اللغة والمعنى

 

موسى ديب الخوري

 نائب رئيس الجمعية الكونية السورية

 

 

في البدء كان الكلمة.

إنجيل يوحنا (1: 1)

 

كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة.

النفَّري

 

إنما اللغةَ نسيجُ هذا العالم وحبكتُه. وُلدت اللغة بولادة الكون، ونَمَتْ بنموِّه، وتمايزت بتمايزه. كان الكون تجلِّي المعنى، فكانت اللغة هي الكون. في البدء كانت الكلمة، بما هي المبدأ والحق والمعنى. وعندما تمايز الكل، ظهرت العناصر، وحمل كلُّ عنصر معه لغته الخاصة للتكاشُف والتواصل. كذا كانت اللغة هي العناصرَ نفسها، بما هي نواقل بذاتها ورسالات محددة ضمن مجموعات متنوعة. وأدى تآلف العناصر إلى خلق أنماط جديدة من الكينونات، وبالتالي، إلى نماذج جديدة من وسائل نقل المعلومات. وهكذا ازداد تعقيد اللغات مع صيرورة توسُّع الكون وابتراده وتشكُّل بناه الهائلة ومنظوماته المتداخلة.

وأدَّى ظهور الحياة على أحد توابع نجم في مجرَّة كونية ندعوها "درب التبانة" Milky Way إلى بزوغ نمط فائق التعقيد من اللغات؛ ذلك أن هذا النمط استوعب كافة الأنماط اللغوية التي سبقتْه، إنْ من الناحية العضوية أو من حيث قدرتُه على استلهام بناها ومعانيها. وهكذا راح يطوِّر اللغات الكونية بما يوافق حركةً لا يمكن وصفُها إلا بأنها حلمٌ عتيق يتكشَّف!

تقوم بنية الكون على انكسار التناظر فيه. وما ظهور عناصره إلا نتيجة التمايز الأوَّلي الذي حدث فيه منذ لحظة الانفجار البدئي Big Bang. وقد عمَّقت الحياة هذا الانكسار للتناظر بتطورها؛ إذ إنها مبنية في جوهرها، كمنظومة ذاتية الانتظام، على تآلف عناصر شواشية chaotic تنتظم في شروط خاصة. ومذ ذاك، بات يمكن للُّغة الكونية أن تستعد للإفصاح عن الأسئلة التي طالما كانت متضمنة في صيرورتها، كامنة فيها. ويمكننا التأكيد أن اللغات القائمة بين العناصر الأولى التي تشكَّل منها الكون، كالقسيمات والذرات والسُّدُم، وصولاً إلى المجرات والنجوم، كانت تحمل في ذاتها إشكالية كالتي حملتها لنا الحياةُ ولغتُها. وتتمثل هذه الإشكالية بكون العناصر تمثِّل تجلِّيَ المعنى والسؤالَ عنه في الوقت نفسه.

لقد استطعنا عبر تاريخنا القريب طرح مشكلة وجود القانون الفيزيائي قبل وعينا، أي منذ ذلك الحقب السحيق في عمر الكون، عندما أفصح البدء عن إمكانات لانهائية، وعندما تمَّ اختيار إمكانية واحدة بينها كانت هي سبب وجودنا. ترى، هل إن وعينا الحالي هو الذي يختار الآن تلك الإمكانية؟ وهل إن لغتنا، بأشكالها المتعددة، هي التي تطرح اليوم سؤال البدء؟!

إن لغاتنا الحالية مبنية كلها على هذه الصيرورة من التجلِّي المستمر للسؤال الأول. ويعني ذلك أن وعينا وتساؤلنا اليوم ليس حديث التدخل في فهم العالم وفعاليته، أي وجوده. إن ما تحقِّقه مجموعة عناصر من انتظام ذاتي فيما بينها يؤدي إلى تعيُّن خط تطور وصيرورة للمنظومة؛ وهذا الخط هو ما يمكننا دعوته بالقانون الفيزيائي. ويكون هذا الخط متغيراً بما يوافق المعلومات الديناميَّة للمنظومة التي ترجع بأصولها إلى انكسار التناظر البدئي. وهكذا، يمثل القانونُ الفيزيائي في وعينا اليوم اللغةَ الكونيةَ التي تجعل وعيَنا نفسه يمتد عبر مسافة الزمن الماضي والمستقبل، فيستشف المعنى ويخلقه في آن واحد.

يُعَدُّ القانونُ الفيزيائي – ليس بما هو لغة ثابتة، بل بما هو لغة حية متطورة – أحدَ أشكال التعبير الأساسية عن هذه اللحمة بين الوجود ومعناه. يضعنا هذا القانون – بما هو فعلُ العناصر وكلمتُها، وليس فقط كمنظور إدراكي يمكننا التحقق منه – أمام إشكالية اللغة والمعنى – بما هو كائن مجرد، وفي الوقت نفسه، كينونة متحققة في الاختبار والمنطق. فهذا القانون الذي نبدعُه اليوم كان هو الذي أبدعَنا وكوَّنَنا؛ وهو لا يزال يخلقنا بقدر ما نخلقه، ويتفتح فينا بقدر ما ننفتح عليه.

لقد ظهرت كائنات عبر صيرورة التطور استطاعت نقل المعلومات والمحافظة عليها وإنتاج مماثلات لها. ثم تطورت إمكانات التكاثر بحيث تكون احتمالات التنوع كبيرة جداً. وما كان ذلك ليتحقق عبر نقل جيني آلي مبني فقط على قاعدة الاصطفاء الطبيعي؛ بل كان قانون التنوع نفسه ماثلاً في انبثاق الأنماط الجديدة أو التنوعات ضمن النمط الواحد. وهذا يعني أن اللغة الطبيعية لم تكن معنية فقط بنقل المعلومات، بل كانت، منذ انكسار التناظر البدئي، تعكس صيرورة التعبير عن تنوع النماذج والإمكانات وتعددها؛ ذلك أن هذا التنوع القائم على الانكسار نفسه هو أساس بناء أية صيرورة منتظمة ذاتياً، أي أكثر عمقاً وأصالة في الضمير الكوني.

ضمن هذا المنظور، ألا يعني ذلك أن الكون استطاع الوصول إلى حالة توازن على صعيد طرحه للمعنى، حيث استطاع تحقيق لغة قادرة على طرح السؤال؟ أو لم يكن السؤال، بحدِّ ذاته، هدفاً للصيرورة الطويلة من تفتح الحلم العتيق؟

بلى. ألعل اللغة كانت في البدء سؤالاً؟ إن حلماً قديماً أمكن أن يتحقق عندما تفتَّقت في الوجود إمكاناتُ الرؤيا والتعبير. إلا أن حلماً أقدم منه كان قد بزغ منذ أن نشأ الكون. ترى، أية لغة كانت تلك التي حملت معاني الكون الوليد، وأية لغة استطاعت أن ترسم مناحي تطوره، وصولاً إلى النطق والسؤال، إنْ لم تكن لغتنا الحالية وقدرتها على السؤال؟

ينتقل حلم الكون إلى حلم الإنسان من خلال هذه الصلة الخفية بين لغة العناصر ولغة الكائن. فعلى نطاق الكون، يشكِّل المعنى حاجة أساسية لا ينفك الكون يبحث عنها في تجلِّياته كلِّها، اللغوية في الجوهر. وعلى صعيد الإنسان، تمثل إشكالية اللغة صورة لجهاده الكبير من أجل معرفة كاملة لوجوده. وفي هذا الإطار، يشكل الإنسان نموذجاً كونياً، بما هو طارح للسؤال على درب تحقيق معنى وجوده. فهل يمكننا أن نرى، عبر هذه الصلة بين الإنسان والكون، إلى جوهر الصلة بين اللغة والمعنى؟ وإلى أي حدٍّ يمكن لوعينا الحالي، وللغتنا الذاتية الآنية، أن تستلهم المعنى عبر صيرورة انتظامنا الكوني؟

ترى، ماذا يعني تنوع منظوماتنا اللغوية؟ وماذا يكشف تعدد الأنماط في اللغة الواحدة؟ وإذا كنا نرى عبر التاريخ الحامل للغاتنا، بما هو متصل باللغات الكونية، أننا لغة ناطقة وواعية، هل يمكننا رسم إطار موحَّد للُّغات الكونية؟ وهل يمكننا، بالتالي، إطلاق حكم لغوي نهائي عبر دراساتنا – اللسانية أو العلمية على حد سواء؟ أم أن علينا الاكتفاء برسم خط سيرنا أثناء تقدمنا، ورؤيا تطور الكون الموازي لنا عبر المسيرة نفسها؟

*

تقودنا هذه الأسئلة إلى حلقة أخرى من الأسئلة: إلى أي حدٍّ يمكن لإبداعاتنا الفنية والفكرية سبرُ صيرورة التفتح والتطور، بما هي نماذج محدودة في النهاية زماناً ومكاناً؟ وإذا كانت اللغة، على العكس من ذلك، قادرة على تحقيق نماذج إبداعية خارج نطاق التغير والتبدل، فإلى أي حدٍّ تكون هذه النماذج متوافقة مع حدود أوسع من حدودها الخاصة؟ أفلا يقودنا ذلك إلى الإقرار أن النماذج الإبداعية يعاد إبداعُها في كل مرة يُرجَع فيها إليها؟ وأن ما نستقرئه عبر الزمان منها هو لحظة قراءة ذاتية نكتشف من خلالها لغتنا الخاصة وإبداعنا الخاص؟ فهل يمكن أن تكون المعرفة، بالتالي، استمراراً لغوياً فقط في طرح الأسئلة والإجابة عليها وطرح النماذج الإبداعية؟ أم أنها، أيضاً وأيضاً، القدرة على التناغم في صيرورة الانتظام؟ وبما نحن لغة، أليست إبداعاتنا ومعرفتنا استغراقاً أكثر فأكثر في صيرورة المعنى، أي في نطاق التفتح والتطور الدائمين؟

*

يُعَدُّ انبثاقُ القدرة على النطق لدى الإنسان منعطفاً حاسماً في تبلور وعيه وتفتح نفسانيَّته. وعلى عكس ما يمكن أن نعتقد، فإن البذرة اللغوية لم تكن واحدة. فمثل هذه البداية تفترض أن الإنسان الناطق انطلق من نقطة واحدة، وأن اللغة انتشرت من بؤرة واحدة؛ في حين أن إنسان نياندرتال كان قد انتشر في معظم أنحاء العالم القديم منذ أكثر من 100000 سنة، وهو الذي كانت لديه أولى إمكانات النطق. وقد استطاع إنسان كرومانيون الذي تلاه بلوغ القارة الأمريكية وإعمار العالم كلِّه منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة. ولم تكن البشريات التي سبقت إنسان نياندرتال ناطقة؛ لكنها اعتمدت أشكالاً مختلفة للتعبير، كالصراخ والحركات الإيمائية. ولعبت البيئة دوراً هاماً منذ ذلك الحين في تنوع أنماط التجاوبات الصوتية والحركية. وأدَّى ذلك إلى تنوع الأصول اللغوية عبر العالم كلِّه. وعلى هذا، لا يمكننا، بأي حالٍّ من الأحوال، القول بأصل هندأوروبي أو سامي أو ماليزي مثلاً للُّغات الحالية. وبالمثل، فإننا نجد في أصول الموسيقا اليابانية أو الهندية مثلاً خصوصية تميِّز كلتيهما عن الموسيقى الأفريقية القديمة. والأمر نفسه ينطبق على تطور الصناعات الخزفية في العالم القديم؛ وهي لغة فنية تحكي أشياء كثيرة عن رؤى الإنسان وحاجاته.

يوافق هذا المنظور إلى حد بعيد نظريات الانتظام الذاتي الحديثة. فما نعرفه اليوم من تآلف بين الأنماط واللغات لا يقوم على وحدة بدئية؛ بل على العكس تماماً، يُعَدُّ النشوء الشواشي للمنظومات المنتظمة هو القاعدة. وينسجم هذا الفهم مع كون القدرة على المعرفة قدرة تعددية في أنماطها وليست أحادية. وهكذا، فقد ظهر تنوع المنظومات اللغوية، بما هي أنماط معرفية، على مستوى البنى اللغوية، كما وفي إطار الأشكال والأنماط التعبيرية.

ومن المثير للدهشة أن نجد أنماطاً تعبيرية غاية في الدقة والروعة، قياساً إلى معاييرنا الحالية، ترجع إلى بدايات قدرة الإنسان على التعبير. ومثال ذلك ما وُجِدَ من رسوم رائعة في مغائر من العصر الحجري القديم الأعلى يتراوح عمرها بين 25000 و15000 سنة؛ وهي رسوم لم تفسَّر بشكل نهائي بعد، إنما تُبرِز غالباً حيوانات ترجع إلى تلك الفترة. تمثل هذه الإبداعات، مثل فن العمارة الرائع الذي يرجع إلى تلك الفترة أيضاً ويعتمد على الحفر والأغصان والقش والطين والجلود، تعبيراً منسجماً مع صيرورة التطور الطبيعي. وتُعَدُّ هذه اللغة، بما هي نمط أساسي، إنْ في الرسم أو في العمارة، دلالة على إنضاج متبادل في الطبيعة البشرية وفي القدرة التعبيرية. فكمال الرسم أو البناء يشير إلى كمال المنظومة نفسها بأبعادها البشرية والطبيعية. ويعني ذلك قدرة المنظومة على ولوج أفق جديد من المعرفة، أي على بَلْوَرَة انتظامات وتعقيدات جديدة في بناها.

ولعل الأسطورة خير دليل على ذلك. فعبر عشرة آلاف سنة، استطاع الإنسان أن يغير نمط حياته القديم، فعرف الزراعة، وعاش في القرية، واستأنس الحيوانات، واخترع أدوات كثيرة هامة، وطوَّر لغاته وأوجد أنماطاً لغوية جديدة. وتُعَدُّ الأسطورة نمطاً لغوياً قائماً بذاته، ليس بما تحمله من مفردات خاصة بها وحسب، بل بما هي ولوج إلى أعماق جديدة في اللاوعي الإنساني، واستخراج لنماذج بدئية archetypes هاجعة في أعماقه، وتواصل مع الصيرورة الكونية التي لا تنفك تغذي المنظومة الإبداعية بإمكانات جديدة وأسئلة جديدة. لذا فإن الأسطورة لا تطرح إجابات مباشرة، ولا تصادف المعاني الجاهزة على طريقها، بل هي تشق بالأحرى درباً بكراً وسط الشواش البدئي Chaos، وتغني صيرورة الانتظام بمرادفات ومعانٍ جديدة. ويمكن القول إن اللغة هنا هي كشف حقيقي لمعنى أصيل، رغم تعدد المنظومات اللغوية للأسطورة، من شعر وقصة وموسيقى وطقوس وأداء ورسم وغيرها، أو تعدد أنماطها في اللغة الواحدة، كاللغة المحكية مثلاً، حيث نجد تنوعاً هائلاً، على سبيل المثال، في طرح قصة التكوين أو في رواية علاقة الإنسان بالآلهة.

ومن جهة أخرى، ورغم أننا لا نملك برهاناً وافياً على أن لغات مثل التصفيق أو الرقص أو التعبير الإيمائي أو حتى الموسيقى بشكلها الإيقاعي البسيط، قد سبقت اللغات المنطوقة، لكننا لا نملك ألا نقف بدهشة أمام توافق ظهور هذه الإمكانات مع تفتح إمكانات النطق لديه. ترى، إلى أي حدٍّ لعبت القدرةُ على النطق دوراً حاسماً في تكشف وبلورة كافة الإمكانات اللغوية الأخرى لدى الإنسان؟ وإلى أي حدٍّ ساهمت في تفتح وعيه ومساهمته في تشكيل التصورات الكونية؟ سنعود إلى هذه النقطة لاحقاً؛ لكن لا بدَّ لنا من الإشارة هنا إلى أن هذا التوافق ليس وحيد الاتجاه؛ ونقصد بأن تكشُّف المعنى نفسه، وتفتُّحه، على كافة المستويات النفسية والذهنية كما والفسيولوجية، ساهم بشكل معاكس في ظهور إمكانية النطق. ونريد بـ"المعنى" هنا تلك الإمكانية الحقيقية الكامنة في قلب اللاوعي، والقادرة على استنهاض الحركة الشواشية على هيئة رقصة كونية أو عبر انتظام ذاتي قادر، بدوره، على تقبُّل كافة الإمكانات الوليدة ودمجها وتحريض مزيد من الإمكانات الهاجعة على النهوض.

يمكننا هكذا أن نقابل – بشيء من المبالغة دون شك – بين أولى التمتمات البشرية وبين الأشكال السديمية الأولى التي عمَّت الكون منذ تشكُّله، أو بين أولى أشكال الحياة التي ظهرت على الأرض وهي تكافح وتنهض من عماء المياه المظلمة إلى عوالم من الزرقة والخضرة والألوان المدهشة التي ساهمت هي نفسها في انتظامها وتشكُّلها. فقدرتُنا على النطق، إذن، ليست قدرة خاصة بنا إلا بمقدار ما هي قدرة كونية تفتحت من خلالنا. ويمكننا القول إن الحركة الكونية وحركة الحياة تمثلان فينا اللغة الأم التي تحرَّك بها الإنسان وعمل ورقص ورسم وغنَّى.

*

لا تهدف هذه الدراسة إلى وضع منهج لساني، أو إلى القيام ببحث أكاديمي في النظريات اللغوية. فلعل ما دفعني إلى طرح هذا الموضوع سؤالٌ يختصر مجموعة هائلة من الأسئلة: إلى أي حدٍّ يمكن للُّغة أن تحمل المعنى؟

كان هذا السؤال موضوع نقاش مع صديق خلال رحلة لنا. وقد اتفقنا في حينه أن الكلمة يمكن أن تنقل أكثر من معنى، بحسب اللهجة التي تقال بها، أو السياق الذي توضع فيه. من ناحية أخرى، تبيَّن لنا أن المعنى الذي أفهمه من لفظة أو تعبير لا يمكن أن يتطابق مع المعنى نفسه عند الآخرين؛ فلهذا المعنى "لون" و"رائحة" و"ملمس" بحسب المتذوق أو العارف. فلا بدَّ، بالتالي، أن يكون في الخصوصية الإنسانية ما يطبع المعاني بطابع ذاتي. وهكذا فإن الاتفاق على معنى لفظة، مثلاً، ليس ربما أكثر من اتفاق معلوماتي، قد يتقارب كثيراً إنما لا ينطبق بين الأفراد.

إلى أي حدٍّ، إذن، يمكن لسؤالي – أو لفهمي الذاتي بالنتيجة – أن يتواصل مع فهم "الآخر"؟ وإلى أي حدٍّ يمكن للكون، بالتالي، أن يتطابق ويكون واحداً مع خصوصياتنا؟ وإلى أي حدٍّ يمكن لهذا السؤال أن ينطبق على مفاهيم حدِّية، كالقانون الفيزيائي، أو المعرفة، أو الحقيقة؟

ينطوي هذا السؤال على تعارض مبدئي. فمن جهة، هل يمكن للُّغة أن تشكل أبجدية كاملة للتعبير عن الحقيقة؟ ومن ناحية أخرى، كيف نستطيع فهم الجوهر من خلال مظاهره ولغاته؟ أليس الكون مجموعة هائلة من تجلِّيات المعنى الأول؟ فكيف نستطيع فهم المعنى من خلال فهم اللغة باللغة؟ ألسنا في النهاية لغة كونية؟ فإذا كانت صيرورة اللغة الكونية التي أبدعتْنا قد هتفت بأسئلتها من خلالنا، فلعلنا نستطيع تمثل إجابتها. لكن هل يمكن فصل الإجابة هنا عن الصيرورة نفسها، وحدُّ المعنى بصيغة محدودة زمانياً ومكانياً؟ بشكل آخر، ألا يجب أن تمثِّل الإجابة تحولاً ضمن الصيرورة ينعكس على السائل وعلى الظاهرة في آنٍ واحد، متيحاً للمعنى أن يتكشَّف من خلال صيرورة التحول نفسها؟

تجيبنا ديناميَّة الحياة بأن اللغة قادرة بأشكالها وأنواعها على مسايرة التطور الديناميِّ في الكون، بحيث يظل المعنى المتطور أو المتحول محمولاً على متن سفينة قوية مبنية من لَبِنات الصيرورة الكونية نفسها. إن لغاتنا تجد نماذجها البدئية في لاوعي سحيق يعود بجذوره إلى بداية الكون؛ ولعلنا نجد في هذا العمق الجانبَ المُوازِنَ لوجودنا الظاهراتي من العلاقات اللغوية.

*

لكن، ماذا نقصد بالمعنى؟ وبالحقيقة؟ ترانا نقصد فهمنا الذاتي للظاهرة والعلاقة واللغة، أم ما تُبنى عليه في المطلق الظاهرةُ الكونية، بما فيها وجودنا ووعينا؟ نحن موجودون في خضمِّ تجانس لا فصام فيه ولا فكاك منه! نحن موجودون بقدر وجود الصيرورة الكونية نفسها، وواعون بقدر وعي الصيرورة لذاتها، وقادرون على التعبير قدرةَ اللغة الكونية نفسها على بناء القوانين. ألسنا، بما نستمده من لاوعينا من نماذج لغوية، نخلق بشكل متناغم مع الصيروة الكونية مرادفاتنا اللغوية من القوانين الكونية؟

فكيف نستطيع إذن تجريد المعنى؟ ومن جهة أخرى، هل يمكن وضع تصوُّر أو فهم أو معتقد نهائي إذا كانت صيرورة اللغة الكونية نفسُها صيرورةً متحوِّلة ومتطوِّرة على الدوام؟

تحمل هذه الأسئلة تعارضاً إضافياً خفياً! فنحن، في طرحنا هذا، مع محاولة رؤية موضعنا المتناغم مع الكون بحيث لا ننفصل عنه، إنما نجعل من لغتنا الذاتية الإمكانيةَ الوحيدة لتمثُّل المطلق. ومن جهة أخرى، فإننا نكتشف في اللحظة نفسها أن ما نتساءل عنه كامنٌ في أسئلتنا وفي طريقة طرحنا للسؤال! ألا يعني ذلك أن الوجود لا يتعيَّن بمعزل عن أسئلتنا، من جهة، ولا يتعين أيضاً إلا بمعناه وحقيقته، من جهة أخرى؟

*

يقودنا ذلك إلى جوهر المسألة: إذا كان الكون يتعيَّن باختبارنا له وتعييننا لحالاته، وهو في الأساس محمول مع تجربتنا نفسها على المعنى المطلق، فما صلة تعييننا للكون وتساؤلنا عنه بحقيقته ومعناه؟ ألا يعني ذلك أن أسئلتَنا تحدِّد المعنى والحقيقةَ بقدر ما يكون العكس صحيحاً، أي بقدر ما تحدِّد الحقيقةُ أسئلتَنا ووجودَنا؟!

تتبدَّى لنا اللغة من هذا المنظور كبنية ذاتية التطور والانتظام ضمن منظومة كونية أعلى وأوسع، هي ليست الكون فقط، بل ومعناه أيضاً. وهذا يعني أن فصل اللغة عن معناها الأوسع يجعل منها منظومة غير قابلة للانفتاح ومحدودة بطاقتها على التواصل مع المعنى، بحيث يكون إثباتُها غير مجدٍ، بل وربما غير ممكن.

لعلنا نستطيع توضيح الفكرة أكثر بالعودة إلى تاريخ فلسفة العلاقة بين اللغة والمعنى. إن جانباً آخر للمسألة يكمن في علاقة اللغة بالفكر. وتُعَدُّ هذه الرؤيا تتويجاً لمطابقة الوعي بالمعنى، ولجعل الوعي أولوياً في منظورنا الخاص وأسبق من الظاهرة. قد نستبق بذلك طرح الحلِّ؛ لكن التاريخ كان يتأرجح دائماً بين حدَّي اللغة والمعنى. وإذا كان علم اللسانيات لم يستطع حلَّ هذه المشكلة الفلسفية التي شغلت الفكر البشري عبر القرون، غير أنه في منهجه يجعل القاعدةَ أساساً للتعبير، والفكرَ، بالتالي، أسبق من اللغة.

كانت النظرة القديمة تقول بفصل عالمي الفكر واللغة. فأفلاطون يتساءل في محاورة كراتيلس حول صحة الكلمات، ويرى أنه يجب الذهاب فوراً ومباشرة إلى الأشياء دون واسطة الكلمات. يعني ذلك التعامل مباشرة مع الأفكار. إلا أن التعامل مع الأفكار لا يلغي اللغة، وإن كان يمكن أن يُوجِد أنماطاً منها. فقد علَّم سقراط تعريف وتحديد الأفكار، كالأفكار الرياضية مثلاً. وتشكل هذه التعريفات أول تصور لنا عن المعنى. فمعنى مفهوم ما هو التعريف الذي يمكننا وضعه له. لكنْ إذا كان سقراط قد عرَّف الأفكار فقد عمل أفلاطون على فصلها وتمييزها عن الحقيقة الملموسة. وهكذا أورثنا أفلاطون إشكاليةَ المعنى، حيث يكون المعنى هو المبدأ المعقول للواقع والفكر على السواء. إن محاولة أفلاطون سبر هذا الجوهر وتجريده في الوقت نفسه لا تفلت من تعارض واضح بين جعل الفكرة مرادفاً للمعنى ثم تجاوز الفكرة نفسها. وهذا التعارض قائم في سؤال يطرحه تشومسكي عن كيفية نشوء نظام المعرفة في العقل أو الدماغ، الأمر الذي يدعوه بمشكلة أفلاطون. وهذه المشكلة، كما صاغها برتراند رسِّل في أعماله الأخيرة، هي: "كيف يمكن لأفراد النوع البشري معرفة ما يعرفونه على الرغم من قصر تجربتهم مع الكون ومحدوديَّتها؟"

لقد أوضح أفلاطون هذه المشكلة فيما يمكن أن يُعدَّ أول تجربة ذهنية. فقد برهن سقراط في محاورة مينون على أن مملوكاً شاباً كان يعرف مبادئ الحساب دون سابق تدرُّب عليها، وذلك بأن جعل المملوك يكتشف براهين الحساب عن طريق سلسلة من الأسئلة كان يوجِّهها إليه. والمشكلة التي لا تزال تواجهنا حتى اليوم هي كيف أمكن للمملوك أن يكتشف صدقَ براهين الحساب، أي المعنى، من غير أن يسبق له علمٌ بها أو تدرُّبٌ عليها. ويجيب أفلاطون بأن المعرفة كانت موجودة في ذهنه بشكل كامن، وبأن سقراط ساعده على تذكُّرها. وبعد عدة قرون قال لايبنتس أن تفسير أفلاطون صحيح، ما عدا أنه يجب حذف فكرة الأسبقية منه.

بالمقابل، رفض أرسطو تعالي الأفكار الأفلاطونية، وطرح بدلاً منها مفهوم "الشكل" الخاص بالعناصر الذي يقود إلى ما نسميه اليوم بالـ"تصوُّر". والإدراك بهذا المعنى ليس الشيء الذي نتأمَّله بالفكر، بل الذي نستخرجه من تجريد التجربة الحسية. وهكذا فإن الفكر الإدراكي أو التصوري ليس مجرد نتيجة للتجربة المحسوسة، بل يستخرج الأشكال المجردة من الغلاف الحسِّي الذي يحيط بها.

إن أسبقية الشكل عند أرسطو، أو أولوية الفكر عند أفلاطون، نموذجان مسيطران على الفكر البشري منذ قرون طويلة. وقد تأرجحت الفلسفة خلال العصور الوسطى ومطلع عصر النهضة بين هذين الحدين. وتم طرح مسألة اللغة والمعنى من خلال مسألة أخرى هي جدلية الماهية والفكرة، وذلك من خلال النمو التأمُّلي أو الاسمية في العصور الوسطى، وصولاً إلى المذهب التجريبي ثم نظرية الرموز لكوندياك. وهكذا كان يتم التأكيد حيناً على أسبقية المعنى، وحيناً على أولوية الرمز واللغة. ونرى هذا التأرجح بوضوح في الفلسفة المعاصرة. ففي نقد العقل الخالص يشكل كانط معنى فرضياتنا التجريبية على قاعدة العمليات المنطقية المؤسِّسة نفسها، والمحكومة بواسطة بنى الفكر، مثل الزمان والمكان والنوع وأصناف الكمية والسبب – وهي بنى غير ناتجة عن القواعد النحوية للُّغات، بل تُستقرَأ مباشرة من إمكانية التجربة وأهدافها. وهكذا عادت نظريات أولوية المعنى لتسود في بداية القرن العشرين، ولتعود إلى الأفلاطونية بأشكال مختلفة.

ومع ذلك، كانت ثمة علاقة مع اللغة لا يمكن نفيها، حتى عند أعتى المدافعين عن المعنى ككينونة مستقلة بذاتها. إلا أن قوانين المعنى ظلت سائدة، وكانت هي نفسها تُطبَّق كقوانين للغة. فهوية المعنى وتطابقه هو الذي يسمح للرمز أو للُّغة بحمل الفكرة ومدلولها.

رغم كل ما تقدَّم، يمكننا القول إن القرن العشرين سعى إلى توحيد الفكر واللغة. وتبدَّى ذلك من خلال نظريتي النسبية العامة والميكانيكا الكوانتية. وعلى الرغم من أنه لم يتم توحيد النظريتين حتى الآن في منظوريهما المختلفين للعالم، لكن يمكن القول إنهما طرحتا معاً أول شكل توحيدي للغة والمعنى، وذلك بتوحيد النسبية العامة للهندسة والمادة، وتوحيد الكوانتية للوعي والموضوع.

ويُعَدُّ طرح ك. غودل في المنطق الرياضي خطوة أساسية على هذه الدرب. فبرهانُه على عدم إمكانية البرهان على اتِّساق أية منظومة رياضية إلا بالاعتماد على منظومة أوسع وأعلى منها فَتَحَ المجال واسعاً أمام دراسة اللغات كافة من منظور جديد، حيث لا يمكن للُّغة أن تعبر تعبيراً كاملاً ومتسقاً عن المعنى إلا باستمرار تطورها وتوسعها. وهذا يعني أن توسع اللغة يتم بالتوازي مع توسع المعنى.

ونجد انعكاس هذه الديناميَّة المعرفية في تطور نظرية المعلومات، وصولاً إلى نظريات الانتظام الذاتي. إن كمية المعلومة التي تحملها ظاهرة معطاة هي تابعٌ لعنصر المفاجأة الذي يشتمل عليه ظهور هذه الظاهرة. وتلعب هنا أبجدية اللغة المستخدَمة دوراً كبيراً في خلق هذه المفاجأة. فالضوء الأحمر في شاخصة المرور لا يمثِّل سوى احتمال واحد من ثلاثة، ويحمل بالتالي كمية معلوماتية أقل بكثير من أحد رموز الكتابة الصينية، مثلاً، الذي يشكل احتمالاً واحداً من عشرة آلاف تقريباً. فما بالك لو أخذنا بعين الاعتبار لغة الحركة الطبيعية التي تعكس إمكانات لانهائية، أو اللغة الجينية للأنواع التي لا حدود لتنوِّع سلاسلها؟! وفي هذا الإطار، كيف يمكن نقل معلومة؟ كيف يمكن، مثلاً، التأكد من أن فهمنا الخاص للظاهرة هو عينه فهم الآخر لها؟ إن تكرار التجربة نفسها متعذر معلوماتياً. وعلى هذا فإن فهمي الخاص لها سيتغير في كل لحظة! إن تحويل مبادئ نظرية المعلومات أو الاتصال إلى اللغة وتعميمها على اللغات الكونية يسمح بتأكيد الشروط المطلوبة لكي تستطيع اللغة نقل المعلومات. لكن ذلك يتم على مستوى محدود زمانياً ومكانياً.

*

ضمن هذا المنظور، عمل فريق من العلماء، بينهم ب. ماندلبروت وج. أ. ميلِّر وب. مالنبرغ، اعتماداً على الأعمال الرياضية لشانون وف. فينر. ولا شك أن أعمال ماندلبروت تستحق منا وقفة خاصة؛ إذ استطاع هذا الرياضي الوصول إلى لغة رياضية حية بكل معنى الكلمة. كانت الهندسية الوصفية تُعَدُّ لغة جافة بسبب عدم قدرتها على وصف أشكال طبيعية معقدة أو التعبير عن ديناميَّة الظاهرات الطبيعية، مثل حركة وتحول الغيوم والجبال والسواحل وغيرها. وكان اكتشاف ماندلبروت للغة الفراكتال عام 1975 أمراً مثيراً لأنه وجد أدواتها في مؤلفات رياضية أسبق كان يُنظَر إليها على أنها غير ذات فائدة عملية للعلوم! وكان المفاجئ أيضاً أن هذه اللغة التي وُضِعَت أصلاً ضمن منظور ماكروسكوبي أظهرت فعالية في وصف الأشكال الميكروسكوبية في فيزياء المادة الكثيفة وأضفت عليها ثوباً هندسياً كانت تفتقد له.

لقد طرحت هذه اللغة الأسئلة القديمة نفسها. هل تقوم الطبيعة على البناء الفراكتالي حقاً؟ أي هل تتكرر النماذج الطبيعية الأساسية ضمن أبعاد مختلفة وأكثر تعقيداً، إنما بحيث تكون البنى الأولية واحدة؟ أم أن الوعي هو الذي يُلبِس الطبيعة هذا الثوب أو يخلقها بهذا الشكل؟! تصل إشكالية هذه اللغة إلى أبعد من ذلك: ألا يمكن أن تكون اللغة نفسها بناءً فراكتالياً قائماً على أبجديات كونية أكثر أولوية؟ وبما هي بناء رياضي بحت، ألا تمثل هذه اللغة، بشكلها المجرد، تجلِّياً للمعنى؟

تقودنا دراسة الظاهرات الطبيعية، بالتالي، إلى دراسة العلاقة المتبادلة بين الوعي واللغة. ويتبدَّى لنا أن وجود الوعي في الطبيعة معاملٌ أساسي في صيرورتها. إن نظريات الانتظام الذاتي auto-organization تصف لنا بشكل واضح أهمية رؤية الأسئلة السابقة في إطار توحيد حدَّي المعنى واللغة ودمجهما. فهذه النظريات تصف المنظومات الحية، أكانت منغلقة على ذاتها تماماً أو منفتحة على الاحتمالات، كالمنظومة الاجتماعية التي لا تستمد سلطتها إلا من ذاتها. وفي هذه المنظومات يكون الشواش chaos لغةً تمثل إمكانات تطور المنظومة ومحرِّضاً على استمرارها، ويكون النظامُ order هو المعنى والوعي والقانون الذي يشكل المنظومة وينظِّم صيرورتها.

*

هكذا فإن بناء المنظومات يتم وفق محورين متطابقين دوماً: فالمنظومة، بما هي لغة، لا تُبنى إلا بوجود عناصرها؛ وبما هي معنى، لا تتحقق إلا بتدخل الوعي. عناصر اللغة هي حالة كمونية للمنظومة، وتدخُّل الوعي هو تحديد لها. ففي الفيزياء الكوانتية، مثلاً، يشكِّل تدخُّل الوعي معامِلاً أساسياً في تحديد نتيجة تجربة ما. وهذا يعني أن الوعي يساهم في تحديد النماذج والقوالب اللغوية للمنظومة. وتمثل اللغة في هذا الإطار الحالة الكمونية أو الشواشية قبل تدخل الوعي ووضع نواظم لها. وتقع نظريات تشومسكي في محاولة بناء أساس قواعدي لكافة اللغات ضمن هذا الإطار. ومع ذلك، فإن العنصر الفيزيائي في الميكانيكا الكوانتية، أو اللفظة في اللغة، يمكن أن يمثلا خلقاً لفعل الوعي أو بناء الأداة القواعدية، وذلك باعتبارهما كينونتين فاعلتين ومؤثرتين في علاقتيهما بنا. ويشبه ذلك إلى حد بعيد ما ترويه لنا الأساطير عن البدء الشواشي الذي انبثق منه النظام بقوة الفكر والكلمة!

ترى، هل يمكن لنظرية قواعدية قادرة على حلِّ المشكلة اللغوية برمَّتها أن تنطبق على كافة مظاهر اللغات؟ إن لكلِّ لغة عالمَها الخاص من حيث مواجهتُها للعالم؛ ولهذا، لا يمكن أن نحمِّل لغة ما لا يوافق بنيتها النحوية، من جهة، أو حالتها التطورية الراهنة، من جهة أخرى. وبالتالي، فإنه لا يمكن بناء نظرية لغوية كاملة تصف الحالة اللغوية في سياق تطورها.

تشكل اللغة، إذن، منظومة قواعدية؛ لكنها في سياق تطورها وتجددها تظل المنظومة غير مبرهن عليها بشكل نهائي. إنها تمثل دور الوعي بما هي مبنية قواعدياً؛ وهي تُبرِز، في الوقت نفسه، دور الشكل، بما هي قابلة دائماً لاحتمال ألفاظ وعناصر جديدة. وبما أنها بحاجة إلى منظومة أوسع وأعلى منها دائماً ليتم البرهان على اتِّساقها (بحسب غودل) فإننا لا نستطيع القول إن لغة ما هي متَّسقة بشكل كامل ونهائي.

يقوم إذن كمال اللغة على استمرارية تطورها لفظياً وقواعدياً في آن واحد. وهكذا، يكون اتساق اللغة انعكاساً لصيرورة تفتح الوعي ولإمكانات الشكل على حمل هذا التفتح. ويشير ذلك إلى حاجتنا الدائمة إلى لغة ومعنى قابلين للتفتح إلى ما لانهاية.

*

لقد كانت للفكر اللاهوتي في مختلف الديانات القديمة وقفة طويلة مع مسألة اللغة والمعنى. وكانت الصفة المطلقة للحقيقة فيها دافعاً رئيسياً لجعل لغاتها العرفانية ذات شكل مطلق. وربما كانت ثنائية المعنى واللغة هي أحد الأسباب التي جعلت للأديان باطناً وظاهراً. وقد انعكس ذلك مثلاً في الديانات "السماوية" على اللغات العبرية والآرامية والعربية في فهم وقبول التعاليم الموحى بها. ويتجسَّد ذلك في إعطاء مدلولات ظاهرية وباطنية للكلمة عن طريق "حساب الجُمَّل" الذي يعطي لكلِّ حرف رقماً، ويجعل للكلمات والعبارات مدلولات رقمية أكثر قرباً من تجريد المعنى. وهكذا، يحمل اللفظ، في آنٍ واحد، مدلولاً عاماً هو الشكل اللغوي، ومدلولاً سِرَّانياً هو المعنى الباطن. ويبلغ هذا الترميز ذروتَه في جعل الشخص أو الوحي حاملين بذاتهما لهذا المعنى بشكله المطلق. وفي ديانات شرق آسيا، يمثل اللفظ (منترا) قدرة قائمة بذاتها وفاعلة كطاقة كامنة، بحيث إن ترداده وفق إيقاع معين يحرِّض معناها الفاعل. ومع ذلك، فإن هذا الحلَّ لا يُعَدُّ أكثر من إسقاط للمعنى المجرد على خلفية لغوية، بحيث تُحمَّل اللغة تجريداً مطلقاً هو في الحقيقة أوسع منها بكثير.

وكما رأينا، فإن عدم وجود لغة كاملة الاتساق يستدعي دائماً وجود إمكانية للبرهان عليها على سويَّة أعلى منها. وهذا يعني أن المعنى المطلق يشكل جاذباً للغة؛ في حين أن اللغة لا تشكل جاذباً له إلا بقدر ما ترتقي إليه. وهذا ما يشكل صيرورة تطورها، والتطور الكوني عموماً. أما في العمق، فإن الوحي، بحدِّ ذاته، يمثل تعارضاً رئيسياً بين المعنى المطلق ووضع هذا المعنى في قالب لغوي. أليس هذا التعارض هو عينه الذي نلمسه بين إمكانية اللغة وخصوصيات فهمها والتعامل معها، من جهة، ووحدة الحقيقة، من جهة أخرى؟!

إن تفتح الطاقة النفسية والروحية في الإنسان يجعله قادراً على اكتناه معانٍ ونماذج أكثر أصالة وبدئية في لاوعيه. وتُعَدُّ هذه العملية مرادفاً حقيقياً عبر العصور للوعي والإلهام بدرجات مختلفة. لكن الوحي الذي يتم الإفصاح عنه باللغة يخسر الكثير من طاقته كمعنى، ولا ينقل إلا مستوى معيناً من التجربة لا يرقى إلى شفافية التجربة نفسها. ومن جهة أخرى، فإن الوحي الذي يتعلَّق بالفرد حصراً سيسقط دون شك في قيد تجربته الذاتية، ليعلن "حقيقة" وفق طريقة فهم خاصة في النهاية، ليست خاطئة، إنما ليست مطلقة. أما التجربة الجمعية، التي غالباً ما تأتينا عبر حكاية أو أسطورة أو رمز أو حتى وحي فردي مشبع بالتاريخ الجمعي (وهو وحي نادر جداً دون شك)، فإنها تعبِّر عن معنى أكثر نصاعة، لكنه في الحقيقة تعبير يختص بلاوعينا الجمعي، ويعمل على نطاق داخلنا وأعماقنا أكثر منه على نطاق إدراكنا الحسِّي والمعاشي المباشر.

*

يمثل العمق النفسي المسمَّى اللاوعي Unconscious معلَماً أساسياً في فهمنا لأنفسنا. فعلى طريق تفتحنا اللغوي والمعنوي، لا نستطيع إهمال لغة الحلم، ولا التغاضي عما يشكِّل حاجة نفسية لدينا، ولا إسكات الدافع المعرفي فينا لاستجلاء ما نشعره في أعماقنا من طاقات وإمكانات. ونجد في هذا العمق البعد الديني الحقيقي لأية خبرة روحية. فمعرفة الذات هي طريق معرفة الحق. وربما كان هذا هو السبب العميق لكون المعنى الديني غير قابل للتعميم، لأنه يرتبط بالخبرة مباشرة، أي بالوعي. وبالتالي، فإن اللغة الدينية تحدُّ من المعنى الأوسع منها لصالح مردود مباشر لا يتعلق بالمعرفة العميقة بل بإقامة توازنات على سويَّات مختلفة.

ألا يعني ذلك أن فكرة "الخلاص" التي طرحتها الديانات وقعتْ في المطب نفسه من التعارض. ذلك أن ما تحمله لنا اللغة من ممارسة يومية على المستوى النفسي، وما تحمله لنا من طمأنينة هشة، يتعارض مع حقيقة أن "الخلاص" نفسه هو ديمومة من الصراع العميق لتأجُّج المعاني الأولية في لاوعينا وحاجتها للتبلور والتفتح. ونحن في حاجتنا الروحية والنفسية – وهي لغة على تماس مباشر مع لاوعينا – لا نبلغ حدَّ السكينة إلا كلما تأجَّج فينا أكثر الشعور بهذا التعارض بين اللغة والمعنى، بين الحركة والسكون، بين النسبي والمطلق. ولا يمكن بحال من الأحوال أن تكون حاجتنا الروحية مسقَطة فقط على إمكانية ولوج عالم المعنى عبر الشكل اللغوي فقط.

*

إن عملية الكشف، بحدِّ ذاتها، تتم عبر اتجاهين. ونحن ننسى غالباً أن للحقيقة دوراً في اختيار المريد. إن للـ"مدارس" دوراً أساسياً في إعداد المريد، لكنها لا تستطيع أن تكشف له الحقيقة، لأن الكشف ليس تعليماً. وهو، في معناه الأعمق، ليس ممارسة أيضاً. فاللغة، بما هي محدودة العناصر، لا تستطيع جعل حاجاتنا متطابقة مع كلِّية المعنى. وهذا يعني أن لغة ما، مهما بلغ اتساقُها، تعجز عن تلبية حاجة الكشف العميقة فينا؛ وعند حدٍّ معين، تصير كافة اللغات حاجزاً دوننا والرؤيا – بما في ذلك رغبتنا بالمعرفة نفسها!

لحظة الكشف تعني، بشكل ما، أن الحقيقة اختارت المريد كما اختارها. إنها بالأحرى لحظة صمت كامل عن اللغات كلِّها. وهذا التواحد بين اللغة والمعنى، بين المريد والمراد، لا يتم عبر سعي من طرف واحد... وسعيُ الحق أسبق.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود