|
الأصوليات مقتل العقل محمد
علي مقلِّد
منذ
أن حَجَرَتْ المعتزلة والأشعرية الواحدة على
الأخرى، ومنذ أن عاقبت الكنيسة غاليليه على
عقله، ما تزال نسخ الأصوليات تكرِّر نفسها،
وتجترُّ جهلها وتتباهى بمجافاة العقل. كلُّ
الأصوليات، المسيحية منها والإسلامية
والماركسية والقومية، تلجأ إلى النص لتستقوي
على سواها. تكفِّر الآخر... تبدأ مسيرتها
بتكفيره، فيصير كل شيء بعد ذلك مستباحاً، بما
في ذلك العقل، ويغدو كل شيء مباحاً، بما في
ذلك القتل. من
يستمع إلى المطران غريغوار حداد يتلو اللائحة
الاتهامية التي صاغها الأصوليون ضده يسهل
عليه الاستنتاج بأن هذه اللائحة ليست سوى
تكرار لتلك التي صاغها آخرون ضد نصر حامد أبو
زيد؛ وهي كلها تدور حول حدود المقدس. فما هو
المقدس؟ كرَّست
الأديان قداسة النص الديني، ولم يعترض أحد. ثم
انسحبت القداسة على كل نص ذي علاقة بالدين،
ولو كان نصاً غير إلهي، أي على النصوص
التفسيرية والتأويلية وعلى الاجتهادات التي
صنعها بشر، بعضهم من المفكرين وغالبيتهم من
السياسيين. وقد بلغ هذا النوع من التقديس حدِّ
الخطر حين صار صاحب السلطة، كلِّ سلطة، ينطوي
على ادِّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا
يرقى إليها شك، بل لا يسمح بأن يرقى إليها شك. تجرأ
العقل الحديث على التمييز بين النص البشري
والنص الإلهي، وحاول نزع القداسة عن الأول،
فقامت قيامة أصحابه من أهل السلطة، سلطة
السياسة من الحكام، وسلطة الثقافة من رجال
الدين. أقدم العقل الحديث على محاولته هذه
مسلَّحاً بإنجازاته العلمية وبقدرته على
المنافسة بقوة المنطق والتفكير والمحاججة،
ولم يجد الأصوليون وسيلة للردِّ غير العنف
الجسدي. وما زال هذا النوع من العنف يتكرر منذ
مئات السنين، يمارسه "مؤمن" ضد "مؤمن"،
بالسجن أو بالنفي أو بالقتل، إن لم يكن
بالسحل، مثلاً، أو بغيره من ابتكارات إلغاء
الآخر السائدة في بلادنا ومنطقتنا منذ قرون. من
الحركة الوهابية حتى الاعتداء على المطران
غريغوار، حداد لا يزال النهج السائد لدى
الأصوليين في إدارة الحوار هو إلغاء الحوار
أو إلغاء أحد طرفيه. من
أول اتباع اللينينية في العالم العربي حتى
آخر بقاياهم، لا يزال الانقلاب على الآخر هو
النموذج المحتذى والمثال. آخر إنجازاته طرد
الطلاب الشيوعيين من الحزب؛ وجريمتهم أنهم
أطلقوا العنان لعقلهم. من
الكواكبي حتى آخر مفتٍ، ما برح "يكفِّر"
بعضهم بعضاً، و"تمشي أواخرهم على هامِ
الأوائل" (المتنبي). فالحرب بين تيارات
الأصوليين هي أصلى ناراً من حربهم مع سواهم من
"الزنادقة والكفار والمرتدين والمارقين
والخوارج...". تنسحب هذه القاعدة على حروب
مشتقة من الحروب الأصولية، هي الحروب بين
الطوائف والحروب داخلها. ودليل ذلك ما حصل في
الحرب المارونية المارونية، وفي مثيلتها
الشيعية الشيعية، وفي الجزء الأكبر من الحرب
الأهلية اللبنانية، وفي كل حرب أهلية، من
أفغانستان حتى الجزائر. بليَّة
الأصولية أنها لا تقاتل في سبيل أفكارها
بمقدار ما تقاتل من أجل مصالح سياسيين
يوهمونها أنهم يجسدون أفكارها. فالمفكر
والمناضل تروتسكي لم يُقتَل لأنه خان أفكار
ماركس، بل لأنه عارض سياسة ستالين؛ وعلي عبد
الرازق لم يُطرَد من الأزهر لأنه خالف مبادئ
الدين الإسلامي، بل لأنه واجه أحلام الخديوي
في الخلافة الإسلامية؛ والذين وقعوا ضحية
محاكم التفتيش لم يدانوا لمخالفتهم تعاليم
الإنجيل، بل لاعتراضهم على ممارسة السلطة من
جانب الكنيسة. الصفعة
التي وجَّهتها الكنيسة للمطران أشد قسوة من
تلك التي وجَّهها متعصِّب مغمور. ففي بيانات
التضامن مع المطران رشحت صيغ العقل والانفتاح.
كذلك يظهر أن رغبة الرئيس الإيراني محمد
خاتمي في التجديد، قبل أن تصطدم بالشيطان
الأكبر، تصطدم بمصلحة تشخيص النظام في إيران.
فهل يعني ذلك أن الكنيسة المسيحية، كما
الكهنوت الإسلامي، لا يزالان يشكلان سنداً
للأصولية وتجلِّياتها الفردية والسياسية؟
وهل يعني ذلك صحة ما قاله الإمام محمد عبده: ولكن
ديناً قد أردتُ صلاحَه أحاذرُ
أن تقضي عليه العمائمُ لكلِّ
أصولية جذرُها في الفكر قبل أن تتحول إلى سلوك
سياسي، وهي خيانة للفكر قبل أن تكون انتماء
أصيلاً إليه، لأن الاختلاف بين الأفكار لا
يقتل أحداً قتلاً مادياً جسدياً؛ لكن نقل
الأفكار إلى حيز الممارسة يغير آليات التفاعل
بين المختلفين. فهي في الفكر آليات تشحذ العقل
ليبتكر لكلِّ فكرة ضدها الذي ينفيها؛ أما في
السياسة الجاهلة فالنفي لا يطال غير الجسد،
فيلغيه بالسجن أو بالقتل أو بالإبعاد. والأصوليات
السياسية عدو الابتكار. إنها لا تبدع بل
تحنِّط نفسها في سجن الماضي وفي بطون النصوص،
لا تستنطقها لتجدِّدها، بل تنبشها نبشاً
أعمى، ولا تكلِّف نفسها عبء استلهامها
وتجديدها وتخصيبها. وهي بسبب كل ذلك تقتل
الأفكار نفسها التي تستند إليها بدل أن
تحييها. كل
قاتل أصولي يعتقد أنه يقتل وفاء للحقيقة التي
يعتقد أنها هي الحقيقة. غير أن الاعتقاد يبقى
مجرد اعتقاد مشحون بالإيديولوجيا؛ وكل
إيديولوجيا تعصُّب، حتى لو كانت ضرورية
للحركات المكافحة في سبيل القضايا الكبرى.
غير أن الأصولي يقتل بالاستناد إلى أفكار
سواه، أي بالاستناد إلى اجتراره لا إلى
ابتكاره. ومجترُّو
النصوص أقل فطنة من النصوص نفسها. هذا ينطبق
على الإسلاميين، كما على الماركسيين
والقوميين، لأن من يَحْجُر على النص ويرفض
استلهامه يقتله؛ ومن لا يكلِّف نفسه عناء
تجديد الفكر يَعِشْ أبد الدهر بين حفر
الجهالة الجهلاء. ومجترُّو
النصوص خونتُها من غير أن يدروا، لأن قيمة
النص تكمن في قدرته على فتح آفاق المستقبل؛
بينما يسعى المجترُّ إلى تأبيد الماضي. هذا ما
تفعله جماعة الإسلام السياسي والأصوليون في
كل دين. إذا
كان للأصولية جذر في الفكر وجذر في السياسة
فنحن في حاجة لحركة تجديد في الدين، لا تنجح
إلا إذا كان روادها من رجال الدين. كما أننا في
حاجة لتجديد السياسة بترسيخ قيم
الديموقراطية. *** *** *** عن
النهار، الأحد 30 حزيران 2002
|
|
|