|
بعد الانفجار النووي
والانفجار السكاني...
الانفجار
الديني يعمُّ العالم
المطران
غريغوار حداد
قرأت
قبل شهر تقريباً لكاتب وأستاذ فرنسي ما مفاده:
"في القرن الماضي، عندما كنت أكلِّم طلابي
عن الدين، كانوا يتثاءبون من الملل؛ أما عن
الجنس فكانوا يهتمون اهتماماً بالغاً. في
أيامنا هذه اكتشفت أني عندما أكلِّمهم عن
الجنس يتثاءبون من الملل؛ أما عن الدين
فيهتمون اهتماماً بالغاً!"
المطران
غريغوار حداد
الانفجار
الديني
قد
لا يكون هذا التحول في اهتمام الشبيبة عاماً،
شاملاً جميع الشابات والشبان، إنما هو اتجاه
التطور الذي أصبح ظاهراً أكثر فأكثر لمصلحة
الدين، لا في صفوف الشبيبة فقط، بل لدى كلِّ
أبناء البشر. وقد تنبأ الكاتب الفرنسي أندريه
مالرو قائلاً: "القرن الواحد والعشرون
سيكون متديناً أو لا يكون." ولكن أي دين؟
وأية ظاهرات دينية؟ تبدو
الظاهرات الدينية الحالية متنوعة جداً.
فالمسيحية متفرعة إلى جماعات تسمِّي نفسها
"كنائس"، وتسميها الكنائس التاريخية "بدعاً"
و"هرطقات"، ناف عددها على الأربعمئة!
والهيئات والمنظمات الدينية الناشئة في
القرن العشرين باتت لا تُعَدُّ ولا تُحصى،
لأنها تولد وتتفرع وتموت بسرعة تُعجِز علماء
الاجتماع والإحصاء عن رصدها. والأفراد الذين
يعلنون عن تقديمهم "الجديد" واكتشافهم
"المخلِّص" و"المحرِّر" على صعيد
الديانات باتوا يُعَدُّون بالآلاف، ويجذبون
الملايين إلى "جديدهم"! وأكثر
عدداً من حلقات "عبادة الشيطان" التي
تجذب انتباه الفضوليين، صارت تنشأ رهبانيات
جديدة في الأديرة المسيحية وفي المجتمعات
العادية، يعيش فيها "الرهبان" حياتهم
كباقي العلمانيين في الظاهر، وكالمتنسِّكين
والمتصوفين في الداخل. كما تكاثرت الطرق
الصوفية في الإسلام. هذا
كله يحدونا إلى القول إنه كما حدث انفجار
نووي، وانفجار سكاني، وانفجار معلوماتي،
يحدث الآن "انفجار ديني"! في
القرن الماضي أعلن الفيلسوف الألماني نيتشه
أن "الله مات"؛ فإذا بالله حياً في عصرنا
أكثر من أي عصر مضى، ولكن تعددت أسماؤه وتنوعت
صفاته. ولقد نشأ تياران رئيسيان في كل ديانة: 1.
تيار الانفتاح على الديانات
الأخرى، والقبول بالاختلاف وبالتعددية في
التعابير الدينية كقيمة من صلب الإيمان؛ 2.
وتيار الرفض والتكفير لكل
ديانة متميزة، بل لكلِّ مذهب آخر في ديانة،
سُمِّي تعصباً وتطرفاً وأصولية intégrisme؛
تيار الانغلاق على تعابير جامدة، لا يُعاد
النظر فيها. كما
انتشر على هامش الديانات والفلسفات 3.
تيار ثالث واسع يمكن تسميته
"اللاأدرية" agnosticisme،
لا ينكر وجود الله ولا يؤكده. وكثر الكلام على
تجاوز الاهتمام بالعقائد والعبادات إلى
لاهتمام بالروحيات والأخلاقيات والقيم
والالتزام بالإنسان، أي ما يسمى "المعاملات"
في الإسلام "والأعمال" في المسيحية. سأبدأ
بتمييز بعض المفردات التي تتردد في مجال
الكلام على الديانة والله والإنسان، تمشياً
مع خاطرة من خواطر بسكال، الفيلسوف
الفرنسي المؤمن، هي: "البربرية تخلط،
والمدنية تميِّز." والمفردات المستعملة في
إطار الأديان هي الآتية: -
الإيمان بالله، وبالأنبياء،
والرسل، والكتب "المقدسة"، أو "المنزلة"،
أو "الموحى بها"؛ وهو يعني العلاقة
الشخصية الحميمة مع الله. -
العقائد التي تعبِّر عن
الإيمان في تفاصيله، وتُجمَع في "علم
اللاهوت"، أو "علم الكلام". -
الروحيات التي تُعنى بنمو
الروح في الإنسان، من خلال الجسد والنفس، في
طاقات روحية، كالإيمان والرجاء والمحبة. -
الأخلاق التي تنظم حياة
الإنسان، انطلاقاً من الإيمان والعقيدة،
ليقوم بالخير ويمتنع عن الشر، بحسب ما يوحي
إليه الضمير. -
القيم، وهي مبادئ حياتية
تتكون لدى كل إنسان فتصبح مقاييس لسلوكه. -
المعاملات، وهي الأعمال
التي يقوم بها المؤمن تجاه نفسه والآخرين؛
وتُختصَر في المسيحية بالمحبة وفي الإسلام
بالعدل؛ وتتضمن تطبيق الوصايا التي وصلت إلى
المؤمن عبر الكتب المقدسة والتعاليم النابعة
منها. -
العبادات أو الشعائر، وهي
الأعمال التي يقوم بها المؤمن تجاه الله، من
صلاة، ودعاء، وصوم، وحج، مع التأكيد على أن
جميع أعمال الإنسان يمكنها أن تصبح عبادات
إذا توافرت فيها نية العلاقة مع الله. -
العرفان، أو الطرق الصوفية
التي تنطلق من الإيمان والأعمال والعبادات،
لتتجاوزها في علاقة أكثر حميمية مع الله تصل
إلى الاتحاد به اتحاداً تتفاوت تجلِّياته
والتعابير عنه. -
التقاليد والأعراف
المنبثقة عن العقائد والعبادات، وعن
الحضارات والثقافات المحيطة بالإنسان؛ منها
ما يرجع إلى "عهد التأسيس"، إلى النبي أو
الرسول، أو إلى "كلمة الله" وابنه، كما
يعتقد المسيحيون، ومنها ما استجدَّ عبر
التاريخ وابتعد عن عهد التأسيس، وأمسى يتماهى
مع جوهر الدين، بل يحلُّ محلَّه، كأنه هو
الأصح والأحق بالتعبير عن جوهر الدين! -
الشرائع والقوانين والآداب الدينية،
وهي وضع الأخلاقيات والعبادات والمعاملات في
قالب "شرعي"، "قانوني"، يعترف به
المجتمع الديني و/أو المدني. وقد يكون بعضها
وارداً في "الكتب المقدسة"؛ وهي تُجمَع
في مصنفات "الفقه" عند المسلمين، و"الحق
القانوني" عند المسيحيين. -
المسؤولون الرسميون
في كل دين؛ ويسمَّون أو يسمون أنفسهم "سلطات"
و"رئاسات"، رغم ما جاء في الكتب المقدسة
من تحذير ضد هذه التسميات. -
المؤسسات الدينية
التي ينشئها "المسؤولون" في كل دين كإطار
لمسؤوليَّتهم و"سلطتهم"؛ وهي تتنوع
بتنوع العناصر الدينية المختلفة: العقائدي،
الأخلاقي، الشعائري، الفقهي (ولا سيما
المحاكم)؛ و"فوق" هذه جميعاً المؤسسات
الإدارية، كالبطريركيات والمطرانيات ودور
الفتوى و"المجالس العليا". -
المؤسسات التربوية،
والاجتماعية، والطبية، والدينية، أو الطائفية؛
منها ما هو طائفي على صعيد الإدارة والقرار
وعلى صعيد المستفيدين، ومنها ما هو مفتوح
للجميع. -
اللغة والثقافة والحضارة الدينية
التي تجسدت في تعابيرها كل ديانة، عند
انطلاقتها أو في أوج نموها؛ فتتماهى هذه
الديانة مع هذه التعابير حتى يصعب، بل يتعذر
أحياناً، فصل هذه عن تلك. -
العلوم الرديفة
للأديان، ولا سيما علوم التفسير والتأويل،
ونقد النص والألسنية، والتاريخ والجغرافيا
وعلم الآثار، الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع،
التاريخ المقارن للديانات، وغيرها. -
المتديِّنون الذين يمارسون
العناصر السابق ذكرها. الإيمان
والدين
بعد
هذا العرض للعناصر التي تتكون منها الديانات
يمكننا إجراء بعض التمييزات الضرورية لكلِّ
من يتكلم أو يكتب في أي شأن من الشؤون الدينية.
وأول تمييز كبير هو بين الدين والإيمان: -
فالإيمان هو العلاقة
الحميمة بين الإنسان والمطلق، الذي يسمى
"الله" في المسيحية والإسلام، و"يهوه"
في اليهودية، وغير ذلك في الديانات الأخرى.
هذه العلاقة لا تحتاج إلى أي تعبير خارجي؛ فهي
باطنية، داخل أعمق ما في الإنسان. وهي تأكيد
يقيني على وجود كائن متسامٍ عن جميع ما سواه،
يستحيل التعبير عنه: "ليس كمثله شيء" (الشورى
11)، وتأكيد على علاقة متبادلة كيانية بينه
وبين المؤمن به، على الأهمية المطلقة لهذه
العلاقة المتبادلة. -
بينما الدين هو مجموعة
التعابير الخارجية عن هذا الإيمان؛ وتتضمن
العناصر الأخرى التي فُصِّلت في ما سبق. لذلك
يمكن للإنسان: -
أن يكون "متديناً"،
منتسباً لأحد الأديان، من دون أن يكون "مؤمناً".
وقد أبرز القرآن الكريم هذا التمييز في الآية
الشهيرة: "قالت الأعراب: آمنَّا، قُلْ: لم
تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولما يدخل
الإيمان في قلوبكم." (الحجرات 14). كما أن
المسيح نبَّه إلى ذلك في مواضع مختلفة: "أيها
المراؤون، حسناً تنبأ إشعيا عليكم، إذ قال:
هذا الشعب يكرِّمني بشفتيه، وأما قلوبهم
فبعيدة عني جداً. فهم باطلاً يعبدونني، إذ
إنهم يعلِّمون تعاليم هي وصايا الناس" (متى
15: 8-9)، و"ليس كل من يقول لي: يا رب، يا رب!
يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يعمل إرادة أبي
الذي في السماوات." (متى 7: 21) -
أو أن يكون مؤمناً إيماناً
حقيقياً، حياتياً، في عمق قلبه، من دون أن
يمارس جميع عناصر الدين المذكورة. فقد يختار
بعضها، مما يساعده على حياة الإيمان، ويترك
بعضها الآخر الذي لا يرى فيه أي تجسيد
لإيمانه؛ بل قد يُجري نقداً لعناصر الدين
التي وصلت إليه بالاستناد إلى إيمانه العميق
بما هو جوهر هذا الإيمان، ويحاول تغيير
تعابير الديانة التي ينتمي إليها لإعادتها
إلى أصالتها أو لإحيائها بعد أن أصبحت جامدة. ولا
شك أن الإيمان القلبي، الباطني، لا يستقيم
بلا تجسيد خارجي له، مهما كان ضئيلاً، لأن
الإنسان ليس روحاً فقط، بل روح ونفس وجسد. الدين
والمذهب
بسبب
عناصر الدين العديدة، وبسبب اختلاف المنتمين
إليه، لا يظل الدين وحدة متماسكة. هكذا يختار
كل معتنق لأحد الأديان "باقة" من عناصر
الدين تُسمَّى "مذهباً". فالمذهب على
العموم، وفق المعجم، "طريقة ونهج".
فلكلٍّ مذهبه في الحياة، ولكلِّ دين مذاهبُه.
فالدين المسيحي له مذاهب متنوعة جداً، تُجمَع
عادة في ثلاثة على صعيد العقيدة: الكاثوليكي،
والأرثوذكسي، والبروتستنتي أو الإنجيلي.
والبروتستنتي يتفرع إلى مئات المذاهب، تسمي
ذاتها "كنائس"، كالأنكليكانية،
والأسقفية، والمشيخية، والمعمدانية، وغيرها.
أما العبادات فلا عدَّ لها. فالمذهب
الكاثوليكي، مثلاً، فيه "طقوس سبعة":
اللاتيني، والماروني، والبيزنطي، والأرمني،
والسرياني، والكلداني، والقبطي. والدين
الإسلامي فيه أيضاً مذاهب متنوعة، أهمها على
صعيد العقيدة: السني، والشيعي، والإسماعيلي،
والعلوي، والدرزي. وعلى صعيد الفقه، لدى
السنة أربعة مذاهب: الحنفي، والمالكي،
والشافعي، والحنبلي؛ ولدى الشيعة المذهب
الجعفري. الدين
والبدعة
المذاهب
تتنوع، ولكنها لا تخرج عن الإطار الديني
الواحد، فتبقى المذاهب المسيحية الثلاثة،
مثلاً، "كنيسة واحدة، جامعة، مقدسة،
رسولية" لأنها تؤمن بمجموعة من العقائد
الأساسية المشتركة. ولكنها جميعها لا تعتبر
"شهود يهوه" مذهباً مسيحياً بل "بدعة"،
لعدم إيمانهم بألوهية المسيح ابن الله
الواحد، الذي له وللآب وللروح جوهر واحد
وطبيعة واحدة؛ فهم يعتقدون أن "كلمة الله"
هو أول خلائق الله وأسماها، لكنه ليس إلهاً.
"البدعة في الدين نزعة جديدة شاذة خارجة
على المعتقد الأصلي." (المنجد) والفرق
بين البدعة والمذهب أن المذهب لا يخرج عن
الدين الواحد المشترك بين المذاهب الأخرى،
بينما البدعة تنشق عن الدين الأصلي الذي
تمايزت عنه وتفصل معتنقيها عنه. "التيارات
الانقسامية" و"الحركة المسكونية"
عرفنا
في القرن الأخير تيارين ضمن الدين الواحد:
تيار انقسامي، يجعل الدين الواحد يتجزأ
إلى مذاهب، والمذهب إلى فرق، والفرقة إلى طرق
عبادية، كلُّ جهة منها ترفض الجهات الأخرى،
بل تكفِّرها في بعض الأحيان؛ وتيار تجميعي،
يجعل الأديان المختلفة والمذاهب المتنوعة
تتقارب وتُعتبَر قيماً إنسانية، بل دينية،
يحسن بالجميع العمل على تقاربها وتفاعلها.
وقد سُمِّي هذا التيار في المسيحية "الحركة
المسكونية" التي تسعى إلى تحقيق "وحدة
الكنيسة"، أو على الأقل، إلى "اتحاد
الكنائس"، حيث يبقي لكلِّ كنيسة عناصرها،
تتميز بها عن غيرها، إنما تتفاعل وتتعاون مع
غيرها من الكنائس على تحقيق أهداف مشتركة. وفي
الإسلام محاولات تقارب، وتفاعل، وتعاون في
أطر مختلفة، منها عالمية، مثل: "منظمة
المؤتمر الإسلامي" و"رابطة العالم
الإسلامي"، ومنها محلية، مثل: "هيئة
العلماء". وبين
المسيحيين والمسلمين هناك أيضاً محاولات
تقارب تحت اسم "الحوار الإسلامي المسيحي"،
على صعيد عالمي، وإقليمي، ومحلي، يظهر حالياً
أنه يراوح مكانه. ولكن مجرد وجوده،
والمحاولات العديدة لتجسيده في المؤتمرات
والندوات، مؤشر أن خطَّ التاريخ أصبح داعماً
للتيار "التجميعي". الدين
والطوائف
جميع
التمييزات السابقة يمكن إيرادها في العالم
بأسره بشأن الأديان والمذاهب. ولكن هناك
تمييز إضافي لا يَرِد إلا في بعض البلدان،
ومنها لبنان: هو التمييز بين الدين والطائفة،
وبين الأديان والطوائف. لماذا؟ لأن "الطائفة"
تعني بالعموم "الجماعة"، و"الفرقة"
تعني، على الصعيد الديني، "جماعة من
المتدينين بمذهب واحد، له صفة مجتمعية مستقلة
عن غيرها من الجماعات، لها صفة وطنية وسياسية"،
ذات "علم وخبر" رسمي تعترف به الدوائر
الحكومية وباقي فئات المجتمع. فالطوائف يمكن
اعتبارها: -
جماعات متمايزة عن غيرها
على الصعيد الإيماني والديني فقط، منفتحة أو
منغلقة على غيرها؛ -
أو مجتمعات صغيرة ضمن
المجتمع الوطني الشامل، لها تنظيمها الخاص،
من رئيس أعلى، ومجلس أعلى، وهيئات ومؤسسات
تربوية واجتماعية وصحية؛ -
أو بديلاً عن الأحزاب،
وكأنها حقاً أحزاب بلا "علم وخبر" سياسي،
تقدِّم الخدمات للمنتسبين إليها دون غيرهم؛ -
أو دويلات في بعض مراحل
التأزم والحرب الداخلية وانحلال الدولة. الطوائف
والطائفية
الطوائف،
إذن، جماعات دينية لها موقع شرعي معترف به من
المجتمع المدني والسلطة المدنية. ويمكنها أن
تكون إيجابية إذا كانت منفتحة بعضها على بعض،
فتتفاعل و"تتغانى"، أي يغتني كلٌّ منها
بما لدى الطوائف الأخرى؛ أو أن تكون سلبية إذا
كانت منطوية على ذاتها، متعصبة للعناصر
الدينية والثقافية والحضارية التي
تُمايِزُها، عدائية نحو غيرها. بينما
الطائفية لا تكون إلا سلبية. وتُعتبَر في
لبنان أحد الأمراض المجتمعية الكبرى. فهي خلط
الدين بالسياسة، واستغلال السياسة للدين
وللمتديِّنين، أو استغلال الدين للسياسة
وللسياسيين. وكثيراً
ما يظن الذين لا "يميِّزون" أن المحاربين
للطائفية يريدون إلغاء الطوائف، بينما هم
يحترمون الطوائف، لكنهم يحاربون المرض الذي
يعتورها. دين
ودنيا ودولة
هنا
ينطرح موضوع علاقة الدين والعالم؛ إذ يجري
الخلط بين مفاهيم لا بدَّ من التمييز فيما
بينها: -
كثيراً ما نسمع أن الإسلام
"دين ودنيا"، وأن المسيحية دين
وروحانية، ولا تهتم بالدنيا. وهذا الكلام غير
دقيق، يحتاج إلى تمييز جديد: فالإسلام
والمسيحية واليهودية وجميع الأديان الأخرى
دين ودنيا، أي هي: ممارسة للإيمان في عناصر
الدين المختلفة، وتطبيق الإيمان في شؤون
الإنسان الدنيوية. -
بينما المرغوب التعبير عنه
هو أن الإسلام "دين ودولة". أما المسيحية
فلا تتوخى إقامة دولة، لأن المسيح حذَّر
تلاميذه قائلاً: "أنتم تعلمون أن الرؤساء
عند الأمم [الوثنية] يتسلَّطون عليهم،
والعظماء يسودونهم. وأما أنتم فلا يكن فيكم
شيء من هذا. بل من أراد أن يكون فيكم كبيراً
يكون لكم خادماً، ومن أراد أن يكون الأول يكون
لكم عبداً، على مثال ابن البشر [المسيح]؛ فإنه
لم يأتِ ليَخدم، بل ليُخدم، ويبذل نفسه فدية
عن الجماعة." (متى 20: 25-27) كما أن المسيح قال
لبيلاطس الذي كان يحاكمه قبل أن يحكم عليه
بالصلب: "إن مملكتي ليست من هذا العالم. فلو
كانت مملكتي من هذا العالم، لكان رجالي
يقاتلون عني، فلا أُسلَم إلى اليهود، ولكن لا:
إن مملكتي ليست من هنا." (يوحنا 18: 36) -
ولكن الكلام غير الدقيق
أيضاً هو أن "الإسلام دين ودولة".
فالكثيرون من الكتَّاب برهنوا من القرآن
والسنة أن الرسول العربي لم يكن ملكاً؛ وقد
خاطبه القرآن قائلاً: "فذكِّر، إنما أنت
مذكِّر، لست عليهم بمسيطر" (الغاشية 21)، و"يا
أيها النبي، إنَّا أرسلناك شاهداً ومبشراً
ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً
منيراً" (الأحزاب 44-45). وهناك حديث عن الرسول
العربي رواه البخاري يقول: "عن أبي هريرة أن
رسول الله قال: إنكم ستحرصون على الإمارة،
وستكون ندامة يوم القيامة." وأورِدُ حديثاً
آخر مفاده أن أحد أمراء العشائر العربية دخل
بيت النبي ورأى الحصير ينام عليه فقال له: إن
كسرى ينام على الحرير وأنت على الحصير! فقال
له الرسول: إنها النبوة، ليست الملك"! وإذا
كان الأمويون والعباسيون وغيرهم قد أقاموا
المملكة الإسلامية فذلك ليس من متطلبات
القرآن. فالإسلام هو، إذن، "دين ودنيا"،
لا "دين ودولة"، أقلَّه برأي الكثير من
العلماء والأئمة؛ و"اختلاف الأئمة رحمة"،
كما يجري الحديث. استنتاجات
من
هذه التمييزات المختلفة يمكن استخلاص ما يلي: -
إن الكثير ممَّن يتكلمون أو
يكتبون عن الدين يخلطون بين التعابير
والمفاهيم التي تتضمنها، ولذلك يصلون إلى
تأكيدات غير دقيقة ولا علمية. -
المطلوب في أيامنا هذه التي
أصبحت أكثر علمية من ذي قبل هو البدء بتحديد
المفردات التي يدور البحث حولها وإجراء
المناقشة والحوار من دون تعصب وعصبية أو رفض
للآخرين المختلفين في التعابير. -
إن التعابير والمفاهيم
الدينية غنية جداً، ومتداخلة، وعرضة
للالتباس والخلط. وإن في "البربرية التي
تخلط" هنا خطر الوصول إلى انقسام المجتمع،
وإلى الحروب الدينية، الكلامية أو الدموية!
فمن الضروري، اتِّقاءً لهذه النتائج
المأسوية، البدء بتحديد المفردات. آمل
أن يساهم الذين يتطرقون إلى الشؤون الدينية
في وسائل الإعلام، بعد أن تعددت في لبنان
والعالم العربي كافة، أن يساهموا في تجاوز
البربرية والخلط والغموض، من جهة، والإثارة
الإعلامية، من جهة أخرى، خدمة لكلِّ إنسان
وكلِّ الإنسان. *** *** *** عن
النهار، الأحد 31 آذار 2002
|
|
|