العين الثانية

علي مطر

الحلقة الوحيدة من برنامج "بلا حدود" التي طلب مشاهدو قناة الجزيرة إعادة بثِّها هي الحلقة التي استضاف فيها أحمد منصور الحاخام اليهودي ديفد فايس، الناطق باسم جماعة "ناطوري كارتا" ["حراس المدينة"]. كان حضور فايس بالتأكيد مفاجئاً بهندامه وشكله الأرثوذكسي؛ ولوهلةٍ، كاد المرء أن يقذف بالمحطة القطرية، قبيل أن يعرف أن الضيف صاحب خطاب إنساني عاقل، يعيد بناء الصورة الحقيقية للفرد، ويكسر خطيئة التعميم التي تجتاح العالم بأسره ويتم الحكم من خلالها على الناس بحسب ألوانهم وأشكالهم.
تأكدت أكثر من أن صورة الأمريكي اليهودي ديفد فايس إلى جانب العربي المسلم أحمد منصور هي الصورة الناقصة، أو هي الجزء الناقص من الصورة العامة. وإذا كان البحث عن "الآخر" الإنساني يتطلب جهداً أكبر من مجرَّد استقباله على شاشة تلفزيون فإن استضافة منصور لفايس كانت خطوة على الطريق البديل – لكي لا نقول الطريق الصحيح. وطلب إعادة بث الحلقة تجاوبٌ طبيعي يعزِّز صحة الخطوة ويدل على رغبة الجمهور العربي في استكمال الصورة وإفساح الرؤية أمام "العين الثانية" التي تسعى سلطات كثيرة إلى إغلاقها، وربما إلى عورها بالكامل!
إنها الصورة المفقودة. أو هو الجزء المفقود منها؛ وفي ظني أنه الجزء الأبيض الذي إذا ما اتسع سيزيح – لا شك – المساحة الملونة بالدم التي تعتمد عليها الصهيونية في رسم الخارطة السياسية و"الأخلاقية"، بحسب فايس نفسه. فالمتضرِّر الأول من وضع اليهودي والمسلم في كادر حيٍّ واحد هو المتطرف بعين واحدة لا ترى إلا "الأنا"، مريضة السلطة التي لم تجنح مرة إلى الوسط.
كان فايس أكثر من مجرد ناقد لـ"إسرائيل الحالي" بوصفه مشروعاً صهيونياً. فقد بدا حريصاً على إرشاد العرب والمسلمين إلى حقائق عن الصهيونية وجرائمها وعدائها لله والإنسان. ومن موقعه يمكنه بالتأكيد أن يضع تلك الحركة العنصرية بشكل أقوى في موقع المتهم. فايس الذي تعوَّد، على ما يبدو، تهمة "كاره الذات" self-hating Jew لا يكتفي بالقبض على جمرته، بل يقذفها أيضاً في وجه الصهاينة. وهو، وإن بدا طوباوياً في توقعاته نهاية إسرائيل، وإن كانت حركته وأمثالها في حيز التواضع والتهميش، إلا انه استطاع أن يكمل الصورة ويعرِّفنا على نفسه كـ"آخر" – إذ في اللحظة التي كنا نجهله فيها كان عدواً. وإذا كان ديفد فايس الأميركي يعتبر نفسه، بحسب توراته، "ضيفاً" على فلسطين أو على أمريكا، فما المانع أن يكون شريكاً في الحياة، أو على الأقل في الصورة؟!

*** *** ***

عن السفير، 15/5/2002