بين ماسينيون وغاندي

 

أديب الخوري

 

أولاً صباح الخير، ولا أدري إن كان من الممكن القول "كل عام وأنتم بخير" بما أن الورشة قد أصبحت مناسبة سنوية. وإنشاء الله تستمرّ. سعيدٌ جدًا بأن أرى أشخاصًا أراهم مرة في العام هنا في هذا المكان، وأشخاصًا أراهم أكثر من مرة في العام، وإنشاء الله سأسعد أيضاً بتعرفي على أشخاص جدد، من أجل علاقة بناءة.

خطر ببالي اقتراح وأنا أساعد دارين في فتح أكياس الملفات التي ستستخدمونها في تدوين الملاحظات وهو أن يحتفظ كل واحد منا بملفه كي يستخدمه في الندوة القادمة في العام القادم مثلاً... أرى أن مثل هذا السلوك هو سلوك لاعنفي بسيط وفعَّال؟!

يمكن أن يقول أحد الحاضرين أو أحدٌ ما يسمعني من الخارج: "ما هذه الفلسفة؟!" وهذا يدخلني إلى موضوعي: "ما هي الفلسفة؟!"

أطرح السؤال عطفاً على ما أخبرني به الأستاذ أكرم من أن ورشة هذا العام ستأخذ طابعًا فلسفيًا. هل الفلسفة هي المجيء بأمرٍ جديد، بفكرة جديدة؟! هل هي، كما يقال، حب الحكمة؟!... هناك الكثير من التعريفات، ولكن في النهاية يبقى السؤال: "ما هي الفلسفة وما الغاية منها؟!" مطروحاً وقابلاً للنقاش.

يحكى اليوم مثلاً عن الفلسفة واللاعنف؛ ما الغاية من الفلسفة؟ ما الغاية من اللاعنف؟ ما الغاية من ورشتنا هذه ذاتها إذا لم نخرج منها بشيء جديد حتى لو كان بسيطًا؟!

تكلمنا صباحًا أنا والأستاذ أكرم وقال لي محقًا "بالتأكيد قدمنا شيئًا خلال 11 سنة من العمل في معابر وقبلها في أماكن أخرى، والآن أيضًا... إلخ". هذا صحيح. الموضوع هو موضوع تراكمات. والمهم هو وجود شيء إيجابي دائمًا وإن كان الجانب الآخر يبقى موجودًا أيضًا، أي وإن كان العنف يبقى موجودًا والشر يبقى موجودًا، الأهمية أن نبقى موجودين أيضًا.

اليوم سوف أتكلم عن لويس ماسينيون وعن تأثره وعلاقته بالمهاتما غاندي. بالتأكيد هناك طابع فلسفي ولكن ربما ليس وفق المفهوم التقليدي لكلمة فلسفة، لذلك أرجو المعذرة إن وجد أحدكم أن ليس هذا هو المطلوب أو المتوقع. وأريد الاعتذار أيضًا فبسبب ظروف صعبة، عائلية وصحية، مررت بها خلال الشهر الماضي لم أتمكن من تحضير الشيء الذي كنت أتمناه، ولذلك عدت إلى محاضرة موجودة عندي وأضفت عليها وعدلت فيها بحيث تناسب الورشة.

لنتخيل أن السيارات المصنوعة في اليابان لا تسير إلا بوقود مستخرج أو مكرر في اليابان، وكذلك الأمر بالنسبة للسيارات المصنوعة في فرنسا، ونفس الشيء بالنسبة للسيارات المصنوعة في أمريكا وهلمّ جرّا. في هذه الحالة كم واحد منا يستطيع الوصول إلى عمله وبيته؟!

تحمل السيارة أشخاصًا، غايتها أو وظيفتها حمل الأشخاص أو الأشياء من مكان إلى آخر. خطر ببالي أن أرى الشخص، أي شخص، كسيارة. هذا الشخص لا يحمل أشياء أو بضائع أو أشخاصًا بالطبع بل يحمل أفكارًا ومبادئ وقيم، سلبية أو إيجابية؛ يحمل حياة. فإذا أنا، كسوري، لا أمشي ولا أتقدم ولا أنمو إلا من خلال أفكار آخذها من محيطي، أو إذا أنا كمسيحي لا أتقدم ولا أكبر ولا أفهم ولا أتطور نفسيًا وروحيًا إلا من خلال الإنجيل والكنسية، ونفس الشيء بالنسبة للمسلم واليهودي والبوذي والهندوسي... إلخ؛ يمكن طرح سؤال مشابه: مَن مِن هؤلاء سوف يصل إلى غايته؟!

لماذا هذه المقدمة؟ لأني أظن أن حياة لويس ماسينون مثالٌ صارخ على نمو روحي استقى من شتى الروحانيات ومن مختلف الديانات ومن كل ما توفر له، كل ما مرَّ في طريقه، من قيم ومبادئ.

هذه مقدمة كي أتكلم قليلاً وحتى ندخل في حياة وتطور لويس ماسينيون. هناك أشياء سوف أمر عليها بسرعة وهناك أشياء، لا سيما في النهاية عن علاقته وتأثره بغاندي، سوف نقف عندها أكثر.

يُصنَّف لويس ماسينيون غالبًا كمستشرق، وأحيانًا يقولون مستعرب، والبعض الآخر يصنِّفه كشخص دارس للدين الإسلامي ومهتم بالقرآن وبتاريخ التصوف... إلخ. ما طلبه مني الأستاذ أكرم هو التحدث عن لويس ماسينيون بصيغة فلسفية. لا أتذكر أني قرأت أو صادفت أحدًا ما قدم ماسينيون كفيلسوف، ولكن أعتقد أن هذا ممكن فماسينيون كان فيلسوفًا إلى درجة كبيرة، وكان أديبًا، وكان عالم آثار، على الأقل في مرحلة ما من حياته، وكان عالم لسانيات – ليس الأمر أنه كان يجيد العديد من اللغات منها العربية إجادة تامة أكثر مني مثلاً، ولكنه كان متعمقًا في المعاني الرمزية للكلمات والأصل السامي المشترك لبعض الكلمات العربية والعبرية والآرامية وغيرها. لقد كان حجة في الموضوع حقيقةً.

يمكن تقديم لويس ماسينيون كشخص موسوعي في الواقع. وحتى في مجال العلم البحت كالرياضيات والفيزياء كان له باع، فابنه كان دكتورًا في الفيزياء، ويظهر من بعض كتاباته أن حوارات وأحاديث حول الفيزياء كانت تدور في البيت، ولذلك يمكن القول إنه كان على علم بتطوراتها.

عاش ماسينيون العالمية بمعان عديدة، إنَّ حياته لتظهر تفاعلاً تضيع فيه الحدود بين الداخل والخارج، بين داخله وخارجه، بين التاريخ والجغرافيا، بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الأماكن والأشخاص، بين اللغة والمعنى، بين العلم والأدب، بين الأسطورة والدين، بين الرمز والواقع؛ تفاعلاً بين وفي قلب وفكر إنسان عالم وأديب ومجاهد وفي نهاية العمر كاهن.

تعمدت ذكر هذه الكلمة لأن ماسينيون في نهاية حياته – هذا موضوع لاهوتي فلسفي، فالكهنوت، على الأقل كما أفهمه أنا في المسيحية، هو كهنوت المسيح، فالمسيح هو الكاهن الوحيد وكل كاهن آخر هو محاولة لعيش كهنوت المسيح، وكهنوت المسيح في عمقه هو تقدمة ذاته، هو التضحية بذاته، أي كونه قربانًا، وبهذا المعنى اختار لويس ماسينيون أن يكون كاهنًا أي أن يقدم حياته. وكان، كما سنرى فيما بعد، لتأثير المهاتما غاندي على ماسينيون جانب في هذا الخيار.

سوف أعطي مثالين على كيف كان ماسينيون يرى الأشياء:

الناصرة ليست مجرد مدينة أو قرية، ليست حتى مجرد المكان الذي عاش فيه يسوع، إنها مهد وأفضل من مهد، إنها، بوصفها مكان بشارة العذراء، المكان الذي يبدأ به بالنسبة للمسيحي كل شيء. ما أود قوله من هذا المثال هو أن ماسينيون كان يرى الرموز في الأشياء، إنه لا يفصل هنا رمز الناصرة عن المكان كجغرافيا. من المعروف أن الكنيسة الكاثوليكية أسست مكانًا ما، زاوية ما، في روما أو الفاتيكان ليكون نوعًا من البديل عن مكان بشارة العذراء في الناصرة، أي بدلاً من الحج إلى الناصرة يحج الناس إلى هناك. ماسينيون رفض هذا الشيء وشدَّد على وحدة المكان والرمز.

مثالٌ آخر عن كيفية ربط أشياء عديدة بفكر أنا أسميه فلسفة، يقول:

إن خطوط القوة الروحية [كلمة خطوط القوة الروحية قد أخذها من الفيزياء، فالفيزياء تقول "خطوط الحقل" والقوة هي حالة خاصة من الحقل. ربما تذكرون هذا من الثانوية: الحقل الكهربائي والمغناطسي] أي خطوط التمتين في نسيج الأحداث المادية للكون تتلاقى عبر التاريخ والجغرافية عبر الزمان والمكان لتشكل عقدًا لها أهمية كبرى [وهذه تتمة صورة الحقل في الفيزياء أيضًاً حيث تشكل خطوط الحقل عقداً وتشكل مراكز لقاء] فمن هذه العقد ابراهيم الخليل ومنها رجل قديس معاصر هو المهاتما غاندي.

إذًا، هو يرى خطوط قوة روحية، وكما في الفيزياء لا نرى الحقل المغناطيسي ولكن نرى كيف يؤثر في برادة الحديد المنشورة أو يشكل دوائر معينة أو يشكل خطوط معينة. ماسينيون يرى نفس الشيء: خطوط القوة الروحية، التي من المؤكد أننا لا نراها، تتلاقى عبر التاريخ والجغرافيا وتشكل عقدًا مثل عقدتي ابراهيم الخليل والمهاتما غاندي. وهو يضع الاثنين في مستوى واحد. وفي مكان آخر يسمي ماسينيون هذا العالم الذي تؤلفه خطوط القوة الروحية، أو الذي تعمل فيه، عالم الجغرافيا الروحية للشفاعات.

أعود وأعرض بسرعة المراحل الرئيسية في حياة ماسينيون:

-       ولد عام 1883 من أم متدينة ومتملكة، أي كما يقال في الفرنسية mere poule "مثل الدجاجة التي تحضن ابنها ولا تسمح له بالخروج". هذا الواقع، كونها متدينة من جهة وكونها استحواذية من جهة أخرى، كان أحد الأسباب التي جعلته في مرحلة معينة، بعد أن كبر قليلاً، يرفض الدين ويعيش حياة أقل ما يقال عنها إنها منفلتة من كل عقال.

-       سمع الكثير في صغره ومراهقته عن افريقيا والصحراء – في ذلك الوقت كانت الجزائر مستوطنة فرنسية، وكانت تعتبر بالنسبة للفرنسيين امتدادًا لفرنسا، وكان هناك الكثير من الذاهبين إليها والعائدين منها والكثير من الكتابات حولها – وتأثر بالكتابات حولها وتخيل المكان كعالم فيه حروب وفرسان وفيه ناس تغامر بحياتها، وقد جذبه هذا الواقع كثيرًا. يعبر عنه في إحدى المرات بقوله:

حلمت منذ طفولتي بافريقيا وبالصحراء كبلاد يخوض الناس فيها المعارك بلا أقنعة وبلا دروع [هذا مهم جدًا في فهم نفسيته في المستقبل لأنه كان إنسانًا مكشوفًا، إنسانًا مغامرًا، كان إنسانًا يطلب الموت أحيانًا وليس فقط مستعدًا له. وهذا الطلب الذي كان طفوليًا وبسيطًا وبدون معنى، سوف يأخذ لاحقًا معنى عميقًا: طلب الموت من أجل الخير من أجل الناس... إلخ].

-       في عام 1901 زار ماسينيون الجزائر، وهكذا تحققت إحدى أمانيه الكبيرة، وفي العام التالي أخذ إجازة في الآداب وبدأ التحضير لدبلوم في الدراسات كان عنوانه المشهد الجغرافي للمغرب في السنوات الخمسة عشرة الأولى من القرن السادس عشر بحساب ليون الأفريقي. فإذًا، كان ما يزال لديه هذا الاهتمام بافريقيا وبلاد الجزائر والمغرب.

-       لإتمام بحثه ذهب فعلاً إلى المغرب في رحلة استمرت عدة أشهر، ولكن المغرب في ذلك الوقت كان بلدًا مستقلاً ولم يكن مرحّباً بالأجانب، ولذلك فقد تنكر حتى يستطيع المرور.

-       لا بد، ولو بسرعة كبيرة، من الحديث عن شخص آخر تأثر به ماسينيون في بداية حياته وهو شارل ده فوكو الذي كان ضابطًا في الجيش، والذي كان أيضًا غير منضبط أخلاقيًا، فقد رُفض من الجيش بسبب أخلاقياته ليقرر بعد ذلك القيام برحلة استكشافية إلى المغرب، قبل ماسينيون بحوالي 20 سنة كما أظن. قام برحلته إلى المغرب وزار العديد من الأماكن، وعندما عاد إلى فرنسا كتب كتابًا عن الموضوع نشرته الجمعية الجغرافية وأخذ عليه ميدالية، أي أنه قُدِّر جدًا. بعد هذه الرحلة، عاد شارل ده فوكو إلى الإيمان المسيحي من جديد، وعبر مسيرة طويلة، لا وقت هنا للحديث عنها، انتهى به الأمر إلى العيش في صومعة في صحراء الجزائر.

-       عندما قام لويس ماسينون برحلته إلى المغرب كان ده فوكو في منسكته في صحراء الجزائر. وعندما عاد ماسينيون من رحلته إلى المغرب وكتب شيئًا عن الموضوع أرسل رسالة إلى شارل ده فوكو – لا باعتباره رجل دين إنما كعالم في الجغرافية – يتكلم فيها عما اكتشفه وعما رآه.

-       كان ماسينون في ذلك الوقت يعتبر نفسه لاأدريًا، أي لا هو مؤمن ولا هو غير يؤمن، ولا يهمه الأمر –. أرسل شارل ده فوكو لماسينيون جوابًا على رسالته، وفي سطر من أسطر الرسالة أخبره أنه يصلي من أجله – ده فوكو لم يكن على علم بلاأدرية ماسينيون ولكنه بطبيعة الحال قال إنه يصلي له.

-       لاحقًا بعد هذه الرحلة، وماسينيون شاب يبحث عن طريقه في عالم الحياة وفي عالم العلم: علم التاريخ وعلم الجغرافيا وعلم الاستكشاف، أُرسل إلى مصر للعمل في البحث الأثري، ولكنه لم يكن مرتاحًا إذ لم يهتم كثيرًا بالحضارات الفرعونية القديمة إنما جذبته في الوقت نفسه بعض الكتابات التي تعرف عليها لمتصوفين مسلمين. في ذلك الوقت كان ماسينيون إنسانًا غير مؤمن، يعيش حياة غير منضبطة إلى درجة الشذوذ الجنسي.

-       في مصر قام بمهمة ما ولم يكملها وعاد إلى فرنسا وأُرسل من جديد إلى العراق لاكتشاف موقع أثري [حاليًا اسمه قصر الأخيضر]. أثناء رحلته في العراق، وهو على مركب في نهر دجلة، لسبب أو لآخر – ليس لدينا وقت للتفاصيل – اعتُقل واحتجز بتهمة التجسس – كانت العراق في ظل الحكم العثماني – يصاب بخوف رهيب، ومدفوعًا بهذا الخوف يحاول الانتحار، في محاولته الانتحار، يحضره ضرب من الرؤيا، يسميها فيما بعد "زيارة الغريب"، ويشعر بأن هناك شخصًا ما زاره، ويعبر لاحقًا عن ذلك بالعبارات التالية:

أُوقَف كجاسوس، أُضرَب، أُهدَّد بالإعدام. أحاول الانتحار مدفوعًا برعب مقدس من نفسي. دخولٌ مفاجئ إلى عمق الذات. مغمض العينين أمام نار داخلية تحاكمني وتحرق قلبي. يقينٌ بحضور نقي صاف في غاية الروعة، خلاق تُصيخ عباراتي سماعها لصلوات الكائنات غير المريئة. زوار سجني الذين تفاجئ اسمائهم فكري أولهم أمي وخامسهن شارل ده فوكو...

يقول في وقت آخر إنه كان هناك خمس أشخاص بشفاعتهم حدث التحول، هم والدته وشارل ده فوكو والحلاج (الذي سوف يحقّق ماسينيون أعماله لاحقًا) وابراهيم الخليل واسم آخر نسيته الآن...

أُنقذ من قبل مضيفي الذين خاطروا بأنفسهم [في تلك الفترة كان ضيفًا لعائلة عراقية مسلمة، وهم ساعدوا بوساطاتهم في انقاذه من ذلك الوضع] هذا ما يسمونه دخالة، إجارة، ضيافة [استخدم كلمات عربية بالأحرف اللاتينية] ثم أعود إلى فرنسا بعد تجاوز صعوبات جمة.

يقارن العديد من المحلليين والمراقبين تجربة ماسينيون السابقة الذكر بما حدث مع باسكال الذي كان في مركبة خيل وجنحت المركبة وكاد أن يقع في النهر وعاش خطر الموت ورأى رؤيا مشابهة وعلى إثرها كتب كلمات معينة واحتفظ بها معلقة في صدره وعاش حياة متقشفة.

بعد هذا الحدث عاد ماسينيون إلى الإيمان. كانت أول مرة يصلي فيها بعد الحدث مباشرة هي باللغة العربية بدون تفكير. وكانت أول صلاة أو أول دعاء هو نوع من الشفاعة لصديقه الذي كان يمارس معه الشذوذ، والذي عاش حياة معذبة جدًا وانتحر في نهاية المطاف.

بعد هذا يأخذ لويس ماسينيون على نفسه نذورًا بالعفة وبالتقشف... إلخ، ويدخل في مراسلة طويلة مع شارل ده فوكو، ولكن هذه المرة ليس كعالمي جغرافية ولكن كتلميذ ومعلم روحي. بعد عودته إلى فرنسا يعود ويتابع دراسته ويبدأ بتحضير دراسته للحلاج بعد تعرفه على بعض كتابات الحلاج ولاسيما العبارة التي قال فيها عندما قطعوا ذراعيه: "ركعتان في العشق لا يصح وضوءهما إلا بالدم". هذه العبارة بالضبط هي ما دفع ماسينيون إلى التحقيق في حياة الحلاج، والقيام ببحث كبير ترجم مؤخرًا إلى العربية بعنوان آلام الحلاج.

لم يقم ماسينيون بدراسة الحلاج كشخص غريب، أي مثل أن يأتي شخص من الخارج وهو غير مهتم بموضوع اللاعنف ولا يعرف أي شيء عن الورشة ويقوم بدراسة عنها ليستنتج في النهاية أن هناك 25 شخصاً، واحدٌ منهم يتكلّم عن شخص اسمه ماسينيون... لم يكن ماسينيون يقوم ببحث فقط بل كان يتأثر بحياة وموت الحلاج، كان يفهم شيئًا ما. معرفته بالحلاج وتحليله لحياته كان لهما أثر في نفسه فكان يجعله يزداد رسوخًا في فكرة العمل من أجل الآخرين، التكلم من أجل خير المجتمع، إلى درجة الموت من أجل الناس. وهذا بالنسبة له لم يكن مجرد كلام.

في الحرب العالمية الأولى يجند مثل أي رجل فرنسي أو أوروربي بشكل عام ويقاد إلى الجبهة. تضع عائلته ثقلها كي لا يكون في مواقع متقدمة ولا يتعرض للخطر بينما هو يكتب رسالة إلى السلطات المسؤولة يطالبها فيها أن يكون في الخندق الأول.

خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد وجوده فترة في جبهة القتال في أوروبا، يُرسل إلى فلسطين ويدخل القدس في ثاني سيارة من سيارات جيش الحلفاء عندما دخلوا القدس – كان هناك حلف بين العرب والجنرال الإنكليزي "اللنبي" ووعود مبذولة للعرب بدولتهم بعد نهاية الحرب... وماسينيون كان أحد الأشخاص الموجودين ضمن هذه التركبية، واكتشف عام 1917 و1918 أن هناك خدعة كبيرة من حكومة بلده والبريطانيين للعرب، واحتج على الموضوع ورفضه وتحدث عنه تكررًا فيما بعد. ومنذ ذلك الوقت بدأ الارتباط بينه وبين القضية الفلسطينية التي سيعود إليها لاحقًا وسيأخذ موقفًا شديد الوضوح فيها ضد العنصرية وضد التطهير العرقي أو الديني وضد التهجير. في فترة تالية عاش في مصر وتعرف على صبية مصرية اسمها "ماري كحيل"، كان متزوجًا ومع ذلك قامت بينهما علاقة روحية عميقة وأسسوا معًا جميعة البدلية، وجميعة البدلية ستكون الإطار الذي سينشط فيه لاحقًا في العمل اللاعنفي. البدلية في اختصار هي جمعية مؤسسة أصلاً لمسيحيي الشرق، لتجمعهم بهدف الثبات في وجودهم في الشرق، والذهاب إلى أبعد مما يسمى تعايش مع الإسلام أي إلى التفاعل وتقديم الذات من أجل الإسلام. يقول: أنا دخلت البدلية. نذر البدلية هو أن تكون حياتي، حتى إذا تطلب الأمر موتي، من أجل الناس الذين أعيش بينهم – بدون أي غرض تبشيري بالطبع.

نعود إلى الوراء قليلاً، في عام 1919 قرأ لويس ماسينيون نص ساتياغراها لغاندي بعد أن قدمه له أصدقاء هنود، وأعجب كثيرًا بهذا النص، ولم يتأخر كثيرًا في ترجمته إلى الفرنسية رغم انشغاله؛ إذ في سنة 1922 دافع عن الدكتوراه وبالتالي كان يعمل على رسالة الدكتوراه في ذلك الوقت. سنة 1921 ينشر ترجمةً لنص ساتياغراها لغاندي بالفرنسية في مجلة حوليات العالم الإسلامي التي كان رئيس تحريرها. ويتطلب الأمر عشر سنوات أخرى حتى يلتقي ماسينيون بغاندي في باريس أثناء زيارة الأخير لها. ومنذ ذلك الوقت يتابع كتابات غاندي ويتابع نشاطه وجهاده. في عام 1953 يدعى ماسينون إلى المنتدى الغاندي في نيودلهي ويقوم هناك بزيارة حج – كما يسميها – إلى مهرولي وإلى حديقة بيرلا حيث قُتِل غاندي. وفي عام 1954 يصبح ماسينيون رئيس جمعية أصدقاء غاندي.

ألخص بسرعة وجهين من الوجوه التي التقت فيها رسالة غاندي مع رسالة ماسينيون: الوجه الأول يمكن أن نسميه السعي إلى الحق، إحقاق العدالة، الانتصار للمستضعفين. كان ماسينيون دائم البحث عن هذا الأمر، سواء في دفاعه عمن كان يسميهم الأشخاص المرحلين – الآن نسميهم اللاجئين أو النازحين – أو العمال الذين لم يأخذوا حقهم أو السجناء السياسيين الجزائريين في فرنسا وغيرهم. كان دائم البحث عن حقوق المستضعفين. والساتياغراها واللاعنف يقدمان له بيئة لنشاطاته تلك وخلفية مساعِدة. سوف آخذ تعليقًا من أحد الأشخاص الذي كان تلميذًا لماسينيون وتوفي عام 1995 واسمه يواكيم مبارك، وهو عربي الأصل عاش معظم حياته في فرنسا، يقول عن الرسالة المشتركة أو عن القاسم المشترك بين ماسينيون وغاندي:

ليس الموضوع هو دافع أو آخر، مهما كان نبيلاً، ولا هو خدمة عالم أو آخر، أيَّا كانت أهميته، هو ما جعل ماسينيون يتعرف في غاندي، ومنذ البداية، معلمًا روحيًا قَبِل بعفوية روحَ تعليمه. لقد استشعر ماسينيون بعمق، وعلى نحو أكيد، وجود حقيقة عند غاندي تترجم في سلوكه اليومي بغض النظر عن بيئة التزامه. يتعلق الأمر بتوافق تام بين الذات والحقيقة يصل إليه عبر التقشف الذاتي والتأمل. ليس الموضوع موضوع وصفات جاهزة للوصول إلى مبتغى مرسوم ولا حتى هو منهج متكامل [اللاعنف عند غاندي كما قرأه ماسينيون ليس منهجًا] بل هو في الأصل مثال حياة يُقدَّم ويعرض بغض النظر عن الظروف المحيطة.

بعبارة أخرى، لم يجد ماسينيون في الساتياغراها أو في اللاعنف مجالاً جديدًا لانخراطه في السياسة، وإن بطرق جديدة، لم يقرأ في غاندي طريقة لمقاومة التمييز العنصري أو لتحرير الهند أو لتحقيق مطلب سياسي أو اجتماعي أو غيره، لقد رأى صوفيةً غاندية تشهد لها حياة زاهدة بحزم. هذا ما رآه ماسينيون في غاندي وما نال اعجابه وما تعلم منه وما طبقه هو أيضًا. العناق الأبدي للحقيقة هي العبارة التي استخدمها ماسينيون للتعبير عن فهمه لروح غاندي. يعمل الساتياغراهي في قلب مدينته، يرفض الأخطاء، يدين الجرائم، لكنه لا يخذل مدينته أبدًا، يبقى داخل مدينته ويموت فيها إن اقتضى الأمر. لقد وجد ماسينيون في هذه النظرة الغاندية تعبيرًا عن شيء موجود فيه، ولقد كان هذا سبب ثباته في مواطنته الفرنسية. ولعل ما تعرض له ماسينيون من ضرب وأذية في أواخر حياته في فرنسا – في أواخر حياته وأثناء محاضرة له قام بعض الشوفينيين الفرنسيين بضربه وأخذ أوراقه وتمزيقها بسبب موقفه من الاستعمار الفرنسي للجزائر – هو نتيجة لأسبابٍ منها خياره أن يكون ساتياغراهيًا بالمعنى الذي تقدم.

ساهمت كتابات غاندي كما ساهم موقفه من الاستعمار البريطاني في تعميق فهم ماسينيون للاستعمار الغربي. في اختصار، رأى ماسينيون في موقف الاستعمار البريطاني في الهند، والذي قسَّم الهند عندما خرج منها إلى دولتين، شيئًا يشبه تمامًا ما قام به الاستعمار البريطاني في فلسطين. وموقف ماسينيون من هذا الوضع في فلسطين كان متطابقًا ومماثلاً تمامًا لموقف غاندي في الهند الرافض للتقسيم والذي دفع حياته ثمنًا له.

الأمر الثاني أو الوجه الثاني من وجوه اللقاء بين الاثنين هو لقاء ماسينيون وغاندي حول الدعوة إلى نظام عالمي واجتماعي جديد. يمكنني أن أذكر على الهامش أن ماسينيون لعب دورًا فعالاً في عدد من الاتفاقيات الموجودة اليوم على مستوى العالم، والتي مع الأسف لا تطبق دائمًا، منها الاتفاقية حول حفظ الآثار في حالات الحروب، اتفاقية حول حماية اللاجئين، وربما هناك أشياء أخرى لا أذكرها. على هذا المستوى كان غاندي فعَّالاً في الدعوة أو في محاولة وضع أسس تحمي الناس تحمي النظام العالمي أو الناس... إلخ، ولكن فهمَ فكرة غاندي تطور بشكل آخر مختلف مع ماسينيون. يقول ماسينيون:

ينبغي ألا تلزمنا النزعة المتنامية لتوتاليتارية الحكومات، ومنها حكومتنا، بالعمل ككتلة، نحن أصدقاء غاندي، داخلين في مدار أي كوكبة من القوى الإنسانية مهما كانت حسنة، إن لم تكن تعترف بالساتياغراها كمبدأ أساسي للتفكر الجوهري.

أعود إلى حديث يواكيم مبارك:

إن قلة من بين أصدقاء غاندي وتلاميذ ماسينيون يستشعرون إلى أية درجة قد دفع هذا الأخير، بطريقة ما، في مفرداتهم، ايعازات المناهج المقترحة من قبل غاندي فيما يخص نظامًا اجتماعيًا ودوليًا جديدًا.

[إذا اعتبرت نفسي صديقًا لغادي وتلميذًا لماسينيون فأنا بدون أن أشعر وقد أجهل أن بعض المفردات التي استخدمها قد جائتني عبر ماسينيون]

يمكن اعتبار هذا النظام على نحو عام كشركة جديدة [إذًا غاندي تكلم وماسينيون ردَّد وعبَّر بطريقته عن نظام عالمي واجتماعي يمكن النظر إليه كشركة جديدة] يجد المقدس فيها مكانه، وتجد – طبعًا يجب استخدام كلمة مقدس بحذر لأن كل إنسان يفهمها بطريقته...

ديمتري أڤييرينوس: ربما الأدق أن نستعمل بدل كلمة مقدس كلمة "الشيء الذي له حرمة".

أديب خوري:

يجد المقدس أو الشيء الذي له حرمة le sacré مكانه وتجد الوسائل البسيطة ملء فعاليتها [الوسائل البسيطة حسب ما أفهمها وقد يكون فهمي خطأ أو صحيح هي كما اقترحت في بداية المحاضرة أن نحتفظ بالملف الذي نستخدمه الآن من أجل الورشة القادمة] وحيث في تقارب للمعتقدات والشعوب تصبح الضيافة المعيار الأعلى للعيش المشترك أو للعيش المتآزر.

هنا يمكن أن نتكلم عن تأثر ماسينيون بشخصية ابراهيم الخليل وبالتحديد بفكرة الضيافة عنده عندما، حسب العهد القديم، استقبل الله في أشخاص ثلاثة هو لا يعرف من هم. فهذا عند ماسينيون كان مدعاة إلى تعميم فكرة الضيافة، والتي أيضًا ترسخت عنده أثناء استضافته من قبل العائلة العراقية حيث تأثر بفكرة الضيافة العربية وخصوصًا بمصطلح أو بتعبير نكاد ننساه اليوم هو ضيف الله، ومن هذا المنطلق طالب بمعاملة كل مهجر أو كل لاجئ كضيف. يتابع يواكيم:

كل هذا ليس سوى تنظير مجرد إن لم نصل إلى المتطلبات العملية المقترحة من قبل ماسينيون بعد غاندي فيما يخص النظام الجديد أو المدنية الجديدة، تعرف هذه المدنية في حدها العملي – والعبارة هنا لماسينيون – "يجب ألا تقوم على مضاعفة الحاجات بل على إنقاصها عن حرية واختيار". والحال أننا لن نصل إلى تحقيق هذا الهدف إن لم نُقِم المدنية العالمية على الأسس الثلاث الجلية: العفة الزوجية، العمل اليدوي، والطب الطبيعي [وهذه الأسس الثلاثة كانت في مركز حياة غاندي] يتعرف الغانديون بيسر في هذه الممارسات على المناهج التي أطلقها غاندي في الهند، وإن كان التعبير اللفظي قد يختلف مع تركيز أكبر على ممارسة الصوم. نعلم مدى الطريقة المثالية التي انخرط والتزم بها لويس ماسينيون في هذا النهج الغاندي. [على مثال غاندي عاش ماسينيون تلك المبادئ الثلاث في حياته بقدر كبير].

أختم.

لماذا نتحدث عن غاندي ولماذا نتحدث عن لويس ماسينيون؟ أقبل أن تختلف الدوافع والأسباب. أحد الأشخاص يتكلم أو يسمع عن الموضوع بدافع المعرفة المجردة وآخر بدافع التحليل التاريخي وثالث بدافع المقاربة... إلخ. بالنسبة لي شخصيًا يخلو كل حديث عن غاندي أو عن ماسينيون أو عن محمد أو عن يسوع أو عن كريشنامورتي أو عن طاغور من كل معنى إن لم يكن بغاية التمثُّل والاقتداء. هذا بالنسبة لي.

هناك قصة قد تكون طريفة، لا أدري مدى صحتها تاريخيًا، تقول: عندما نقلوا جثمان جبران خليل جبران من أميركا إلى لبنان خرج من بين المتحدثين شخص ليس معروفًا كثيرًا وقال: "أنا أكره الله والأرز وجبران [وأعاد العبارة ثلاثة مرات]... لأنهم خالدون وأنا فان".

هذه الكلمات التالية الأخيرة قد لا أقولها في مكان آخر إن لم أشعر بحدٍّ أدنى من البساطة والأخوة والأريحية: كثيرًا ما أكون أقرأ لماسينيون أو لغاندي أو لغيرهم وأشعر بصعوبة نفسية إلى حد البكاء بدون أن أشعر. لا أريد أن أقول "لأنهم خالدون وأنا فان"، فكلنا بطريقة ما خالدون وكلنا بطريقة ما فانون. أنا إنسانٌ أعرف أن الطريق من هنا ولكني غير قادر على المسير فيه، ولذلك أشعر بأني أتكلم أكثر مما أفعل، وهذا مؤلم كثيرًا. وفي نفس الوقت هذا يجعلني أطلب في كل مرة أتكلم فيها أن تعذروني لأن كلامي شيء وحياتي شيء آخر. وشكرًا.

*** *** ***

مرمريتا، 2 تموز 2010

تم نقل المحاضرة من التسجيل

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود