تحدِّي
الأصولية
يقدم المفهوم الأوروبي لحقوق الإنسان
للناطقين باسم حضارات أخرى رقعة مناوأة، ليس
فقط فيما يختص بناحية السيادة، أي بالتفصيلة
الفردية للحقوق الشخصية، بل أيضاً فيما يختص
بعلمنة السيادة السياسية المنفصلة عن صور
دينية وكونية للعالم. أما من وجهة نظر الفهم
الأصولي لأيٍّ من الأديان الثلاثة – الإسلام
أو المسيحية أو اليهودية – فإن ادِّعاء
امتلاك الحقيقة هو ادِّعاء كلِّي، أي أن من
شأنه عند الضرورة أن يُفرَض بوسائل العنف
السياسي. وهذا المفهوم ذو نتائج تضفي على
الجماعة طابع الإقصاء للآخر. فالتشريعات
الدينية المتعلقة بالنظرة إلى العالم من هذا
النوع لا تتوافق مع استيعاب أصحاب العقائد
الأخرى ومنحهم الحقوق.
يعني الإضفاء غير الديني للشرعية
بواسطة حقوق الإنسان، أي بفصل السياسة عن
السلطة الإلهية، تحدياً لا يستفز الأصوليين
وحدهم؛ فثمة أيضاً مثقفون هنود، مثل أ. ناندي،
يكتبون بيانات معادية للعلمانية. وهم
ينتظرون التسامح والتلاقح بين حضارتي
الدينين الهندوسي والإسلامي من تشابك طريقتي
إقامة الدين أكثر مما يتوقعونهما من حياد
الدولة الديني. وهم يشكُّون في صحة حياد سياسي
لا يحيِّد فعلاً إلا الدين في أهمِّيته
العامة. في أفكار كهذه يرتبط السؤال المعياري
عن كيفية إيجاد قاعدة مشتركة للعيش السياسي
المشترك العادل بسؤال آخر تجريبي. وربما أدى
تميُّز مجال ديني منفصل عن الدولة إلى إضعاف
التأثير الذي تمارسه قوى الإيمان ذات النزعة
الخاصة. ولكن مبدأ التسامح ليس ضد أصالة
الاعتقادات وأنماط الحياة الدينية وادعائها
الحقيقة، بل إنها يجب أن تتمكن من التعايش،
متساوية في الحقوق، ضمن الكيان السياسي
الواحد.
إن نواة النقاش لا
يمكن وصفها بالتجادل حول الأهمية التي تنسبها
حضارات مختلفة إلى الدين. فقد كان مفهوم حقوق
الإنسان هو الجواب على مشكلة تواجِهُها اليوم
حضارات أخرى، كما واجهتها أوروبا حين كان
عليها أن تتغلب على النتائج السياسية
للانشقاق الديني. وصراع الحضارات يجري اليوم
في إطار المجتمع العالمي الذي يجب فيه على
فاعلين جماعيين أن يتفقوا، شاؤوا أم أبوا،
على معايير العيش المشترك، بصرف النظر عن
منقولاتهم الحضارية المختلفة. فالحماية
المستقلة ضد التأثيرات الخارجية لم تعد في
وضع العالم الحالي خياراً. عدا عن ذلك، تتفجر
التعددية فيما يختص بالنظرة إلى العالم أيضاً
في داخل تلك المجتمعات التي ما زالت تهيمن
عليها منقولات قوية.
وحتى في مجتمعات
منسجمة حضارياً انسجاماً نسبياً لم يعد ثمة
مفرٌّ من إعادة تشكيل عكسي لمنقولات عقائدية
سائدة تنادي بإقصاء الآخر. وينمو بالدرجة
الأولى في الطبقات المثقفة وعيُ أن "الحقائق"
الدينية الخاصة يجب أن تتوافق مع العلم غير
الديني المعترف به عموماً، وأن يُدافَع عنها
في وجه ادِّعاءات دينية أخرى للحقيقة ضمن
النطاق الخطابي الواحد. وكما حدث للمسيحية
منذ الانشقاق المذهبي، تتحول صور العالم
النقلية، تحت ضغط انعكاس ظروف الحياة
الحديثة، إلى "عقائد معقولة شاملة".
وهكذا يصف رولز فهماً ذاتياً وفهماً للعالم
خلقياً، صار انعكاسياً، يفسح المجال
للاختلافات الموجودة مع اعتقادات دينية أخرى.
وهي فروق متوقعة منطقياً، يمكن التوصل معها
إلى التفاهم حول قواعد التعايش المتساوي في
الحقوق.
تعرض أفكاري
التأوُّلية نموذج إضفاء الشرعية الغربي
كجواب على تحديات عامة لا تتعرض لها اليوم
الحضارةُ الغربية فقط. هذا لا يعني طبعاً أن
الجواب الذي وجده الغرب هو الجواب الوحيد أو
الجواب الأفضل. من هنا يعني النقاش الحاضر
بالنسبة لنا فرصة نكتشف فيها نقاطنا القاتمة.
وينبِّهنا التأمل التأويلي في نقطة انطلاق
الخطاب حول حقوق الإنسان، الدائر بين مشاركين
ذوي خلفيات حضارية مختلفة، إلى مضامين
معيارية موجودة في الافتراضات المسبقة
الصامتة التي يتضمنها كلُّ خطاب يهدف إلى
التفاهم. والمشاركون جميعاً يعرفون جيداً
حدساً، وبصرف النظر عن الخلفية الحضارية
المختلفة، أن التفاهم المبني على الاقتناع لا
يمكن التوصل إليه ما برحت العلاقات المتناسقة
بين المشاركين في التواصل مفقودة، وأعني
علاقات الاعتراف المتبادل، وتبادل
المنظورات، والاستعداد المشترك لتأمل
المنقولات الخاصة أيضاً بعين الغريب،
والتعلُّم المتبادل، إلخ. على هذا الأساس، لا
يجوز لنا أن نكتفي بانتقاد القراءات
الانتقائية والتفسيرات المغرضة والتطبيقات
الضيقة الأفق لحقوق الإنسان، بل يجب أن يطال
نقدُنا أيضاً ذاك الاستعمال الوقح لحقوق
الإنسان من أجل ستر عالمي لمصالح خاصة تضلِّل
إلى الظن الكاذب بأن كُنْه حقوق الإنسان
يُستنفَد بسوء استعمالها.
*** *** ***
من الحداثة وخطابها السياسي
ترجمة: جورج تامر
| |
|
Front Page
|
Editorial
|
Spiritual Traditions
|
Mythology
|
Perennial Ethics
|
Spotlights
|
Epistemology
|
Alternative Medicine
|
Deep Ecology
|
Depth Psychology
|
Nonviolence &
Resistance
|
Literature
|
Books & Readings
|
Art
|
On the Lookout
|
|
|