قراءة في فكر محمد أركون

العلمنة لا تُستورَد والإسلام عرفها مع المعتزلة

 

نايلة أبي نادر

 

سلَّطت الأحداث التي شَهِدَها العالم بعد الحادي عشر من أيلول 2001 الضوءَ أكثر على الإسلام، في أبعاده الدينية والتاريخية والسياسية. أسئلة عديدة طُرِحَت حول النظام السياسي الإسلامي، وطريقة تطبيق أحكام الشريعة، والمرجعية التي من شأنها أن تدعو إلى الجهاد. لذلك أجد من المناسب أن أطرح هنا مسألة "العَلْمَنَة" laïcisation في التراث الإسلامي، ومدى قبول المجتمعات الإسلامية بها، من خلال القراءة النقدية التي قام بها محمد أركون، أحد أبرز المفكرين والباحثين المعاصرين في الإسلاميات، رغم المعارضة الحادة التي تواجه استخدام هذا المصطلح.

فهل عرفت المجتمعات الإسلامية العلمنة؟ هل اختبرتْها على غرار المجتمعات الغربية؟ وما علاقة الإسلام بها؟

العلمنة مشروع أفرزته المجتمعات الغربية وتفاعلت معه بقوة منذ الثورة الإنكليزية عام 1688 والثورة الفرنسية عام 1789. كلمة laicos أصلها إيتيمولوجياً يوناني، وهو يعني "الشعب ككلٍّ ما عدا رجال الدين". نجد أيضاً أنه في القرن الثالث عشر كانت هذه الكلمة تعني في اللاتينية laicus، أي "الحياة المدنية أو النظامية". هكذا ميز اليونان، كما اللاتين، بين الشعب العادي الذي يعيش حياته بأبعادها المختلفة وبين رجال الدين الذين يتدخلون في هذه الحياة لضبطها. تجدر الإشارة إلى أن المجتمعات اليونانية واللاتينية في القرون الوسطى كانت مجتمعات زراعية، يعمل أفرادها في خدمة رجال الدين الذين كانوا يتمتعون بسلطة دينية واقتصادية وثقافية معينة.

لن أتوقف هنا عند الجذور التاريخية لمصطلح العلمنة في القرون الوسطى، لكني سأعرض بإيجاز طريقة تقبُّل المجتمعات الغربية هذا المشروع، ومن بعدُ مفهوم أركون الخاص للعلمنة، لأتوقف عند علاقة الإسلام بالعلمنة من خلال أبحاث أركون.

1. العلمنة والغرب

انتقل المجتمع البشري بواسطة العلمنة من نمط القرون الوسطى إلى التقدم والحداثة. هناك قفزة حصلت من منهجية العقل الوسيطي إلى منهجية العقل الحديث. هذه القفزة لا تعني البتة، بالنسبة إلى أركون، القضاء على الدين، إنما وضع حدٍّ للغزو الذي يقوم به الخطاب العقيدي للمجتمع. لكلِّ إنسان الحق في أن يمارس شعائره الدينية دون أن يجبِر أحداً على ذلك. هكذا ينحصر التبشير داخل العائلة وأمكنة العبادة، وتُترَك للإنسان حرية أن يقبل البشارة أو أن يرفضها. يردُّ أركون أسباب نجاح العلمنة في الغرب إلى ثلاثة أمور:

أ‌.       القطيعات المتعددة التي حصلت بين نظام الفكر في العصر الوسيط والنهضة الحديثة؛ مما جعل النهضة تصوِّر المرحلة الوسيطية على أنها تتَّسم بالظلمة والجهل نظراً للمسافة الفكرية التي تفصل بينهما.

ب‌.  الدور المهم الذي لعبته الطبقة البورجوازية التجارية التي أصبحت لاحقاً بورجوازية رأسمالية بسبب غناها وطموحها وعملها، بحيث سرعان ما سيطرت على المجتمع ومارست السلطة بكل ما تملك من مقدَّرات.

ت‌.  الثورة الماركسية–اللينينية التي قامت ضد الطوائف الدينية ووجَّهت طبقة الفلاحين باسم البروليتاريا.

هكذا حُسِمَ الأمر نهائياً في الغرب بواسطة العنف، عوضاً عن أن يكون هناك إجماع حول موقف فلسفي حرٍّ ومسؤول يرضى به المتصارعون فيتبنُّونه كحلٍّ لمشكلتهم. لقد اتخذ المسار نحو العلمنة منحى نضالياً ضد رجال الدين والسلطة الدينية في الغرب، خاصة مع كونت وماركس. إنها المغالاة في العلمنة إلى درجة استبعاد الدور الديني الذي لعبه الوحي طوال قرون من تاريخ البشرية.

لقد قام أركون بتحليل أسباب نجاح العلمنة في الغرب، ثم توقف عند ممارسة العلمنة في المجال الإسلامي. وهو يهدف من خلال ذلك إلى إقامة مقارنة علمية إيجابية بين الغرب والإسلام من أجل توطيد الحوار بين الثقافات. كما أراد أن ينتقد الموقف العلمانوي والعقيدي المغلق انطلاقاً من دراسة الوحي ألسنياً وسيميائياً وتاريخياً وأنثروبولوجياً.

2. نظرة أركون إلى العلمنة

العلمنة والحرية مفهومان مترادفان لدى أركون. فكما أن الحرية مشروطة، كذلك فالعلمنة تختلف من مجتمع إلى آخر ومن حقبة إلى أخرى. ارتبط تاريخ العلمانية laïcité بالجهد النضالي الذي قام به الإنسان عبر الزمن من أجل الفهم والتعقُّل لكي يرضي تعطشه إلى المعرفة. من هنا لا يمكن أن تغيب العلمنة التاريخية التي تعيشها الجماعات البشرية، أياً تكن هذه الجماعات. العلمنة هي "موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصُّل إلى الحقيقة". بذلك ربط أركون العلمنة بعمل الروح الدؤوب الذي يجتهد حتى يصل إلى معرفة الواقع معرفة صحيحة. هذه المهمة صعبة، لا تنتهي عند حد، وتتطلب تخطِّي كل ما هو خصوصي للتوجُّه نحو العام والكلِّي. على الباحثين أن يتجاوزوا ثقافتهم الخاصة، وتاريخهم الحافل بالأحداث، وحتى دينهم، لكي ينفتحوا على الجميع من دون استثناء. هكذا تصبح العلمنة أحد مكتسبات وفتوحات الروح البشرية التي انطلقت حرة نحو الحقيقة. إنما لا يجوز التوقف عند اكتشاف المعرفة، بل يجب إيصالها إلى الجميع لكي يتم التواصل بين الباحثين والجمهور. يهتم أركون بضرورة إيصال معرفة الواقع كما هي إلى الآخر من دون أن تُقمَع حريَّتُه أو تُقيَّد بشرط. لذلك يحصر مفهومه للعلمنة بأمرين:

أ‌.       إنها، أولاً، "توتر مستمر من أجل الاندماج في العالم الواقعي"؛

ب‌.  وهي، بالتالي، "تساعد على نشر ما نعتقد أنه الحقيقية في الفضاء الاجتماعي"، بعيداً عن استخدام العنف.

هناك دعوة موجَّهة إلى كل مثقف وباحث عربي ومسلم لكي ينطلق في كل المسالك ليبحث عن الحقيقة، من دون أن يخاف الضياع والشرود ولا حتى الصعوبات، لان الأمر يتعلق بمغامرة فكرية تقوم بها الروح الحرة.

المعرفة والحرية والحقيقة مفاهيم تتردد باستمرار عندما يطرح أركون موضوع الدين والدولة والدنيا لكي يبحث، من خلال ذلك، في العلمنة وتطبيقها من المجتمعات الإسلامية، عربية وغير عربية. وبما أن العلمنة تعتمد على الثقافة القائمة في المجتمع، هل يمكن أن نتحدث عن العلمنة في المجتمعات الإسلامية والعربية الوسيطية أو المعاصرة؟

3. الإسلام والعلمنة

يرى أركون أن "الإسلام بذاته ليس مغلقاً في وجه العلمنة". لذلك، عمل على أن يُظهِر أن المجتمعات الإسلامية شهدت تجارب علمانية عبر التاريخ بقيت مهملة لم يبحث فيها أحد. فثمة نقص في المراجع التاريخية لكي يتم طرح مشكلة العلمنة كما عاشتها المجتمعات الإسلامية. ثم إن الإسلام لم يعرف في تاريخه التفكير الفلسفي الذي يبحث في العلمنة ويضع المراجع والكتب اللازمة.

لقد عرفت القرون الأربعة الأولى للهجرة حركة ثقافية مهمة استطاعت الخروج على القيود التي فرضتها السلطة الدينية، على الصعيد اللغوي والإيديولوجي والنفسي. إن حقيقة الفكر الإسلامي التاريخية تشهد على أن المعتزلة عالجوا مسائل فكرية أساسية انطلاقاً من ثقافتهم المزدوجة التي ترتكز على الوحي الإسلامي والفكر اليوناني في آن. لقد اضطُّهِدوا وحُرِّفَت تسميتُهم من الذين اختاروا العزلة للتأمل والتفكير إلى أولئك "المعزولين" عن الأمة. والجاحظ واحد من الشخصيات العربية والإسلامية التي أبدعت مؤلفات تتسم بالحداثة، رغم كونها من القرن الثالث الهجري. وهو من أفضل الممثلين لكلِّ المواقف الفكرية والثقافية التي حفلت بها الثقافة العربية الإسلامية في تلك الفترة الرائعة من التاريخ العربي – فترة الاستكشاف والمغامرة والفتح والتحرر المنتشرة في منطقة العراق وإيران. لقد قام المعتزلة بقفزة فكرية، واتخذوا مواقف يمكن نسبتها إلى الحداثة إبان القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي عندما طرحوا مسألة خلق القرآن واعترفوا بها متَّخذين موقفاً من ظاهرة الوحي غير مسبوق. افتتح المعتزلة بذلك حقلاً جديداً من المعرفة استطاع أن ينتج موقفاً عقلانياً نقدياً، كالموقف الغربي في القرن الثالث عشر الميلادي. لقد أدخلوا بعداً ثقافياً ولغوياً في طريقة طرحهم مسألة خلق القرآن. فالبشر هم الذين يصنعون الثقافة ويضعون اللغة، ومن دونهما لا يستطيع أحد أن يمتلك رسالة الوحي. اعترفوا بمسؤولية العقل ودوره في فهم النص الموحى به وامتلاكه. طرح المعتزلة بجرأة مسألة التمييز بين كلام الله والخطاب القرآني. لكن هذا التيار الحديث اصطدم بتطلب الخليفة القادر الذي يمثل السلطة التي تضرب بقسوة حتى تحافظ على نفوذها، فأهدر دم من ينتمي إلى المعتزلة ويقول بخلق القرآن. وهكذا حُسِم الأمر لمصلحة الخط الأشعري الذي بات يمثل الخط الرسمي. واستمرت هذه الحال في المجتمعات الإسلامية، حتى زاد التشدد مع الزمن ضد كل من حاول أن يحقق استقلالية العقل عن الوحي.

لا بدَّ من أن نتوقف هنا عند الناحية التطبيقية في الفكر المعتزلي، لنشير إلى أن المعتزلة أصبحوا مع المأمون المذهب الرسمي للدولة. لذلك نطرح التساؤل: هل وقع المعتزلة في الإيديولوجيا عندما تطرَّفوا في طرح نظرياتهم؟ أَلم يجعلوا من مسألة خلق القرآن، مثلاً، عقيدة حاولوا أن يفرضوها بالقوة؟ من اللافت أننا لم نعثر عند أركون على أيِّ طرح لهذه المشكلة، رغم أنه تصدَّى في أبحاثه للممارسات العلمانوية المغلقة على نفسها، ودانَ كلَّ تطرف من شأنه أن يسجن الروح البشرية.

مهما يكن من أمر، فإننا نجد أركون مهتماً بالبحث عن التجربة العلمانية في المجتمعات الإسلامية، منذ بدايات الدين الإسلامي وانتشاره. فهو يرى أن المجتمع الإسلامي عرف العلمنة قبل المعتزلة عندما استولى معاوية على السلطة السياسية، واضطهد أنصار علي بن أبي طالب، واستقر في دمشق بدلاً من المدينة. وبعد انتصاره، خلع عليه رجال الدين رداء الشرعية الدينية. فتشكَّلت عند ذلك إيديولوجيا التدبير التي تعطي للحاكم الحقَّ في كلِّ شيء باسم الدين. هذا الأمر، وغيره من الخلافات حول السلطة، "ليست إلا عملاً واقعياً لا علاقة له بأية شرعية غير شرعية القوة". لكن افتقار الباحثين إلى الوثائق التاريخية والموضوعية جعل أركون لا يُصدِر حكماً نهائياً على هذه المرحلة من تاريخ الإسلام.

يمكن القول، إذن، إن الدولة الإسلامية علمانية منذ بدايتها، واجهت مشكلة ضبط المجتمع كسائر الدول الأخرى. لكننا لا يمكن أن نكتشف هذه الحقيقة التاريخية إلا إذا طبَّق الباحثون المنهجية النقدية–التاريخية على التراث الإسلامي. هذه المنهجية يمكن أن تُبرِز لنا كيف كان القضاة في بداية القرن الأول للهجرة يستوحون الأعراف المحلية التي سادت قبل الإسلام والتي كانت تختلف باختلاف المناطق. كذلك كان القضاة يرجعون في الكثير من الأحيان إلى رأيهم الشخصي لكي يفصلوا في المسائل المطروحة.

أما العودة إلى الشريعة الإسلامية، كما وردت في القرآن، فقد تمت بشكل غير منتظم عبر الزمن. من هنا يمكن أن نفهم أهمية الرسالة التي كتبها الشافعي خلال عامي 800-820 م ليعالج مشكلة الفوضى القضائية وتبعثُر الأحكام. هذه الحالة تُظهِر لنا مدى الخلط الذي حدث بين القانون الشرعي والقانون الديني، أو بعبارة أخرى، بين ما هو زمني وما هو روحي.

كذلك عندما وضعت السلطنة العثمانية نظامها، كان هناك نوع من "العلمنة"، إذا صحَّ التعبير. فالسلطان هو الذي يمارس السلطة بالمعنى السياسي الدنيوي؛ بينما نجد أن الخليفة هو بمثابة نائب النبي الذي يعمل على ضمان استمرار وظائفه؛ والإمام يتمتع عند الشيعة بمهمات روحية تتلخص في إمامة المؤمنين خلال الصلاة، بالإضافة إلى مسؤولياته الزمنية. هكذا نرى أن السلطان يمارس السلطة التي اكتسبها بواسطة القوة – السلطة التي لا يمكن أن تستمر بمعزل عن القوة. من هنا يشدد أركون على الفرق الواضح بين السلطنة والخلافة، رغم ادِّعاء السلاطين الأتراك أنهم ورثوا الخلافة لكي يخلعوا المشروعية على سلطتهم، ويؤكد على أن ما يُشاع من أن الإسلام لم يعرف التفريق بين الدين والدنيا (أو الروحي والزمني) قول خاطئ، روَّج له المسلمون والمستشرقون على حد سواء. تجدر الإشارة إلى أن السلطنة العثمانية انتهت بقفزة نحو العلمنة، قام بها مصطفى كمال (أتاتورك) عام 1924.

تُعتبَر تجربة أتاتورك للعلمنة فريدة من نوعها في المجتمعات الإسلامية لأنها طرحت العلمنة بشكل جذري يعادي التراث والتقاليد بشدة. تأثر أتاتورك بالفلسفة الوضعية التي سادت خلال القرن التاسع عشر في فرنسا، حيث أتمَّ دراسته الجامعية والعسكرية. وعندما عاد إلى تركيا كان يحمل الكثير من الأفكار واليقينيات التي طبعت شخصيته، فحاول أن يطبِّقها حال استلامه الحكم كقائد عسكري: أنهى نظام السلطنة الذي كان بمثابة غطاء شرعي إسلامي يشكِّل امتداداً للخلافة، وأسَّس الجمهورية التركية على الطراز الغربي، فحظر ارتداء الطربوش ومنع اللباس التقليدي ليفرض الزي الأوروبي؛ تدخَّل في حياة المسلم العادية، فمنعه من إرخاء لحيته وشاربيه؛ أوقف التعليم الديني في المدارس؛ بدَّل حروف الكتابة العربية؛ وكذلك فعل بالتقويم الإسلامي. وهكذا غدت تركيا تحمل تلك "الصورة الكاريكاتورية للعلمنة"، عوضاً عن أن تدخل العلمنةُ في صلب تفكير الشعب رويداً رويداً.

يعتبر أركون أن العلمنة في تركيا مشروع أجنبي "أُنزِل في بلد إسلامي دون أن ينبع من صلب المجتمع ومن إرادة شعبه وتفكير باحثيه. صحيح أن لهذا المشروع إيجابيات عديدة، لكن، في المقابل، ازداد نشاط الحركات الدينية التي جاءت ردَّة فعل على ما حصل، مما أدَّى إلى المواجهة بين التيار العلمانوي المتشدِّد والحركات الدينية". يرى أركون أن هذه المواجهة طبيعية، لأن أتاتورك تطرَّق إلى مواقع حساسة عند المواطن التركي، كالمناخ السيميائي–التصويري، محاولاً أن يبدِّلها. كما أنه حلَّ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية وأوقف نشاط جميع الجمعيات الدينية. من هنا عاد التيار الإسلامي بعنف عام 1940 ليسترجع ما سُلِب منه.

لا يمكن أن ننكر أن لهذه التجربة نتائج إيجابية، إذ هي عمَّقت فكرة العلمنة داخل المجتمع التقليدي؛ لكنها، في الوقت نفسه، خطرة من الناحيتين العقلية والثقافية. أهملت العلمنة في تركيا بُعداً مهماً في المجتمع، ألا وهو البعد الديني الراسخ عميقاً، وتغاضت عن معاناة الشعب الحقيقية، وأهملت التعدد الطائفي والعرقي داخل المجتمع الواحد. لذلك اجتمعت كل هذه الأمور لتشعل نار الإيديولوجيات، دينية كانت أم عرقية أم طائفية. "ولهذا السبب لم تستطع تركيا أن تشكل نموذجاً أو قدوة للمجتمعات الإسلامية الأخرى [...] على العكس لقد أدت دور النموذج المضاد: أي النموذج الذي لا ينبغي اتباعه وتقليده."

تكمن دعوة أركون في أن يقيم المفكرون علاقة تربط بين المنحى الديني والمنحى الحديث. بمعنى آخر، إن الصراع الذي دام طويلاً بين من نادوا بقدرة العقل الفائقة على الإدراك وبين من اعترفوا بالقدرة الإلهية التي تسيِّر الأمور يجب أن ينتهي مع العلمنة المنفتحة التي تضع الروح الإنسانية في مواجهة المعرفة بكل أبعادها، بما فيها البعد الديني. "وإذا لم نفعل ذلك [...] فإن الدين سوف يظل حكراً على رجاله التقليديين الذين يقدِّمون عنه صورة تراثية إيمانية، لا تاريخية ولا معرفية. وأنا لست ضد النظرة الإيمانية، ولا ضد رجال الدين الذين يحترمون أنفسهم ويكرِّسون جلَّ وقتهم للشؤون الروحية لا السياسية. ولكنني أدعو إلى موازنة هذه النظرة التي سيطرت علينا طويلاً بواسطة نظرة أخرى فيها الخير كل الخير للعرب والمسلمين: أقصد النظرة التاريخية."

لكن من المؤسف أن المجتمعات الإسلامية والعربية لا تزال ترفض العلمنة وتجهل معناها الإيجابي، فتقمع بالقوة كل من حاول أن يتَّخذ موقفاً حراً منفتحاً على المعرفة، منذ المعتزلة، إلى ابن رشد، وحتى يومنا هذا.

نختتم هذا البحث بنظرة تفاؤلية وجدناها لدى أركون. فهو يرى أن المجتمعات الإسلامية تسير نحو العلمنة من غير أن تدري بسبب غياب التفكير الفلسفي والتحليل الثقافي الحديث. فعلى صعيد اللغة، مثلاً، بدأت تختفي كثير من المفردات والتراكيب الدينية واللاهوتية؛ فمعظم العبارات تتناول الهموم المدنية اليومية التي يعيشها المسلم في مجتمعه. "لقد غاب المنظور الأخروي عن الأنظار كلياً، ولم يعد المسلمون المعاصرون يعرفون ماذا تعني النزعة الأخروية." كذلك نجد أن المسلمين لم تعد لديهم الرغبة في إقامة الوحدة الإسلامية بين المجتمعات المتفرقة، بل يودون أن يؤسِّسوا، كما حصل في أوروبا، وحدة وطنية قومية. هكذا اختفت من الوعي الجماعي فكرة الوحدة الإسلامية ذات المنحى الأخروي الديني الخارج عن التاريخ، لتحلَّ مكانها الوحدة الوطنية القومية. فأصبحت هذه الوحدة نوعاً آخر من "الأخرويات الأرضية" التي تلعب دورها في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. بذلك نجد أن الواقع يشير إلى تقدُّم – وإنْ بطيء – نحو مجتمع أكثر علمنة من السابق.

ولكن، هل ما يشهده العالم اليوم من صراعات سياسية واقتصادية متسترة وراء حجاب ديني–إيديولوجي سوف يؤخر، لا بل يعرقل، انفتاح الروح على معرفة الآخر، وبناء علمنة تليق بالشخص البشري؟

*** *** ***

عن النهار، الأحد 7 نيسان 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود