|
كونشيرتو
"المسيح المحجَّب"
أدونيس
إلى
فرانتشيسكا كوراو 1
لم أرَ
الطرق تطير كما رأيتها في نابولي، الاثنين،
الثامن عشر من الشهر الثاني في السنة الجارية
2002. كنت أريد أن أصل إلى المطار، خوفاً من أن
أضيع، أو أن تفوتني الطائرة، كما يحدث لي
غالباً. وكنت في الوقت
نفسه أريد برغبة جامحة أن أرى تمثال "المسيح
المحجَّب" لسامَّارتينو آه كم أغبطه على التقنية
الشاعرة التي تعكس آلام المسيح – هانئة، كما
لم تعكسها أية تقنية من قبل
موجة في شكل تمثال والماء منديل يتجعَّد
يشفُّ بتجعُّداته
كلِّها عن جسد تقول في وصف آلامه: يكاد العذاب أن
يكون هذا الجسد.
تمثال
"المسيح المحجَّب" لسامَّارتينو
وكنت أشتهي أن
أشرب القهوة ثانية في مقهى إنترامينيا في
ساحة بيلِّيني
وأرى كنيسة سان دومينيكو وساحتها
وكنيسة النيل – ("المكان المرعب" كما
يقول نقشٌ لاتيني في أعلى واجهتها) وتمثال
النيل الذي نُصِبَ تحية لتجَّار الإسكندرية
الذين كانوا يعمرون نابولي لكن الطرق كانت
تطير تحت
شمس بدأت تحلُّ جدائلها الطويلة
فوق شرفات تمدُّ أيديها للأفق مليئة
بالورد وكانت الألوان في الأزقة الباذخة أخذت
تميل إلى الانزواء لكي تُحسِنَ تذكُّر الوجوه
القديمة، اليونانية والرومانية، ووَقْعَ
الخطوات... (بوكاتشيو، بتراركا، توما
الأكويني، جيوتو، سامَّارتينو)... الخطوات
على البلاط نفسه الذي عشقتْه قدماي (كل
شيء تغير إلا هذا البلاط!)
ساحة
بلِّيني
كنيسة
سان دومينيكو وساحتها
كنيسة
النيل
تمثال
النيل
تذكرتُ المعري
وغبار الوجود وقلت ربما عليَّ أن أصغي إليه
وأن "أخفِّف الوطء" تُرى هل يجيء الغبار
الذي يغطي تلك البلاطة الرمادية على عتبة هذه
الكنيسة من جسد الأكويني أو من جسد جيوتو
أهي يدُ الغبار هذه التي تلامس كتفيَّ
وهواءُ هذا الزمان من أيِّ غبار يجيء؟ كانت فرانتشيسكا
تحاول أن تلتقط الإشارات التي يلوِّح بها ذلك
الزمن فيما
يحاول فرانتشيسكو أن يسجل بعض إيقاعاته في
مؤلَّف شعري موسيقي نكتبه معاً وفيما كنا نحن
الثلاثة ننتظر جينَّارو لكن الطرق كانت
تطير وكان
التاريخ يتدلَّى فوقنا دون أن يعرف كيف يضع
قدميه على الأرض في زحمة السير التي ذكَّرتني
بأختها بين أنطلياس وبيروت وها عيناي تسألان
كيف يكون المنفى في خطوات شخص يخرج لتوِّه من
قاعة في جامعة نابولي
تحدَّث فيها عن الآخر
"ليس في الذات غير الآخر" قال
شكراً نابولي
لشمسكِ التي تحب أن تتَّكئ على كتفيَّ
لموجِ بحرك الذي يتمرأى في ذاكرتي
ملْتطماً بأطرافي
هل تريد تفسيراً لذلك أنت يا من لا يريد أن
يقرأ فرانتشيسكا
فرانتشيسكو جينَّارو
هل قلتم اللقاءُ صداقةٌ ثانية لكن الطرق تطير
كيف حدث أن يكون اللقاء كمثل شجرة فارعة
في فضاء الإسمنت وكيف يترجم عطر الوردة أنت
أيتها الجميلة التي تسأل عن الترجمة للترجمة عمر ولا عمرَ للشعر هل ستظل نابولي
هواءً طيباً بين بيروت والإسكندرية وما هذا
الوقت كأنه
يحمل فأسه الضارية ويهمُّ أن يضرب وجه الشرق
أو لعل روما لم تعد هي كذلك في مكانها فرانتشيسكا إلى
القطار فرانتشيسكو
المطار بعد هنيهة سيارات تقفز
الواحدة فوق الأخرى
والأحمر أخضر لم يقل ذلك منجِّم
غير أن اللانهاية ضوءٌ في قنديل ينكسر
شعاعُه في زاوية المعنى هل قلت القهوة
غير طيبة إلى
اللقاء فرانتشيسكو الطرق تطير
أدخل إلى الباب الذي سأخرج منه إلى
الطائرة أكتشف أنني لم
أسجِّل حقيبتي
لم آخذ مكاناً في الطائرة أعود
هنا أليطاليا هناك لوفتهانزا اهدئي
أيتها الطرق في السبعين لا أزال
طفلاً يا
ألله ماذا تفعل بي
ماذا أفعل بنفسي
كلما تقدَّمتُ في السن يزداد شعوري بأنني
لا أزال طفلاً دون خبرة
دون معرفة
في السفر خصوصاً
أحتاج دائماً إلى من يأخذ بيدي كلما سافرت
ترتبك خطواتي
تتحيَّر عيناي أشعر أن عليَّ أن أسأل
دائماً من يرشدني أين وكيف
كأنني مسكون بالخوف من الضياع
من الصعود في طائرة ليست الطائرة التي
أسافر فيها أو
في قطار يأخذني إلى حيث لا أقصد
مقصٌّ للأظافر
مقصٌّ آخر للورق بحجم الإصبع "لن يطيرا
معك إلى مونيخ"
قالت الشرطية الإيطالية
كيف رأت فيَّ خاطفاً أنا الذي ولدت
مخطوفاً حسناً
خذيهما 2
في القاعة التي
سأخرج منها إلى الطائرة
جلستُ لا أعرف ماذا أفعل
كنت شبه منهك من الطرق التي طارت فيَّ هكذا أخذتُ أكتب
هذا الذي تقرؤه الآن أيها القارئ (أرجو ألا
تكون أنت كذلك شرطياً) الطرق لا تزال
تطير لكنْ
حول تمثال "المسيح المحجَّب" في كابيلا
سانسيفيرو كلا،
لن ينكشف الحجاب عن المعنى هل يمكن أن يخرج
الإنسان الواحد من رحمين؟ أوه! ليس في هذه
الكأس أية نجمة
والقمر الذي غرق فيها أمس شفَّهُ
الاختناق حتى كاد أن يصبح هلالاً لماذا أرى
الهاوية أحياناً كأنها بيت أخضر
هل سيطول انتظاري في مونيخ
وماذا أفعل في برلين هذا المساء
ومن أين تجيئني شهوةُ الاختلاط بحروف لا
تتشكَّل منها كلماتٌ تُقرَأ بيسر
ولماذا أشعر دائماً أن النظام ليس إلا
خنقاً للكلام لم
تصل الطائرة إلى مونيخ
وأحس كأنني لم أغادر نابولي كأنني مختلط
بها تهجين
أو خلاسية في
أية حال يكون المستقبل خلاسياً أو لن يكون إلا
فتكاً كأنني لم أغادر
نابولي أنا
الذي تركتها مدفوعاً بالطرق الطائرة تقرأ
فيها في
غالاسيا غوتنبرغ
يأخذك العجبُ من أن يكون لك جمهورٌ في
الترجمة أعلى منه كماً ونوعاً في لغة الأصل
أهذه بدايات خلاسية
عفواً أيتها اللغة–الأم التي تعتقلُها
تعاساتُ الأبناء فرانتشيسكو كيف
قَدِرتَ أن تؤالف بين الإيقاع العربي وإيقاعك
الإيطالي بين
الكلمة التي تنحدر من فم السماء والكلمة التي
تصعد من فم الأرض
ألهذا كانت الطرق تطير في نابولي بين
أجنحة الشحارير التي يعمل على إنقاذها من أسر
الأقفاص مواطنٌ شاعر
أو تطير في صدور المهاجرين العرب الذين
يبصقون الدم هرباً أو خجلاً من ذلك الدم الآخر
الذي تبصقه بلدانهم "أعمل هنا لا
أعرف إن كنت سأعود"
زَفَرَ طبيب
"أكتب الشعر بلغة هذه البلاد التي
آوتني" قال
شاب يكاد أن يبدو شيخاً "لن أعود إلى
بلادي..." همستْ
شابةٌ فيما تكاد أن تبكي حقاً ما أشقى اليوم أن تكون
عربياً! قل لي مع ذلك أيها
الأسمر المنفيُّ المشرَّد بأية لغة
يُوَشْوِشُكَ فجرُ نابولي
ولا تنسَ أن توقظها كلَّ يوم
أن تحضنها كمثل طفلة تنهض لتوِّها من
النوم كلَّ
يوم وكانت الطرق تطير
حول تمثال "المسيح المحجب" – بمسمارٍ
يتحجَّبُ المسيح
بخشبة بسقف
غيمة بقبة فلكِ
كيميائي بصوت
يعبر القارات بوجهِ عاملٍ لا
يعمل بزوايا
ترشح دماً بهوامش
وأنقاض أوه! من أين يجيء
هذا الكائن في
كلِّ كلمة تخرج من فمه سيفٌ يضرب عنقاً
ملاكاً حيناً إنساناً
حيناً وأعرف أن الضوء
يتحول أحياناً إلى قناع تلبسه الأظافر مع من تتقاسمُ
الخبز أيتها الكأس الجسد عَصيٌّ
وللرأس خبزٌ آخر أدعوكِ إلى
العشاء الأخير أيتها الصلاة! 3
تسبح الطائرة أسبح معها فوق جبال من
الغيوم بدأت تهبط
الآن أتخيل الطرق الطائرة في نابولي
تحطُّ هي كذلك ماذا أسمي طيرانها
أنت عابرة أيتها الغيمة التي تظهر في شكل
غزالة لا
بقاءَ في الغيم حتى لكلمة بقاء
الهبوط الأرض والفضاء في هذه الرحلة
سجادة واحدة أكاد
أن أغفو ونمتُ الليل الفائت قليلاً بعد أن
قرأت مقالاً يقول نَمْ قليلاً تَعِشْ طويلاً
هبطتْ الطائرة لم أكتشف وجهَ الإزعاج
عند الطفل كما اكتشفته في هذه الرحلة
مزيَّة تضاف إلى مزايا الطرق التي تطير
على ضفاف المتوسط –
من وَضَعَ تلك الصخور على رؤوس أمواجه
أهو تجسُّس الذرة أم هراء الحروب
وتلك النار التي تقفز من شجرة إلى شجرة في
غاباته الكريمة
وهذه القبور التي تفتح أعماقها للأطفال
وأمهاتهم وذلك
المرض الكلِّي الحضور الذي يلبس قبعة الإخفاء خذ جسدي أيها
المتوسط البحر ضَعْهُ
إلى جوار قدموس ودانتي ردِّدْ معهما الجمالُ
أبجدية الأرض والأبجدية أنوثة الكون أظنُّ – أنا
الكوكبَ الترابي أنني لن أقدر بعد
الآن أن أرى إلا بأشلائي أظن أنني أتهيأ
لكي أدخل في شباك الأساطير إنها الشمس تنهض
فوق الشآم تترنح في سروالها القديم اضطربي كما
تشائين يا ساق الوردة الجورية، احتفاءً بالريح! نابولي
– برلين، 18-24 شباط 2002 ***
*** *** |
|
|