تفاصيل

 

حياة أبو فاضل

 

في الألف الثاني قبل الميلاد، في ثياب قد تكون مزركشة، اتجهت مجموعات من الغجر تاركة جنوب روسيا إلى إيران والهند. حاورت الشمس والكواكب والهواء والماء والنار والنبات وأخذتْ عنها أسرار الكون. أنشدتها في نصوص فيدية بعد احتكاكها بحضارتي إيران والهند. أولئك الغجر الرُّحَّل أدركوا عمقَ اتِّحاد الإنسان بالكون كلِّه. بدوره حاورهم الكونُ بكلِّ عناصره وأجاب عن أسئلتهم.

*

تنقَّلوا رافضينَ الحدودَ، مستوطنينَ الكوكبَ كلَّه، متجاوزينَ سياجَ المكان والزمان. وها هم معي اليوم، في مكتبتي، داخل سفر الـرِغْ فيدا وفي علبة ورق الـتارو الذي حمَّلته الطبيعة إجاباتٍ عن أسئلة كلِّ الأزمنة وأهدتْه لأصدقائها الغجر، وأهدتني نسخةً منه إيمان، صديقتي الصغيرة. وها أنا اليوم أسأله عن الحب فيجيبني، وأسأله عنك، أيضاً يجيبني.

*

لا يهمُّ تاريخُ الحدث. لا يهمُّ متى أقبل الصغيرُ الحالمُ بعالمٍّ مثاليٍّ ومتى صُلِبَ وقام. فما بقي من علاقتنا به لا يتعدَّى ما تشتهيه الحواس: ألوان وأضواء وأطباق وبيض وصيصان وأرانب وبطاقات معايدة. نسينا أن المعلِّم ولد وصُلِبَ وقام في فلسطين النازفة مذ قبل ولادته، مذ داستْها أقدامُ قبائل همجية لم تفهم رسالته، ثم عادت أكثر همجية بعد ألفي عام على مجيئه. ونسينا جميعاً ما جاء من أجله، وما وعينا وما تغيَّرنا.

*

لا يهمُّ تاريخُ الحدث، ولا يفيد استحضارُ الماضي، ولا سطحيَّ تقليدِ الغرب الفارغ. كذلك لا تنفع الطقوسُ المتحجِّرة التي ارتفعت أسواراً عالية بيننا وبين الوعي. أهدانا المعلِّم رسالة القلب، وشيئاً فشيئاً دخل الضباب بيننا وبينه. ما بقي من حكايتنا معه لا يتعدَّى ما تشتهيه الحواس، لا يتعدَّى تكرارَ طقوس وعاداتٍ مضجرة سلبتْنا وعيَ الداخل، فنسينا ما الذي جاء من أجله، وما وعينا وما تغيَّرنا.

*

لكلِّ سنة رأسُها، نستقبله متى هي جديدة، ونودِّعه متى استُهلِكت. والاستقبال والوداع على صخب كثير. وها الموسيقى – كليمة القلب والروح! – تجتاحك وتقفل مسامَ جلدك، ومن الداخل تأكلك عصباً عصباً، فلا تعود تسمع ولا ترى إلا أجساداً تقفز وتلوِّح لتطرد سُمَّ الموسيقى فلا تستطيع. وتحاول عبثاً أن تُسمِع أصدقاءك شيئاً من رأيك في ما يدور، وتتساءل عن الذي وضعك في سجن رأس زمنٍ لا تؤمن أصلاً بتقاسيمه لأنك لا تملك إلا لحظته الراهنة فقط.

*

 لكلِّ سنة رأسُها، ولي رأسي. ولا أدري لمَ نبتتْ في رأسي مغامرةُ الوداع والاستقبال مع الأصدقاء في مكان للأكل والحوار والموسيقى التي باتت لا تُسمَع إلا من خلال مكبِّرات لنبض الإيقاع والأنغام التي تكثَّفت وزمجرت كإعصار قضى على كل جمال للتواصل. وحين هربنا من قبضتها المؤذية قال صديق: "لنذهب إلى وادٍ نُفرِغُ فيه سموم موسيقى المطاعم في زمن لا نؤمن بتقاسيمه، لأننا حقاً لا نملك منه إلا لحظته الراهنة فقط."

*

كي تنسج الغيوم هدايا جديدة، كي لا يدخل الهواءُ زمن الرتابة والضجر، وكي تضمَّ الأرضُ كلَّ البذور إلى قلبها لتدفئها، وكي يحصل حوارٌ بين القطب الشمالي وكلِّ ما تحته، والقطب الجنوبي وكلِّ ما فوقه: لكلِّ ذلك ينزل الأبيض في فصل شتاء متنقِّل. ينزل الثلج فتنقلب العصافيرُ أطفالاً والأطفالُ عصافيرَ تغرِّد طرباً لسحرٍ جديد الغيوم.

*

كي تنسج الغيوم وشاحاً ضد السأم هابطاً يفاجئني صباحاً، لاغياً كل ما نقلتْه نافذتي من قبل. حملت الأشجار أبيض فوقها، وتحتها افترش الأبيضُ الأرضَ وأهداها بُعدَها التاسع. كَرَجَتْ فوقها عصافيرُ الساعة الثامنة – وأنتظر صوتك. تناولت شراباً ساخناً وأكلت لوزاً وزبيباً وانتظرت. قبل الغداء وبعده هبط الثلج جامعاً الصباح بالمساء. انتظرتُ، وكأنك ما سمعت بجديد الغيوم.

*

من مكان صغير في الجسد يبدأ. من مكان في الفم. ينبض كالنقطة فوق حرف النون ويتسع، ينتشر، يصعد إلى الشعر، ويخرج من أظافر أصابع القدمين هائجاً كالموج، كالريح الآتية من الشرق حاملة رمال الصحراء. يُنسيك اسمَك وأسماءَ من تحب، فلا يبقى لك إلا انتظار الضوء الآتي من عربة الشمس.

*

من مكان صغير تحت ضرسي المريض يقرع الألم باب النوم، ومتى يُفتَح له يجتاح ويحتلُّني. يسلبني صفاءَ شراييني وهدوءَ خطوط أعصابي المنتشرة في كل جسدي تحت الجلد، ويقذف بي إلى ما يذكِّرني كم أنا ناكرة جمالَ غيابه، كم لا ألتفت إلى نعمة نسيانه لبيتي ولسريري ولاسمي. يوقظني، ولا يبقى لي إلا انتظار عربة الشمس.

*

لا ينقذ إلا الحب. يهديك قلبك النابض الحقيقي. تعرفه، وها أنت جديد على كوكب جديد تحبه حتى آخر عشبة فوقه. وحده البلسم، وما عداه تكديس للمرارة والوهم. ومتى جاءك، استمعْ إلى داخلك، وانظرْ إلى انعكاس وجهك فوق صفحة ملحمته العظيمة. وإن فاتَكَ فهمُ لغزه تكون قد أضعت مفتاح الحياة، تكون قد أضعت القلب.

*

الذي لا نهاية له، الذي لا يُستهلَك باليوميات والمواعيد والثرثرة. الذي يفاجئك لأنك مستحقٌّ وتعرف كيف تصغي إليه وتُسمِعه ما هو آتٍ من أجله. الذي لا ينضب أبداً ويعرف أنك أحدُ روافده، فيغدق عليك، وتزهر الأرض والسماء. الذي يكشف الأسرار، فينتفي الخير الشر، والحق والباطل. لو تفتحُ نافذتَك وتستمع إليَّ هذا الصباح: لا ينقذ إلا الحب.

*

 كفارس عربي يمتطي الشماليُّ الهواءَ وينهب السماء نهباً، ثم ينزل ويلتصق بالبيوت، وينسلُّ بين الأشجار، خالعاً عنها الأصفر، مانحاً الأغصانَ حرية التنقُّل بين ثناياه. قبل الشمالي، الهواءُ بلا هوية، هواء يمنح الحياة؛ وبعد الشمالي، الهواء أرجوحة الحياة، وعازف ناياتها الكثيرة، وناشر أنغامها فوق السحاب. يغلُّ الشمالي في الهواء، ماسحاً عنه الدفء، وإلى داخل البيوت ينفذ تاركاً لك حريةَ بثِّ الحرارة داخل جدرانك.

*

صداقتنا مذ خَلَعَ ألوانَ الخريف عن شجرة المشمش في حديقتنا. وقفتُ تحتها صغيرة، مأخوذة، شعري يصافح الورقَ الراقصَ والهواءَ البارد، وصوتُ أمي طائرٌ من داخل البيت: "ادخلي، أو ضعي قبعتك على رأسك!" سمعتها وما سمعتها. كنت أعقد عهد صداقة مع الشماليِّ الساحر القاسي. فكيف أخفي عنه شعري الطويل داخل جدران قبعتي؟

*

لكلٍّ اسمُه. حتى نواة أصغر خلية اسمها نواة وتحمل في قلبها الصغير جداً كلَّ صفات من سيأتي منها ليختبر الحياة. ولتلك الساطعة كلَّ صباح اسمُها. والكواكب كلها أُعطِيَت أسماءها وهي لا تدري. وللبلدان والصحارى والجبال والغابات والبحار والأنهار والأشجار والأزهار أسماء في كل اللغات – وإلا كيف نعرفها؟ كيف نُشرِكُها في حواراتنا ودراساتنا وأطماعنا وحروبنا؟ لكلٍّ اسمُه، اسمُه فقط.

*

لي اسمي كما للآخرين أسماؤهم. وكما كلِّ الأسماء، تدخل على اسمي أنغامٌ مضافة بحسب ذوق الأهل والأصدقاء. ومهما تغيَّر، يبقى اسمي، ولا أُعرَف إلا به. إنه كخطوط وجه الإبهام، وإن حملتْه مئات النساء. يبقى لي بتائه المربوطة التي تنقلب هاءً متى يشاء حبيبي. أملكه، وهو جزء من المسرحية؛ كأن المسرحية لا تمر من دون أسماء. أما من واحد من غير اسم؟ واحدٍ فقط؟

*

تبلغ هواجسُك أبعد مما تظن. تبثُّ نبضَها إلى كلِّ مكان. تختلط بالأشياء البعيدة وتنتظر. هي تعرف ما تريد، وأنت لا. ومتى نفضتْ عنها كلَّ ذرَّاتها وغدت كالإناء الفارغ الجاهز لاحتواء ما سيفاجئك، ترجع إليك وتقف على بابك، وأنت في خلوةٍ مع الوهم، لتخبرك أن الحقيقة حقيقة – وإن نبتتْ من الوهم.

*

تبلغ هواجسي آخر الفضاء، حيث تنفض عنها أثقالَها وتتفرَّغ لاحتواء ما سيفاجئني. وعائدة تفاجئني بأنك تختبئ وراء حجاب صامت، منتظراً صوتي، متجاوباً خارج المساحات البيضاء، خارج اللامبالاة، ولا تدري. ولا تدري أيضاً أن الحقيقة حقيقة – وإن نبتت وأزهرت وأثمرت من الوهم.

*

لحياة تجري كنهر من منبع لمصبٍّ، يحمل الربيع جديداً. نضارة أزهار تطل للمرة الأولى، أزهار على أغصان ثم ثمار للمرة الأولى. بدايات الربيع تتخطَّاه للصيف والخريف والشتاء. كثير من أزهاره وطيوره وثماره تصافح ربيعاً آتياً: تتشابك مع جديده لتعلن وحدةً لا تتجزأ.

*

متَّهمة بالحنين إلى الطفولة: أقرع وتفتح وأختبئ. متَّهمة بالرجوع للنبع لأهرب من المصب. إلا أنني أعرف تماماً أن الطفولة هي التي تلاحقني. تقرع وأفتح ونلتقي. وهل حقاً افترقنا؟ أنا الطفلة، وأنا الصبية، وأنا اليوم، واحد. الاختبار مجزَّأ في الظاهر، وفي العمق واحدٌ لا يتجزَّأ.

*

ها أنت تحمل كتابَك، تقرأ وتتمتم. كتابُك مقدَّس، خارج إليك من مئات السنين. تقرأ وتمسح دموعاً وتلقي بكلِّ أثقالكَ عليه، وتظل تشعر بها فوق كتفيك. لأيِّ دين انتميتَ، بإرادتك أو بالوراثة، لك كتابُك تقرأ، ومحكومٌ بأن يفهم غيرُك عنك، فتظل تدور في فلكه وفي قلقك الوجودي، أسيراً للطقوس الأولى، تدمنها، ويحملكَ مركب الحضارة الشرسة فوق محيطٍ هائجٍ لا يستقر، عمرُه من عمر الكون.

*

كلُّ نغم، كلُّ عطر يحمل أريج الوديان والغابات والصحارى، ينزل في قلبي كما كلماتٍ من كتب الفيدا والأوبانيشاد، من الأناجيل المقدسة ومن القرآن الكريم. كأنها كلَّها صادفتني لتذكرني، فتخلع عن قلبي غشاء بعد غشاء. ولكلٍّ قلبُه وحدسُه حيث كنز معرفته. تذكرني، فيزول قلقُ الوجود غشاء بعد غشاء، وأقع في حبِّ الكل؛ وإذ أنا المركب والمحيط، وأدرك أني في وحدة عمرُها من عمر الكون.

*

كي لا تقف مكتوفاً على امتداد الزمن، كلُّ ما يجري، يجري لقتل الوقت. خيالك قال إن هناك زمناً يدعى الوقت: الأمس واليوم والغد. فكان التاريخ، سجلَّ ما نسج خيالُك لقتل الوقت. أنت تحب، لقتل الوقت؛ تنجب، لقتل الوقت؛ تخترع وتكتشف وتعمل، لقتل الوقت. تبني أوطاناً وحضارات ثم تحارب وتخرِّب وتقتل، لقتل الوقت. ومتى حقاً تمدُّ يدَك لِلَمْسِه يفلت منك. فالأمس طار؛ واليوم، ثانية بعد ثانية، تطير منه لتلتحق بالأمس؛ والغد سيغدو الآن، ولحظة بعد لحظة سيذوب.

*

حتى لعبتي الصامتة تعرف أنني أحببتُها لقتل الوقت. أنظر في عينيها، ونتبادل أسرار الضحك على أكذوبة الزمن. بماء الورد أمسح عن وجهها غباراً تركه الوقت. أغسل عن ثوبها الأزرق وقعَ أقدام الوقت. أسرِّح شعرَها، أضمُّها كما ضممتُها وأنا صغيرة، وأنظر في المرآة لأرى بعضَ أبيض يعلن أن أوان تلوين شعري آن. وتنظر لعبتي في عيني باسمة، وللمرة الأولى تقول: "الأمس طار، واليوم، أمس الغد، وغداً سيغدو اليوم، ولحظة بعد لحظة سيذوب."

*

زهريٌّ زجاج قارورة العطر الفارغة، الرقيقة، الكروية كوردة جورية. قارورة فرنسية كأنها حبة بونبون، تقف قرب قارورة عطر يابانية من الكريستال، أيضاً فارغة، حُفِرَ على غطائها الممشوق قصر ياباني باسق. والاثنتان في حوار عن إبريق دمشقي أزرق، يستمع صامتاً عن يمينهما. قلب القاروة الزهرية يخفق له، ولن تعرف عن أشواقه قبل الربيع حين سيمتلئ بنفسجاً بنفسجياً من لبنان.

*

كلُّ هذه الزجاجات الملونة تسكن وجه طاولتي وتنسج كلاماً من حرير. بعضُه يدخل مسامَ وجهي ويستقر وراء عيني. أسمعُه يغني الحب ويحكي حكايات لها نكهة ثمار الفريز المشغولة بالسكَّر الأبيض وأريج الغروب. أشاهد طعمها اللذيذ، أذوق لونها السحري، وأشعر بأني على ضوئها مسافرة إلى حيث العطر ضبابٌ بنفسجي.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود