|
الشعر:
عبور من المرئي إلى غير المرئي*
كلُّ
شاعر عظيم نبيٌّ
الشعر،
في أوج قوَّته التعبيرية، ليس سوى فشل، إنما
فشل بديع أعظم بما لا يقاس من النجاح نفسه!
حوار
مع أدونيس
من
هو أدونيس؟
وكيف
تجرَّأ هذا القادم من قريته في الشمال البعيد
أن يخترق كل حواجز السائد، ويهدم المعاني،
ويكتب الكتاب؟ من هو
أدونيس؟
هل هو
واحد من حلقة شعر، أم مؤسِّس لصرخة مواقف،
أم شاعر النهايات، بعد أن أقفلت البدايات
أبوابها؟ من هو
أدونيس؟
شاعر قصائد
أولى، أم حفار لقبور الموتى–الأحياء، أم
ابن الرفض الذي لم يكتمل، أم متصوِّف يتخفَّى
في ثياب ثائر؟
من هو
علي أحمد سعيد إسبر؟
أطلَّ في
البداية بشعر هو مزيج من الرومنسية والرمزية.
ثم ذهب إلى غابة الكلمات؛ وهناك، بدأ يرى
ويكتشف ويكشف. وبدأنا معه رحلة التيه إلى
الغزالي والنِّفَّري وسان جون بِرْس. بعد
تجاربه، ورؤاه، وبعد أن كتب اسمه بوصفه
جرحاً، وبنى قبر نيويورك إلى جانب ملوك
طوائفنا، ذهب إلى مفرده الذي بصيغة
الجمع، وعاد إلينا اليوم باسم المتنبي. لماذا
المتنبي نسأل؟
هل لأنه
الشاعر–النبي–الملك؟ هل
المتنبي هو صورة جديدة لامرئ القيس؟
وهل يريد
أدونيس في الكتاب أن يقول لنا إنه صورة
ثالثة لمزج الاثنين بـنبي جبران؟ أسئلة
وأسئلة... تحار كيف تسأل. أما هو فلا يخاف من
الجواب، كأنه على موعد مع مفترق جديد، وكأنه
في كل مرة يبدأ كي يعلن النهاية. ذهبنا إلى الكتاب
والشاعر، ومعهما سوف نقوم برحلة إلى المجهول.
وهو هناك ينتظرنا على المشارف كي يدعونا إلى
مزيد من التوغل في ذواتنا المجهولة. إلياس
خوري
*** كتابك الأخير يحمل
عنواناً كبيراً جداً: الكتاب – كـكتاب
سيبويه، وكـ"الكتاب" الديني. إضافة إلى
هذا، يتضمن الكتاب مجموعة مستويات
للقراءة: قراءة التاريخ، وقراءة للشعراء
العرب، قراءة للمتنبي، وما يشبه السيرة
الذاتية. لماذا كانت الرحلة في التاريخ على
هذا المستوى؟ وما هي مقاييسك ومستويات
المقاربة التي اعتمدتَها؟ هذا السؤال
يُلزِمُني أن أتحدث عن نفسي وعن شعري؛ وأنا
أكره هذا الأمر. إنما سأحاول أن أقيم مسافة
بيني وبين شعري وعملي.
الكتاب،
كفكرة، هو في الأساس فكرة عربية. نظرياً، أول
من نظَّر لها في الغرب هو مالارميه. إنما قبل
النظرية كانت الفكرة موجودة في العربية –
فكرة أن يكون هناك "كتاب" يقول العالم
بشكل كامل وتام؛ ونموذجُه الأصلي هو الكتاب
الديني وكتاب سيبويه الذي يقول المقال
الفصل في علوم اللغة العربية. أنا لم أطمح إلى
ذلك، إنما حاولت أن أقيم نوعاً من المقابسة
لأقول رؤيتي لهذه الحضارة، وليس لقول الأشياء
الأخيرة. ولحسن الحظ فإن الكلام لا يقول
الأشياء إلا جزئياً؛ إذ لا يمكن استنفاد
الإنسان. ولكي أنفي عن الكلام والكتاب هذه
الصفة، وضعتُ العنوان الصغير "أمس المكان
الآن". ومن هذه الناحية، كنت أقرب، من حيث
مستوى المقاربة، إلى دانتي في الكوميديا
الإلهية مني إلى "الكتاب" بالمفهوم
الذي عرضته. وإعطاء الشكل
للكتاب هو ما وجدته صعباً. إذ إن الصعوبة بدت
لي في إمكانية أن أفصح عن قراءتي للحضارة
العربية عبر تجربة خاصة أعيشها. لذا عملت على
شكل الكتاب فترة طويلة، وغيَّرته أكثر من
مرة، واستقرَّيت في النهاية على وضع الأزمنة
الثلاثة – الماضي، الحاضر، المستقبل – على
الصفحة الواحدة، وأن يكون حامل هذه الأزمنة
شخصان، يكونان أحياناً متوحِّدين وأحياناً
متناقضين؛ ودليلي في القراءة هو المتنبي
وحياتي وتجربتي الفكريتان. إذاً، كل صفحة
تتضمن، كما تعرفون، الهامشَ الذي يُفترَض فيه
أن يكون ذاكرة المتنبي، والخلفيةَ
التاريخية، والجزءَ الأعلى من المتن الذي
يقول العالم، لكنْ عبر حياة المتنبي وشكله،
والنصفَ الآخر من المتن الذي يقول الشاعر عبر
فكرة حرة، خارج الزمان والمكان، وخارج المتن
الأعلى.
لماذا
قمت بهذه القراءة؟ كما لاحظتم،
تحاشتْ القراءةُ المسألةَ الدينية، وركَّزتْ
على المسألة الفنية، من جهة، والسياسية، من
جهة ثانية. تجنَّبتُ الديني، إلا حين ارتكزتْ
السياسةُ عليه، أي بشكل مداوِر جداً. في
قراءتي لاحظتُ أن آلية السياسة قامت على
العنف، وأردتُ مواجهة هذا العنف. في مقابلة
هذا العنف كان هناك شعراء مهمَّشون خلقوا
الهوية التاريخية العربية. قراءتي للسياسة هي
قراءة لهذا العنف ولهذه الدموية المريعة،
وقراءة لمقولة أن الإنسان لا قيمة له. هذا تبسيط –
وأقرُّ بذلك – لكني لا أحب الدخول أبعد إلا
تبعاً للأسئلة. المتنبي هو صورة لـ"كمال"
الشعر العربي؛ هو الشعر العربي في ذروته، كما
نعرف. وقد اخترتَه أساساً لعملك، وهو نبي، أو
استمرار لفكرة الشاعر–النبي–الملك. فلماذا
اخترتَه؟ هل لأن اسمك الذي اخترته، بوعي أو من
غير وعي، يشكل أيضاً استمراراً لهذا الاتجاه
النبوي في الشعر العربي؟ المتن
والهامش في آن واحد
هناك
جانب لاواعٍ في اختيار المتنبي يعود لفترة
الطفولة. أما على مستوى الوعي فقد اخترتُه
لأنه يمثل مفارقة كبرى في التاريخ العربي. لقد
كان المتنبي المتن والهامش في آن واحد: كان في
قلب كلِّ حدث سياسي وشعري؛ لكنه كان أيضاً على
الهامش، ويكاد أن يكون على الحافة. وهذه
المفارقة هي حال معظم الشعراء العِظام: تراه
في قلب الثقافة؛ وتراه، من ناحية أخرى، آخِر
من يُعتبَر جزءاً من هذه النواة. هذا الجانب
الخفي والعميق مدفون وغير معروف في سيرة
المتنبي، إضافة لكل جوانب حياته الشخصية
والحميمة. كلُّ ما يقال عنه هو عمومي وعام. لذا
أتصوَّره كأشقى كائن في عصره، ومن أشقى
كائنات التاريخ! هذه المفارقة هي ما جعلتني
أختار المتنبي. وهناك
سبب آخر أيضاً، وهو أن كل شعراء العرب،
باستثناء المعري، كتبوا الشعر من خارج مشروع
رؤية للعالم؛ كتبوه كتجربة عاطفية انفعالية،
ترى إلى العالم من خلال علاقة الشاعر بهذا
العالم. المتنبي كتب شعره بوصفه منغمساً في
العالم، وبوصفه يصدر عن مشروع فكري وسياسي.
وأعتقد أن أهميتهما – المتنبي والمعرِّي –
تكمن في كون الشعر لديهما أكبر من مجرَّد
تجربة شخصية. وأنت
تقارن الكتاب بـالكوميديا الإلهية
تذكرتُ رسالة الغفران لأبي العلاء.
أستغرب أنك استثنيته، واعتمدت المتنبي. رسالة
الغفران
كُتِبَتْ في إطار تخييلي شبه ديني. أنا أردت
أن أتجاوز ذلك. كنت أحاول الكتابة عن رجال
ونساء في التاريخ. تاريخ
الشعر وتاريخ السلطة
أعتقد أن السبب
تاريخي بحت. المتنبي متأخر حوالى قرن كامل عن
أبي تمام، وهو نفسه يقول إنه تتلمذ على أبي
تمام. بداياتي (المقدمة) اقتصرتْ على
المؤسِّسين، والمتنبي متأخر تأخراً لا يسمح
بالكلام عليه في ما يتعلق بتأسيس الحداثة. لكن
المتنبي، كما كنت أراه، وكما أراه اليوم، هو
الثمرة الناضجة لهذا التأسيس. وعدم تناول
المتنبي له ما يسوِّغه على المستوى المنهجي
والمستوى العملي. وإذا كنت لم أعتبر المتنبي
كمؤسِّس للحداثة فلأن المؤسِّس ليس هو الأهم؛
إذ يمكن أن يكون الأقل أهمية. المتنبي أتمَّ
مشروع الحداثة العربية وكان أكبر من المشروع.
المتنبي في الكتاب ليس مثالاً فقط، بل
يمثل مفارقة. نقرأ
التاريخ في الكتاب وكأنه تاريخ السلطة
والصراع على السلطة؛ ويبدو التاريخ وكأنه
مرآة الجريمة. فهل هو كذلك؟
ما
نقرأ في الكتاب ليس إلا تاريخ الصراع على
هذه السلطة. وهذا لا يشمل التاريخ؛ فالتاريخ
أوسع من ذلك بكثير. في الكتاب لست مضطراً
أن أعالج جميع جوانب التاريخ. سياق الكتاب
هو سياق الكلام على التاريخ الذي تدوِّنه
السلطة، لا التاريخ الثقافي أو الاجتماعي. اختيارك
لتاريخ السلطة، ما علاقته باختيارك للمتنبي؟
تاريخ الشعر وتاريخ السلطة يتوازيان في الكتاب
ويتواجهان. ويبدو هذا الاختيار وكأنه ناتج عن
اختيارك للمتنبي، بصفته رجل سياسة حاول
الوصول إلى السلطة.
اخترت
تاريخ السلطة لأن قوام المجتمع العربي هو
السلطة؛ وكل ما في التاريخ العربي يتمحور
عليها. والمتنبي عاش علاقة غنية ومتشعبة مع
السلطة. ولم يكن هناك تخطيط مسبق لاختياره. كان
يمكن أن يحصل أكثر من مصادفة إذاً؟
ربما،
إنما لا يمكن فهم المجتمع العربي إلا بتفكيك
آلية السلطة. كأن
ما تفعله في الكتاب هو اختتام عصر النهضة؟
مع
الاحتفاظ بالمسلَّمات. ولكن الكتاب يحاول
فضحَ السلطة كما مارسها العرب. التاريخ
العربي تحديداً هو تاريخ سلطة أولاً. كل شيء –
حتى العلوم والفلسفة والأدب – كانت إما ثقافة
سلطة وإما سلطة مناهضة للسلطة. لم أخترع أي
حدث. هذه هي السلطة: قدَّمت نفسها على هذه
الصورة، وأنا قدَّمتها كما أرادت. التاريخ
يمكن متابعته كسلسلة متتابعة من المجازر
والمذابح لم تكد تنقطع طوال 1500 سنة. في
الكتاب توجد شذرات من حياة المتنبي
الشخصية، بينما لا توجد شذرات من حياة
المحاوِر الذي هو أنت.
هذا في
الجزء الأول، الذي تركز أساساً على المتنبي.
ويجب أن ننتظر الجزأين الآخرين ليصحَّ هذا
السؤال. ما
القصد؟
حتى لا
أقحم ذاتيَّتي في الكلام على الأحوال حاولتُ
إقامة مسافة شبه علمية أو موضوعية بيني وبين
ما أتحدث عنه، وأحاول أن أرى بدقة أكثر
وبموضوعية أكبر. ربما في الأجزاء المقبلة
تتغير الأمور. الشعر
يكمل نقص العالم
إحدى
قراءات الشعر تتم بوصفه مرآة للحياة. كأنك
جعلت الشعر مرآة للشعر، كأن الكتاب لعبة
مرايا متعددة.
لا
أعتقد أن الشعر مرآة الحياة. فالشعر ليس إعادة
إنتاج لما نعيشه. الشعر، بالنسبة إليَّ، ليس
مرآة عاكسة ولا واقعياً، وليس إعادة إنتاج
للذات ولا تعبيراً عنها أيضاً. إذا كانت
الكلمة لا تستطيع أن تفصح عن الشيء، فكيف تفصح
عن الذات؟! الشعر،
بالنسبة إليَّ، تكملة للنقص الموجود في
العالم وفي الإنسان وملء فراغ ما هو فارغ.
الشعر لا يعبِّر عني، بل يملأ فراغاتي. وما
قصدته في الهامش من الكتاب أن يكون إعادة
إنتاج؛ أما المتن فيختلف. ثمة نبراتٌ متعددة،
تختلف بين الهامش والنصف الأعلى من المتن
والنصف الأسفل منه. كل
شاعر نبي
إذا
لم يكن الشعر تعبيراً عن أو تجسيداً للأشياء،
يصبح ديناً أو ما يشبه الدين. وإذا قبلتَ بهذا
الافتراض فإنك تضع الشعر في مواجهة الدين –
وهذا صراع معروف عند العرب.
أوافق
على صيغة السؤال إذا أعدنا تحديد الدين. إذا
كان الدين مؤسَّسة تُعنى مباشرة بشؤون الحياة
الاجتماعية فأعتقد أن المقاربة خاطئة. وهذا
التحديد لا ينطبق على الدين الإسلامي لأنه
يقدِّم نفسه كرؤية دنيوية لا تنفصل عن الرؤية
الدينية. وتاريخياً لم نستطع أن نفصل الرؤية
الثانية عن الأولى؛ عشنا التاريخ بهاتين
الرؤيتين المتلازمتين، ولذلك لا نستطيع فهم
الدين الإسلامي إلا بحسب ما هو سائد – وإلا
فإننا لا نقدر على تأسيس أية معرفة ضمن هذه
الحدود التي يصعب التحديد فيها. أما
إذا كان الدين نظاماً من العلاقة بين المرئي
واللامرئي، بين الإنسان والغيب، فأعتقد أن
الشعر قريب من هذا التحديد؛ ويكون الدين –
الدين نفسه – نوعاً من الشعر؛ وبهذا المعنى
يصير كل شاعر نبياً. واستطراداً، لا يوجد شاعر
كبير لم يكن المرئي بالنسبة إليه عتبة
للامرئي. بهذا المعنى فإن كل شاعر عظيم نبي.
وأنا لا أقول إن المتنبي لم يكن نبياً، بل
أظنه كان كذلك! هذا
يعني أن هناك صراعاً بين الشاعر والنبي؟
خصوصاً
حين يحاول النبي أن يُمَأسِسَ نبوَّته فتنتهي.
في حين أن الشاعر لا يُمَأسِسُ نبوَّته، ولا
يطالب بذلك. ألا
تعتقد أن المتنبي قد جَرَتْ مَأسَسَتُه في
التاريخ العربي؟
المتنبي
هو الشاعر الذي أسيء فهمه. لكنه
تَمَأسَس؟
ممكن.
وهذا ليس ذنبه. إذاً
مَأسَسَةُ الدين خطأ بهذا المعنى؟
ليس
تماماً. فهناك مسوِّغات شرعية وأحكام لا
يستطيع الشاعر احترامها. أين
الحداثة؟ ألا
ترى أن كلَّ هذا الذي تقوله لا علاقة له بكل
خطاب الحداثة؟ فخطاب الحداثة استند إلى
الرومانسية، وإلى التغير وهشاشة الزمن
والبحث عن التعبير. وأنت الآن تتحدث عن شعر
لازمني ولاتعبيري.
ولماذا
لا تُفهَم الحداثة بصفتها ثورة على مركز
الكون الذي هو الله لتضع الإنسان مكانه؟ خطأ
الحداثة العربية أنها لم تَفِدْ من هذا
الأمر، فاحتبست في إطار التقليد، واكتفت من
الثورة بتبنِّي صيغ أشكال تعبيرية جديدة؛ لكن
الرؤية ظلت تقليدية. إذا دقَّقنا في النصوص
نكتشف هذه الرؤية التقليدية غير المنقطعة.
جذور الثقافة لم تمسَسْها الحداثة إطلاقاً –
وهذه مأساة الحياة الفكرية العربية. الشاعر
الذي يتكلم الآن... هل هو كاتب قصائد أولى وأوراق
في الريح؟
كل
قصيدة أكتبها – وحتى الكتاب حين أعيد
قراءته – أشعر بأنني لست من كتبها، لأنها لم
تكمِّلني ولم تملأ الفراغ. أعيش وأكتب وأنا
أشعر بملء كياني أنني، باستمرار، أنا لا أنا.
ولذلك أعتقد أن الشعر، في أوج قوَّته
التعبيرية، ليس سوى فشل، لأنه لا يمكن أن يصبح
جواباً: ليس هناك جواب لما يجبهُه الإنسانُ في
العالم، إنما فشل بديع أعظم بما لا يقاس من
النجاح نفسه! حين
أقرأ ما كتبتُ أشعر أنني كتبت شعراً، وأشعر
أنني بعيد عنه في الوقت نفسه. في قصيدة أقول ما
أود إيضاحه الآن: "ذلك الطفل الذي كنت هو
أنا." أغاني
مهيار
أتبناها كشعر؛ أما قصائد أولى وأوراق في
الريح والمسرح والمرايا فتجريب. كتاب
التحولات قسم منه تجريبي وقسم آخر شعري. (وأريد
أن أقول إن جزءاً كبيراً من نتاجي تعاملت معه
كمغامرة تجريبية، في اللغة والتشكيل وفي
علاقتي باللغة. كتبت الكثير من شعري بشكل
تجريبي.) وقت بين الرماد والورد أحبه
تجريباً وشعراً، لأن القصائد الثلاث كانت
بمثابة تتويج لكل التجريب السابق، فأخذتْ
شكلاً مكتملاً. إنها كتابة تأسيسية لكلِّ
الشعر العربي الحديث. مفرد بصيغة الجمع
هو، بالنسبة إليَّ، شعر، وهو أول كتاب له
علاقة حميمة بحياتي الشخصية. مفهوم
الشعر
الشعر
الحديث، كمغامرة تجريبية، ماذا استطاع أن
يغير وأن يحوِّل؟
في
البداية أودُّ القول إن تجربة مجلة شعر قد
أسيء فهمها إساءة كاملة. الجدل الذي أثرناه ضد
الكتابة التقليدية القديمة لم يكن قصده رفض
التراث؛ فمجرد الكتابة باللغة نفسها تجعلها
جزءاً من هذا التراث، لأن اللغة ليست حصى،
ولأن الشاعر لا يستطيع تعرية لغة مكسوة
بتاريخ كامل. لم تكن المسألة أن نكتب بصيغة
ضدية للقديم. نحن حوَّلنا قصيدة النثر إلى شكل
ضدي للقديم وهذا خطأ. أهمية
مجلة شعر تكمن في تغيير مفهوم الشعر، وليس
الانتقال من التفعيلة إلى قصيدة النثر. وبسبب
من إساءة فهم التجربة يبدو الشعر اليوم وكأنه
يدور في حلقة مفرغة، ويكاد يقترب من الإطار
التقليدي الذي حاولنا الهروب منه. لهذا أشعر
أن الكتابة الحديثة، عدا استثناءات قليلة، لا
تخفي أو تجرُّ وراءها أية ثقافة أو تجربة،
إنها تصدر عن لغة مجانية وعلاقات مجانية. وأين
تجارب الروَّاد مما يُكتَب اليوم؟
برأيي
أن ما يُكتَب اليوم لا علاقة له بمفهوم مجلة شعر
للشعر: إنه نوع من الشعر المنثور المطوَّر.
فالكتابة اليوم لا تزال خيطية، مثل القصيدة
العمودية، لا بناء ولا بؤرة مركزية لها؛ لا
تقيم علاقات جديدة بين اللغة والأشياء واللغة
والعالم. هذه اللغة تجعلنا نشعر أن ثمة مسافة
بين الكاتب والمفردة؛ والمطلوب أن تكون اللغة
خارجة من كيان الكاتب. هل
يمكن اعتبار هذا الخلل ناجماً عن سوء فهم
لتجربة البدايات؟
أظن
أنه ناجم عن التأثر بالشعر المترجم، أو الشعر
المكتوب بلغات أجنبية. كيف يمكن لشاعر أن يبدع
جمالية جديدة في لغة لا يعرف تاريخها
الجمالي؟! هناك انطباع لديَّ بأن الشعراء
اليوم لا يعرفون اللغة التي يكتبون بها.
والشاعر الذي لا يسيطر على أدواته لن يقدم
الكثير. ليس ثمة معرفة باللغة وأسرارها
وجماليَّاتها. طبعاً هناك استثناءات ومواهب
كبرى. إنما أتكلم عما هو شائع. بالعودة
إلى شعرك، نلاحظ، منذ مجموعاتك الأولى، أنك
تبحث عن تشكيل جديد لقصيدتك. وهذا البحث
اتَّخذ مسارب مختلفة، من التأثر بالرمزية في قصائد
أولى، ثم بالتيار الأسطوري. وهذا البحث كان
يتضح ويقل إيضاحه ويصعد ويخفت، إلى حد أن شعرك
ازداد تركيباً. والشاعر فيك كان تارة يخاطب
العالم، وطوراً هو رمز العالم، وأحياناً
تخاطب تعدد العوالم. في كلِّ هذه المسارات أين
هو الشاعر الفرد؟ وإلى أيِّ حدٍّ هو نتاج
تجربة ثقافية وحياتية؟
هذا
سؤال يُلزِمني أن أكون ناقداً لتجربتي. ومن
الصعوبة بمكان أن أنقد شعري بنفسي؛ فهناك
الكثير مما لا أفهمه. جوابي لن يكون دقيقاً عن
هذا السؤال، لذا أعتذر. الشكل
هو لغة أخرى
ماذا
عن تطور التشكيل الذي هو أمر يكاد يكون
تقنياً؟
الشكل،
بالنسبة إليَّ، هو لغة أخرى، يفصح كما تفصح
المفردة والجملة الشعرية والصورة
والإيقاعات؛ الشكل لغة أخرى تضاف إلى هذه
المفردات. وبقدر ما نبتكر الأشكال تتنوع
اللغة وتغتني. وأحد المعايير التي أقرأ على
هديها الشعر هو الطاقة التشكيلية. الشكل
مرتبط بعمق التجربة وغنى الثقافة. فتطور
التشكيل هو العبارة على تطور المعرفة
والتجربة. وأشعر في هذا المسار أن تجربتي
تزداد نضجاً. نرقص
بالسلاسل
هل
تشعر أنك متفوق على الشاعر القديم لأنك تملك
حرية الشكل؟
الفن
هو شكل في المقام الأخير. وبقدر ما أشعر أني
حققت إبداعاً شكلياً أشعر بهذا التفوق. لكن
المتنبي لم يكسر عمود الشعر!
لقد
كسره بمعنى ما. لنأخذ إحدى قصائده من البحر
الطويل ونقارنها بقصيدة من البحر نفسه لحسان
بن ثابت: نجد أن المتنبي خلق داخل العمود
الخليلي عموداً آخر، كأن يقول: شيم
الليالي أن تشكك ناقتي صدري
بها أفضى أم البيداء أو وجبت
هجيراً يترك الماء صادياً هل
كان يمكن كسر عمود الشعر العربي برأيك لو ظلت
الثقافة العربية دينية؟
الدين
أعطى اعتباراً للشعر وتسامح معه – ليس حباً
بالشعر؛ ففي العمق، ألغى الدين الشعر، وصار
الوحي هو المصدر الوحيد للمعرفة. إنما، مع
ذلك، بقيت مكانة الشعر قائمة، لأن الشعر هو
نموذج اللغة التي جاء بها القرآن، وحفاظ
الدين على اللغة هو نوع من صيانة اللغة
القرآنية. الدين، من ناحية ثانية، لم يحافظ
على العمود، وبالتالي فإن كسره ليس مسألة
دينية. وفي
العمق فإن قصيدة التفعيلة لم تكسر العمود بل
كثَّرته. ولذلك نجد فيها اليوم رتابة وطنيناً
وزخرفة شنيعة. ففي العمق لم نخرج على العمود،
وأنا لا أستثني أحداً. خروجنا على العمود كان
كخروج أبي نواس على عمود القيم الذي كان
موجوداً قبل الإسلام. (وقد كان في ذلك أكمل
منَّا لأنه صنع قيماً جديدة مدينية، ولم نفعل
مثله.) لا نزال داخل السور، ونتوهم أننا نرقص!
نحن نرقص بالسلاسل، ولا يمكن أن نكسر العمود
إلا في رحاب ثقافة حديثة ومجتمع حديث. هذا
القول يفترض استقلال الثقافات – وهذا أمر غير
صحيح.
أريد
أن أشير إلى أن أبسط حقوق الكتابة هو الإفصاح
بحرية كاملة عن المشكلات التي نعيشها كافة. في
هذا المجتمع لا نتمتع بهذه الحقوق. أنا أريد
أن أفصح عن الله كما أراه وعن الجنس كما أعيشه. أنت
– "أدونيس" – لا تجرؤ على ذلك؟!
أنا
مكبَّل في لاوعيي أيضاً! ألم
تجرؤ على قول ما تريد فعلاً؟
هناك
مفاهيم كثيرة – كالجنس، الله، السياسة،
الدين – أعبر عنها مداورة، وليس مباشرة – رغم
أني أعتقد أني من بين الأكثر جرأة في العالم
العربي. لكن الجرأة لا تكفي. فالكاتب، لمجرد
أنه يعيش في مجتمع مطوَّق بالسلاسل، تلغى
عنده إمكانية المغامرة الإبداعية. والسلطة لا
تحمي أحداً؛ إنها هنا طرف بين أطراف. شعرك
موجود بقوة في معظم ثقافات العالم، والحواجز
ألغِيَت ولم يعد هناك عوائق أمام الإبداع.
ما
يهمني هو البقاء في مجتمعي، وأن يصغي إليَّ
هذا المجتمع، مهما كان ما أقوله جذرياً. نحن،
بمعنى ما، لا نزال نعيش في القرون الوسطى! ليس
ثمة محارق، لكن أن تحرق الكتب... فثمة عنف
مزدوج على القارئ والكاتب معاً. دُلَّني
على مغامرة كبيرة واحدة في فهم الله أو في فهم
الجنس في الأدب العربي. هناك سلاسل ثقافية،
نتحرك ونحن مكبلون بها. دُلَّني على شاعر أو
رسام أو روائي مغامر مغامرة كبيرة في البناء
الفني. لماذا تغيب المغامرات؟ ليس لأنه لا
توجد مواهب، بل لأن هناك مسبقات وأطُر ثقافية
سائدة مكبِّلة للمجتمع. والفرد ليس ملوماً؛
الوضع الاجتماعي هو الملوم. اقترح
يوسف الخال الكتابة بالعامية، والنثر العربي
صار يستخدم اللهجات العامية. إنما الشعر لم
يستخدمها. ألا تظن أن هذا الأمر هو أحد أسباب
المعوِّقات؟
لست ضد
اللغة الدارجة إطلاقاً. وبالنسبة ليوسف الخال
فإن لغته الدارجة هي الفصحى بدون إعراب. وهناك
كثيرون من النحاة حكوا بهذه النظرية. أما لجهة
أن أكتب أنا باللغة الدارجة فهذا أمر آخر.
شخصياً، أحب أن أقرأ شعراً باللغة الدارجة،
ولكني لا أستطيع إلا أن أكتب باللغة الفصحى –
رغم الشعور القوي بأن اللغة، كمثل كائن حيٍّ،
تولد وتنمو وتموت، ولا يوجد قانون يمنع موتها.
رغم هذا الوعي، أنا أميل للكتابة بالفصحى،
وأحب هذه الكتابة الذاهبة إلى حتفها! هل
يمكن استنفاد اللغة إذاً؟
لا يمكن استنفاد اللغة؛ إنما قد يستنفد شاعرٌ معين لغته. والشاعر يستنفد لغته حين يوصِل طريقة تعبيره إلى أوج لا يستطيع أن يتخطَّاه. المتنبي استنفد اللغة الشعرية؛ ولهذا السبب لم نعد نستطيع أن نكتب إلا ما هو مضاد له. لكن اللغة – كلغة – لا تُستنفَد. وهذا يجعلني أعود للفرق بين اللغة الشعرية والدينية: فالشعرية تفتح العالم؛ أما الدينية فتغلق على الحقائق وتسجن العالم داخل الكلمات. *** *** *** حاوره
إلياس خوري
شارك
في الحوار بلال خبيز وحسين بن حمزة عن ملحق النهار، السبت 19 تشرين الأول 1996
*
العنوان الأصلي لهذا الحوار هو "أحِبُّ
الكتابة الذاهبة إلى حتفها"، وهو عبارة
قالها أدونيس في سياق كلامه على إصراره على
كتابة الشعر بالفصحى المقضي عليها، كأيِّ
كائن حي، بالموت؛ وهو، بالتالي، منتزَعاً
من سياقه الأصلي، لا يوحي بالمعنى الوارد
في الحوار – ومن هنا ارتأينا تغييره. كل
الامتنان أيضاً لصديقنا الشاعر جبران سعد
على تزويدنا بنص الحوار من أرشيفه الشخصي
الثمين. (المحرِّر)
|
|
|