"صدام
الحضارات"...
صدمة
الوعي
هل
بتنا نعيش في زمن اللامتوقَّع واللامعقول، أم
كان ثمة ما ينذر بوقوع ذلك الحدث المشؤوم في 11
أيلول 2001؟ هل كان العالم يسير بخطى ثابتة نحو
حالة من التقدم والاستقرار، أم كان أشبه
ببركان يهدد بقذف حِمَمِه في كل اتجاه، وفي
أية لحظة؟ ألا تشكل أحداث 11 أيلول إضاءة على
أحوال العالم، بما يجعله أكثر قابلية للفهم
والإحاطة؟
لقد
تحررت إثر انتهاء الحرب الباردة قوى ومشاعر
قومية ودينية كانت ترقد تحت الرماد في
أفريقيا وآسيا وأوروبا؛ فتفككت الدول
والحكومات، وظهرت مجموعات ارتكبت أبشع
الحروب والمجازر. وفي كل مرة كانت الدول
الأقوى – وليس الأمم المتحدة – هي التي
تتدخل، حيثما تجد نفسها معنيَّة بالتدخل، من
أجل تثبيت الأمن والاستقرار... ولكن دائماً
بعد سقوط آلاف الضحايا!
انتهت
الحرب الباردة، وزال بانتهائها خطرُ قيام حرب
بين كتلتين هائلتين. ورغم ذلك، لم تتوقف
مشاريع التسلح النووي والكيميائي والبيولوجي.
وإذا كانت أسلحة الدمار الشامل لم تنتظر عصر
العولمة لتصير قادرة على تجاوز كل الحدود
فالجديد في الأمر أن الصراعات باتت قادرة على
عبور الحدود، وباتت المجموعات الإرهابية
قادرة أن تضرب في كل مكان وأن تستخدم كل ما
تتيحه "العولمة" من إمكانات. وقد نشهد
قريباً قيام إرهاب ليس له أية دوافع
إيديولوجية أو دينية... إرهاب لا نجد ولا نفهم
له سبباً...
انتهت
الحرب الباردة، وانتصر النموذج الغربي، وبدأ
الترويج له على أوسع نطاق. إنه عصر العولمة
التي تحقق الرخاء والتقدم وتزيل الفروق بين
بني البشر. لكن الواقع هو أن الشعوب ازدادت
إحساساً بالظلم وبالقهر، واتسعت الشقة بين
الطبقات الاجتماعية، وبين الدول، وساهمت
وسائل الإعلام العالمية (التي تروِّج لنمط
عيش واحد وثقافة واحدة) في جعل هذه الشقة
واقعاً ملموساً ومعيشاً ومؤلماً في أنحاء
الأرض قاطبة.
أما
عن الوضع المتفجر في الشرق الأوسط، فهنا تصير
كل القوى الدولية عاجزة عن فرض حلٍّ يحقق
العدالة، ويحمي المدنيين، ويعيد الكرامة لمن
جُرِّدت منه أرضُه، فبقيت هويَّتُه – وهي
المستهدفة اليوم...
ليست
هذه القراءة لوضع العالم قبل 11 أيلول بالأشمل
والأعمق، ولكنها، بلا شك، صورة قاتمة ومثيرة
للقلق!
وبعد،
فماذا يمكن أن نتعلم من 11 أيلول؟ وما هي طبيعة
الرسالة التي يمكن أن يحملها حدث من هذا
النوع؟ وهل أتت أحداث 11 أيلول لتؤكد صحة نظرية
هنتنغتون في "صدام الحضارات" وتبرهن
عليها، بحيث تصير فصلاً من فصول الصراع بين
الإسلام والغرب؟
يرى
هنتنغتون أن هناك كتلتين حضاريتين: الحضارة
الغربية، من جهة، وكل الحضارات الأخرى
اللاغربية، من جهة أخرى؛ وهو يعدد: الحضارات
الغربية، الصينية، اليابانية، الهندوسية،
الإسلامية، المسيحية، الأرثوذكسية،
الأميركية اللاتينية، الأفريقية.
لقد
عاد هنتنغتون في كتابه صدام الحضارات
وإعادة تشكيل النظام العالمي
عن التسمية التي استخدمها للإشارة إلى حضارة
الصين في مقالته الشهيرة التي نُشِرَت في صيف
1993 في مجلة Foreign
Affairs،
حيث اعتبر أنها حضارة كونفوشية؛ وقد عزف عن
هذه التسمية لأنه اقتنع بأن هناك عناصر عديدة
تشكل هذه الحضارة، من طاوية، وبوذية، وماوية،
إلخ. ولكنه احتفظ بتعبير "الحضارة
الهندوسية" للإشارة إلى الهند، علماً أن
الهند حَوَتْ، وما زالت تحوي، عدداً كبيراً
من المسلمين (120 مليون نسمة)، إضافة إلى أنها
تتكون من أديان مختلفة: الهندوسية، والبوذية،
والجاينية، والإسلام، والمسيحية،
والزرادشتية، وحتى اليهودية؛ والنظام
السياسي المعتمَد في الهند، منذ استقلالها،
يقوم على أسس علمانية. يقول أمارتيا سِنْ،
الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، في معرض
نقده لنظرية هنتنغتون: "لا يمكن فصل نشاط
الهندوس عن نشاط المسلمين؛ فهو نشاط متكامل
[...]. إن الهند لم تكن قط دولة هندوسية، حتى قبل
دخول المسلمين إليها [...]. أهم أباطرة الهند،
أشوكا وأكبر، كانا من غير الهندوس؛ فالأول
بوذي، والثاني مسلم [...]."
ويبقى
السؤال الأهم الذي يمكن طرحه هنا: هل يمكن
حقاً التحدث اليوم عن حضارة إسلامية، بالمعنى
الذي يستخدمه هنتنغتون، تشكل تهديداً
لجيرانها وللغرب؟
أول
ما يلفت النظر في مقاربة هنتنغتون هو تجاهله
التام لوجود العالم العربي: فهو يعتبر أن
الحضارة الإسلامية تتكون من "حضارات تحتية" sub-civilizations، هي الإيرانية
والتركية والعربية والملاوية، ويتناسى
الاختلافات بين هذه المكوِّنات، ومضامين هذه
الاختلافات، وينسى أن هناك أكثر من إسلام
واحد! فكل المعطيات الجغرافية والسياسية
والثقافية اليوم تشير إلى أنه لم يعد
بالإمكان التحدث عن حضارة إسلامية تشكل جملة
سياسية واقتصادية وعسكرية واحدة من شأنها أن
تشكل تهديداً لأيٍّ كان!
ويمكن
بسهولة أن نكتشف، عندما نقرأ خارطة التحالفات
الكاريكاتورية التي يرسمها هنتنغتون، أنه
انطلق من تساؤله عما يمكن أن يشكل تهديداً
للغرب، ومن ثم بنى نظريته وفقاً لإجابة شبه
جاهزة وضعها مسبقاً.
ويبقى
النقد الأساسي الذي يمكن توجيهه لمقاربة
هنتنغتون هو أن الدين ليس العامل الوحيد الذي
تتشكل حوله الحضارات، ولا هو بالعامل النهائي
والمحدِّد لحدوث الصراعات. كما أنه يفترض أن
هذه القراءة التي تستند إلى الأنموذج Paradigm الحضاري – وهو
المفهوم الذي استعاره من توماس كون
– تسمح له بالتنبؤ بما سيحدث في المستقبل.
ولكنها قراءة ضعيفة وتبسيطية إلى حدٍّ كبير،
تفترض ضمناً حتمية الصراع وجمود البنى
الحضارية والثقافية والاقتصادية التي يتم
تناولها.
يتبدَّى
لنا بسهولة أن هنتنغتون يمحو الشخصية العربية
في إطار الشخصية الإسلامية؛ وهو أصلاً لا
يتناول العالم العربي، رغم أن هذا العالم
يشكل وحدة ثقافية وجيوسياسية متعارفاً عليها
ومعترفاً بها، مثلما يخلط بين الإسلام وبين
التيارات الإسلامية الأصولية. إذاً يمكن
القول، في نهاية الأمر، أن هنتنغتون يرى في
الإسلام والعرب والتيارات المتطرفة تعبيراً
عن هوية واحدة وتطلُّع واحد!
الواقع أن العالم العربي تبنَّى
مع بدايات القرن العشرين الكثير من جوانب
الحضارة الغربية، الثقافية والسياسية
والاقتصادية. (فكرة القومية، مثلاً، بأشكالها
المختلفة، تضرب بجذورها في الفكر الأوروبي.)
ولكن هذا التبنِّي الذي لم تكتمل معالمُه
أُجهِضَ بسبب الامتحانات المبكرة والمتكررة
التي تعرَّض لها. وهكذا انقطع الحبل السري
الذي يربط العالم العربي بعصر الأمة
الإسلامية وعصر الخلافة (الذي يعتبره كثيرون
عصراً ذهبياً إذا ما قورن بما يعيشه العالم
العربي اليوم!)، كما فشل العالم العربي في
السير على سكة التطور والتقدم. لذلك يجد بعضهم
أن الغرب هو المسؤول عن تفتت الدولة
الإسلامية؛ بينما يجد آخرون أن الغرب هو
المسؤول عن فشل عملية تحرر العالم العربي
وتطوره.
وبعد هذه القطيعة التاريخية جاءت
العولمة
لتيسِّر انتقال الأفكار والثقافات والإعلام
ورؤوس الأموال، فوضعت المنطقة في مواجهة
أفكار جديدة وتحديات بكر لم تكن مستعدة لها
وتتعارض مع كل ما توارثتْه ومع كل ما يجثم في
لاوعيها الجمعي. وهذا ما نجمت عنه أزمة ثقافية
واقتصادية وسياسية حادة انبثقت منها أزمة
هوية عميقة، ارتدَّ من جرائها الناس إلى
تقليدهم وتراثهم ومعتقداتهم الدينية، مع رفض
قاطع ونهائي لكل ما يأتي من "الآخر".
وأمام تراكم الإحباطات والهزائم
والنكسات، والانشغال بالخلافات الداخلية
والخارجية، وعجز البنى الاجتماعية والسياسية
القائمة عن تقديم حلول أو عن تصور مثل هذه
الحلول، صار العدو الخارجي حجَّة ومسوِّغاً:
فهو سبب فشلنا الدائم، وهو مصدر كل علة! وقد
استُغِلَّ هذا الوضع لتأجيج مشاعر الحقد
والكراهية على حساب العمل على قيام وعي جديد
يتعاطى بحكمة وموضوعية ومسؤولية مع
المستجدات الاقتصادية والجغرافية والسياسية
والثقافية.
لقد فشل العالم العربي في تطوير
حلٍّ يساعد مجتمعاته على الخروج من أزمتها.
فهل سيأتي الحل السحري من الخارج؟ هل يمكن أن
تكون أحداث من نوع 11 أيلول هي الحل الممكن؟ هل
يمكن لأحداث من هذا النوع أن تكون هي مساهمة
العالمين العربي والإسلامي في مسيرة التطور
الإنساني؟ وهل يُخرِج هذا النوع من الأحداث
"الأمةَ" من ضعفها وتخلُّفها؟ قطعاً لا...
من جهة أخرى، لا بدَّ من الاتفاق
على أن الردَّ على الإرهاب لا يكون بتقسيم
العالم إلى "محور خير" و"محور شر"،
وعلى أن الردَّ على التطرف لا يكون بمزيد من
التطرف، وعلى أن مكافحة العنف لا تتم بمزيد من
العنف. لا بدَّ للقوى العظمى من أن تخرج من
حالة النرجسية وتضخم الأنا، وأن تبحث بعمق في
أسباب الخوف والقلق. وهذا يفترض، في جملة ما
يفترض، أخذ هواجس العالمين العربي والإسلامي
بالحسبان، وعدم الخلط بين الإسلام كدين، من
ناحية، وبين الحضارة الإسلامية، من ناحية
أخرى، وبين التيارات المتطرفة، من ناحية
ثالثة. وإذا كان تحقيق الأمن وحفظه يتطلب خطة
دولية فلا غضاضة في ذلك؛ ولكن فلنبدأ بالحدِّ
من التسلح ومن صناعة الأسلحة وتجارتها.
فالأمن ليس منع الإرهابيين من القيام
بعملياتهم فحسب؛ والأمن ليس السلام. الأمن
الحقيقي يتطلب تحقيق الأمن الاجتماعي
والغذائي والصحي والثقافي؛ الأمن هو أن يحصل
كل فرد وكل مجتمع على حاجته من الغذاء والصحة
والتعليم – التعليم الذي يضمن حرية التفكير
والشعور والتخيل؛ التعليم الذي يعلِّم الفرد
أن ينتج وأن يتكامل، لا أن يلهث وراء
الاستهلاك وأن يتصارع من أجل الكسب – وكلُّ
ذلك دون ضغوط ودون استغلال، مع إتاحة الفرصة
للجميع لكي يعبِّروا عن شخصيتهم وهويتهم، ومع
إفساح المجال أمام الجميع للمشاركة في عملية
التطور.
ونهايةً لا أعتقد أنه يمكن القول
بـ"صدام الحضارات". وإذا كان التبسيط
يقود العديدين إلى تبني هذه النظرية فلا بدَّ
لنا أن نكرر أن الحضارات لا تقوم على البعد
الديني وحده، وأنه لا توجد أصلاً حضارة نقية
خالصة. فالحضارات تستوطن وتهاجر، الحضارات
تتلاقى وتتعانق وتتحاور، الحضارات تتزاوج
وتنجب وتنمو وتشيخ... وإذا كان هناك من حضارة
خالصة فهي حضارة الإنسان. وبالتالي فإن
أهم ما في فاجعة 11 أيلول هو أنها تضع حضارة
الإنسان في مواجهة أبشع ما فيه.
كلنا يعرف اليوم أنه يمكن لأية
صورة أو معلومة أو فكرة أو خبر أو دعاية أن
تنتقل بطرفة عين إلى العالم بأسره، بواسطة
الأقمار الصناعية، أو عبر الفضاء السيبري cyberspace
لشبكة المعلومات العالمية WWW... ولكن، أين هذه الشبكة من "نوسفير"
Noosphère تيار دو شاردان – تلك الطبقة
العقلية الكوكبية التي تتلاقى فيها العقول
الفردية لتوجِد تكوينات اجتماعية أعقد
وأرقى، تتمخض، بدورها، عن وعي إنساني فائق؟!
ألم يحن الوقت بعدُ لإيجاد، بل
لبلورة، شبكة فوقمعلوماتية réseau
supra-informationnel، أو عبرمعلوماتية transinformationnel؟
ألم يئن الأوان
بعدُ لولادة شبكة الوعي الكوني؟
*** *** ***
للقراءة
-
Chomsky, Noam, « Terrorisme :
l’arme des puissants », Le Monde diplomatique, Nº
573, décembre 2001.
-
Delpech, Thérèse, Politique
du chaos, Éditions du Seuil et La République des idées, 2002.
-
Thual, François,
Les conflits identitaires, Ellipses, 1995.
|