطاء. لذا فإن الطرف الثاني يصبح ضرورياً، ليس فقط للفرملة والتوازن، بل لصحة الأول ودوام استقامته ونضجه. من هنا كان على الطرف الأول احترامُ وجود الطرف الثاني؛ بل السعي لإيجاده إن لم يكن موجوداً، وليس إلغاؤه إن كان موجوداً!

الفارق كبير، إذن، بين العقليَّتين: العقلية الثانية تفسح المجال للأخطاء، للنقد المضادِّ، للمراجعة الذاتية، للتسامح مع الطرف الآخر، لاحترامه لما فيه من خير عميم؛ بينما العقلية الأولى تلغيه إن كان موجوداً. فكأن الثاني يوجِد مَلغِياً، والأول يلغي موجوداً. هذا هو الفارق بين العقليَّتين؛ وهو، بالتالي، الفارق بين الحياة والموت. فلا يستويان: "وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات" (19-22).

هنا تبرز نقطة مثيرة وعجيبة في فهم "الجهاد"، تتولد من هاتين العقليَّتين في فهم كيفية حل المشكلات: العقلية الأولى ترى أن الجهاد هو حَمْل الطرف الآخر على الاستسلام لرأيك وعقيدتك ودينك؛ في حين ترى العقلية الثانية أن غاية الجهاد هي حماية الطرف الآخر ليعبِّر عن رأيه، ولو خالفك؛ وهو المبدأ الذي وصلت أوروبا إلى تنسُّم أجوائه بشكل جزئي وعنصري ومتأخر بعد معاناة رهيبة؛ وهو الذي طُرِح منذ أيام فولتير في مقالته المعروفة اسحقوا العار.

بعبارة أخرى، فإن الجهاد لم يُشرَّع لإزالة الكفر بل لدفع الظلم: "أُذن للَّذين يُقاتِلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير" (الحج 39). وهذا المفهوم يتماشى مع روح القرآن الذي يرفع مبدأين هامين يُعتبَران انعطافاً نوعياً في تاريخ الفكر الإنساني. وهذا ما انتبه إليه المؤرخ البريطاني توينبي حين أشار إلى أن الإسلام كان المبدأ الوحيد في تاريخ العصور الوسطى الذي سمح للمخالِف بالبقاء على قيد الحياة مع الاحتفاظ بدينه.

هذان المبدآن هما: حرية العقيدة تحت شعار الآية: "لا إكراه في الدين" (البقرة 256)؛ وحماية هذه الحرية من خلال وسائل، أهمها إمكانية استخدام القوة المسلَّحة لحماية الناس من الفتنة: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" (البقرة 193، الأنفال 39). أي إن الإسلام يجاهد من أجل أن يسمح للطرف الآخر الذي لا يؤمن به بالبقاء، بل يعمل على المحافظة عليه، لا بل على حمايته، من أجل أن يعبِّر عن رأيه، حتى لو كان معارضاً للإسلام.

هذا المفهوم الذي جاء به الإسلام مفهوم انقلابي في تاريخ الفكر الإنساني، أو على الأقل ما تفهمه شريحة من المفكِّرين أشاطرهم الرأي فيه. وعندما أناقش شرائح المفكرين، ومنهم بالطبع ممثلين عن الاتجاهات الإسلامية، أرى أن هذه النقطة لم تتوضح عندهم بعد، وأرى أن توضيح هذه النقطة على غاية الأهمية لأنها – وبموجبها – سوف ترسى قاعدة العمل السياسي، بل والحضاري، في العالم العربي. فهذا المفهوم سوف يقودنا بشكل آلي إلى التعددية السياسية، لأن الكون يقوم على الاختلاف والتعددية. وهذه الفكرة هي على النقيض من فكرة عدم السماح لأصحاب الأفكار بالتعبير عن أفكارهم، ناهيك عن تصفيتهم جسدياً، كما جاء في بعض المؤلفات الإسلامية المعاصرة بدعوى أنهم مرتدُّون.

لقد آن الأوان لنعرف أن الإسلام لا خوف عليه. فإذا كان الإسلام سوف يختفي بمجرد السماح للأفكار الأخرى بالتعبير فلن يجدي هذا الدفاع الهزيل عنه! ثم إننا لم نستوعب التاريخ حقاً حتى الآن. إذ إن الإسلام ساد وانتشر بدون دوله السياسية؛ في حين أن الشيوعية انهارت وأصبحت في ذمة التاريخ وهي في ظل حماية أعظم دولة مسلَّحة في تاريخ الجنس البشري. وبكل أسف فإن التجربة الديموقراطية في الجزائر أُجهِضَت بسبب عدم وضوح هذه النقطة أيضاً. فإلغاء نتائج الانتخابات جاء نتيجة التخوُّف من أن القوى الإسلامية، في حال وصولها إلى الحكم، سوف تقيم دولة غير ديموقراطية؛ فكان على القوى الإسلامية أن تكون واضحة إلى حد البَلْوَرَة في هذه النقطة، وهي أن باستطاعة الأمة – بالديموقراطية – أن تقيل الإسلاميين من السلطة كما جاءت بهم. بالطبع هناك شرائح ليست قليلة من الإسلاميين – ومنهم القياديون – لا ترى أية جدوى من تداول السلطة السِّلمي، كما يحدث اليوم في أعظم دولة على وجه الأرض، كما حدث بين بوش وكلينتون ومن قبلهم وبعدهم؛ وهي، إن قالت به، فعن غير قناعة، أو على أحسن التقديرات، في فترة ما قبل الوصول إلى الحكم وحسب.

ويتفرع شيء خطير جداً من السياق الذي عرضناه في حرية الرأي والرأي المعارض، وهو أن الإنسان لا يُقتَل من أجل أفكاره وحسب، أياً كانت هذه الأفكار. وهذه مرحلة عاصرتها القرون الوسطى حينما أُحرِقَ جيوردانو برونو من أجل أفكاره، ولم يعرفها العالم الإسلامي، على الأقل بشكلها الحاد.[5]

نجد في التاريخ الإسلامي فكرة رائعة يمكن استنتاجها من الصدام الذي حدث بين الإمام علي والخوارج. فهو لم يرفع السلاح في وجههم، ولم يقاتلهم، ولم يقتلهم، إلا حين تجاوزوا حرية الكلمة إلى فرض الكلمة بقوة السلاح. لقد خالف الخوارج الإمام علياً (ع)، ثم ما لبثوا أن كفَّروه، فلم يفعل بهم شيئاً. لكنهم عندما انتقلوا إلى الخطوة التالية، وهي رفع السلاح واستباحة الدماء، جاهدهم. لقد استباحوا دم كل من يعارضهم الرأي، بمن فيهم دم الإمام علي نفسه، بل تآمروا على قتله، ثم قتلوه. وهناك نقطة أخرى مهمة جداً جديرة بالتأمل، وهي أن الإمام علياً (ع)، مع كل ما جرى له بسبب من الخوارج، بما فيه مصرعه على أيديهم، لم يعتبرهم كفاراً، بل من الكفر فرُّوا، ولم يعتبرهم منافقين، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وأولئك كانوا يذكرون الله كثيراً، بل جاءت الأحاديث بكثرة عبادتهم. من هنا كان رأي الإمام فيهم أنهم طلاب حق أخطأوا الطريق في الوصول إليه: "ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه."

من قصة الإمام علي نستنتج شيئاً آخر، وهو أن الجهاد منفصل تماماً عن مشكلة الصراع العقائدي؛ فهو وظيفة تُستخدَم لرفع الظلم من أجل إقامة العدل الذي قامت به السموات والأرض. ولو أن أمريكا تدخلت في البوسنة كما تدخلت ضد العراق من أجل إقامة العدل، لفُتِنَ المسلمون بها أيما فتنة. وهذا هو السر في جاذبية الإسلام قديماً وتعليل انتشاره؛ إذ إنه انتشر بروح العدل. إلا أن التجربة علَّمت بأن الغرب أشبه بمجتمع القراصنة على ظهر سفينة. فهم أقرب إلى العدل فيما بينهم؛ لكن كل من يطأ سفينتهم يعامل بقانون القراصنة. كان عندهم نظام تعويضات راقٍ: فمن خسر ذراعه عُوِّض عنها بـ500 قطعة ذهب؛ ومن فُقِئَتْ عينه عُوِّض عنها بمبلغ آخر؛ وإذا اختلف اثنان حُسِمَت المعركة بينهما على الشاطئ. ولكن القراصنة، كما نعلم، يجوبون البحار في شكل عصابات، يمزِّقون لحم الآخرين، يسطون على السفن، فيخطفون عباد الله ويسفكون دم الآخرين لأتفه الأسباب لاعتمادهم مبدأ الذراع القوي. فكانوا ينهبون المرافئ ويقترفون كل المحرَّمات بدون أن يهتز لهم رمش عين، كما فعل ويفعل النازيون هذه الأيام، سواء في صورة الألمان أو الصرب، ويستخدمون ما يحلو لهم ضد الآخرين، حسب ما يرونه الأقرب إلى مصلحتهم.

بذا فإن هذه الوظيفة – أي الجهاد – قد تُستخدَم ضد الظالم الكافر أو ضد الظالم المسلم؛ المهم أن يكون ظالماً وليس كافراً. وهذا ما فعل الإمام علي ضد الخوارج. والخوارج لم يكن اسمهم "خوارج"، بل حازوا هذا اللقب تاريخياً. أما هم فكانوا يسمون أنفسهم مجاهدين و"شراة"، أي باعوا أنفسهم في سبيل الله؛ في حين اعتبر المسلمون أن عملهم هذا ليس "جهاداً" بل خروج بسبب تبني القوة المسلحة لفرض آرائهم بالقوة؛ وهو ما وقعت فيه معظم الحركات الإسلامية في التاريخ المعاصر. لذا فالاتجاهات الإسلامية المعاصرة العنيفة هي، بكل أسف، "خوارج" العصر الحديث، لأنها ضلت طريقها مرتين: مرة في الهدف ومرة أخرى في الوسيلة؛ الأولى بالاعتقاد أن الوصول إلى الحكم يحل المشكلات كلها دفعة واحدة، ولم تعلم أن المشكلات تبدأ فعلاً بعد ذلك؛ والثانية في تبنِّي العنف وسيلة للتغيير.

هناك آيتان في القرآن، واحدة في سورة الرعد والأخرى في سورة الأعراف، تصبان في ترسيخ نفس المفهوم السابق من أن حلِّ المشكلة ليس في نزيحكم ونقعد محلكم، بل في تغيير القواعد التحتية التي سمحت للمرض بأن ينتشر. وإننا سوف نعيد أخطاء الآخرين، على أبشع منها، عندما تكون تحت "العباءة الإسلامية"؛ إذ إن وصول القوى الإسلامية إلى الحكم سوف يفرز ديكتاتورية جديدة، لا تختلف في مصادرة الحريات عن دكتاتوريات المنطقة في شيء.[6] ولا يظن الإسلاميون أن خصومهم كانوا أقل حرصاً على بناء مجتمع ديموقراطي حر؛ ولكن الرغبات الحارة والأماني الصادقة شيء، وثقل القوانين الموضوعية في التغيير الاجتماعي شيء آخر. تأمل الآية: "قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون" (الأعراف 128-129).

من هنا نشعر بعمق مأساة العالم العربي لأن الجهاز الحضاري لم يتشكل بعد. فلا الحكومات ترحِّب بالمعارضة، ناهيك عن إيجادها أصلاً؛ ولا المعارضة تدرك أن المشكلة ليست في الإطاحة بالأنظمة.

لقد أدرك عبد الرحمن الكواكبي الحلبي هذه النقطة بمنتهى البَلْوَرَة قبل أكثر من ثمانين عاماً، وسجَّلها في كتابه القيِّم طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد الذي رأى فيه أن الحل لا يكمن في تغيير الحكومات، بل دعا إلى المحافظة عليها، مع تعديلها الذي سيكون آلياً مع نمو المعارضة. إن السيارة تحتاج إلى "دعَّاسة بنزين" وفرامل معاً، وليس إلى نزع دعَّاسة البنزين ووضع أخرى محلها. ذلك أن "سيارات" العالم العربي كلَّها تمشي بدون فرامل، فتقود شعوبها إلى الكوارث!

إن ما نحتاجه هو تغيير إبستمولوجيا الفكر وليس الحكومات، لأن الأنظمة السياسية هي في النهاية إفراز عفوي للشعوب. وعدم الانتباه إلى هذه النقطة أوقع حركات التغيير السياسي والاجتماعي وشعوبها في مطبَّات لا نهاية لها. من هنا ندرك خطأ بعض الحركات الإسلامية في تشديدها على المناطحة السياسية، واستنفاد جهدها في عمل لم ولن يقود إلا إلى الكوارث. ومن هنا ندرك أيضاً عمق المعنى في الآية القرآنية بأن "الله لا يغير ما بقوم"، ليس حتى يغيروا حكامهم، بل "حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد 11).

تتعلق الملاحظة الأخرى بزيارتي لكندا في مطلع عام 1990، حيث قدمت محاضرة للشباب في الكلية الفرنسية للتكنولوجيا في مونتريال، وتحدثت عن ظاهرة العنف وتناولت قصة ابنَي آدم، فعقَّب أحدهم: "ولكن الذي مارس اللاعنف خسر في النهاية وقُتِل!" – "فطوَّعت له نفسُه قتل أخيه فقتله" (المائدة 30) هنا تدخل شاب ذكي أدرك أبعاد اللعبة الإنسانية واستوعب عمق القضية في النقاش، حيث انتبه إلى كلمتي "الخاسرين" و"النادمين" فيما يلي من سياق الآية. وهكذا استرسلنا في شرح موسَّع للظاهرة:

1.    لم يعتبر القرآن أن المقتول هو الخاسر، بل، على العكس، اعتبر أن القاتل هو الخاسر الأعظم، ولم يرَ أية خسارة للمقتول. وبذا تنقلب معايير الكسب والخسارة: "فطوَّعت له نفسُه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين" (30).

2.    دخلت القصة بعداً جديداً مع محاولة إخفاء آثار الجريمة، حيث أصيب القاتل بنوبة مريعة من تبكيت الضمير والندم على ما فعل. وهذا هو بيت القصيد، لأن تفاعُل الحدث الإنساني في داخله يصل إلى مداه المثالي، حتى مع موت أحد الأطراف – والأطراف كلها ميتة في كافة الأحوال: "إنك ميت وإنهم ميتون" (الزمر 30). ولكن الموت هنا على هذه الصورة هو الحياة الفعلية ودخول الخلود.

الندم هو أول الطريق إلى التوبة، والتوبة هي استيقاظ الضمير، واستيقاظ الضمير هو اعتراف بصحة موقف المقتول، أو تبني رأيه وإحياء أفكاره. فموت الأول واستشهاده هو السبب في إحياء ضمير الثاني، بل وتبنِّيه لأفكار الذي مات ودُفِن. ووري الأول الثرى وعاد الجسم إلى مصدره الترابي، ولكن الفكر الذي حمله انخلع من الزمان والمكان والجسم الترابي ليدخل عالم المطلق والخلود. لذا وَجَبَ على الفرد ألا ينظر إلى حياته الفردية الهزيلة القصيرة، بل إلى عمق أثر الأفكار عبر التاريخ. فالأفكار الخالدة تبقى حية على مر الزمن؛ الأفراد يموتون، والحبة، حتى تنبت، لا بدَّ من دفنها أولاً.

يجب أن يكرَّس الجهد لخلق وسط حضاري جديد في الأمة، بأن يحرص أحد الطرفين على التوقف عن الصراع الدموي وعن محاولة إلغاء الآخر، ولو من طرف واحد، لأن جوهر الصراع هو اصطدام إرادتين مصمِّمتين على خوض الصراع حتى نهايته، وتصفية الآخر، كما هي الحال في قصة ابنَي آدم. لذا يجب الإصرار على مبدأ الحوار، ولو رفض الطرف الآخر، وعلى عدم التراجع عن مبدأ المبادئ كلها – الحوار – لأنه بالحوار والثبات عليه، حتى الاستشهاد في سبيله، ينفتح الطريق لحلِّ مشكلة العنف.

إن كان هناك إصرار فليكن على التخلِّي – دفعة واحدة – عن العنف المسلح، لأن وجود هذه البذرة الخبيثة، ولو في عالم الأفكار، يقود في النهاية إلى النزاع المادي. فالحروب تنشأ أولاً في عقول الناس قبل وزارات الدفاع والثكنات العسكرية. كما ينبغي إعلان الرأي – ضمن شروطه المنتجة – مع تحمُّل تبعة إعلان الرأي ومسؤوليته، حتى لو كان في النهاية سيقود إلى الاستشهاد.

يبقى أن نشدد هنا أن هذا الطريق يحتاج إلى تدريب خاص. لكن هذا التدريب، في كافة الأحوال، أقل من تدريب الثكنات العسكرية؛ كما أنه أقل تكلفة في بلوغ أهدافه، بل ويفتح الطريق إلى تدريب الخصم على التوبة والرجوع إلى الصواب، إذ يدرك أن ما تريده ليس إلغاءه وتصفيته؛ بل إنك مستعد ليس لقتله، وإنما لأن تموت أنت من أجل إحياء ضميره المريض.

هذا الأسلوب في الصراع سوف يحيي الأمة برمَّتها بفتح أسلوب جديد لفك النزاعات. فهذه الصورة من الاستشهاد، أي الموت من أجل فكرة سامية، تعطي للحياة معنى، وتمدُّ جذورها في المجتمع عبر التاريخ، وتثمر إن كانت كلمة طيبة، كما حصل مع ابن آدم الذي خلَّد القرآن موقفه، الذي طرح فيه أسلوباً جديداً لفك النزاعات البشرية، بخلود القرآن الذي يُتلى إلى قيام الساعة. فأما جسمه الترابي فرجع إلى دورة الطبيعة؛ وأما موقفه فبقي خالداً لا يموت: "ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" (آل عمران 169).

*** *** ***


[1] بخصوص اسم المدينة وأسماء الفتية والاختلاف حول اسم الكلب ولونه، راجع كتب التفسير: النسفي، ابن كثير، القرطبي، الكشاف. فعلى سبيل المثال، جاء في تفسير القرطبي عن اسم الكلب ولونه ما يلي: "واختُلِف في لونه اختلافاً كثيراً، حتى قيل لون الحجر ولون السماء. واختُلِف أيضاً في اسمه: ريان، قطمير، مشير، بسيط، صهيل، نقيا، قطفير!

[2] نقل متفرق عن تفسير القاسمي، ص 224-225.

[3] اجتاح العثمانيون بلاد الصرب وألحقوها بالإمبراطورية العثمانية في معركة رهيبة هي معركة أمسل فيلد التي يسميها الأتراك قوص أوه في منطقة كوسوفو الحالية فيما تبقَّى من جمهورية يوغسلافيا عام 1389 م، حيث قتل ملك الصرب لازار وقتل السلطان العثماني مراد الأول أيضاً؛ وهي حادثة مفردة لا نظير لها في تاريخ العثمانيين أن يُقتَل سلطان عثماني في أرض المعركة. وقد تولَّى قيادة الجيش من بعده ابنه بايزيد خان الذي ارتبط اسمه تاريخياً بمعركة سهل أنقرة عام 1402 م/ 804 هـ، وفيها انهزم أمام تيمورلنك، وتمزقت القوة العثمانية، حتى قامت الدولة العثمانية من جديد على يد السلطان الغازي محمد جلبي.

[4] راجع مختصر دراسة التاريخ للمؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي في بحثه حول زوال دولة آشور الحربية.

[5] اعتقلتْ محكمةُ التفتيش جيوردانو برونو في البندقية عام 1592 بسبب آرائه، وتم إحراقه حياً في 17 فبراير/شباط عام 1600، وعمره يومئذٍ 52 سنة. أهم كتبه في العلة والمبدأ الواحد الذي كتبه عام 1584.

[6] على ما توقع الكاتب حسان حتحوت في كتابه أوراق في النقد.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود