|
القنديل
أميمة
الخش
حكت لي أمي
ذات مرة، وأنا في مطلع شبابي، حكاية تقول إن
أحد الحكماء استدعى خمسة رجال إلى غرفة مظلمة
كان قد أمر بربط فيل ضخم فيها. طلب الحكيم من الرجال الخمسة أن
يخبروه عن ماهية الشيء الموجود في الغرفة،
فراح كل واحد منهم يتحسَّس ما أمامه. لَمَسَ
أولهم خرطوم الفيل، وجزم أنه حيَّة ضخمة.
لَمَسَ الثاني الذيل، وأكَّد أنه حبل. لَمَسَ
الثالث قائمة الفيل، فأصرَّ أنها جذع شجرة.
أمسك رابعهم بأذن الفيل، وأعلن واثقاً أنها
مروحة. وحين لَمَسَ خامسهم جانب الفيل أقسم
أنه جدار. ولأن كلاً منهم تمسَّك بصحة
رأيه وسلامة وَصْفِه فقد احتدَّ النقاش
بينهم، ولم يتوفقوا إلى حلٍّ لخلافهم.
عندئذٍ، دخل عليهم الحكيم، وفي يده قنديل
مضاء. التفتوا إليه جميعاً وصاحوا متعجِّبين.
قال الحكيم: "الآن تستطيعون رؤية الحقيقة." -
أتعرف؟ تقول أمي، وهي ترمقني بلهفة
وترقُّب، وقد أنهت حكايتها. -
ليس مهماً أن نعرف أو لا نعرف. المهم أن
نشعل في الدرب الذي نسير عليه ولو شمعة صغيرة
تساعدنا على الوصول. * أعاقتني ثلوج الطريق المتراكمة
عن ترك المدينة الساحلية التي قصدتُها للقاء
الحبيبة في البلد المجاور، فبقيت حبيساً، وفي
داخلي إحساسٌ هائل بضيق المكان من حولي. يوم
أفرجت عني الطبيعة، لا أدري لِمَ ارتسمت على
شفتيَّ بسمة! اندسَسْتُ في السيارة التي سَتُقِلُّني إلى بلدي القريب، وأنا أمنِّي
النفس بلحظة الوصول، تاركاً ورائي شعوراً
قاسياً بخيبة داهمت كياني وأنا أذوب في
الكيان الذي أحب. هل تحوَّل التوق إلى توحُّد
كلِّي هاجساً يؤرق حياتي، فيجعلني أحس دائماً
بغربة من نوع ما؟! -
حين تصيرين يا حبيبتي كالشمس ستعرفين
مكاني الذي ستسطعين فيه وأنت في كامل ألقك! أقول هذا، وأنا أترك في عمق
عينيها الجميلتين نظرة العتاب ذاتها، تلك
التي ما زالت أمي ترمقني بها كلما عدتُ إليها
مساءً، وأنا أحمل في يدي زجاجة مشروب غازي
رخيص تركن إلى جانبي، وأنا أتابع على شاشة
التلفزيون مباراة رياضية، أو برنامجاً
تافهاً أنتجتْه وأخرجتْه وصدَّرتْه لنا عقول
تعتبرنا قطيعاً في حظيرة كبيرة بَنَتْها لنا
على الأرض بعد أن رسمتْها على الورق، عن قصد
ودراية مسبقين، ثم مَهَرتْها بأختام وتواقيع
لا تُمحى إلا بطفرة نوعية يرتقي فيها وعينا
"القطيعي" إلى وعي إنساني. "لن تخلو هذه الرحلة من خطورة."
هكذا رحتُ أقول لنفسي، وأنا أرتب وضعية جلوسي
في المقعد الخلفي إلى جانب "الحَجِّة"،
كما سمعتُ السائق يناديها. الطريق لم يتخلَّص تماماً من
آثار الثلوج التي ما زالت مركونة على
الجانبين. لكن ثقتي بمهارة السائق أزالت عن
نفسي الكثير من المخاوف. فلطالما اختبرتُ معه
رحلات كهذه على كرِّ سنين أربع ماضية، قضيتها
في دراسة فرع علمي اخترتُه عامداً كي يشعل
أمامي شمعة تريني، ولو وجهاً واحداً من وجوه
الحقيقة التي لم يرها الرجال الخمسة وهم في
عتمتهم. انطلقت بنا السيارة، التي هي
"أحسن سيارة في العالم!" – على حد قول
السائق أبي سليم؛ إذ هي لم تخذله أبداً منذ أن
اقتناها قبل عشر سنوات. تطيعه كالنعجة، حتى في
أقسى ظروف الجو صعوبة. -
سوف ترون اليوم أنني أقول الحقيقة. بنت
الأصل لا يظهر معدنها إلا في الظروف الصعبة. قهقه، وهو يتخذ خط سيره باتجاه
الطريق الخارج من المدينة، ثم راح يرمق أبا
مالك بطرف عينيه وهو خلف مقوده، ويبتسم له
بوداعة. بدا أنه يعرف أبا مالك جيداً؛ فلقد
رحب كثيراً بتشريفه بالسفر معه – على حدِّ
قوله – وعاتبه على أنه لم يره منذ مدة. كان أبو مالك يجلس إلى جانبه
مسترخياً، وقد ظهر لي من الخلف طرفُ وجهه
بقسماته الوديعة الهادئة. -
أهليـــن أبو مالك... والله شرَّفت يا رجل! قال أبو سليم مرحِّباً. يلتفت إليه أبو مالك ويرد على
ترحيبه المتكرر بابتسامة لطيفة وهزة رأس
خفيفة، دليل مودة ورضى. -
الحقيقة أن أبو سليم سائق ولا كل السائقين! قال أبو مالك موجِّهاً كلامه
إلينا، ومفتتحاً به حديث الرحلة التي قد تطول
في ظل ظروف كهذه. تابع: -
مهارة،
وأخلاق، وخفة دم فوق هذا كله! انظروا إليه...
لقد منعتْه أخلاقُه من ترك الراكب الذي
تخلَّف عن المجيء كي لا يفقد مصداقيَّته معه.
ألم تروا كيف جعلنا ننتظر نصف ساعة كي لا يخلف
وعده. تأكد يا أخ ... والتفت إليَّ نصف التفاتة. قال
أبو سليم: -
أحمد... -
...
تأكد يا أخ أحمد أنه لم يكن لينطلق لولا
إلحاحك عليه، ولولا شعوره بأنه أخَّرك بما
يكفي، وأخَّرنا أيضاً. الحقيقة أن هذه
الأخلاق لا تلمسها عند غيره من السائقين. لذلك
فأنا زبونه المداوم عن قناعة ورضى. ابتسم في وجهي بعد أن أنهى
كلامه، ثم نظر بطرف عينه إلى أبي سليم الذي
كان يحاول أن يتحكم في تعبير وجهه كي لا يفضح
ما بداخله، الذي لا علاقة له بتاتاً بما قال
أبو مالك. إذ لولا العرض الذي قدمتُه لأبي
سليم، بعد انتظارنا الطويل في الكراج من أجل
الراكب الموعود، والذي تكلَّفتُ عنه بدفع
أجرة راكبين، لما تحرك أبو سليم بسيارته قبل
أن يحظى براكب آخر – كائناً من كان – كي لا
تضيع عليه الأجرة. ومع ذلك فهو، كما قال بعد أن
أقلع بالسيارة، لا يهتم للمال! -
يلعن أبو المصاري! أنا أنتظره كي لا أخلف
وعدي معه. هذه هي المسألة من الألف إلى الياء.
لا تفهموني غلط يا شباب! ويلتفت موجهاً إليَّ الحديث
وهو يتخذ مكانه وراء المقود بعد أن أوشك أن
يفقد أعصابه تماماً. -
وِلَكْ أهليـــــن أبو مالك... والله زمان
يا رجل! قال هذا وقد بدأت نفسُه تهدأ. -
ها... هات أطربنا بأحاديثك الرائعة. فهذا
الشاب – والتفت إليَّ بحركة سريعة – والله
ولا كل الشباب. فهيم، ومثقف، وشهم. وتستطيع أن
تحكي أمامه كل ما يحلو لك. يعني هون حفرنا،
وهون طمرنا. صدقني... قهقه، ومدَّ يده إلى المذياع
الذي كان قد فتحه قبل قليل، فأخمد صوته، ثم
تابع: -
والله، يا أبو مالك، حالة الشباب هذه
الأيام لا تسر أبداً. لا أخلاق، ولا نخوة، ولا
شهامة... فساد في فساد... طبعاً، أحمد ليس منهم. التفت إليَّ نصف التفاتة،
وابتسم في وجهي ابتسامة بانت عريضة، بينما
كان أبو مالك يستمع ويهز رأسه دون أن يعلِّق.
لكن التعبير المرتسم على قسمات وجهه، التي
يظهر لي جزء منها من الخلف، كان يدل على
موافقته الكاملة على كلام أبي سليم. -
إي والله... – قال أبو مالك مشاركاً –
الرجل الشهم عملة نادرة هذه الأيام. ونظر إليَّ، بعد أن التفت نحوي
التفاتة كاملة. كانت في عينيه مودة ظاهرة.
تابع: -
وأنت يا أحمد دخلت مزاجي منذ البداية. لقد
عبَّرت عن شهامتك فعلاً. وها هو أبو سليم يشهد
على كلامي. -
طبعاً، طبعاً. قال أبو سليم وهو يهز رأسه دليل
الإعجاب والموافقة. -
إيه، يا ابني... ذكَّرتني الآن بحادثة
قديمة. قال أبو مالك، وشرد ذهنه بعيداً. أما أنا فلم أكن، حتى هذه
اللحظة، قد عرفت شيئاً عن أبي مالك سوى أنه،
كما بدا لي، رجل في حوالى الستين، يرتدي
ثياباً بسيطة ليست باهظة الثمن. اللون الأبيض
غزا القسم الأكبر من شعره، فلم يترك من سواده
إلا ما ندر. لكن الشيء الملفت في وجه أبي مالك
هو ذلك التعبير الوديع، الواضح على قسماته،
وتلك الابتسامة الخفيفة التي لم تفارق شفتيه
منذ أن احتل مقعده في السيارة. -
أبو مالك، يا أحمد، كان محققاً مهماً في
الاستخبارات برتبة ضابط. كان يستطيع أن يكسب
من وراء عمله الملايين، لكنه – يشهد الله –
عصامي وشريف وأخلاقه عالية. وهذه ليست مجاملة...
لا والله! ليست مجاملة. قال أبو سليم هذا، والتفت إلى
أبي مالك وفي عينيه نظرة إعجاب حقيقي. ورأيت
يده اليمنى تمتد، بعد أن أفلتت المقود،
وتربُتُ بمودة ورفق على فخذ أبي مالك القريب
منه. تنحنح أبو مالك قليلاً، ثم
ركَّز جلسته، وقد بقي ملتفتاً إلى الخلف نصف
التفاتة. -
منذ سنين، يا جماعة – وكنت ما أزال على
رأس عملي – زارني في بيتي القديم، الذي ما زلت
أسكن فيه حتى الآن، في حارة من حارات ريف
المدينة... صمت قليلاً قبل أن ينهي جملته،
وتنهَّد. أحسستُ أن في تنهيدته شيئاً من
المرارة التي جهد في إخفائها. -
إي والله، أبو مالك إنسان شريف، لم يستغل
منصبه أبداً من أجل الفخفخة والمنظرة. إما أن
يكون الرجال هكذا أو بلا... قال أبو سليم معلِّقاً، وهو يهز
رأسه معبِّراً عن تأثُّره العميق بكل كلمة
قالها أبو مالك، الأمر الذي أراح الأخير
وجعله يتابع حديثه بهمَّة بدت أقوى وأبهج: -
يا رجل! قال أبو مالك، وهو يرمق أبا
سليم بثقة واضحة. -
الإنسان بمعدنه، وليس بمظهره. المهم أن
تكون الأحوال مستورة، وهذا يكفي. أليس كذلك يا
ابني؟ نظر إليَّ، وابتسم، وفي عينيه
ترقُّب لجوابي. -
بالتأكيد يا سيد أبو مالك. قلت، وأنا أرقب حركاته وسكناته
باهتمام بالغ. لقد شدَّني، في الحقيقة، ما
سمعت وما رأيت من شخصية هذا الرجل، حتى بتُّ
متلهفاً لمعرفة المزيد عنه، دون أن أعي
تماماً ما الذي كنت أود معرفته أو التوصل إليه. -
المهم... تابع أبو مالك. -
... كان الزوار يا سيدي ثلاثة: امرأتان ورجل.
هل تعرف من كانوا؟ أهل الشخص الذي اتُّهِم منذ
سنوات باغتيال طبيب الرئيس. تصور! الأب،
والأم، والزوجة. صمت قليلاً، ثم قال: -
ويا لها من زوجة! كانت – يا سبحان الخلاق!
– جميلة إلى حدِّ الدهشة، إلى حدِّ أنها لا
تستطيع، يا ابني، أن تذهب إلى أحدٍ غيري لطلب
المساعدة. وهذا ما تأكدتُ منه تماماً حين
أصغيتُ إليها جيداً. بعد أن غادروا، يا ابني،
فكرت كثيراً. ثم صمَّمت أن أبذل غاية جهدي
لمساعدة هذه المرأة، مهما يكن الثمن. لقد فاضت
نفسي في تلك اللحظة بكل ما تختزنه من شهامة
تصلح لمثل هذه المناسبة. -
هذه أول مرة أسمع منك هذه القصة يا أبو
مالك! قال أبو سليم، والتفت إليَّ
بحركة سريعة، وتابَع: -
يا أخي، في حياة هذا الرجل حكايا كثيرة،
وكلها عِبَر – إي والله – لو أصغى إليها
الإنسان منا، لاستفاد الشيء الكثير. اتَّسعت ابتسامة أبي مالك،
وراح يعدِّل في جلسته، ملتفتاً إليَّ بجزء
كبير من جسمه ليستطيع نظرُه رؤية ما يرتسم على
وجهي من تعبير (لأن أمري، كما قال منذ
البداية، بات يهمه بعد أن وصفني بالشهامة
والنخوة!). -
وهكذا استدعيتُ المتهمَ للتحقيق. كان
شاباً في حوالى الثامنة والعشرين من عمره،
عروساً منذ ثمانية أشهر فقط... تصوروا! وقفزت
إلى مخيِّلتي فجأة، وهو جالس قبالتي، صورة
الزوجة الجميلة، فرأيت في وجهها وجه وردة
يانعة. "أليس ظلماً أن تذبل هذه الوردة؟!"
هكذا قلت في نفسي. واشتعلت فيَّ النخوة. يا
جماعة! الجمال يحرِّك النخوة في الرجال،
وليس، كما يقول التافهون، يحرك الشهوة. "ما
رأيك أن تغيِّر شهادتك يا ... وأنا أتكفَّل
بالباقي؟" سألته بجدِّية بالغة. واستغربتُ
سؤالي. بعد أن طرحتُه عليه تساءلت: "كيف
أفعل هذا، وأنا الأمين المخلص لدولة رَعَتْني
ومنحتْني مكانة أُحسَد عليها، ولرئيسٍ أرى
فيه وجه الخالق – سبحانه وتعالى؟! والله
والله يا ناس، أرى فيه وجه الخالق. ولكن... وذهب ذهنه بعيداً قبل أن يعود
فيقول: - هذا الشاب الشجاع، الذي لم يرف
له جفن وهو أمامي، أثار فيَّ إعجاب العالم
كلِّه! يا جماعة، الشاب شهم وحديد. والله
والله أعصابه من حديد! كانت عيناه تشبهان عيون
أولئك الذين يضعون مفاتيح الجنة في رقابهم،
ثم ينطلقون إلى الموت دون أن ينظروا وراءهم. -
هه... اسمع يا أبو مالك. الحجة تقرأ الآن عن
أولئك الذين وعدهم الله بجنات النعيم. ارفعي
صوتك يا حجة... خلِّي أبو مالك يسمع قليلاً. يقول أبو سليم مقاطعاً أبا مالك. لا ترد الحجة. تتابع قراءة ما
بيدها بصوتها الخفيض، كأنها تجلس في ركن بعيد
عن المكان الذي تحتلُّه إلى جانبي. تابع أبو سليم: -
والله يا أبو مالك الجنة، كما جاءت في
كتاب الله، شيء ولا في الخيال مثله. جَعَلَها
الله من نصيبنا يـــا رب! ادعي لنا، يا حجة،
ادعي... -
إن شاء الله... إن شاء الله... قالت الحجة أخيراً، وعادت
لمتابعة قراءتها التي كانت أقرب إلى الهمس. -
هل تتصور، يا أحمد، بماذا أجابني ذلك
الشاب العنيد؟ قال أبو مالك، وحدَّق في وجهي
بقوة. -
بماذا؟! سألت بلهفة، وقد شدَّتني
القصة، وشدَّتني أكثر طريقة روايتها. -
قال: "لو خرجت من السجن الآن لأعدت
المحاولة من جديد... لا مرة واحدة، وإنما عشرات
المرات... ما رأيك؟" قال هذا، وراح ينظر
إليَّ بتحدٍّ بالغ. أحسستُ أن الموقف فوق
احتمالي، فلذتُ بالصمت، وطلبت إخراجَه من
أمامي قبل أن أقدِم على حماقة ما. لقد جعلني
تحدِّي ذلك الشاب أحس بعجزي، فاضطربتُ وكدت
أفقد أعصابي. صمت أبو مالك قليلاً، ونظر إلى
أبي سليم. -
ما رأيك يا أبو سليم؟ -
والله، يا أبو
مالك، عملت واجبك وأكثر. ولو سمع المغرضون ما
قلتَه لذلك الشاب لحضَّروا لك المكائد، إي
والله. يا عمي الحقيقة أن ضميرك حي، وهذا أمر
لا خلاف عليه. -
طبعاً يا رجل، ضميري حي. ردَّ أبو مالك متباهياً، ثم
تابع: -
وأنا أشكر الله على ذلك. والله والله يا
أحمد – ونظر إليَّ – أنا رأيت، يا ابني،
الكثير من المناظر المؤثرة، ووضعني مركزي
كمحقِّق في مواقف صعبة جداً، ودقيقة جداً. لكن
ضميري كان مرتاحاً دائماً. إنها مهنتي، يا
ابني، وكنت مقتنعاً بها مثلما يقتنع أي إنسان
بمهنة يتقنها ويعمل فيها بإخلاص. كنت، يا
ابني، أقوم بواجبي تجاه الدولة والوطن، ولم
أكن أطمح إلى أكثر من ذلك. قال أبو مالك هذا بشيء من
الانفعال، لكن بلهجة لطيفة خالية من
العدوانية والمكر. -
ما رأيك يا أحمد؟ هـا؟ وواجهني بتعابير وجهه الوديعة
وابتسامته اللطيفة. حرتُ بماذا أجيب. ثم
وجدتُني أسأله سؤالاً بدا لي ساذجاً: -
ما الذي تقصده يا أبا مالك؟ قرأت في عينيه علامات
الاستغراب. ربما كان يظنني أذكى من أن أطرح
عليه سؤالاً كهذا. مع ذلك أجابني برحابة صدر: -
أقصد، يا ابني، أن المهنة، مهما كانت
قاسية وصعبة، يجب أن يؤدِّيها الإنسان المخلص
"على حبِّتها" تماماً، بدون أن يرفَّ له
جفن. نظر إلي أبي سليم ليرى وَقْعَ
كلامه على أساريره. كان وجه أبي سليم متهللاً
لكل كلمة يسمعها، حتى إنه نسي الحديث عن خطورة
الطريق، ونسي تذكيرنا بمتانة السيارة
وصمودها في أعتى الظروف الجوية، وغرق تماماً
في حديث أبي مالك الممتع، فراح يهز رأسه بعد
كل جملة يقولها الأخير دليل الإعجاب
والموافقة. -
لا عليك يا ابني. قال أبو مالك، موجِّهاً حديثه
إليَّ مرة أخرى، بعد أن رأى صمتي الذي حيَّره. -
أنت ما زلت غِراً. لم تواجه الحياة
العملية بعد. غداً ستفرمك الحياة فرماً.
وعندها ستتعلم أشياء تجعل الشعر الأسود
يبيضُّ قبل أوانه. صمت قليلاً ثم قال بشيء من
الانفعال: -
... أخت هالزمن الصعب! وأدار وجهه إلى الحجة. -
عفواً من الحجة! زلَّة لسان والله. فقط من
الضيق لا أكثر. لم ترد الحجة. كانت مخطوفة داخل
الكتاب الذي تقرأ فيه. هل كانت تسمع ما يقال يا
ترى؟ الله وحده يعلم. أما أنا، فلم أكن أعرف
شيئاً إلا أنني أعيش هذه اللحظة، ناسياً كل ما
عداها – حتى الحبيبة وما تركه لقاؤها في نفسي
من أشجان... حتى حركة السيارة التي راحت منذ
بعض الوقت تفقد توازنها، وهي تدوس بدواليبها
ندف الثلوج الهاربة من جانبي الطريق إلى وسطه. -
يا أبو مالك... يا أبو مالك... والله كلامك
دمعة! قال أبو سليم جملته، وهو يهز
رأسه، ويقبض على مقود السيارة بقوة، كأنه
يقبض على الحقيقة التي ضاعت منه طويلاً،
والتي وجدها اليوم في كلام أبي مالك، وفرح بها
لدرجة أنه نسي خطورة الطريق، ونسي كيف يتعامل
مع دوَّاسة البنزين برفق في تلك الظروف
الحرجة. فما كان إلا أن ساعدتْ حماستُه
المتزايدة على زيادة سرعة السيارة، الأمر
الذي جعل الدولاب الأمامي الأيمن يجنح
منزلقاً صوب كتل الثلوج المركونة على جانب
الطريق. اشرأبت أعناقنا نحن الثلاثة،
بينما راح أبو سليم يعالج الأمر بروية ودراية
معلِّم، فيحاول أن يتعامل مع الفرامل على مهل
ريثما تهدأ حركة السيارة ويستقيم خطُّ سيرها. لا أدري كيف خطر ببالي في تلك
اللحظة أن ألتفت إلى الحجة. كانت تنتفض
انتفاضات متتالية دون أن تتوقف شفتاها عن
قراءة الآيات. في تلك اللحظة فقط أحسستُ أنها
حاضرة معنا. -
دعواتك يا حجة... قال أبو سليم، بينما كانت
السيارة تهدأ قليلاً، ثم تابع: -
والله الطريق اليوم صعب يا شباب. لكن الله
يستجيب للصالحين من أمثالنا. أليس كذلك يا
حجة؟ -
الله يستر، يـــا رب. قالت الحجة، وقد بدأت
انتفاضاتُ جسمها تهدأ، وبدأت هي تعود إلى
قراءتها مرة أخرى. -
اقتربنا من الاستراحة. قال أبو سليم مطَمْئناً
الجميع، وقد عادت السيارة إلى مسارها السليم
على الطريق، وعدت أنا إلى استرداد هدوئي الذي
كدتُ أفقده قبل لحظات. -
ها... هذه الاستراحة أفضل استراحة على
الطريق كله! أراهن على ذلك. قال أبو سليم هذا، وراح يحوِّل
مسار سيارته باتجاهها. -
يا أخي، الآن كأس شاي يحيي القلب. قال أبو مالك هذا، وهو يفتح باب
السيارة، وينطلق منها بخفة، هارباً من خوف
اللحظات الماضية، ليكون أول من يدخل
الاستراحة، ويتخذ مكانه أمام صندوق الطلبات. احتسينا الشاي، نحن الأربعة،
على طاولة واحدة، واقتصر حديثنا الذي أداره
أبو سليم على جوِّ الاستراحة، ترتيبها، جودة
بضاعتها، نظافة الأكل الذي يُقدَّم فيها،
ولطف صاحبها والعاملين فيها. -
تصور يا أبو مالك، في كل مرة دزينة من
القداحات، وأنا طالع نازل على الخط. والله لا
أعرف ماذا أفعل بها! هذا، طبعاً، غير الأكل
والشرب. يا عمِّي، صاحبها أكابر! أبو مالك لم يتكلم كثيراً. كان
يعلِّق أحياناً، ويستمع معظم الوقت، ويهز
رأسه. بدا مرتاحاً ومستمتعاً بكأس الشاي التي
يرتشفها. لم يغادر مكانه، ولم يُبدِ أية رغبة
في شراء سلعة ما. كأن كل ما يراه، من حوله
وأمامه، لا يعني له شيئاً على الإطلاق. بدا لي
قنوعاً ومكتفياً. فكرت في هذا، وأنا أتجول، بعد
انتهائي من شرب الشاي، بين الممرات المكتظة
ببضائع مزينة وملونة ومرتبة بشكل أنيق
ومدروس، لجرِّ المواطن إلى دائرة الاستهلاك
السحرية التي تتحول فجأة – بقدرة قادر – إلى
كتلة من الرمال المتحركة يغرق المرء فيها إلى
درجة الشعور بالاختناق. في لحظة، تساءلت: "ما الذي
سأحمله لأمي التي أعرف أنها ستكون منذ الآن
واقفة خلف الباب تنتظرني، وفي عينيها لهفة
وترقُّب؟" وحين غلبتْني الحيرة تركت كل
شيء، وعدت إلى الجماعة. الحجة ما تزال صامتة، كما هي
منذ أول الجلسة. وقد أنهت الآن كأس الشاي،
وتهيأت للمغادرة. وجهها ما يزال ساكناً،
خالياً من أي تعبير. اندسَسْنا مرة أخرى في السيارة
التي تسلَّلتْ إليها برودةُ الجو الخارجي في
فترة غيابنا. رحتُ ألتمس بعض الدفء تحت سماكة
معطفي، ريثما يبث الشوفاج في جوِّها بعض
الحرارة. -
افتح الراديو يا أبو سليم. دعنا نتسلَّى
قليلاً. قال أبو مالك، وقد انطلقت بنا
السيارة بسرعة معقولة لتعبر الحدود الوهمية. -
وَلَوْ يا أبو مالك! حديثك أمتع من كل ما
سنسمع من هذا الراديو! حتى لو كان في السيارة
تلفزيون، أنا أفضل أن أستفيد من ثقافتك
الواسعة يا رجل! فهي أغنى بكثير من كل ما
يُسمَع وما يُرى. والله في هذه الأيام لا نسمع
ولا نرى إلا المساخر. ألا توافقني على ذلك يا
أحمد؟ -
صحيح. قلت، وأنا مستسلم للدفء الذي
بدأ يبدِّد برودة جو السيارة، ثم تابعت: -
لكن، يا أبا سليم، لا يخلو الأمر من بعض
البرامج التي يمكن أن يسمعها أحدنا أو يراها،
فيستفيد ويعتبر. ما رأيك مثلاً في مسلسل صلاح
الدين الذي بُثَّ خلال شهر رمضان؟ ألم يعجبك؟
أنا من جهتي تابعتُه بكثير من الإعجاب. لقد
حرَّك في نفسي مشاعر إيجابية وآمالاً كبيرة. صمتُّ قليلاً، ثم توجَّهت
بحديثي إلى أبي مالك، الذي لم يعلِّق على ما
سمع مني منذ قليل. -
يا عم أبو مالك، نحن الآن نفتقد لأمثال
هذا القائد العظيم. ألا ترى ذلك؟ وكأنني بحديثي وسؤالي حركت في
ذاكرة الرجل أحداث التاريخ العربي كله، وأعدت
إلى شبكة مخيِّلته صور شخصياته التي أزاحها
الزمن وتبدل الأيام. -
يا أحمد، يا ابني... قال، ملتفتاً إليَّ، وقد بدأ جو
السيارة الدافئ يثير حماسته ورغبته في الكلام. -
دعني أعطيك زبدة الزبدة في الكلام. في
تاريخنا العربي الإسلامي محمد هو الأهم، ثم
يأتي علي. ما رأيك يا حجة؟ كان سؤاله مباغتاً. نظرتُ إلى
الحجة، فرأيتها ترفع رأسها عن الكتاب الذي
بين يديها، ثم تحدج أبا مالك بنظرة حنق مكتوم،
ثم تعود فتخفض بصرها نحو السطور التي أمامها
وترد بصوت بدا مخنوقاً. -
صحيح... صحيح... -
التاريخ العربي، يا ابني أحمد، كلُّه
تشليف في تشليف. تابع أبو مالك، وقد سَرَّه جواب
الحجة القسري. -
أما الحقيقة، فالله أعلم... صمت قليلاً، وقد شرد ذهنه
بعيداً. ثم عاد فالتفت إليَّ وقال: -
هل كَتَبَ التاريخ، مثلاً، عما فعله أحد
صحابة الرسول المقربين، بينما كانوا مختبئين
في المغارة هرباً من كفار قريش؟ وقبل أن ينتظر أي ردٍّ مني، رغم
أني لم أكن أنوي هذا، تابع: -
اسمع الحقيقة مني الآن... الحقيقة كما حدثت
تماماً! ونظر بطرف عينه إلى الحجة. -
... إذا بتسمح الحجة. رفعت الحجة رأسها ونظرت إليه
نظرة استغراب، ولكن دون أن تنبس بكلمة هذه
المرة. ثم عادت إلى ما بين يديها، وكأن أحداً
لم يطرح عليها أي سؤال. تابع أبو مالك، دون أن
يبدو عليه أي انزعاج أو ضيق: -
يا سيدي، عندما كان الرسول وأصحابه في
المغارة، راح أحد أصحابه – لعن الله اسمه –
يضرب بكعب رجله على الأرض، مدَّعياً أنها
كانت تحكُّه، وأنه بحركته هذه يخفف عنها ألم
الحكة. والحقيقة، يا أحمد، أنه كان يفعل هذا
كي يجلب إلى المغارة انتباه المشركين الذين
كانوا قد ضيَّعوا أثر الرسول وصحبه. فما كان،
يا ابني، إلا أن ظهرت حية كوبرا كبيرة
والتفَّتْ على ساق الرسول، ثم وجَّهت رأسها
باتجاه ذلك الماكر كي تمنعه من الكلام أو
الحركة. وقد عقفت رأسها خصيصاً كي تواجهه
وجهاً لوجه. وهكذا امتازت هذه الحية التي
سُمِّيت فيما بعد بالكوبرا بعقفة الرأس هذه...
تصور؟! رفع أبو سليم يده عن المقود
وراح يحكُّ رأسه دليل توتر داخلي دون أن
يعلِّق بكلمة. كان نظره مثبتاً على الطريق
أمامه. وقد فهمت من حركته أنه غير مرتاح لما
يسمع. لكنه لم يكن يجرؤ على نفيه أيضاً. خطر ببالي مباشرة، وقد أنهى أبو
مالك قصته، أن "كوبرا" اسم أجنبي، لا
علاقة له باللغة العربية، لا القديمة ولا
الحديثة. ومع ذلك، لم أعلِّق على الرواية. كنت
أصغي، وعقلي يلتقط كل حرف يقوله أبو مالك، وكل
حركة تقوم بها الحجة وأبو سليم. لقد كان
الاثنان محاصرين تماماً! كان داخلي فياضاً بمشاعر كثيرة
ومتناقضة. هي مزيج من الاستغراب، والاستنكار،
والشفقة، والغضب، والسخرية، وأشياء أخرى
كثيرة. بقيت صامتاً. فجأة، التفت إليَّ أبو مالك
التفاتة كاملة، وحدَّق في وجهي. -
ما رأيك، يا أحمد، بهذا السافل؟ – بعد إذن
الحجة طبعاً. قال
هذا، وكأن أبا سليم لا علاقة له بالموضوع
بتاتاً. في تلك اللحظة كانت عيناي تحطان على
وجه الحجة الذي بدا ممتقعاً، رغم الدفء الذي
يشيع في جو السيارة، ورغم أنها لم تتوقف عن
القراءة. إلا أنها، على ما يبدو، فهمت تماماً
من هو الذي يقصده أبو مالك بروايته تلك. وهكذا
دخلت الإهانة في أذنيها كالصاعقة، فجعلتها
تتوقف عن القراءة، لتستغفر ربَّها عدة مرات،
ولكن دون أن ترفع رأسها وتنظر إلى أي منا. -
يا أبا مالك... أنا لم أسمع بهذه القصة قبل
الآن. فكيف تريدني أن أعطيك رأيي؟ قلت أخيراً، ثم تابعت: -
ثم، ماذا يهم رأيي الآن بعد أن مضى دهرٌ
على كل ما حدث؟ نحن الآن نعيش في عصر آخر،
وعالم آخر. أليس كذلك يا أبا مالك؟ -
يا أحمد، يا ابني... أنت شاب فهيم وشهم. قال هذا، وقد بدأ وجهه يحمرُّ
وينتفخ. -
خذها مني، وإلى الأبد. نحن الآن ما نزال
نعيش في مفاهيم ذلك العصر، وفي معطياته التي
خرَّبوها بعد موت الرسول مباشرة. خرَّبوها،
وجلسوا يتفرجون، ويتقاتلون. الإسلام، يا
ابني، انتهى كدولة منذ وفاة محمد. والبراهين
على ذلك هي كل تلك الخلافات التي حدثت منذ صدر
الإسلام. وزبدة القول، يا ابني، هي أن الكرسي
يغري، فيذهب بالعقول. وأتعجَّب مما أسمع من أبي مالك،
من رجل كان حامي السلطة ومدافعاً عنها. -
من يريد أن يشتري خبزاً؟ سأل أبو سليم، محاولاً تغيير
دفة الحديث، والخروج من ورطة لم يكن يريد أن
يقع في حبائلها. تابع ممثلاً حالة من الابتهاج: -
الحقيقة أن هذا المخبز أحسن مخبز في هذه
البلدة! -
يا سيدي، الخبز عندنا أحسن ألف مرة!
الدولة هناك تؤمن للمواطن كل شيء، وبأفضل
الطرق والمواصفات. الخبز هنا كله سكَّر.
لماذا، لا أدري! غش في غش. من يجرؤ على الغش
عندنا يا أبو سليم؟ كان أبو سليم قد توقف أمام أحد
المخابز، وراح يهم بالنزول. -
والله يا أبو مالك، كلامك جواهر... لكن
الخبز الذي سأشتريه ليس لي. الجيران... أنت
تعرف... عن إذنكم. وخرج من السيارة، ثم عاد فمدَّ
رأسه وسأل الحجة: -
هل تريدين خبزاً يا حجة؟ رفعت الحجة رأسها، وحدَّقت في
وجهه لوهلة، ثم هزت رأسها نافية. نقَّلت
نظرَها بيني وبين أبي مالك. كان في نظراتها
قدرٌ كبير من الغم، كأن وجودنا نحن الاثنين
يحجب عن صدرها نسمة الهواء. ولا أدري لِمَ
شعرتُ نحوها بفيض من العطف والشفقة. حاولت أن
أفتح شباك السيارة قليلاً، فصاح أبو مالك: -
لا يا أحمد! الدنيا ثلج يا ابني... عدت فأغلقته، ونظري يحطُّ على
وجه الحجة الذي لم يتبدل تعبيرُه، حتى بعد أن
عادت فأرخت رأسها فوق الكتاب مرة أخرى. عاد أبو سليم بسرعة قياسية،
واندسَّ وراء المقود. -
الدفا عفا يا عمي... قال، وهو يفرك يديه، ثم يشغل
المحرك، ويتابع خط سيره. -
إي والله يا عمر... قال أبو مالك. لا أدري لماذا
خاطبه هذه المرة باسمه الشخصي. -
ولكن، يا عمر، هل تعرف حقيقة ذلك الـ"عمر"
الذي لقَّبه التاريخ بالخليفة العادل، وهو لم
يكن هكذا أبداً؟ التفت أبو سليم فجأة نحوه، وقد
ظهر لي من الخلف حاجبُه الذي ارتفع دهشة،
وعينُه التي زادت اتساعاً. قال، بينما
السيارة تتابع طريقها باتجاه خط الحدود: -
أنا، والله، يا أبو مالك صفر أمام ثقافتك
الواسعة. لا والله، لا أعرف! وراح يهز رأسه. كان أبو سليم ما
يزال محتفظاً بهدوء أعصابه ورحابة صدره. -
يا سيدي... تابع أبو مالك، وقد بدا متلذذاً
بما سيقول: -
... الحقيقة أن خالد بن الوليد الذي يسمونه
سيف الله المسنون [لم يقل "المسلول"، كما
كان يُفترَض أن يُقال] كان قد ضرب عمر كفاً منذ
أيام الجاهلية. وعمر الحاقد لم ينسَ له ما فعل.
لذلك، عندما أصبح خليفة على المسلمين لم
يسلِّم خالداً قيادة الجيش أثناء الفتوحات،
بل سلَّمها لأبو عبيدة بن الجراح. وكان أبو
عبيدة من جماعته. يعني الأمر كله محسوبيات وبس...
فهل يمكنك أن تقول لي أين العدل عند ذلك
الخليفة... ها؟! أبو سليم لم ينطق بحرف واحد. فقط
نظر إليه بطرف عينه وابتسم ابتسامة أتت صفراء.
ضربه أبو مالك على فخذه مداعباً ومسترضياً. -
يا عمي لا تزعل!
أنت لا علاقة لك الآن بما كان يحصل. أنا سردتُ
الحادثة من باب التندر فقط! -
لكن عمر، الخليفة، يا عم أبو مالك كان
ذكياً وحكيماً، وعادلاً فعلاً. ولا أظن أنه
فكر بكل هذه الأمور عندما فعل ما فعل. أنا
أعتقد أن كل تصرفاته كانت تصبُّ في مصلحة
الدولة والرعية. قلت، مدافعاً عن وجهة نظري، وقد
أثارني ما ذكره أبو مالك. التفت أبو مالك
إليَّ بحركة سريعة، وحدَّق في وجهي ملياً.
أحسست أنه يصفعني بنظرته القوية الثابتة. -
يا ابني، أنت ما تزال صغيراً، ولا تعرف
الحقائق. خذ الحقيقة دائماً من الكبار
والمجرِّبين. أنا أعرف حقائق أكثر من شعر رأسك.
هل تعلم ذلك؟ وابتسم
في وجهي ابتسامة ساخرة. -
يا إلهي! كلهم مرتشون على حدود هذا البلد،
وعلى حدود بلدنا أيضاً. هذه هي الحقيقة. انظر! قال أبو سليم، وهو يقف أمام
عناصر جمارك البلد الذي أوشكنا أن نخرج منه،
متناسياً كل ما سمع قبل لحظات من كلام أبي
مالك. مدَّ يده ووضع شيئاً في يد
العنصر الذي أدخل رأسه من النافذة، ونظر
إلينا نظرة سريعة، ثم أشار إليه بمتابعة
المسير. -
أنجاس! – العفو منكم – وعلى الحاجز الآخر
يقف من هم أكثر نجاسة. كل يوم هات، هات، ولا
يشبعون. أعوذ بالله! قال أبو سليم، مفرِّغاً غضبه
العارم الذي كان، على ما يبدو، حبيس صدره منذ
أن بدأ أبو مالك حديثه. وقد وجد الآن الفرصة
المناسبة لكي يفرِّج عن نفسه بعض كربها. تأملت، وقد صمت أبو سليم في هذه
الفسحة الوهمية التي تفصل بين بلدين شقيقين
عاشا في الماضي تاريخاً مشتركاً، ثم باعدتْ
بينهما المذاهب والمشارب بجهود أصابع لعبت
لعبتَها الخفية، ونجحت في تذكيرنا دائماً
بأننا منساقون وطيِّعون إلى حدِّ الخنوع.
ونحن في هذا كله أغبياء ومغرورون، لأننا نظن
أننا نعرف الحقيقة، بل نمتلكها تماماً، كما
يمتلكها أبو مالك، وأبو سليم، والحجة. * قبل أن أضع المفتاح في قفل باب
بيتنا شممتُ رائحة أمي. كانت، كعادتها، تقف
وراء الباب منتظرة وصولي، وفي عينيها تلك
النظرة التي عذَّبتني طويلاً. أدخلتُ حقيبة سفري، ووقفت
أمامها، وقد تركت جانباً العلبة التي كنت
أحملها بيدي. عانقتُها طويلاً، وكأنني لم
أرها منذ دهر. وحين طفرتْ من عينها تلك الدمعة
التي حبستْها عني طويلاً، مددتُ يدي إلى
الهدية التي أحضرتُها لها. فتحتُ العلبة
الكرتونية ببطء، وأنا أنظر في عينيها
المترقبتين. وعندما عانقتْ عيناها القنديل
الذي أخرجتُه، شدَّت قامتها، وشعَّ من عينيها
ألقٌ لم أره في حياتي معها قبل هذه المرة. *** *** *** نيسان
2002
|
|
|