|
أمر إلى الجيش
ألكسندر
غرين*
الحرب
الأوروبية العظمى التي جرت بين عامي 1914-1918
توقفتْ في جوار قريتي فيتبرن وفيسنبرغ.
أوقفتْها مواطنةٌ أنثى من سكان القرية
الأخيرة. إنها الفتاة جانّ كارول البالغة من
العمر تسع سنوات وثلاثة أشهر. والحق أن الحرب
لم تتوقف توقفاً تاماً؛ إذ لم تتوقف أكثر من
ساعة، وفي موضع واحد فقط. إذن ما القضية؟ وما
خبر الحادث الذي وقع؟ في
حوالى الساعة الخامسة بعد الظهر برز شخصان
على الطريق المغبرَّة التي تلتف حول غابة
تحتضن هضبة واسعة مشجَّرة. أحدهما، الأضخم
قليلاً، كان يحتج ويصرخ عالياً مكفكفاً دمع
عينيه المنتفختين بيدين مضرَّجتين بالدم،
بينما الآخر، الأصغر قليلاً، كان يقود الأول،
بإصرار، باتجاه قرية بدت سطوح منازلها عن بعد.
كانت الفتاة الصغيرة تُحكِم قبضتها على قميص
شقيقها وتشدُّه بقوة كلما حاول التملُّص منها
مستحضِراً استقلاليته الذكورية صارخاً: -
امضي إلى الجحيم يا جانّ!
هذا ليس من شأنك. أنا لا أريد الذهاب. مع
ذلك، كان يذهب – وبسرعة أيضاً – مبدياً
مقاومة فوق العادة، لكن ليس بجدية تامة. كان
في الحادية عشر من عمره، وقد تعرَّضت هيبتُه
الذكورية – مصدر ازدرائه للبنات – للانكسار
من جراء لطمة قوية على أنفه. إذ كان قد فرغ
لتوِّه من عراك خاسر، فانطوى على نفسه
مكلَّلاً بالهزيمة. شعرت جانّ – رغم نزقها –
بالأسف عليه؛ فالعراك جرى أمام عينيها مباشرة. -
لا تصرخ من فضلك، قالت. يجب
أن نسرع. فمن المحتمل أنهم بدؤوا يقلقون علينا
في البيت. كل الشكر لك. أي عمل جيد في أنك
اصطحبتني؟ كانوا سيقطِّعونك إرباً! -
ها ها... صرخ جان. بل أنا من
سيمزِّقهم إرباً. فقط انتظري حتى ألتقي بهم
مرة ثانية. سوف أريهم، ها ها. يمكن لأيِّ شخص
أن ينتصر إذا كان ثمة اثنان مثلك. لا، فقط
حاولي، واحد مقابل واحد، وسترين حالاً، سوف
أمرِّغهم في الوحل. -
لكن، كان عليك ألا
تستفزَّهم. -
أنا لم أستفزهم. -
أنت تكذب. لقد قذفتهم
بالحجارة وصرخت: "عفريت فيتبرن يتقدم إلى
العصيدة أولاً! يلوك فمه ويلعق الحساء، ولا
تسألوا عن المزيد." ألا تدري أن الأهالي
أصيبوا بالجنون عندما قلت ذلك؟ -
آه، يالكِ من حمقاء، يالك من
حمقاء! صرخ جان. على أية حال، ما الذي تعرفينه
عن أمورنا؟ أنتِ مجرد بنت. ثم ماذا عنهم؟ ألم
يغنوا: "في فيسنبرغ فئران
أشجار الصنوبر تحلم ببعض قطع الجبن"؟ -
طيب، لقد فعلوا ذلك. ولكن
أنت من كان يستفزهم. -
هذا لا يغير من الأمر شيئاً.
جميعهم مخادعون. أثلجت
هذه الحجَّة القاطعة صدرَ جان وأخرست الفتاة
هنيهة. ثم ما لبثت العداوة أن وجدت طريقها إلى
صدريهما، وانتهت بهما إلى التوقف قليلاً. وراءهما
انتصبت الغابة، وأمامهما، إلى الأسفل قليلاً
من الطريق، أرض فسيحة مقطوعة الشجر، كانت
تتخلَّلها أغصان وجذوع توسَّطت أكوام الحطب
المتناثرة، مما جعل الرؤية تبدو واضحة على
مسافة عشرين خطوة أو أكثر. منذ
ثلاثة أيام كان القتال محتدماً في الجوار،
والدخان المتصاعد في السماء يُظهِر أن قرية
بعيدة تحترق. كانت أصوات نيران البنادق
تتوالى من وراء الأفق وكأنها تتدحرج بسرعة ثم
تقف عند القدمين. -
يوماً ما ستحاسَب على كلامك
السابق، قالت الفتاة. ما الخبر؟ هل أنفك ينزف؟
ليس الكريما طبعاً. -
إنه دم. قال جان، متفحصاً
أصابعه الملطخة. هذا لا يهم، نحن الرجال،
علينا أن نعتاد على القتال، وأنت تجلسين
للخياطة والبكاء. -
بإمكان أي شخص أن يرى كيف
كان قتالك. لقد تورَّمتْ عيناك تماماً. -
أنا لا أبالي البتة. على
المرء أن يتحمل كل شيء. عندما أكبر وأصبح
جندياً، سيقول الجميع: "أمر مؤكد، جان
كارول سيصبح جنرالاً." -
هل سيقولون ذلك عنك؟ -
ولم لا؟ انظري، كم من الحطب
هناك؟ إنه بقدر ما هنالك من جنود في العالم
وربما أكثر. يمكنهم جميعاً أن يصبحوا جنرالات
وينتصروا على عدوهم. لكنك أنتِ لست من عدادنا. بدت
جانّ مستغرقة في التفكير وهي تجرُّ الولد
جراً آلياً من كمِّ قميصه. كانت تحدق في أكوام
الحطب المتناثرة وتتخيلها مثل جان، حافي
القدمين دامي الأنف. في روحها العذبة انبثقت
شجاعةُ سَمِيَّتِها.©
لكنها كانت شجاعة بغرض التوجيه والنصح،
فالتمعت عيناها وتوهجتا. -
سأواجهك ببسالة! صرخت.
وسأوبخك. أليس هذا جيداً! انظر هنا يا جان، لو
أن جميع هذه الأكوام من الحطب أصبحت جنوداً
صوَّبوا أسلحتهم عليَّ سأقول لهم: "اذهبوا
إلى بيوتكم أيها الجنود. إني أصدر أمراً إلى
الجيش قاطبة. الحرب أمر سيئ. لقد قتلوا فتاة في
بيتنا اليوم. وكذلك سوف يقتلونكم جميعاً. آه،
آه! تفرَّقوا، هيا تفرَّقوا وانتشروا. نحن
سنذهب حالاً أيضاً. فكل الآباء في القرية
يقولون إن العيش صار لا يطاق هنا. لماذا لا
تمكثون في بيوتكم؟ أي هدف جئتم من أجله؟ فقط
فكروا قليلاً بأمر الحرب. لا أريد أن أراكم
هنا ثانية، وإلا فإنكم ستتعبون ويفوتكم موعد
الغداء. هكذا
نفثتْ خطبتَها بصوت غاضب ملتهب. وفي اللحظة
التالية، قفزت عن جذع الشجرة المقطوعة الذي
اتخذته منبراً يوحي بالمهابة، ثم توارت خلف
جان الذي اكتفى بأن صاح: "آه!" فجأة،
فوق أكوام الحطب، ظهرت مئات من القبعات
العسكرية، ثم برزت كتيبة كاملة من الجنود
الفرنسيين من مخبأ نصبوا فيه كميناً
لسَرِيَّة من الفرسان الألمان كانت تقوم
بأعمال الدورية. ضاحكين، اندفع الرجال باتجاه
الفتاة الصغيرة. وشاء
القدر أن يقع أمرٌ آخر في هذا الحادث العرضي.
كانت جانّ ما تزال في مكانها على كتف جندي
فرنسي ضخم الجثة طويل القامة، يدور بها
كالخذروف، داعياً رفاقه للقدوم والنظر إلى
هذا "العفريت المعارض للحرب، والخطير
كأفعى". في تلك اللحظة، اندفعت مجموعة من
الفرسان الألمان إلى الغابة ثم انعطفت باتجاه
الأرض الفسيحة. دهشتُهم،
التي توَّجها منظر الفتاة الصغيرة المرفوعة
كراية، جعلتهم يتخذون حالة التأهب لإطلاق
النار. كان الوضع غريباً مضحكاً. جهَّز الجنود
بنادقهم، لكن الفوهات كانت باتجاه الأسفل.
وسرعان ما بدأ رجل من الفرنسيين يلوِّح
بمنديل فوق رأسه. -
على رسلكم، على رسلكم، أيها
الألمان. صاح الكمين الفرنسي. نحن في استراحة
نتناول الغداء، ونقرأ الجريدة البرلينية. شيئاً
فشيئاً بدأ الطرفان يتجاذبان أطراف الحديث.
وانتهى الأمر على خير، كما يحدث في مثل هذه
الحالات من الارتباك المفاجئ، ولم يقع أي
قتال. اقتاد الجنود الطفلين خارج الغابة إلى
الطريق وطلبا منهما العودة إلى البيت. كان جان
غاضباً حانقاً. -
أيتها الحمقاء، لقد أفسدت
الأمر كله، قال. كان هؤلاء الجنود على وشك
الدخول في معركة حامية. -
آه،
امضِ، امضِ. قالت الفتاة بحزن. *** *** *** روسيا،
1920
ترجمة:
معين رومية
*
كان ألكسندر غرين (1880–1930)
واحداً من الرموز الأصيلة في الأدب الروسي.
خلق عالمه الخاص من الحلم والخيال ونفخ
الحياة فيه؛ حتى إنه اخترع بلداً خيالياً
أسماه "غرينلاند" - أي بلاد غرين -
تسكنه الشجاعة والفخار والأفراد اللطفاء.
مع ذلك، فإن خيال غرين الرومانسي كان
واعياً ومرحاً ومتناغماً مع العصر الحديث.
هذه القصة من مجموعته الباحث عن المغامرة
The Seeker of Adventure
التي تحمل، برأي النقاد، شعاعاً
من الأمل نحو المستقبل. كُتِبَت القصة (An Army Order)
عام 1920. (المترجم) ©
المقصودة هي جانّ دارك (1412-1431)، التي أرغمت
الإنكليز على رفع الحصار عن أورليان (1429)
ورتَّبت تتويج شارل السابع ملكاً في رانس.
وعندما وقعت في أسر البورغونيين، حلفاء
الإنكليز، حوكمت بتهمة السحر وأحرِقَت حية
في روون. (المترجم)
|
|
|