|
الخيال
والحرية
نقد
يعيد الاعتبار للإنسان ويتحرَّى الجمال
أديب
حسن محمد
يؤكد
الناقد يوسف سامي اليوسف في كتابه هذا (دار
كنعان، دمشق) هذا أن خير النقود (جمع نقد) هي
التي تخاطب وجدان الإنسان وتساعده على التعرف
إلى نفسه من خلال النص الأدبي المتفرِّد،
القادر على ملامسة أشيائه الداخلية
المنسيَّة والمهدورة؛ ولا سيما في هذا العصر
الذي شهد سقوطاً مدوِّياً للقيم الروحية أمام
زحف آلة المدنية المادية. ومن هنا يجيء كتاب الخيال
والحرية: مساهمة في نظرية الأدب محاولةً
لتأسيس نقد أدبي خلاق، تكون على رأس مهامه
سدانةُ السَّواء، أو حماية الفطرة البشرية من
كل ما يدنِّسها من مفاهيم عكرة ولَّدتها
الحاجات المادية المتفشِّية، والتأكيد على
أهمية الخيال بوصفه صنفاً من أصناف الحرية،
لا لأنه يأخذ الإنسان إلى حيث لا بؤس، ولا
ألم، ولا صراع، بل لأنه يحرِّر الطاقات
المركوزة في قاع النفس، ويوظِّفها في فسحة
الفعل الحر، القادر على الإبداع والخلق الفني. يقدِّم
الناقد خلاصات نقدية شديدة الكثافة؛ وتبعاً
لذلك فإن اللغة المستخدمة في هذا الكتاب لغة
كثيفة، لمَّاحة، وكشَّافة، تطمح إلى
الارتقاء باللغة النقدية إلى أفق سموِّها،
وتقدم مقولات ترتكز فيها الأفكار المتوثِّبة
والجريئة التي تراود الناقد وتشكِّل أسس
منهجه النقدي القائم على عدة مرتكزات، مثل:
الذائقة الأدبية، الحدس، الاستبصار، قراءة
النص من داخله، ومعاينة مقدار التوتر
والعاطفة الحبيسة داخل بنية النص الأدبي. ولعل
من المتعذر في هذا الزمان الاستهلاكي الظفرَ
بناقد أو بمشروع نقدي يجابه التليُّف
والتبلُّد والتشيؤ – هذه الظواهر التي
استعمرت العالم، وأحالته إلى كتلة آلية صماء
تتحرك بشكل مقيت ورتيب في تكرار واجترارٍ
مادي نفعي يربط جميع موجودات الحياة بجدواها
المادية وحسب. ومن
هنا تأتي المتعة الغامضة في قراءة نقد اليوسف
أشبه ما تكون بالعثور على مفقود غالٍ ونفيس
بعد ضياع طويل. ولعلني لا أبالغ إذا ذهبتُ إلى
أن الناقد اليوسف، بتأكيده على العوامل
الفطرية للإبداع، وبإلقائه المزيد من الضوء
على الحركة الغامضة للعواطف الإنسانية
الجَوَّانية، إنما يعيد الاعتبار لكرامة
الإنسان التي أُهدِرَت وسُفِحَت في هذه
الأيام التافهة والنفعية. كما أن مثل هذا
النقد يعيد الثقة بذائقة الإنسان التي تراجعت
لحساب المدارس النقدية الفلسفية والمادية
والشكلية. يتألف
الكتاب من مقدمة، وخاتمة، وستة فصول، هي: 1.
علاقات الخيال 2.
الخيال والتعدد 3.
الخيال والشعور 4.
الخيال والحساسية 5.
التوتر والصراع في المسرحية
والرواية 6.
الصوفية والحلم والأسطورة في
مقدمة الكتاب يعرض المؤلف لظاهرة تكاثر عدد
الشعراء العرب في عصر الصورة المرئية والكلمة
المسموعة. وعلى الرغم من عدم القدرة على
الانتشار على مدى واسع فإن وجود مثل هذه
الظاهرة يدلُّ على حقيقة مفادها أن الروح
الإنسانية سوف تتشيأ حتماً إن لم تمارس سوى
الأنشطة المادية البحتة. كما أن إصرار الأدب
على الاستمرار والبقاء في عالم لا يكتفي
بتنحية الأدباء جانباً، بل يتعدَّى ذلك إلى
اضطهاد الإنسان نفسه، لهو دليل حاسم على أن
تجلِّيات الخيال، أو مفرزاته، هي قيمة خالدة
من قيم الإنسان التي لا وجود له إلا بها، في كل
زمان ومكان. ويشير
الناقد إلى الوجه "الخلاصي" للخيال،
بفضل قدرته الاختراقية على مكافحة التخثر،
والتشيؤ، وتسريح النفس من إسارها أو من
اعتقالها داخل قيود المادة وثقلها البليد.
والخيال ليس حكراً على الأدب، بل يبدو
منخرطاً في معظم مناحي الحياة البشرية، حتى
يذهب الناقد إلى أنه يؤسِّس للعلم نفسه! ثم
يُجمِل الكاتب بؤرة كتابه في نقطتين أساسيتين: -
الأولى تفيد بأن النص
الأدبي الجيد لا يسعه أبداً أن يكون له وجود
إلا إذا أقام نوعاً من التوازن بين الخيال
والواقع، بحيث لا يطغى أحد الطرفين على
الآخر، فينحِّيه جانباً أو يرغمه على الضمور
والاضمحلال؛ -
والثانية تفيد أن نظرية
الأدب ينبغي لها أن تكون معيارية، أو أن تجنح
نحو ترسيخ الأسس الكفيلة بإنجاز المعيار
الصالح لاستصدار حكم القيمة الناضج. على
الناقد الأدبي أن يعرِّف الأدب تعريفاً يصلح
لتأسيس المعيار نفسه، بحيث يغدو النقد الأصيل
عملاً مثابراً ومتواقتاً في اتجاهين أساسيين: -
الأول هو تحديد القيمة؛ -
والثاني هو التأويل، أو
استبار نوايا النص ومضمراته المكنونة. لقد
نهلت الصوفية الشرقية من معين القيمة
الإنسانية وعدَّت الإنسان غاية نهائية لا
غاية بعدها، بحيث غدت القيمة هي المحور الذي
يدور عليه فلك الوجود كلِّه. وعند ذاك يمتد
الالتزام بالقيمة إلى النقد الأدبي فيكون
معيارياً دوماً. فالقيمة، حسب اليوسف، هي
بالضبط تلك المسافة الديمومية التي تفصل
فصلاً قاطعاً بين الحقيقي والمزوَّر. ويذكِّر
الناقد في تمهيده بحقيقة مفادها أنه لم يأتِ
بموضوع جديد كل الجدة؛ فقد سبقه إلى ذلك بعض
النقاد التراثيين الأفذاذ، من أمثال الشيخ
الأكبر ابن عربي، والقاضي الجرجاني،
والنِّفَّري... كما أنه سلك مسارب هذا البحث
تكملة لما بدأه في كتاب القيمة والمعيار،
إيماناً منه بالأهمية القصوى للخيال في سلوك
البشر وتاريخهم كلِّه. علاقات
الخيال
يحاول
اليوسف تحديد ماهية الخيال ومحاصرة مفهومه
المترجرج، وذلك بغية كشف علاقات الخيال
المتشابكة مع الفضاء الداخلي للإنسان، ذلك
الفضاء الشديد الاندياح، الذي يتألف من شطرين
متآزرين هما: أ.
العقلانية، أو الذهنية
المنطقية التي تحاكم وتستوعي؛ ب.
والشطر الآخر الذي يحتله
اللاذهني واللاعقلي. ويؤكد
الناقد أن الخيال هو الأصل، وأن العقل طارئ
على المشروع البشري. فلفظة "عقل" مشتقة
من "عقال" و"اعتقال"؛ فهو فعل كبح
ولجم، على عكس كلمة "خيال" الآتية من
الجذر "خل" – ومنها "خيل" و"خليل"
– وهو فعل حرية وحركة، على عكس الفعل الأول.
كما أن الخيال فطري، يولد مع الإنسان، فيما
العقل مكتسب من التربية والتجربة. وما
الحضارة، في وجهها النبيل، إلا حصيلة الخيال
والعواطف ومحتويات الوجدان الدافئ.
فالأهرامات، مثلاً، كانت خيالاً محضاً قبل أن
تخرج إلى الوجود كفعل تسامٍ واقتراب من
السماء، كقيمة عليَّة مقدسة وابتعاد عن الأرض
المدنسة، مع ما في قلب هذه الأوابد من حنين
ذاتي يهدف إلى التغلُّب على الزوال وتصرُّم
الأزمان. ويذهب
الناقد إلى أن ثلاثاً من القوى الداخلية
المتباينة – هي العقل والوجدان والخيال –
تتعايش وتتآزر في فضاء النفس، وأن الشعور، أو
العلاقة بين الداخل والخارج، هو موضوع الأدب
أو موضع اهتمامه؛ وبالتالي فإن النص الناجح
أو العظيم هو ذلك الذي يكتنز ذلك العنصر
المحبوب الذي تستلذُّه العاطفة المتلقِّية
وتستلهمه وتندفع باتجاهه. ثم
إن النص الأدبي يكاد يتكون من جسد وروح، شأنه
شأن مبدعه. فالمكوِّنات الواقعية تمثل الجسد،
فيما يكون العنصر الذاتي أو المثالي هو الروح.
وبما أن الكاتب الأدبي لا يحاكي الواقع، أي لا
ينسخه، بل يتمثله ويعيد صياغته، فإنه لا
يقدِّم في النهاية سوى صورة خيالية وحسب، لا
تحتمل الخطأ والصواب، أو كما يقول فيليب سدني:
"إن الشاعر لا يؤكد شيئاً... لذا فإنه لا
يكذب!" ويرى
الناقد أن الحساسية هي الينبوع الأول لكلِّ
أدب عظيم. وإن إحياء الصوفية والرومانسية
والأساطير جاء كردِّ فعل على الاتجاهات
المنطقية والذهنية والعلمية المنضبطة ضمن
نواميس المادة التي تشبه طبائع الالآت التي
لا وظيفة لها سوى الكبح والاحتجاز، على عكس
الخيال الذي يختزن حنين الروح إلى الحرية
وإلى الانفلات من كل قيد والذي هو أكثر أصالة
من الحقائق، وذلك لأنه أقدر على إرواء ظمأ
النفس إلى الحرية، من جهة، وإلى الروعة
والفتون، من جهة أخرى. ويعرِّج
الناقد على شخصيتين تراثيتين، هما ابن عربي
وعبد القاهر الجرجاني، مبيناً أن ابن عربي هو
مؤسِّس أول نظرية للخيال، تتلخص في أن الخيال
هو نعيم الناس وجحيمهم في آن واحد: نعيمُه
يتبدَّى في أنه يحيل الكثافة إلى لطافة
ويتعامل مع الجماليات؛ وجحيمُه يتبدَّى
عندما يستحيل إلى وهم وحين يتحول إلى مذاهب
وأهواء. وبالنسبة للجرجاني، فقد زعم أن الشعر
توليف بين المتباينات، وتغلُّب على التنافر،
مما يتضمن إنجاز الوحدة والتناغم اللذين هما
من أبرز سمات الحياة الجميلة. ورغم
أن الحداثة الشعرية ما هي إلا حياكة للقصيدة
من أنسجة الخيال حصراً فإنه، منذ أكثر من سبعة
قرون ونيف (منذ وفاة ابن عربي)، لا يكاد المرء
يعثر على كتاب جيد مخصَّص للبحث في الخيال، أو
في الأسلوب الذي هو التجلِّي الأول للخيال
الأدبي. الخيال
والتعدد
يزعم
اليوسف أن الكاتب الأدبي لا يملك أية قيمة
جُلَّى إلا إذا استطاع أن يجعل القيمة في
حوزتنا من الباطن، أي أن تصير برهة تركيبية في
بنية اللاوعي نفسه، حيث لا يمكن أن تضيع أو أن
تُنسى، وليس فكرة في الذهن تقبل التبخر مع
مرور الزمن. أي أن الأدب علاقة وليس واقعة، أي
صلة تربط بين النفس ومحيطها الخارجي، بحيث
يبدو كل كاتب أدبي وكأنه يكتب ليخلق تعويضاً
عن غربته، ويكسب، بالتالي، التأثير المطلوب
في المتلقِّي الذي يتعاطف ويتفاعل عادة مع
المغتربين ومع أولئك الذين يتألَّمون بصدق. ويعرض
الناقد لمحاور الأدب – من وجهة نظره –
ويحصرها بالأشياء التالية: -
توترات الواقع وعلاقاته -
توترات الذات بوصفها وجوداً
قابلاً للزوال -
الاتصال بالطبيعة وما ينجم
عن هذا الاتصال من تذوق للجمال -
معاناة الوجود بعدها
يتجه الناقد إلى فلسفتي الموت والحزن، ويرى
أنهما، بالتحالف مع الجمال، تُنتِجان
التأثير الفاعل في وجدان المتلقِّي، كونه
ينطلق أساساً من الوجدان، كما في قول الشاعر
إدغار آلان بو: "إن موت امرأة جميلة هو –
دون ريب – أكثر الموضوعات شاعرية في هذه
الدنيا." وبالعودة
إلى حرية الكتابة، فهي توليف بين عنصرين
متباينين بعض الشيء – أو هكذا يبدوان – هما: -
اتِّجاه الكاتب وفق ميله
وهواه -
الالتزام بمعيار الجودة
والأصالة كما
أن الخيال يعتبر سلاحاً ذو حدين، شدة اندياحه
مثل شدة بلادته. ولذلك على النص الأدبي الجيد
أن يقدم جرعة مناسبة من الخيال، وأن يوازِن
بين الشكلية والموضوعية في ذات الوقت، حيث إن
المبالغة الشكلية تؤدي إلى تليُّف الأدب
وتصحُّره. الخيال
والشعور
يرى
الناقد أن كل شذرة من شذرات الأدب هي من إنتاج
الخيال، حتى وإن بدت وكأنها وصف لشيء خارجي أو
سرد لحدث واقعي. والأدب برمَّته لا يعدو عن
كونه محاولة إعتاق لمكنونات الروح الحبيسة،
التي يتعذر حضورها بغير هذه الطريقة. وما هذه
المحاولة في اتجاه الانعتاق سوى الخيال الذي
يتبدَّى من خلال شحن اللغة بالوجدان، ومن
خلال إخراج اللغة من التناثر إلى النظام
الموسيقي. وبهذا الفهم فإن الأدب كلَّه خيال،
حتى وإن أوغل في الواقعية، لأن الأدب صنف من
الاستجابة إلى غريزة التخيل. ثم يقدم الناقد
أبسط تعريف للخيال بقوله: "إنه القوة
الذاتية التي ترسم الصور بمؤازرة الشعور أو
الوجدان، حتى وإن تبدت هذه الصور وكأن النزعة
الفنية، أو الجمالية، قد نأت عنها إلى مكان
بعيد. إنه تلك القوة الجَوَّانية التي تبذل
جهداً كبيراً بغية خروج النفس من الزمن
والمادة والمنطق والمألوف، أو باتجاه أفق
الغرابة الناجي من كل سقوط وابتذال." والخيال،
كفعل اختراق للحدود والانطلاق في كل اتجاه،
شديد الصلة بالشعور، يؤثر فيه ويتأثر به. وأما
علاقة الخيال بالعقل فهي أشبه ما تكون بظاهرة
"التغذية الراجعة" feedback
في الطب، حيث هناك توازن غريب ودقيق بين
الهرمونات: تناوُل أيِّ هرمون من الخارج يؤدي
إلى كبح إفرازه من داخل الجسم. كذلك العقل
الذي يضبط الخيال في برهة الابتكار الفني
والأدبي، وذلك لكي يتمكَّن من إنتاج شكل يملك
أن يتكيف مع أغراض الذوق الناضج والنازع صوب
الإشباع والامتلاء. فالخيال يبدأ بالتحرك عند
النقطة التي يعجز الذهن عن تخطِّيها دون أن
يفقد ماهيَّته فقداناً كلياً أو نسبياً. ويرى
الناقد أن العقل اكتهال، بينما الخيال طفولة،
وأن وظيفة العقل هي تهذيب الخيال، وبالتالي،
إنتاج أدب أصيل. ومن خلال عرضه نماذج من
الاغتراب الإنساني يدلف الناقد إلى مسألة
التوتر وعلاقته بالآداب عامة، فيعرِّف
بالإنسان بأنه ذلك "الكائن الذي يتفقد
الغائبات ويحنُّ إلى العاليات، أي هو من
يكابد الاغتراب ولوعة الحاجة إلى ما يشبع
المسغبة الروحية التي تصلبه من المهد إلى
اللحد". وبهذا
فإنه ما من كاتب كبير إلا وهو منصهر في توتر من
نوع ما (وجودي أو تاريخي أو ماورائي). وفي
الحقيقة فإن الناقد اليوسف لم يجافِ الصواب.
فالنصوص التي تشدنا وتؤثر في وجداننا هي تلك
الزاخرة بالتأزمات والتوترات، على عكس
النصوص الباردة المسترخية، التي قلما تحرِّض
في داخلنا أي تأثير، رغم وجود نسبة من الخيال
فيها. ومعنى هذا أن الخيال الحائز على شعور
وجداني حميم هو وحده الخيال الصالح للاندراج
في فصيلة الأدب والفن الخالدين. ولهذا السبب
فإن الإنسان في الآداب الشرقية يتبدَّى بوصفه
حنيناً لا إشباع له، وذلك بفضل ما يندرج في
أعماق الشرقيين من دفء صوفي وحرارة وجدان.
وبذلك تصير اللغة نفسها بديلاً عن غائب،
يصرُّ الروح على استحضاره أيما إصرار، فيمارس
النصُّ الأدبي المتفوق نوعاً من السبي على
المتلقي. ومن
وظائف الخيال المتحققة في النصوص الخالدة
الخروجُ من المألوف ومن إسار المنطق والزمان
إلى النائيات دون الإيغال في التجريد.
وللخيال وظيفة إنعاشية تتجلَّى في نزعة
الاتصال بالعمق أو بالصميم. إن شاعراً مثل
نزار قباني ما كان ليحظى بكلِّ هذا الانتشار
لولا قدرته على إشباع الشهوة الشعرية لدى
أولئك الذين يلقون في تراثه من الرقة
والنعومة ما ينعش بواطنهم أو يوقظ أفئدتهم
على حبٍّ صبوي. لكن الناقد يرى أن قباني ليس من
نخبة الشعراء لأنه يقدم نمطاً من الحب
الواقعي أو القابل للمياومة والممارسة، على
عكس ابن الفارض الذي يقدم النموذج الصوفي أو
الروحاني من العشق. ويعرِّج
الناقد على كتاب ألف ليلة وليلة، فيرى أن
شخصية شهرزاد ما هي إلا تخليص من الهمجية
والرعونة والعَكَر بواسطة الخيال السردي،
وليس بواسطة المنطق. وهي، في جانب آخر، تأكيد
على أن التخيل ألطف عنصر وأنبل نازع في النفس
البشرية. الخيال
والحساسية
يدلف
الناقد إلى الحساسية من خلال مفهوم "الاغتراب"
الذي يمثل قمة أشكال الحساسية التي ترفض
الواقع وتنفصل عنه، حتى يزعم أن الأدب كله ليس
سوى فقه حدسي بالنفس في علاقتها بالوجود
والتجربة الفعلية بوجه عام، وناتج حساسية
شديدة الاستيقاظ، من شأنها أن تتآزر مع
الخيال لدى أولئك الحساسين الذين هم جدُّ
نادرين. والاغتراب شعور الروح بفرقته عن
المادة أو بتناقضه معها، ويسهم بالتالي في
انتشال الإنسان من حصار التشيؤ أو من
الاستحالة إلى جماد، وذلك لأنه ينبثق من شعور
عميق، مرير، بالانحطاط. لكل
هذا، يزعم الناقد بأن الاغتراب هو المؤسِّس
الأول للفنون والآداب، بل حتى الفلسفة
والصوفية أيضاً، من حيث إنه يولِّد حنيناً
إلى أشياء سامية ومستقرة في الخيال. وهذا
الاغتراب يلازم الأشخاص الحساسين، المستعدين
لجعل هموم العالم همومهم الخاصة، بحيث يؤرقهم
كثيراً أن الأشياء ليست على ما يرام. وهم
يتمتعون بصفات ثلاث تميزهم، وهي: 1.
القلق الذي يحفزهم على
تحرِّي الأشياء وأسرارها وعلَّة وجودها 2.
شدة قدرتهم على التأثر
بالواقع 3.
قدرتهم على ملاحظة
المستدقَّات والمستورات ثم
يبين الناقد كيف أن لكلِّ كاتب نمطاً خاصاً من
الحساسية وأن الأدب الذي تنتجه الحساسية هو
إنجاز شديد الندرة. ويستشهد بابن عربي، وابن
الفارض، والمتنبي، وديستويفسكي، الذين
امتلكوا أنماطاً مختلفة من الحساسية. ويرى
الناقد تحالفاً وثيقاً بين الحساسية والخيال
الحرِّ الخصيب – هذا التحالف الذي يُعتبَر
سرَّ القدرة التأثيرية للنص ومعياراً
أساسياً لكل أدب نفيس. ومعنى التأثير
استيلاءُ حساسية المرسِل على حساسية
المتلقِّي استيلاء كلياً أو نسبياً. فكلما
كان التأثير أعمق صار الاتصال أوثق وانزاح
كلُّ حاجز يحجز بين المرسِل والمتلقِّي، حتى
تبلغ العلاقة بينهما حدَّ الالتحام.
وبالمقابل، لا بدَّ من التطابق المطلق بين
اللغة وبين الأديب لأنهما شيء واحد؛ إذ لا
وجود لأيٍّ منهما على الأصالة بغير الآخر.
فلولا الأدب، ولا سيما الشعر، لضمرت اللغة.
وهذا يعني أن الأدب يوسع اللغة، وبالتالي،
يوسع مساحة الروح. ويذهب
الناقد أبعد من ذلك بقوله إن الأسلوب العظيم
هو نتاج لاندماج بين حساسية مرهفة، تفرزها
شخصية نبيلة، وبين موضوع هو في الصميم من قوام
الحياة البشرية. ويستدل الناقد على شعر
الموشَّحات القائم على حساسية مرهفة صقلتْ
اللغة وحوَّلتْها إلى غناء مترع بالحنان
وبالرقة؛ فيما افتقد الشعر الحديث لهذه
المزية، فعانى من خمود الحساسية وانطفاء شعلة
الخيال، وصار – على رأي الناقد – خليطاً أشعث
معكور اللون، عاجزاً عن الإيحاء بحيوية
الوجدان. وهنا نسجِّل اختلافنا مع الكاتب على
سوداويَّته وتطرُّفه تجاه الشعر العربي
الحديث الذي يزخر بالقصائد ذات المحتوى
الوجداني الحار واللغة المصقولة بعفوية
وتلقائية. وبالنسبة
للأسلوب فإنه ينبثق من الخيال والحساسية، في
آن، ويعبِّر عن امتلاك المرء، على نحو فردي،
للُّغة التي هي ملك الجميع. إلا أن لغة الشعر
قائمة بذاتها ومفصولة عن اللغة العادية إلى
حدٍّ بعيد، بحيث يبدو الشعر ذروة اللغة أو
نزوعها نحو الكمال. وقد تفرَّد الأسلوبيون
الأوائل بسبب من قدرتهم على تحسُّس الجمال أو
تلمُّس العمق. فهم أناس يكافحون في فسحة الحدس
بغية إنجاز نصر تحرزُه اللغة على الغياب
والفقدان وعلى تصرُّم الزمان. ويعتقد
اليوسف في نهاية هذا الفصل أن الأسلوب العظيم
يجب أن يحتوي الصلادة واللدانة في بنية
واحدة، وذلك بغية التأثير في المتلقِّي، دون
الاستخفاف بالمحتوى الموضوعي والشحنة
الإيحائية. التوتر
والصراع في المسرحية والرواية
يعود
الناقد في هذا الفصل إلى بعض الروائع
الملحمية والمسرحية، فيرى أن كلاً من هذه
الآداب ينبثق من مبادئ التضاد، والتوتر،
والصراع، ويخاطب أعماق الإنسان التي تنطوي
على قوى متعارضة ومتضادة إلى الحد الذي يثير
الاستغراب. وهو يرى بأن على الكاتبين،
المسرحي والروائي معاً، خلق مشاعر، وتجسيد
النفس في عظمتها ودناءتها؛ وبالتالي فإن
المدرسة العبثية التي ألغت التضاد وتبادُلَ
النقائض أنتجت أدباً فاتراً فقيراً إلى الزخم
والحيوية، وذلك لأنه ينقصه الحِراكُ الكثيف
القادر على استحداث مسلسل من النقلات داخل
بنية النص الأدبي. ويعقد
الكاتب مقارنة بين شخصيات روائيين مهمين، هما
ديستويفسكي وكافكا؛ حيث تميل شخصيات الأول
إلى التوتر والعصاب، وإلى الدنس والقداسة في
آن واحد، مما يجعل قارئ رواياته يعيش مناخاً
لا يشبهه أيُّ مناخ. أما كافكا فهو – شأن
الكتاب الشكلانيين – يُهندِس شخصية خاوية
جوفاء، تتحرك في مناخ هلامي، بغير معالم
كثيفة، ودون أن تلتفت إلى المتعة التي تؤسِّس
للأدب كلَّه؛ حتى إن الناقد يذهب إلى أن الفرق
بين روايات الكاتبين السالفي الذكر كالفرق
بين الأزهار الطبيعية والاصطناعية! ويعرج
الكاتب على مسرحية فاوست لغوته، ويرى أن
هذه المسرحية صورة أنتجتْها حساسية فذة يتمتع
بها رجل عبقري يندر أن تنجب البشرية واحداً
مثله. فهو – كأي كاتب كبير – يوقظنا على
إنسانيتنا، بحيث تتلاشى من وعينا صور
قوميَّتنا، ولغتنا، ومجتمعنا، وماضينا. ولا
يكاد يبزُّ هذه المسرحية في فرادتها سوى مسرح
شكسبير التراجيدي المنبثق من الضمير أو من
الوجدان الحميم؛ حيث إن تحالف الوجدان
والخيال لم يتجسد في تراث أيِّ كاتب كما تجسد
في تراث شكسبير الذي هو طاقة فذة من شأنها أن
توقظ الضمير البشري وأن تحرِّضه على التعاطف
مع الضحية لما تتمتع به من طيبة وجمال. فمسرحية
عطيل، مثلاً، ما هي إلا جهد وجداني أصيل.
إنها مسرحية الضمير الميت وما ينتج عنه من
نزوع إلى العدوان من نتائج مأساوية مهلكة؛
يوظِّف فيها شكسبير خيالَه الاختراقي،
وأسلوبه المتميز، ومعرفته الثرية والنادرة
بأعماق النفس البشرية. وكذلك هملت، التي
تُعتبَر مسرحية الضمير الحي، المطالِب
بالعدالة في عالم متفسِّخ؛ هذا الضمير الذي
ينبثق ليتحسَّس آلام البشرية كلِّها. ويستنتج
الناقد أن مصادقة النص الأدبي للإنسان، أو
لوجدانه حصراً، ينبغي أن تكون المبدأ الجوهري
لأية نظرية في الأدب تحاول أن تصير إلى
الرفعة، وكذلك إلى الشمول والدوام. بعبارة
أخرى، يرى الناقد أن كلَّ عمل أدبي متميز
ينبغي أن يحتوي في أعماق بنيته شيئاً يحبه
المتلقِّي دون تحفظ – الأمر الذي أدركه
شكسبير وديستويفسكي، اللذين تشربا شخصية
السيد المسيح – حسب الناقد – بسبب من رؤيتهما
للوجه المأساوي للتاريخ؛ حتى لكأن شخصيات
شكسبير المأساوية ما جاءت إلى الوجود إلا لكي
تُصلَب وحسب، وبعضها الآخر مصوغ من النزاهة
والطيبة ونظافة الوجدان. ويذهب
الناقد أبعد من ذلك حين يزعم أن الضمير هو
النافذة الوحيدة التي تملك الروح أن تطلَّ
منها على رحاب الله، وهو موضع الاتصال بين
الزمن والأزل، أو بين الكون وماوراء الكون.
وعلى الأدب أن يتمحور حول الضمير وحول القيم
الكبرى التي من شأنها إعادة صياغة الإنسان من
الداخل، وأن الكاتب الأندر هو الذي يملك
القدرة على أن يصير ضمير البشرية جمعاء. ويلاحظ
الناقد أن الأدب العالمي كلَّه قد تراجع عما
كان عليه في القرن التاسع عشر، مع أن الأعمال
الأدبية أخذت بالتدفق الكمِّي على نحو غير
مسبوق. ويجازف الناقد برؤية تشاؤمية تخص
الرواية العربية؛ إذ يرى أن هذه الرواية لا
تتمتع بالأسلوب الرفيع الذي يمكن أن يجعل
منها إنجازاً ذا بال، وأنها محض علاقة بين
الكاتب واللغة، وأن شخصياتها تتراصف أو
تتجاوز دون أن تتبادل المؤثرات العميقة
الكفيلة بالحذف أو بإعادة الصوغ، وأن أفضل
شخصيات الرواية العربية تميل إلى التفكير
بدلاً من أن تتحرى الأعماق بالبصيرة والرؤيا. أعتقد،
من جانبي، أن اليوسف قد جانب الصواب كثيراً في
رأيه التشاؤمي هذا، خاصة إذا ما تذكَّرنا
نماذج فذة من الروايات العربية المتميزة
لروائيين مبدعين من أمثال: حيدر حيدر، سليم
بركات، عبد الرحمن منيف، وغيرهم. فرواية فقهاء
الظلام لسليم بركات، مثلاً، تقدم أنموذجاً
من الشخصيات قلَّ نظيره، حتى في الآداب
العالمية. إن شخصية بيكاس، بطل الرواية،
تتوافق مع تعريف اليوسف للرواية الخالدة. *** *** *** |
|
|