|
الإسلام والمسيحية*
من
التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم
محمد
صالح العلي
إن
الحوار بين الأديان والثقافات من سمات عصرنا
الراهن – مع أن الحوارات، والمثاقفات تأخذ
أشكالاً تواؤمية أحياناً، أو تصادمية
أحياناً أخرى؛ أو تأخذ من هنا بطرف، ومن هناك
بطرف آخر. ولا يخفى على أحد الهدفُ النهائي
الذي يبتغيه هذا الطرف أو ذاك من الحوار،
بأشكاله المتعددة. فقلما يكون الهدف سامياً
من أجل المثاقفة أو تأسيس فكر إنساني يتجاوز
الحدود ويحطِّم الدوائر الضيقة ليس إلا.
والكتب التي تناولت الحوار الإسلامي–المسيحي،
بما يرفده من ندوات ودراسات أو ما يدور في
فلكه، كثيرة جداً؛ لكننا لا نستطيع أن نسلِّم
بها كلها، وذلك تبعاً لما تنطلق منه تلك
الدراسات أو لما تهدف إليه. وكتاب الإسلام والمسيحية
واحد من الكتب التي وجدتها على قدر كبير من
الأهمية في خدمة التراث الإنساني. وقبل أن
أطلق فيه حكماً أودُّ أن يتحدث الكتاب عن
نفسه، وذلك من خلال إبراز الصور التي سأوردها
من بين ثناياه، كما ومن خلال المرتسمات
الاستقرائية التي سلكها المؤلف في بحثه. يتضمن الكتاب مقدمة
للمُراجِع، وأخرى للمترجم، وتمهيداً
للمؤلِّف (باحث متخصص في تاريخ العلاقات
الحضارية بين الشعوب، يعمل في معهد الاستشراق
التابع لأكاديمية العلوم الروسية)، وسبعة
فصول رُتِّبتْ بما يتناسب ومقتضيات المنهج.
تتصدر صورة الإسلام في الفكر الديني الفلسفي
الأوروبي في الفصل الأول؛ ومن بعدُ يتطرق
المؤلف لطبيعة الاقتباسات الثقافية في
القرون الوسطى لبلورة الصورة وتوضيحها في
الفكر الغربي في الفصل الثاني. ويأتي الفصل
الثالث ليحدد النماذج الذهنية لصورة الإسلام
في الوعي الأوروبي في القرون الوسطى؛ حتى يصل
المؤلف لصورته – أي الإسلام – في العصر
الحديث في الفصل الرابع. أما مسألة الحوار
الفلسفي الديني بين الإسلام والمسيحية من
فلاديمير سولوفيوف إلى لويس ماسينيون، فقد
خُصِّص لها الفصل الخامس، حيث يتوقف الكاتب
عند نقطتين هامتين هما: 1.
الإسلام
في المذهب الديني الفلسفي عند سولوفيوف 2.
لويس
ماسينيون وعلم الإسلاميات الكاثوليكي لينتهي الكاتب إلى الرؤية
الكاثوليكية المعاصرة لمسألة الحوار مع
الإسلام من خلال مرتكزات تتحدد في النقاط
التالية: أ.
العالم
الأفروآسيوي في الوثائق الكنسية العائدة
للقرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن
العشرين ب.
قضايا
الإسلام في المجمع الفاتيكاني ت.
الحوار
الإسلامي–المسيحي بعد المجمع الفاتيكاني
الثاني ث.
الأسس
اللاهوتية والجوانب الاجتماعية–الثقافية
للحوار الإسلامي–المسيحي أما الفصل السابع فيحدد
العلاقة بين الإسلام ومسيحيي الشرق الأدنى من
خلال الوضع التقليدي في المجتمع الإسلامي،
ووضع الأقلِّيات المسيحية في المشرق العربي،
والبحث عن وسائل للقضاء على التشرذم الطائفي
المسيحي من خلال "المتنوِّرين"، إلى
الإيديولوجيا العربية في ضوء إشكالية
العلاقات الإسلامية–المسيحية المتبادلة،
والمحكومة، في أغلب الأحيان، بمقررات الغرب. تضمنت مقدمة د. محمود حمدي
زقزوق (وزير أوقاف مصر) التنويه عن الشمولية
والتعمق اللذين اتصف بهما الكتاب في قضية
البحث عن الإسلام والمسيحية بموضوعية تبتعد
عن التحامل، وذلك من خلال كشف العلاقة بين
الديانتين، وصولاً إلى الهدف الإنساني
الأرحب، وهو الانتقال من مرحلة التنافس
والتصادم إلى آفاق الحوار والتفاهم، بعيداً
عن فوضوية الرؤية وضبابية الطرح. ذلك أن
الحوار هو الذي يوصل البشرية إلى برِّ
السلامة، لأن مستقبل الإنسانية مرتهن بحلِّ
إشكالية التفاهم بين الشعوب، عقيدياً
وفكرياً. أما مقدمة المترجم فتُبرِز
أهمية البحث في فتح آفاق الحوار الإسلامي–المسيحي
من التنافس والتصادم إلى التفاهم. وهذا ما برع
في إظهاره المؤلِّف برأي المترجم؛ ذلك أنه
اعتمد منهجاً صارماً يعصمه من الزلل والخلط
لضبط مفهوم الحوار: هذا المنهج هو المنهج
التأريخي الثقافي. ناهيك عن أن المؤلِّف يرصد
طبيعية الموقف العربي من ظهور الإسلام،
وصورته في الفكر الديني الفلسفي الأوروبي،
وانعكاس هذه النظرة على نواحي الحياة كافة.
وعلى الرغم من بعض المواقف المتوترة إلا أننا
نلحظ أن تأثير الأدب العربي الذي يحمل الروح
الإسلامية لم يكن خافياً أو بعيداً عن الفكر
والأدب الغربيين في القرون الوسطى من خلال
توجُّه الأوروبيين للتعلُّم من الإسلام، أو
التصارع معه والتصدِّي له، باعتباره عقيدة
جديدة وغريبة على الغرب. لهذا ظهرت مدارس
ترجمة القرآن، وكتب المجادلة، ورصد الأنماط
الذهنية المتكوِّنة عن الإسلام في الوعي
الأوروبي. ولهذا أيضاً ظهرت آراء ونزعات
واتجاهات أوروبية داخل المجمع الفاتيكاني
تجاه الإسلام، حيث نجد الطروح المتفقة أو
المبايِنة (علماً أن تلك الطروح، بنوعيها،
ذات طابع نخبوي لا جماهيري). إن إطار الحوار بين
الديانتين، ولاسيما في العقود الأربعة
الأخيرة، يحدد إطار رصد لحلِّ مشكلة حوار
الأديان بكل تداعياتها، وتناقضاتها، أو
مواءمتها. ذلك أن الحوار أصبح سمة عصرية؛ إذ
إنه لم يتأطَّر في الطابع العقيدي وحسب، بل
تعداه إلى الدوافع السياسية–الإيديولوجية.
من هنا تحول الحوار الديني إلى قضية وطنية أو
قومية، ثم تجاوز ذلك ليمتد إلى العالمية، أو
لينضوي تحت مفهوم "العولمة" (علماً أن
هذا التطور يأتي نتيجة للتطورات في العلوم
الإنسانية في ميادين التأريخ،
والإثنوغرافيا، والأنثروبولوجيا، وعلم
النفس، إلخ.) وبرأي المؤلف إنه قد تحتَّم
على المسيحية التي ظهرت كديانة كونية عالمية
أن تتواءم في مسيرتها التأريخية مع شعوب
كثيرة، من جهة، وأن تواجِه الفلسفةَ ورؤيتَها
التي تقترب مرة من الدين، وتبتعد عنه في أخرى،
من جهة أخرى. على أن الحوار الديني عرفه
الوطن العربي من قبلُ: فـ"رابطة إخوان
الصفا" في مصر (1941) جمعت مثقفين مسيحيين
ومسلمين؛ وفي بحمدون رتبت "جمعية أصدقاء
الشرق الأوسط" المؤتمر الإسلامي–المسيحي. والكاتب يشير إلى أن الحوار
إياه لم يتخذ دوماً طابع المواءمة، فتعدَّاه
إلى التصادمية، وذلك بتأثير أمور فكرية كثيرة
لا تتأطَّر في السياق الديني وحده. فقضايا
الاستعمار، والآداب، والدراسات الفنية، ربما
تتدخل وتفرض نفسها على هذا الحوار الذي لعب
دوراً في التفاعل الثقافي على أية حال. في الفصل الأول الذي جاء
بعنوان "صورة الإسلام في الفكر الديني
الفلسفي الأوروبي" (الإسلام
والمسيحية: السياق الروحي–التأريخي
للعلاقات المتبادلة) تناول الكاتب الدور
الهام الذي لعبته شعوب الشرق الأدنى،
بثقافاتها وتجاربها الروحية، في تطور
الحضارة الأوروبية؛ علماً أن التأثير
الإسلامي اجتاح الحياة الأوروبية في أغلب
ميادينها، حتى أصبحت ميادين العلاقات
الحضارية العربية–الأوروبية حقلاً خصباً
لمجموعة لا تحصى من البحوث والدراسات
والأطروحات الأكاديمية والندوات (كتأثير
الرشدية والنظام الفلسفي الرشدي على الفلسفة
الأوروبية). كما برزت العلاقات العربية–الأوروبية
في مجالات أساسية من الحياة: الاقتصادية،
والعسكرية، والسياسية، والثقافية،
والدينية، إلخ. لقد كانت المجابهة العسكرية
بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية هي
الطابع المسيطر الذي لبس لبوس الدين. فكلا
الطرفين حارب الطرف الآخر لإعلاء راية
الإيمان ضد "الكَفَرَة". ولقد احتل
الشعار الديني حيِّزاً مهماً في
الإيديولوجيا الغربية الاستعمارية في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الأولى
من القرن العشرين. وهذا ما حصل لدى الاحتلال
الفرنسي للجزائر عام 1830 الذي وصفه مطران
باريس في تلك الفترة بأنه "انتصار للمسيحية
على الإسلام". ومع ذلك فإن الموقف لم يكن
موحَّداً، بل متباين ومتناقض. فالنخبة
الأوروبية المثقفة كانت، في الوقت نفسه، تدعو
إلى ضرورة تبادل القيم الروحية والمادية مع
الشعوب والديانات الأخرى. والحقيقة أن
الإسلام لم يعطِ أوروبا معارف جديدة فحسب، بل
أثَّر جوهرياً في طبيعة نمو العمليات
الثقافية وتطورها، كما ساعد على تشكيل الوعي
الذاتي الأوروبي. وفي الفصل الثاني الذي جاء
بعنوان "طبيعة الاقتباسات الثقافية في
القرون الوسطى" أورَدَ المؤلف أن معلومات
الأوروبيين عن العرب كانت، في كثير من
الأحيان، ضئيلة مشوَّهة، لا تتعدى الظن أن
سكان شبه جزيرة العرب يقومون بأود حياتهم على
النهب واللصوصية. لكن التعرف الواسع على
العالم الإسلامي، مع دخول العرب الأندلس،
وبدء الترجمة من العربية إلى اللاتينية عدَّل
تلك الصورة المشوَّهة. ذلك أن الكتاب الذي
يؤلَّف في الشرق الإسلامي سرعان ما يصبح في
متناول العلماء والدارسين الغربيين بوساطة
المترجمين العبرانيين. ولا بدَّ من الإشارة
إلى أن الترجمة كانت تخضع لعمليات تمحيص
وانتقاء صارمة. فقد تُرجِمَتْ المؤلفات
الفلسفية التي حظيت بتقدير كبير، ككتب
الغزالي، ومنها: مقاصد الفلاسفة؛ أما
النصوص الدينية التي تُرجِمَتْ فهي قليلة،
وقد استُخدِمَتْ في المجادلة والمناظرة مع
المسلمين؛ بينما ظلت الأحاديث النبوية
مجهولة عند الأوروبيين. ويشير الكاتب إلى أن
الترجمة العربية إلى اللاتينية كانت ترجمة
غير مكتملة، لكنها مهمة. فالمترجم ينقل من
العربية إلى اللغة القشتالية، أو إلى لغة
محلية أخرى؛ ومن بعدُ يُستنسَخ العمل مرة
أخرى، ويعادُ ضبطُه. والواقع أنه، في كثير من
الحالات، بفضل امتلاك الأوروبيين للعلوم
والمعارف العربية والإسلامية (خصوصاً في
القرن الثاني عشر للميلاد)، حصل تقارب مهمٌّ
بين اللاهوت والطبيعيات. كما أن المدرسة
الشارترية لعبت دوراً يُعتدُّ به في تنسيق
المصادر المسيحية، والمصادر القديمة (الوثنية
بعامة، واليونانية بخاصة)، والمصادر
القريبة، التي كانت متأثرة، في كثير من
توجُّهاتها وطروحاتها، بالفكر العربي
الإسلامي ذي النزعة الهلنستية؛ إذ اقتبس
الغرب اللاتيني طروحاً كثيرة. فـرسالة
دومينيكوس في النفس أو في الروح هي تلخيص
لنظرية ابن سينا. من هنا يمكن الجزم بأن
القرون الوسطى في أوروبا تدين للثقافة
العربية الإسلامية بتعريف الأوروبيين
بالكثير من مؤلفات أرسطو، بفضل ترجمات العرب
وشروحهم الفنية المبدعة؛ حتى إن الكنيسة
أصدرت قراراً في القرن الثالث عشر يُلزِم
المرشحين لنيل درجة الماجستير في الفنون
بمعرفة مؤلفات أرسطو والنجاح في امتحانها.
وما يهمنا هو أن العرب المسلمين، وبخاصة ابن
رشد، أضاؤوا المذهب الأرسطي الذي كان
محارَباً في الحواضر الأوروبية الكبرى بضغط
من الكنيسة. ويرى الكاتب مشكلة في درس
ظاهرة لم يُتَّفق على وصف طبيعتها أو فهمها
ضمن السياق التأريخي، وهي تحديد التأثير
المحتمل و"الممكن" للتصوف الإسلامي على
فلسفة الزهد والتنسك في أوروبا. وتبقى هذه
العلاقة مثار نقاش وأخذ وردٍّ ما بين باحثي
التاريخ، من جهة، والمثقفين، من جهة ثانية.
ظهر هذا جلياً من خلال وجهة نظر كلٍّ من هؤلاء
إلى مؤلفات الغزالي في العقائد والأخلاق
والزهد، وابن مسرَّة في مدرسته العرفانية
الأندلسية، ونفسانية الوجد الصوفي عند
الغزالي ومحيي الدين بن عربي. وفي الفصل الثالث نقرأ عن
"صورة الإسلام في الوعي الأوروبي في القرون
الوسطى". ويتحدد ذلك من خلال محطتين
رئيسيتين: أولاهما تكمن في ضرورة التعلُّم من
الإسلام والأخذ منه، كونه الأقوى؛ وثانيتهما:
التصارع معه كعقيدة غريبة ومعادية. وهذا ما
ظهر في كتابات دانتي الذي وضع النبي محمد (ص)
وعلياً ابن عمِّه (الخليفة الراشدي الرابع) في
الخندق التاسع من الحلقة الثامنة في "جحيم"
الكوميديا، علماً بأن دانتي نفسه قد تأثر
غالباً بالفكر الإسلامي؛ فبزعم دانتي أن
النبي وابن عمِّه قد أحدثا انقساماً في
العالم. لقد شاب التصور الأوروبي عن
الإسلام في العصور الوسطى حكمٌ نمطي تكرَّس
عبر أزمنة متلاحقة. ومن جهة أخرى، ثمة خلاف في
النظرة التكاملية في الدين بين المسيحية
والإسلام. إذ إن الإسلام يؤمن بالنظرة
التكاملية عبر التدرج في الديانات؛ من هنا
جاء المفهوم الإسلامي القائل بأن محمداً (ص)
هو خاتم الأنبياء والمرسلين. ويبدو أن التصور المسيحي في
أوروبا يختلف عنه في المشرق العربي. وهذا ما
يظهر في مؤلفات يوحنا الدمشقي الذي أراد أن
يؤسِّس لحوار مسيحي–إسلامي، مؤطَّر في
الجانب اللاهوتي بعيداً عن السياسة. فمع أن
يوحنا الدمشقي ناقش الإسلام كبدعة، إلا أنه
أظهر الاتفاق بين المسلمين والمسيحيين على
الإيمان بالإله الواحد (من هنا لم يكن مسيحيو
المشرق يجدون في الإسلام خطراً على عقيدتهم).
لكن بما أن المسلمين لا يعترفون بالطبيعة
الإلهية للمسيح فإن يوحنا يرفض الكثير من
اليقينيات الإسلامية، التي منها أن محمداً
خاتم الأنبياء وأن القرآن كلام الله المنزَل.
وقد رُوِّج في تلك الآونة لقصة خرافية، وهي أن
محمداً كان تلميذاً للراهب النسطوري سيرجيوس
(بحيرا)؛ كما أطلق المسيحيون السريان على
المسلمين لقب "ملَّة أبناء الجارية"،
استناداً إلى رسالة بولس إلى أهل غلاطية (الإصحاح
4: 21-31). وثمة تصورات تكوَّنت عن
الإسلام في تلك الفترة، منها أن محمداً (ص)
ساحر، أراد أن يحطم الكنيسة عن طريق السحر،
وأن يفعل ما لم يستطع فعله الشيطان؛ ناهيك عن
الرغبة الجنسية العارمة التي تحكَّمت في
ميوله، وانتقلت إلى المسلمين كمنهج سلوكي.
بالإضافة إلى أن محمداً (ص) (الذي أُطلِقَت
عليه تسميات: "ماهومت"، أو "مومت"،
أو "موميتو") أراد الجلوس على كرسي
البابوية؛ وعندما لم يفلح هرب إلى شبه
الجزيرة العربية وانتقم من المسيحية من جراء
ذلك. لقد
دخلت مثل هذه الترويجات والاختلاقات في إطار
الأدلجة لتصوير الإسلام بهيئة قبيحة تتعارض
مع مثالية المسيحية. ولم يتوقف الأمر عند
الإسلام، بل تعدَّاه إلى العرب ككل، كما فعل
دانتي وتوما الأكويني اللذين وصفا العرب تارة
بالصعلكة وتارة بالبداوة (وأحسب أن الصفة
الأخيرة تشير إلى الفوضى وعدم القدرة على
استيعاب أي شكل حضاري). فبرأي الأكويني أن
الإسلام انتشر بفضل الترويج لفكرة اللذة،
والشهوات الحسية، والوعود الغريزية في
الآخرة؛ علماً أن دانتي والأكويني دانا
بالكثير للثقافة الإسلامية اعترافاً
واقتباساً، ولكنْ بصورة انتقائية. فتوما
الأكويني يصوِّر أن الإسلام يناسب القدرات
العقلية المتوسِّطة من خلال تطرُّقه لمسألة
القرآن الكريم الذي أطلق عليه "شريعة محمد". وعلى هذه الأرضية بدأت
الحملات التبشيرية المسيحية في ديار
الإسلام؛ ومنها حملة رامون دي بينيافورتي،
ورايموندو لولي، ونيكولاس القوزاني، وغيرهم
ممَّن شجَّعوا على تعلُّم العربية وفتح أقسام
لها في الجامعات الأوروبية لمحاولة تفسير
القرآن الكريم، ومن خلاله الدخول على الإسلام. ويأتي الفصل الرابع ليبحث
في "صورة الإسلام في الوعي الأوروبي في
العصر الحديث". ذلك أن أوروبا، بين القرنين
السادس عشر والثامن عشر، استبدَّت بها فكرة
ضيقة عن دراسة المعارف العلمية عن الشرق
العربي والإسلامي، كما ظهرت فكرة الاستعراب
كرافد للدراسات الإنجيلية. ويأتي اسم غليوم
باستل كدارس للغات الشرقية، بما فيها العربية.
وقد تُرجِمَتْ كتبٌ من العربية إلى لغات
أوروبية، منها نزهة المشتاق للإدريسي، وتاريخ
مختصر الدول لابن العبري. أما في مجال
التأليف فقد ألَّف أستاذ اللغة العربية في
كمبردج س. أوكلي كتاب تاريخ الساراسيين؛
وهو أول كتاب علمي يُنشَر في إنكلترا عن تأريخ
العرب. وهناك كتاب آخر نشره أ. ويلان عن
الديانة المحمدية بعنوان في تأريخ الإسلام.
لكن هذه الكتب وغيرها لم تخلُ من ترسيخ فكرة
اتهام محمد (ص) في طبيعة نبوَّته؛ إذ اتُّهم
بالاحتيال مرة، وبنعوت أخرى في مرات كثيرة.
يقول هنري بريدو في كتابه الطبيعة الحقيقية
للاحتيال في سيرة محمد الشخصية: "هل
فقدنا حقاً عقولنا لكي لا نفهم أن الرب
باستطاعته أن يرسل في ظرف مماثل محمداً آخر
ليربكنا ويعكِّر حياتنا." (كذا) كما رسم فولتير صورة عن محمد
(ص) يدغدغ بها مشاعر البسطاء لبلوغ غاية شريرة.
يقول: "إنني أصور محمداً متعصباً عنيفاً،
ومحتالاً، وعاراً على الجنس البشري؛ هو الذي
من تاجر أصبح نبياً، ومشرِّعاً، وملكاً."
ولهذه الغاية فقد بعث برسالة إلى ملك بروسيا
لينبِّهه – برأيه – إلى خطر الإسلام،
ورجعيَّته، وعدائيَّته للتقدم، والتطور
الاجتماعي والثقافي. الملاحظ على هذه
الترويجات، برأي المؤلف، أنها تفتقر إلى
الاستقراء والدقة والتعمق؛ فقد جاءت من خلال
تأويلات مبسترة ومقتضبة. ومع هذا، لا نعدم
الكثير من الأسماء اللامعة ونوابغ الفكر
الذين أنصفوا الإسلام وأبرزوا جوانبه
المضيئة. أما
في القرن التاسع عشر فقد استهوت الغربيين
فكرة معرفة الإسلام عن كثب، من خلال
العسكريين، والتجار، والمبشِّرين،
والإداريين، والتقنيين. لهذا يعتبر المؤلف أن
علم الإسلاميات الأوروبي ولد في أحشاء
المخطَّطات الاستعمارية. على أن هذه الدراسات
كانت، بين فترة وأخرى، تقترب من العقلانية؛
ولهذا أُطلقَت فكرة "الاستشراق العلمي". ويأتي التمهيد الفلسفي
الديني للـ"حوار الإسلامي–المسيحي من
فلاديمير سولوفيوف إلى لويس ماسينيون" في
الفصل الخامس. ففي النصف الثاني من القرن
التاسع عشر انقسم الفكر الأوروبي تجاه
الإسلام إلى قسمين: أولهما، وأوسعهما
انتشاراً، فيه شحن عاطفي وتأجيج للمشاعر عن
سحر الشرق الذي فيه الأمور الطريفة والنادرة؛
وثانيهما، يستند إلى المنهج التجريبي وتحليل
الوثائق والمعطيات. وبالإضافة إلى هذا وذاك،
ظهرت أصوات تطرح تفسيرات فلسفية جديدة حول
نشوء الإسلام. ومن أبرز من نحا هذا المنحى
الروسي فلاديمير سولوفيوف وعالم الإسلاميات
والتصوف لويس ماسينيون. طرح الأول مسألة موقع
الإسلام الحقيقي من عقيدة الفداء، أو "الخلاص
الإلهي للبشرية"، والثاني طرح تساؤلات
كثيرة منها: لماذا ظهر الإسلام؟ من هو محمد؟
ما موقعه الديني؟ – علماً أن الرجل دافع عن
شخصية محمد (ص) وعن البعد الروحي لرسالته؛
لكنه أخذ عليه التأملية المحدودة في النظرة
للكمال الإنساني. طرح سولوفيوف في كتابه الفتنة
الكبرى والسياسة المسيحية خصوصية الشرق
التقليدية التي تتمثل في تأكيد أبدية الهوة
بين الإنسان والخالق، في رفض تألُّه الإنسان،
كعقيدة أكَّد عليها الإسلام، مؤكداً، من جهة
أخرى، أن الإسلام لا يدين بنشأته إلى
المسيحية كحالة تطورية، مع وجود الخلاف في
كثير من التشريعات واليقينيات، كالخطيئة،
والتكفير، والتبرير، والتجسيد الإلهي. أما ماسينيون الذي أقام في
العراق فترة، فقد اهتم بدراسة الحلاج، ومن
خلاله أراد أن يؤسِّس لنظرية غربية حول الزهد
والتصوف الإسلاميين في رسالة الدكتوراه التي
قدَّمها في السوربون بعنوان آلام الحلاج،
شهيد التصوف الإسلامي، مع إبرازه لعقلانية
الإسلام اللاهوتية في النظرة للكون والإنسان.
لذا دعا ماسينيون إلى إنشاء الجمعيات
الفرنسية–العربية للتبادل الثقافي. على هذا
النحو يسير هاينرش بيكر الذي لا يخاف على
الحوار الإسلامي–المسيحي لقدرة الإسلام على
التكيف مع الحداثة والمعاصرة؛ بينما توجد
أسماء أخرى تخشى هذا الحوار. أما الفصل السادس فيتضمن
قصة المساعي الكاثوليكية المعاصرة في مسألة
الحوار مع الإسلام. ينطلق هذا الحوار من
الكنيسة والمحافظة عليها كحامية للدين. لهذا
يتخوف البابا ليون الثالث عشر عندما يغادر
رجل الدين الأوروبي إلى البلدان الأفريقية
والآسيوية ولا يجد فيها هيئة دينية تحمي
المصالح الكنسية. من هنا كان اهتمام
الكاثوليكية بمسألة الحوار، من جهة، ورغبتها
فيه، من جهة أخرى؛ ولذلك طالبت بهيئة دينية
مستقلة تقود الكنائس المحلية وكنائس الشرق
الأدنى والشرقية، مع تناسي الشقاقات القديمة
بينها. وعندما تطورت حركة التحرر الأفروآسيوي
غيَّرت الكنيسة نظرتها لمسألة القيادة
الكنسية، فجعلتها تتكيف مع ظروف كل بلد، مع
إطلاق مفهوم "مراعاة مصالح السماء". أما قضايا الإسلام في
المجمع الفاتيكاني من حيث الحوار معه، فقد
عولجت لأول مرة من 1962 إلى 1965 على مستوى مذهبي
عقائدي، وفي ضوء الدستور العقائدي والدستور
الرعوي في الكنيسة، وعالم اليوم، ومع تنامي
فكرة الحوار مع الإسلام. إلا أننا نلاحظ بروز
الخلاف حول مسألة قتل اليهود للسيد المسيح (قتل
الله!). فقد قام الكاردينال بيّا بإعداد مسودة
المشروع، لكن المشروع عُدِّل بعد استنكار
الدول العربية له. وفي عام 1964 نلحظ نقطة هامة
في تأريخ الحوار، بدأت مع زيارة البابا بولس
السادس للشرق الأدنى، عندما ألقى في عمان
والقدس "تحية أخوية" للمسلمين، مع توجيه
رسالة تتضمن احترام الديانات التوحيدية
ومعتنقيها. وفي عام 1965 حدد المجمع الكنسي
العلاقة مع الإسلام من خلال التصريح الذي جاء
فيه: "إن الكنيسة تنظر بعين الاعتبار –
أيضاً – إلى المسلمين الذين يعبدون الإله
الواحد الحي القيوم الرحيم القادر على كل شيء
[...]" إلى "وإنهم [أي المسلمون] يُجِلُّون
يسوع كنبيٍّ، وإن لم يعترفوا به كإله،
ويكرمون أمَّه مريم العذراء [...]". لقد دعا المجمع الكنسي إلى
تناسي كل الخلافات القديمة تحت مفهوم العقيدة
الإلهية النهائية التي تجمع الدينين (التوحيد)،
مع الاحتفاظ ببعض الخلافات الجزئية، كتأليه
النبي يسوع، من جهة، ونبوَّة محمد (ص)، من جهة
ثانية، وتعدد الزوجات، وما نتج عنه من انحلال
خلقي برأي بعض الأساقفة. ومع تزايد عدد مناصري
الحوار مع الإسلام في الفاتيكان، نلحظ أن
السكرتارية تنظِّم مدارس صيفية للقساوسة عام
1979، ومعهم المبشرون والعاملون في البلدان
الإسلامية، من أجل تعريفهم بالشكل المعمَّق
لفهم الإسلام. وثمة مؤتمرات وملتقيات في بلاد
عربية وأوروبية دعت إلى هذا النوع من الحوار
بحضور شخصيات إسلامية معروفة. ونذكر في هذا
السياق ما قام به سكرتير أمانة شؤون الديانات
غير المسيحية الذي زار السعودية والقاهرة
ودعا علماء المسلمين لزيارة الفاتيكان لتصل
مسألة الحوار الإسلامي–المسيحي إلى مرحلة
وضع الأسس اللاهوتية والجوانب الاجتماعية
والثقافية للحوار. ويتوقف الكاتب في الفصل
السابع والأخير عند مسألة "الإسلام
والمسيحية في الشرق الأدنى"، فيشبِّه
مسيحية الشرق الأدنى بـ"أطلنطس الغارقة"،
حيث انتشر الدين الإسلامي بشكل واسع، وبقيت
المسيحية في أقليات إثنية طائفية تتراوح ما
بين 8-9 % من سكان المنطقة. والمشكلة التي يعاني
منها هؤلاء المسيحيون أيضاً هي أنهم،
ثقافياً، يمثلون أقلية تواجه أكثرية
ديموغرافية منتصرة؛ ناهيك عن التباين ما بين
الطوائف المسيحية نفسها الذي تعود أسبابه إلى
خلافات لاهوتية محضة. عندما فتح الإسلام الشرق،
دون قتال على الأغلب، ونشر دينه، سمح بممارسة
الطقوس الدينية، وحمى المسيحية من اعتداءات
إمبراطورية بيزنطة. لذا نلحظ أن أكثر
المسيحيين ذابوا في الإسلام، مع بقاء
أقلِّيات حافظت على عقيدتها، كالأرمن. ومن
جهة أخرى فقد ازداد الاهتمام باللغة العربية،
حاملة لواء الإسلام. لقد نظر الإسلام إلى "أهل
الذمة" نظرة خاصة؛ فقد كانوا يؤدون الخراج
والجزية مقابل الحماية لهم ولدينهم، على ألا
يشغلوا الوظائف العالية، أو يركبوا الخيول
الأصيلة. أما في العصر العثماني فنلحظ ما يسمى
بـ"المِلَّة"؛ إذ خضع المسيحيون لسلطات
تحمي شعائرهم وتسمَّى "المجالس المِلِّية".
لذلك يذكر المؤرخ فيليب حتي بأن نظام "الملل"
هو الحل الإسلامي لمشاكل الأقلِّيات الدينية. أما
مسيحيو المشرق العربي فنسبهم تتراوح ما بين
1-10 %. ويذكر المؤلف أنهم ينضوون في شكلين: شكل
شرقي قديم (ومنهم: المونوفيسيون، النساطرة،
الأرثوذكس الشرقيون)؛ أما الشكل الغربي
فيتمثل في الكاثوليكية والبروتستانتية.
الشكل الأول يدين بالولاء للكنائس المحلية؛
أما الشكل الثاني فيدين بالولاء للغرب. لقد
امتاز الكتاب بدراسة تفصيلية، اعتمد الكاتب
فيها منهجاً استقرائياً للرؤى والنظرات
والمواقف، ضمن عرض تأريخي جعله يربط
المقدِّمات بنتائجها؛ غير متناسٍ الحالات
التطورية في العلاقة بين الإسلام والمسيحية؛
عارضاً في هذا الميدان التلاقح الثقافي الذي
استطاع أن يؤثر، بدرجات متفاوتة، على طبيعة
تلك العلاقة؛ راصداً أيضاً المواقف السياسية
وتأثيراتها الإيجابية والسلبية. وغير خافٍ
على القارئ ما امتاز به الكاتب من الدقة
والضبط المنهجي والموضوعية. والأمر الذي يهمنا في
المشرق العربي، بالدرجة الأولى، هو أن الكاتب
عالج طبيعة الحوار الإسلامي–المسيحي بخطاب
يختلف إلى حدٍّ بعيد عن الخطاب الغربي الذي
غالباً ما يداعب العواطف بالإنشائيات
وبالمحاكمات، الروحية حيناً والغيبية حيناً
آخر. وتلك قضية تهم الخطاب الثقافي العربي–الإسلامي
والعربي–المسيحي على حدٍّ سواء. أما منهج المترجم فكان
متميزاً من حيث الدقة، وضبط النص، وحسن
البيان، مع اعتماد روح النص مبنى ومعنى. ويضاف
إلى هذا كلِّه أنه لم يكن مترجماً وحسب، بل
كان محقِّقاً متقصِّياً. وآية ذلك أنه ذيَّل
النصوص والفقرات بالشروح والتعليقات
والحواشي ذات المتات بلغة خطاب المؤلِّف
الروسي الذي يتكلم بفكر ولغة وأسلوب يختلف
عما اعتاده القارئ العربي في أغلب الأحيان.
ونحن نعتقد أن شرح المصطلحات، وتفسير
الحكايات المترجمة، واستقراء تواريخ بعض
الحوادث والمحطات، أخذ من المترجم وقتاً أطول
من زمن الترجمة ذاتها، ومشقة أكبر من مشقتها. ***
*** *** *
أليكسي جورافسكي، الإسلام والمسيحية: من
التنافس والتصادم إلى الحوار والتفاهم،
بترجمة خلف محمد الجراد ومراجعة وتقديم
محمود حمدي زقزوق، دمشق 2000.
|
|
|