ويبقى هناك مستقبل*

 

جورج طرابيشي

 

جاك بيرك، الذي بدأ عالم اجتماع وانتهى مستعرباً، كان يبطن أيضاً قماشة فيلسوف. الأسئلة الأساسية التي شغلتْه لم تكن من طبيعة اختصاصية، كما هي الحال عند معظم المستعربين والاختصاصيين في الدراسات الإسلامية، بل كانت من طبيعة وجودية بالأحرى: الإنسان، الحداثة، الأصالة، الهوية، الاختلاف وحق الاختلاف، أوروبا والمتوسط، الشرق والغرب والهيمنة الأميركية.

وأكثر ما ميَّز جاك بيرك في عمله كمستعرب أنه أصرَّ على التعامل مع الواقع الحيِّ، لا مع النصوص الميتة، وفهم الاستعراب على أنه حوار بين ثقافتين – الأوروبية المسيحية والعربية الإسلامية – لدى كلٍّ منهما ما تقوله للأخرى، وما تُغْني به الأخرى، وما تغتني به من الأخرى.

والواقع أن كتابه هذا ويبقى هناك مستقبل ليس كتاباً، بل حوارٌ مطوَّل، في تسعة عشر فصلاً، كان أجراه معه الناقد الأدبي الفرنسي جان سور في أعقاب إصداره لترجمته الجديدة للقرآن، وهو حوار تحوَّل، بعد وفاة بيرك، إلى ما يشبه الوصية الأخيرة.
ولكن، تماماً كما يوحي عنوان الكتاب، فإنها ليست وصية وداع للحياة، بل رؤية استشراف للمستقبل. فبيرك كان من كبار متفائلي القرن العشرين، رغم كل مظاهر البشاعة التي عرفها هذا القرن، من حروب عالمية، وتوتاليتاريات شمولية، وصليبيات استعمارية، وكوارث بيئية، وأخيراً – وليس آخراً – من هيمنة أميركية وأطلسية على حساب الأفول الثقافي والجيوسياسي لذلك العالم الذي طالما استهوى بيرك: عالم البحر الأبيض المتوسط، بعَدْوَتيه الشمالية والجنوبية، وبثقافتيه الأوروبية المسيحية والعربية الإسلامية.

المحطة الأولى التي انطلق منها هذا الحوار المطلوب بين بيرك وسور كانت محطة الحداثة. مآخذ بيرك على الحداثة كثيرة، كما سنرى تواً؛ لكن نقده لها لا يتحوَّل أبداً إلى عداء. وخلافاً لكل الأصوات الصاخبة المتعالية من معسكر ما بعد الحداثة فإن بيرك يرفض أن يرى في الحداثة عظمة تُرمى للكلاب. فالتقدم – وذلك هو جوهر الحداثة – واقعة مركزية في تاريخ البشرية، ولم يعد في مستطاع أية ثقافة من ثقافات العالم أن تلتفَّ من حولها وأن تتابع مسارها كما لو أن واقعة هذا التقدم لا وجود لها.

لكن هذا لا يعني أن الحداثة غير قابلة للنقد أو للتجاوز. وما ينقده بيرك في الحداثة ليس المقولة بحدِّ ذاتها، بل الصفات الملحقة بها. فهو ينقد أولاً الحداثة الغربية من حيث إنها غربية حصراً، ولم تفلح – بعدُ – في أن تكون عالمية. وهو ينقد الحداثة الغربية، ثانياً، من حيث إنها حداثة تكنولوجية، حداثة مصانع وآلات، وحتمية سببية ومادية، ورؤية وضعية وعلموية، بدون استبطان واستدماج للبعد الروحي ولمبدأ المغايرة والاختلاف الذي هو ضامِن التعددية في العالم الذي يفقد نكهته إذا ما صار أحادياً ومُقَوْلَباً بقالب واحد.

وهو ينقد الحداثة الغربية، ثالثاً وأخيراً، من حيث إنها حداثة إعلامية، لا حوارية. فالعالم الحديث هو عالم شبكات إعلام؛ والإعلام هو فاعلية من طرف واحد باتجاه المتلقِّي الذي لا يعود له من نِصاب، داخل الشبكة، سوى المفعولية. ويغلو بيرك في نقد هذه النزعة الشبكية إلى حدِّ الكلام عن أخطبوط كوني يمتصُّ كلَّ شيء، ويجرِّد ضحاياه من القدرة على التفكير والوعي والنقد، ويأسرهم في ما لا يتردِّد أن يسميه عملية سِفاد حيواني من طرف واحد، وجماع جنسي بلا فرح وبلا مشاركة.

ويعترف بيرك بأنه، إذ ينتقد الحداثة، فإنه لا يفعل ذلك بقلب يستخفُّه الطرب. فالحداثة عزيزة عليه، وهو يعرف مدى البؤس المادي والثقافي للمجتمعات التي لم تمر عليها عجلة الحداثة. وشاهدُه على ذلك بؤس شروط الحياة والكدح والفقر وعذابات النساء والفلاحين في جبال الأطلس الأعلى في الجزائر، وهي المنطقة التي عاش فيها في شبابه، وكانت له بمثابة المختبر الحي في طور تخصُّصه الأول في علم الاجتماع.

إذاً فنقدُ الحداثة التكنولوجية لا ينبغي أن يستهدفها في جوهرها، بل في قصورها وتقصيرها وإخفاقها في أن تكون كونية فعلاً وشاملة لجميع البشرية. والمطلوب هو نقد الحداثة، لا إلغاؤها؛ المطلوب تجاوزها بالمعنى الهيغلي للكلمة، أي بالمحافظة على مكتسباتها والتقدُّم بها نحو بنية تضمن المزيد من التفعيل لما هو كامن من إمكاناتها. وبدون أن ينكر بيرك حاجة البشرية، التي تتفيَّأ اليوم ظلال الحضارة التكنولوجية، إلى مقدار ما من الرومانسية ومن الطوباوية، فإنه يعتبر العقلانية التكنولوجية مكسباً نهائياً للبشرية ولا سبيل إلى الغضِّ من شأنها من منظور روحانية مفارقة.

ما يرفضه بيرك، إذن، ليس عقلانية الحضارة التكنولوجية بحدِّ ذاتها، بل أن تكون هذه العقلانية هي الشكل الوحيد والأوحد للعقلانية. فلو صحَّ أن العقلانية التكنولوجية تحتكر تمثيل جميع الأشكال الممكنة للعقلانية لكان هذا معناه أن المثقف ينبغي أن يُخلي مكانَه للـ"خبير"؛ والحال إن هذا بالضبط ما يرفضه بيرك. فـ"الخبرة" في نظره هي من بعض الثقافة، وليست الثقافة من بعض الخبرة. وبدون أن يشكل المثقَّفون طبقة اجتماعية فإنهم يمثِّلون دوراً اجتماعياً. وقد تنوب الإنتلجنسيا في بعض الحالات منابَ البورجوازية في أداء الدور التاريخي الموكول إليها. وذلك ينطبق، بوجه خاص، على مجتمعات العالم الثالث التي لم تعرف الثورة الصناعية ولا شهدت تطور بورجوازية عضوية.

فههنا، كما في مصر أيام سعد زغلول أو في إيران أيام مصدِّق، يمكن للإنتلجنسيا أن تلعب دور البورجوازية العديمة الوجود. فلا شك أن أوروبا دخلت في العقود الأخيرة، لا سيما بعد فشل ثورة الطلبة عام 1968، في طور أزمة مثقفين. ففي العقود الأخيرة تقدم دور الخبير على دور المثقف في صناعة القرار. لكن هذا تطور يؤسف له في نظر بيرك، لأن مفهوم الخبير هذا هو مفهوم مضاد للثقافة، وهو من إنتاج الجامعات الأميركية والأنغلوساكسونية، وهو بالتالي مؤشر على تأمْرُك أوروبا وعلى تأطْلُسِها، مما يترتب عليه نتيجة بالغة الخطورة، وهي قطع الحبل السُّرِّي الذي يربط أوروبا بالعالم المتوسطي، والحكم عليها بأن تعيش عيشة كفاف في سابياء الهيمنة الأميركية.

وفي الوقت الذي يؤكد فيه بيرك على الحاجة التاريخية والحضارية إلى أن يتحول المتوسط إلى "بحيرة للمعنى" من خلال إعادة بناء الشراكة المتوسطية الأوروبية–العربية فإنه يؤكد على الحاجة الروحية الماسة إلى إعادة بناء الحوار الديني بين المسيحية والإسلام. وبيرك لا يخفي إيمانه المسيحي، لكنه يؤكد أن حياته الطويلة الأمد في أرض الإسلام، وفي ثقافة الإسلام، قد أحدثت تعديلاً جوهرياً في رؤيته للمسيحية بالذات. فالإسلام يجهل مفهوم "الخطيئة الأصلية" – وهو المفهوم الذي أدخله القديس أوغسطينوس في صلب المسيحية ابتداءً من القرن الرابع للميلاد، فصار يقوم لها مقام المرآة التي تنظر منها إلى نفسها. ويبدو أن بيرك يُضمِر كرهاً، من طبيعة أوديبية، لهذا المفهوم اللاهوتي. فأوغسطين هو اسمه الأول، واسم أبيه، مثلما هو اسم ابنه.

ولقد كنَّ بيرك إجلالاً خاصاً لهذا القديس وخصَّه بأطروحته الأولى في دراسته الجامعية. ومن دون أن يشرح أسباب انقلابه على سميِّه فإنه يشير إلى بَرَمِه بـ"المازوخية" العقلية التي أوْرَثَها القديس أوغسطينوس للمسيحية والتي جعلت متابعيه من الكاثوليكيين، من أمثال بسكال والأب رانسيه، يرون أن الحياة ليست سوي تهيئة للموت.

وفي نظر بيرك أن الله يحب الحياة لأنه خلقها. وقد تكون الحياة مسرحاً لقَدْر كبير من الألم والعذاب، لكنها أيضاً مصدر كبير للفرح. وفرح الحياة هذا هو الذي يمكن للإسلام أن يعيد بثَّه في المسيحية – في ما لو قُيِّض لهما الدخول في حوار وتنافذ – بوصفه "دين الفطرة". وهذا لا يعني طبعاً أنه ليس لدى المسيحية ما تضيفه إلى الإسلام. فكما أن الإسلام يحترم الطبيعة التي جُبِلَ عليها الإنسان، كذلك فإن المسيحية تحترم الشخص الذي في الإنسان. وهنا تحديداً يمكن أن تكون نقطة تلاقي المسيحية والإسلام: فمن شأن الإسلام أن يساعد على تطبيع الإنسان، ومن شأن المسيحية أن تساعد على تأنيس الطبيعة. وباجتماعهما، تتطبَّع الثقافة وتتثقَّف الطبيعة، وتدبُّ الحياة من جديد في ما يحلو لبيرك أن يسمِّيه أسطورة الأندلس: أسطورة أوروبا التي كانت مسلمة، والإسلام الذي كان أوروبياً.

*** *** ***


* Jacques Berque, Il reste un avenir, Arléa, Paris, 2002, 210 pp.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود