|
الإسلام والتعددية الدينيةجدليَّة
القرآن: الوحدة في التنوُّع*
محمود
أيوب
في
القرآن عدد من الآيات التي تؤكد على التعددية
الدينية. نشير هنا إلى الآية 62 من سورة البقرة
والآية 69 من سورة المائدة اللتين تمثلان
بداية رسالة النبي في المدينة ونهايتها.
ولهذا الواقع أهمية خاصة في إطار دراستنا،
كما سنبين في ما يلي. لقد
تعاطى الإسلام مع ظاهرة التنوُّع الديني
ووحدة الإيمان في المدينة بطريقة واقعية
جداً، وذلك لأنه كان لا بدَّ للنبي من التعامل
مع قبائل المدينة اليهودية ونصارى نجران.
تَرِدُ الآية المذكورة في واحدة من أهم السور
المدنية؛ ثم نجدها مكرَّرة حرفياً في السورة
الأخيرة والأهم التي أنزِلَت على النبي قبل
وفاته؛ فهي الآية الوحيدة التي تَرِدُ حرفياً
تقريباً في سورتين مختلفتين من القرآن. وكون
هذه الآية تَرِدُ في مستهلِّ حياة النبي
السياسية في المدينة وقبيل نهايتها يعني أنها
لم تُنسَخ، لا نصاً ولا حكماً. ونصُّها: "إن
الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى
والصابئين، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
صالحاً، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم
ولا هم يحزنون." حاول
المسلمون جاهدين، منذ نشأة الخلافة
الإسلامية، أن يعطِّلوا هذه الآية. ولطالما
لجأوا إلى آيتين مهمتين، تكمل إحداهما الأخرى
بطريقة ما؛ الأولى هي: "إن الدين عند الله
الإسلام"؛ والثانية تؤكد: "ومن يبتغِ غير
الإسلام ديناً فلن يُقبَل منه." نرى هنا
صداماً واضحاً بين النظرة القرآنية إلى
التعددية الدينية ونظرة الفقهاء المحافظين
الضيقة إلى المجتمع البشري بمختلف أديانه؛
وهذا لأن القرآن لا يعني بـ"الإسلام" في
هاتين الآيتين الإسلام "الشرعي" الذي
بحسبه يعيش الإسلام ضمن نطاق فكري معين، بل
الإسلام بمعنى الاستسلام التام لإرادة الله،
بالطاعة والانقياد لجميع أوامره. وهذا
الإسلام هو تعبير عن سُنَّة الله في خلقه،
وخصوصاً في تاريخ الإنسانية، منذ زمن آدم
وحتى انقضاء العالم. ولا
بدَّ، قبل الخوض في هذه المسألة، من الإشارة
إلى أن معظم الآيات القرآنية التي تذكر أهل
الكتاب، ولا سيما النصارى، ليست تشريعية،
وبالتالي ليست قابلة للنسخ. الاستثناء الوحيد
لهذه القاعدة هي الآية 29 من سورة التوبة (السورة
التاسعة)، وهي آية الجزية الشهيرة؛ فهذه آية
تشريعية بما أنها تنظم علاقات المسلمين
السياسية والاجتماعية بأهل الكتاب. أما
الآيات التي تتحدث عن أهل الكتاب والديانات
الأخرى فهي ليست تشريعية، بل تندرج في إطار
القَصَص القرآني؛ أي أنها تحمل وصايا أخلاقية
ودينية، ولكنها لا تقرِّر تشريعات معينة، كما
هو شأن الآية التي نحن في صددها. السؤال
المهم
تطرح
آيتا سورة آل عمران اللتان تؤكدان أن الدين
الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام السؤال
المهم الذي طرحناه آنفاً: ما هو الإسلام
المذكور فيهما؟ لو قلنا إن لا فرق بين الإسلام
بما هو شريعة دينية منظمة، والإسلام بما هو
استسلام المخلوق التام لمشيئة الخالق، فلا
بدَّ أن يلغي أحد هذين المعنيين الآخر في
نهاية المطاف. هذا يعني أيضاً أن كل الإشارات
القرآنية إلى إسلام الأنبياء من آدم إلى محمد
(صلعم) لا معنى لها; كما أنه يؤدي إلى القول بأن
الله لن يقبل أي دين مُعلَن أو منظم غير
الإسلام، بمذاهبه المتعددة التي نعرفها
اليوم منذ ألف وأربعمائة سنة خلت. يؤدي هذا
الحكم، بدوره، إلى اعتبار كل الآيات القرآنية
التي تؤكد على التنوع الديني ووحدة الإيمان
مجرد كلام لا طائل له. إذا
تمعَّنا في القرآن بدقة نجد أن الإسلام ليس
اسماً أو عنواناً لدين معيَّن، بل هو يعني
موقف الخليقة بأسرها أمام الله. "الإسلام"
كلمة تنطبق إذاً على السموات والأرض ومن
فيهما، بمن فيهم بنو البشر وكل ما خلق الله من
الكائنات العاقلة. هذا هو الصعيد الأول
والعام لمعنى كلمة إسلام. على صعيد ثانٍ،
ينطبق الإسلام على كل إنسان أو كل جماعة تقرُّ
بإيمانها بالله الواحد وتسعى إلى طاعة الله
في كل ما تفعل وتقول. بهذا المعنى يتحدث
القرآن عن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وحوارييه
(عليهم السلام أجمعين) كـ"مسلمين". هذا لا
يعني أن السيد المسيح أدى المناسك والعبادات
التي يؤدِّيها المسلمون اليوم. غير أن كتب
قَصَص الأنبياء الإسلامية وغيرها من الأدب
الشعبي تتحدث عن المسيح وكأنه أحد صحابة
النبي محمد (صلعم)، يتوضأ ويستقبل القبلة
ويصلي ركعات إلخ. ففي هذا المعنى الضيق لا
يمكن اعتبار السيد المسيح، أو أي إنسان من أهل
الإيمان، مسلماً قبل محمد (ص)، لكنهم جميعاً
مسلمون لله في انقيادهم له وطاعتهم أوامره. يميِّز
القرآن بوضوح، كما نعلم، بين الإسلام كمؤسسة
دينية والإسلام كقاعدة إيمان وإحسان. والآية
التي يبرز فيها هذا التمييز جلياً هي آية
الأعراب التي تتحدَّى القبائل المحيطة
بالمدينة في قولهم "آمنَّا"، فتأمر
النبي محمد (ص) أن يقول لهم: "لم تؤمنوا ولكن
قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم."
(الحجرات 14) من
جهة أخرى، تثير هذه الآية قضية التعددية أو
الخلاف والوحدة داخل المجتمع الإسلامي. وهذا
يدعو إلى دراسة جدية لأن هذه القضية هي إحدى
المآسي التي نعاني منها اليوم. فالإسلام الذي
تريده هذه الآية هو الإيمان القلبي الذي
يترجمه الفرد أو الجماعة بالعمل الصالح أو
الإحسان، كما جاء في حديث جبريل الذي يعرِّف
الإحسان بقول النبي: "أن تعبد الله كأنك
تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك." (22)
فالإيمان هنا هو الالتزام بالعيش في طاعة
الله. أما
الصعيد الثالث والمحسوس فهو إسلام جماعة
معينة، بحسب شريعة إلهية معينة أُنزِلَت على
نبي محدد، النبي محمد (ص)؛ وهذا لا يستوجب
إنكار تماشي هذا الصعيد مع الصعيد الثاني، أي
إسلام الجماعات المؤمنة بالله خارج نطاق
الأمة المسلمة. من هذا المنطلق فإننا لا نقول
بمبدأ نسخ الشرائع، بمعنى أن الشريعة
الإسلامية ناسخة لما قبلها من الديانات
التوحيدية. الوحي
والهدى
هذا
هو في الواقع منطق جدلية نظرة القرآن إلى
الكون، جدلية الوحدة في التنوع. هذه الجدلية
لا تنفي بأي شكل تتابع الوحي، بدءاً بـ"الكلمات"
التي تلقَّاها آدم من ربِّه وانتهاء بالقرآن
الذي أُنزِل على محمد (ص)؛ كما لا تنكر ارتباط
الوحي الذي أُنزِل على الأنبياء بالإلهام
الإلهي للصالحين من عباد الله في كل عصر، لأن
هذا الإلهام هو في الحقيقة مصدر فهم الوحي
وتطبيقه في حياة الناس. هذا
التمييز الأساسي بين الوحي النبوي الذي
انتهى بمحمد (ص) والهدى الإلهي لجميع
الساعين إلى معرفة الله والى الخير تعبِّر
عنه الشهادة بتوحيد الله التي هي أساس إيمان
كلِّ المؤمنين؛ وهذه الشهادة هي شهادة كل
المخلوقات بأن الله واحد. إنها شهادة الله
نفسه بوحدانيَّته: "شهد الله أنه لا إله إلا
هو والملائكة وأولوا العلم...". أما الشهادة
الثانية – "أن محمداً رسول الله" – فهي
التي تميز المسلمين عن سواهم من أهل الإيمان؛
ذلك أن هذا التأكيد الخاص ينطبق على المسلمين
الذين يتبعون شريعة النبي محمد (ص)، أي الذين
يقيمون الصلوات الخمس، ويؤتون الزكاة،
ويؤدون كل الفرائض المشرَّعة في القرآن
والسنة النبوية. وهذا
يقودنا إلى طرح سؤال مهم وهو: كيف يجب أن
يتعامل المسلمون، من هذا المنطلق، مع الأديان
الأخرى ومع أتباعها؟ في محاولة الإجابة عن
هذا السؤال نطرح الاستنتاجات التالية: 1.
إن القرآن والسنة لم
يُلزِما اليهود والنصارى بالتخلِّي عن
إيمانهم ليصبحوا مسلمين، إلا إذا أرادوا هم
ذلك طوعاً. إن قاعدة هذه الحرية الدينية في
الإسلام هي الآية القرآنية التي لا تقبل
الجدل: "لا إكراه في الدين." 2.
يدعو القرآنُ والسنَّةُ
المسلمين وأتباعَ الديانات الأخرى إلى
الجدال الحسن والتعاون والوفاق. وهذا ما
يسميه القرآن "الكلمة السواء"، أي: "ألا
نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتَّخذ
بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله." 3.
نحن اليوم أحوج ممَّن كان
قبلنا في زمن النبي (صلعم) إلى الوحدة
الإيمانية التي يدعونا إليها القرآن؛ فهذه
الوحدة تتخطى واقع عبادة النصارى لرهبانهم أو
عدمه. وبصدد
هذا الموضوع، يُروى أن عدي بن حاتم، الصحابي
الشهير، الذي كان مسيحياً قبل اعتناقه
الإسلام، قال للنبي (صلعم): "لكن اليهود
والمسيحيين لا يعبدون رهبانهم"، فأجابه
النبي: "ألا يشرِّعون لهم فيقبل هؤلاء
شريعتهم؟" والمقصود بالعبادة هنا الطاعة
والانقياد؛ فإذا أطاع أحدٌ غيرَ الله يكون
كما لو أنه يعبده من دون الله. ولا
بدَّ في هذا السياق من الإشارة إلى كون
القرَّائية – وهي حركة يهودية نشأت في ظل
الإسلام – هي بمثابة الرد على هذه الدعوة.
فالقراؤون ما زالوا يدعون إخوانهم من اليهود
إلى العودة إلى شريعة الله كما أُنزِلَت في
التوراة وإلى رفض يهودية التلمود التي سيطرت
على الفكر اليهودي الديني من إكمال التلمود
البابلي في القرن السادس الميلادي. وهذه
اليهودية التلمودية هي التي كانت أساس الصراع
القرآني مع يهود المدينة. اليهودية،
كما نعرفها على مدى ألفي سنة تقريباً، هي
اليهودية التلمودية. ورغم ارتباط اليهودية
التلمودية بالديانة العبرية التوراتية فإن
الشريعة التلمودية طغت على الشريعة
التوراتية. وربما لهذا السبب يدعو القرآن أهل
التوراة ليحكموا بما انزل الله في التوراة؛
وكذلك يدعو أهل الإنجيل ليحكموا بما انزل
الله فيه. وبما
أن المسيحيين الشرقيين كانوا أكثر التزاماً
من سواهم بتوافق الإيمان القلبي مع الحياة
اليومية، الأمر الذي جعلهم أكثر تواضعاً أمام
الله، فقد مدحهم الله في القرآن بقوله: "ولتجدنَّ
أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنَّا
نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وإنهم
لا يستكبرون." لكن هذه العلاقة المميزة مع
المسيحيين لا توصِد باب الحوار مع أهل
الأديان الأخرى. ففي الواقع أن إطلاق مصطلح
"أهل الكتاب"، من وجهة النظر الفقهية، لم
يقتصر على اليهود والمسيحيين وحدهم، كما جاء
في القرآن. فقد عُمِّم هذا المصطلح على كل
الأديان التي عُرِفَت لها كتبٌ مقدسة،
كالمجوس (الزردشتيين) والهندوس. في
الختام، ما هو التحدي الذي يقدِّمه لنا
القرآن اليوم؟ إنه الآتي: أن نؤمن جميعاً
بالله وأن نتنافس في عمل الخير. ينتج عن هذا
التحدي أن يحترم أهلُ كل دين أهلَ الدين
الآخر، وأن يؤمنوا بكلِّ الكتب التي أنزلها
الله. والقرآن هنا لا يطرح مجرَّد التحدي،
لكنه يعطي وعداً مباركاً في النهاية بالفلاح،
في الدنيا كما في الآخرة: "ولو أنهم [أي أهل
الكتاب] أقاموا التوراة والإنجيل وما أُنزِلَ
إليهم من ربِّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت
أرجلهم." إذا
سعينا إلى وحدة الإيمان ضمن إطار التنوع
الديني والحضاري، فعندئذٍ نستحق بركات
السماء والأرض، كما وعدنا الله. وهذا تحديداً
كان يجب أن يسعى إليه ذوو النية الحسنة
والإرادة الطيبة من اليهود والمسيحيين
والمسلمين؛ إذ عليهم أن يحترموا كتبهم
المقدسة وتقاليدهم الدينية كافة، وأن يسعوا
حثيثاً إلى تجنيد أنفسهم وطاقاتهم لتحقيق
العدالة الاجتماعية والابتعاد عن الجشع
المادي والاهتمام بالقيم الأخلاقية والروحية
المشتركة. *** *** *** عن
النهار، السبت 9 شباط 2002 *
جزء من دراسة.
|
|
|