سعادة الروح

البلُّور الصافي والصور العابرة

 

عناية جابر

 

رحلة البحث عن الذات، موقعها في الكون، صيرورتها، مضامينها، رغباتها، تفتح للكاتب كمال جنبلاط في سعادة الروح طريقاً لطلاق العالم المادي الذي لا يمكن إلا إن يكون تغريبياً حيال النفس الشاعرة. كمال جنبلاط، الزعيم الراحل والمفكر والشاعر والسياسي، في إصدار له عن دار النهار، بترجمة فيصل الأطرش، يجول في عالمه الروحي الذي لم يتناهَ إلينا منه الكثير، منعتقاً من جسده في بهجة نعيم الفلسفة الهندية التابعة للأوبانيشاد ولمدرسة الفيدنتا.

وللبهجة الروحية تلك أن تلد شاعراً، وللشعر أن يوغل في صوفيَّته، لتبدو قصائد جنبلاط، في غبطة المعنى الآخر للحياة – أثيريَّتها، وطهوريَّتها، وشفافيَّتها، واكتناه معانيها الحقة، وانعتاقها من قيود السياسة وأخطارها.
يقول جنبلاط في مستهلِّ كتابه تحت عنوان "الرؤية": "إن مركز اعتمال العقل الذي يعجز عن الوصف يشبه بلورة تنعكس عليها صورُ الأغراض المحيطة. لا تؤثِّر به الأفكار، ولا أحاسيس الألم واللذة، ولا الفعل، ولا الخير والشر. اللون المنعكس لا يدخل في تركيبة البلورة، تماماً كما لا تدخل الغيوم في تركيبة الماء الذي تتمرَّى به السماء. الجاهل تلتبس عليه ذاتُه الخاصة مع اللون الذي يصبغها؛ أما الإنسان الحكيم، فالمعرفة تُحرِّره من كل التباس: فهو يعرف أنه بلُّور صرف." (ص 20)
صوفية
في مقدمة المترجم، الذي ترجم النص عن الفرنسية والإنكليزية إلى العربية شعراً (وكانت صدرت ترجمة نثرية للكتاب تحت عنوان أناندا: السلام، عرِّبها د. خليل أحمد خليل والسيدة نهاد أبو عياش عن الدار التقدمية، 1989)، كتب الأطرش، معلِّلاً دخوله عالم جنبلاط الشعري، بأن الشعر الذي تجرَّأ على اقتحامه محاولاً ترجمته شعرٌ صوفي وبأن أية جولة في الماورائيات هي جولة في حقل أصبح عزيزاً على الكثير من شعرائنا.
الشعراء المتصوِّفون الحقيقيون يَنْظِمون ليقولوا شيئاً... شيئاً أعمق وأبعد من منال تفكير العاديين أمثالنا. فهم يصفون أحوالاً وصلوا إليها بعد طول معاناة واختبار وتجربة وتأمل ونضال بين الجسد والروح، للوصول إلى الحقيقة والربط بين الإنسان كموجود مفكِّر، والوجود كواقع محسوس، وبين الوجود كوجود. كلُّ شخص مضى أو حضر أو انتظر هو جزءٌ منه وينتهي معه إلى نفس المصدر، الواجِد المطلق، العلَّة الأولى التي لا علَّة لها، الذي كل شيء معلول من لَدُنْه. ومن هذا يستنتج الصوفي أن كل شيء هو تجلِّي المريد والإرادة، أي الله أو المسبِّب.
الذات العليا
إلى الذات الإنسانية في نشدانها الذات العليا، التفت جنبلاط الشاعر. ففي ضميرها مركزُ "الغيبة" الذي يفضي إليه مَن حرَّر نفسه من الزمان والمكان والأغراض. فالسعادة، بحسب كمال جنبلاط الشاعر والمفكر، هي نيلُك كلَّ ما تبغيه بلا نقصان، مهما كان. ثم يردف ليقول بأن الأمر محالٌ هنا، إلا إذا كان كلُّ ما تبغيه هو "لاشيء"! إذ ذاك تكتمل سعادتك لأنك نلت مبتغاك بلا نقصان. معادلة السعادة هذه، وتنزيهها عن الأغراض، وامِّحاؤها في ضمير الكون، من دون تاريخه ولا جغرافيَّته، هي سرُّ عذوبة روحه، وسرُّ ثرائه الداخلي. فنشدان اللاشيء، والعزوف عن مغريات الحياة والانصراف بكلِّ الحب إلى الذات العليا فحسب هي سعادة ذلك الشاعر المتصوف. "ومع ذلك... فمتى ينعطف الذي بي، نحو الأنا الحقيقي الأوحد...".
طبعاً، لا نقع في سعادة الروح على اكتشاف مفاجئ ومغاير لسيرة الزعيم الراحل التي انطبعت بالاستغراق الكامل في الذات العليا، عبر طرائق فكرية وروحية لمدارس هندية بعينها. غير أن للقارئ هنا بهجة قراءة بعض من الملامح الروحية للزعيم الراحل التي نسجها شذراتٍ وملاحظاتٍ حول الوجود الإلهي، معوِّلاً على إبهاجها طريقَ الذين أحبوا الحقيقة، أو الذين عرفوها كأنما النظر يجرِّب نور ذاته.
ديانات
سعادة الروح (الذي يقع في 195 صفحة من القطع الوسط) يبيِّن، عبر القصائد المختارة، الاستلهامات الروحية المتعدِّدة التي تسند النصوص والمستمَدَّة من اعتقادات لديانات كافة؛ إذ يتم الاستشهاد ببعض التأثيرات الإيرانية، عدا الهندية وسواها. كما أن الكثير من القصائد الأخيرة يشي بأنها قصيدة واحدة مثل الـ"غوروناثان"؛ إذ فيها تسلسل وترابط المعنى وتواصله في تلك القصائد. أما القصائد الأخرى، ومنها "ميرا" التي تكاد تكون رابعة عدوية الهند، وكذلك "براهمان"، وهو الاسم الذي أطلقتْه الأوبانيشاد في معالجات وتفسيرات للفيدا، أقدم الكتابات المقدسة في الهند، وفي الميثولوجيا الهندوسية بشخص البراهمان، فهي قصائد ذات توحُّد حادٍّ في العشق الإلهي مع استعمال مشابهات تنطبق على العلاقات الإنسانية، كالأم حيال ولدها، والصديق حيال صديقه، أو المرأة حيال محبوبها.
كتاب–وثيقة هو سعادة الروح، يُفرِد حيِّزاً واسعاً لأفكار وتأثرات جنبلاط، من خلال شعره المحضون بلغة رفيعة، باحثة ومتفكِّرة وعذبة في آن.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود