غاندي بين القداسة والسياسة[1]

 

ديمتري أڤييرينوس

 

أسعد الله صباحكم جميعًا، وأهلاً وسهلاً بكم. مع تكرار اللقاءات هنا يبدو وكأن هناك شعور بأن المكان ذاته يترسخ في نفوسنا، وخاصة بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون معنا هذه التجربة أكثر من مرة. شعوري العميق أن هناك صداقات حقيقية تعقد بين المشاركين، حتى مع عدم إمكانية لقاء بعضنا البعض خلال العام بسبب المسافة التي تفصل أماكن إقاماتنا.

غاندي موضوعٌ من الصعب الإحاطة به تمامًا، إذ دائمًا ما نعود إليه لأنه، كما قالت صديقتنا دارين في مقالتها عن كتاب فلسفة اللاعنف[2]: لأول مرة في التاريخ ينتقل اللاعنف من حالة فردية أو جماعية ولكن صغيرة إلى حركة مساهمة في الفعل التاريخي.

منزلة غاندي تقوم أساسًا على أنه حقق معادلة كانت ممكنة في التاريخ القديم وتكاد تصير متعذرة اليوم: الجمع بين مقامي الحكيم والمرشد الروحي، من ناحية، والرائي السياسي الملهَم، من ناحية ثانية. الرائي هنا هو الإنسان القادر فعلاً على استشراف حركة المجتمع وحركة التاريخ، وفهم كيف يستطيع المساهمة في صنعها وفي توجيه الأحدث عن وعي، رغم ضآلة قدرة الإنسان ودوره في هذا الشيء، بمعنى آخر، مع حفاظه على تواضع كبير بالنسبة للفعل الذي يساهم فيه. كان غاندي نبيًا اجتهد طوال حياته في بلوغ مثال الحقيقة واختباره، هذا المثال انكشف له عبر هندوسية منفتحة على الأديان والملل كافة. وكان لا يني يصرُّ أنه رجل خبرة روحية أصلاً، وليس رجل سياسة. كان يقول: "أنا مثالي عملي"، "أحاول أن أُدخِل الدين في مجال السياسة". - ليس المقصود بالدين الدين وفق مفهوم المؤسسة، بل الدين كخبرة حية، كاختبار روحي شخصي -. لكنه، مع ذلك، كان رجل الأفعال بقدر ما كان رجل التأمل. وهذه الثنوية التي تمكَّن من اجتراح معجزة اختزالها إلى وحدة تستند إلى كشفين حاسمين من الكشوف التي رسمت مسار حياته الداخلية: الكشف الأول، - وصديقنا جان ماري مولَّر تحدث عن هذا الكشف في العام الماضي -، هو "الله هو الحقيقة"؛ والكشف الثاني الأعمق: "الحقيقة هي الله". فالكشف الأول ينفي الحقيقة من العالم إلى المطلق، المتعالي على العالم، بينما الكشف الثاني يعيد الله إلى دروب الحياة اليومية، مثلما يمكن للمرء أن يغرف من ماء الغانج المقدس براحتي يديه، أو أن يعرف بتذوُّقه حبة رز واحدة فيما إذا كان الرز كلُّه ناضجًا أم لا" هذا الكلام لـ (راماكرشنا)، وهو أحد حكماء الهندوس الكبار.

لقد جمع المهاتما في مذهبه الحياتي بين المنظورين الإسلامي، حيث يجمع الله بين صفتي الحق والعدل، والمسيحي، حيث يمكن للألوهة أن تتجسَّد في حياة إنسان فرد. فمن يصبح الحقُّ والعدلُ قوامَ حياته يتألَّه؛ وعلى التبادل، من يتوق إلى التألُّه، مخلصًا للحكمة الأزلية، حيث "لا وجود إلا لله، ولا لشيء سواه" (غاندي، الهند الفتاة)، يجب أن يعمل بموجب الحق (= العدل) وأن يسري في شرايينه شوقٌ لافح إلى إحقاقه.

ولا ينال من منزلته الروحية السامية قولنا إن هذا القديس كان يخفي في جعبته أكثر من سهم. في قيادته البشرَ كان لطفُه ينطوي على عزيمة فولاذية؛ ومع أنه كان لا يلين فيما يخص الأمور المبدئية فإنه كان يتحلَّى بمرونة فائقة في الأمور التكتيكية؛ كان طاهر الطويَّة، لكنه قادر بذكائه على النيل من خصمه في نقطته الأضعف؛ لجوجًا في مطالبته بالحق، لكنه يعرف كيف يتحيَّن الساعة المناسبة للعمل. لقد تسبب تنقُّله تباعًا بين المواقف الوطنية الصلبة والتسويات المرحلية المهادِنة في إحراج مؤيِّديه وفي شماتة خصومه التي وصلت أحيانًا إلى حدِّ تخوين معارضي نهجه له وطعنهم في مصداقية جهاده الوطني. سنتحدث بعد قليل عن أمثلة تظهر كيف أنه، في لحظة معينة، عندما كانت الحركة تأخذ مسارًا معينًا والناس متحمسون لهذا المسار يقرر غاندي، لسبب تكتيكي بحت أو لقرار مبدئي بحت، أن يجعل الحركة تأخذ مسارًا آخرًا. غاندي كان يقول دائمًا: "أنا لا أصغي إلا إلى الصوت الهامس الضعيف في الداخل..."

أحد الحضور: لماذا سماه الهامس الضعيف؟

ديمتري أڤييرينوس: قال غاندي إن الحقيقة، أو الحق أو الله، ساكنة في قلب الإنسان وتكلم ضميره، فإذا كان الإنسان في حالة إصغاء عميق يمكنه سماع الصوت. هذا المفهوم بالنسبة لغاندي ليس مفهومًا مجردًا، فهو يصغي إلى هذا الصوت ولكن في آن معًا هو حاضر في العالم ومراقب لكل تحولات الأحداث من حوله.

ولد غاندي يوم 2 تشرين الأول عام 1869 في بوربندر، البلدة الساحلية في شبه جزيرة كاثياوار شمال مومباي، والإمارة الصغيرة في ولاية كوجارات، حيث كان أبوه كرمتشند غاندي، وجدُّه من قبل، رئيس وزراء راجا (= أمير) على ثلاثة مدن–دول. كانت أسرته هندوسية متديِّنة تديُّناً متشددًا، أي أنها كانت ملتزمة بالشريعة التزامًا كبيرًا، يمكن أن نقول سُنِّياً،...

أحد الحضور: التزامًا وهابيًا؟

ديمتري أڤييرينوس: في الهند يوجد كتاب أساسي للشرائع اسمه قوانين منو، ويعد الالتزام بها جزءًا من الالتزام الهندوسي بالمعنى العام. الجميل في الهند أنه إذا ارتقى الإنسان بوعيه على خصوصية الشكل الديني الذي ولد فيه، بمعنى إذا استطاع رؤية الحقيقة في الأشكال الدينية الأخرى، في التجليات المختلفة للدين، يتضاءل تقيده المحدود إلى درجة أنه من الممكن لهذا الفرد أن يصبح شريعة ذاته. في الهندوسية أربعة طوائف أساسية: طائفة البراهما، وهم القيمون على الدين، طائفة الكاشتريا الذين هم طبقة رجال السياسة والمحاربين، طائفة الفايشيا المخصصة للتجار والصناع، وأخيرًا طائفة الشدرا التي هي طبقة المزارعين...

أحد الحضور: ماذا عن المنبوذين؟

ديمتري أڤييرينوس: المنبوذون خارج الطبقات! غاندي كان من طبقة الفايشيا إذ أن والده كان تاجرًا (اسم "غاندي" يعني باللغة الكوجاراتية "بقَّال"). وقد وصف أمه بكونها امرأة شديدة التقى تختلف يوميًا إلى المعبد.

كان موهن، تصغير موهناس، طفلاً ضئيل الجسم، يمقت الرياضة، متوسط النتائج في المدرسة. واعترافاته، الصريحة صراحة تكاد تكون محرِجة – كما كتب في سيرته الذاتية قصة تجاربي مع الحقيقة، وهو كتاب لابد من قراءته -، تخبرنا أنه لم يكن مستثنى من عيوب الضعف البشري. فقد انتهك، وهو بعدُ صبي، المحرَّمات المفروضة على الهندوس المتشددين بأكله سرًا لحم الماعز. – أكل اللحوم محرم تمامًا في العقيدة الهندوسية. وقد لدى غاندي صديق قال له إنه لكي يصبح قويًا مثل الإنكليز فإن عليه أكل لحم الماعز-، فكان قصاصه كابوسًا مروِّعًا رأى فيه معزاة حية تثغو بإلحاح في معدته. وبمقتضى العرف الهندوسي تزوج في الثالثة عشرة فتاة في سنِّه بدون علم مسبق بالأمر، وظل زوجَ كاستورباي الوفية طوال 62 سنة. لكنه ظل طوال حياته يشعر بالـ"عار" كلما تذكر "شبقه" في صباه. وقد روى في سيرته الذاتية أنه كان في فراشه مع كاستورباي عندما توفي والده – وهي "وصمة لم [يـ]ـستطع أن [يـ]ـمحوها أو [يـ]ـتناساها قط".

كان طموح موهن الفتى أن يدرس الطب، لكن بما أن هذا كان يُعتبَر تدنيسًا لطائفته – ذلك أنه، حسب قواعد الشريعة، لا يجوز له لمس الجسد البشري أو العبث به - فقد أصر عليه أبوه أن يدرس الحقوق.

ذهب غاندي إلى إنكلترا للدراسة في أيلول 1888. مكث في لندن مدة ثلاث سنوات، طالبًا معوزًا يحضِّر لإجازة في الحقوق ويجتهد في الالتزام بنذره في عدم مساس اللحم والخمر والنساء. فقبل أن يغادر الهند، وعد أمه بأنه لن يقرب اللحم، فصار نباتيًا متحمسًا في غربته أكثر منه في الوطن. - في الواقع، انتسب إلى جمعية النباتيين في لندن، وكان أحد روادها، وبعض أصدقاءه النباتيين أصبحوا فيما بعد أصدقاء طريق - اطَّلع آنذاك على الإنجيل، فأخذت موعظة المسيح على الجبل بمجامع قلبه. وقرأ كتاب توماس كارلايل في البطل وعبادة البطولة، وأعجِب من خلاله بخصال نبي الإسلام أيما إعجاب. كما تعرَّف إلى صديقين ثيوصوفيين أقرأاه الـبْـهَـكَـفَدغيتا، كتاب الحكمة الهندوسية الخالد (القرن الثالث ق م)، الذي اعتبره غاندي بمثابة قاموسه الروحي الرئيسي والمرجع الذي ظل يستلهم منه أفكاره حتى استشهاده.

- الـبْـهَـكَـفَدغيتا هو عبارة عن حوار بين كريشنا الذي هو بنظر الهندوس تجسد الألوهة على الأرض، وأرجونا الذي هو المحارب المرغم على خوض حرب ضد أبناء عمومته. يجب أن نفهم أن كريشنا هو الجانب الإلهي في الإنسان وأرجونا هو الجانب البشري. كريشنا هو فردية الإنسان، الروح الخالدة فيه، وأرجونا هو الإنسان الخائض في معترك الحياة، والذي هو بحاجة إلى بوصلة ترشده. هناك آراء أخرى في الهندوسية تقول بوجوب أخذ القصة على المحمل الحرفي، أي أن أرجونا كان فعلاً في موقع قتال. غاندي قال عن هذا الإشكال إن المعركة المذكورة هي معركة الإنسان في الحياة والتي لن تحل، والمشكلة هي أن العنف هو عنف موجه ضد أخي الإنسان في كل لحظة، والحل هو إمكانية رؤية كريشنا ليس فقط فيَّ أنا بل في كل إنسان. كريشنا يقول في الكتاب: أنا القاتل والمقتول وأداة القتل. -

في لندن أيضًا قرأ مفتاح الثيوصوفيا للسيدة بلافاتسكي الذي دفعه إلى التعمُّق في الهندوسية ورسَّخ فيه قناعة بأن الأديان، وإن اختلفت في تجلِّياتها التاريخية، فهي واحدة في ينبوعها الأصلي.

في 10 حزيران 1891 رُسِمَ غاندي محامياً وعُيِّن في محكمة الاستئناف، فأبحر عائدًا إلى مومباي. لدى عودته إلى الهند بحث غاندي عن فرصة عمل مناسبة تسمح له بممارسة المحاماة وبالمحافظة، في الوقت نفسه، على المبادئ التي نشأ عليها. كانت بداياته صعبة، زاد من مشقتها حياؤه الشديد واستقامته القصوى؛ لذا لم يصب إلا نجاحًا محدودًا في ممارسة المحاماة في راجكوت ومومباي، ثم خدم لفترة وجيزة محاميًا لأمير بوربندر.

تسنَّى لغاندي عام 1893 أن يذهب إلى جنوب أفريقيا ممثِّلاً قانونيًا لأصحاب شركة مسلمين في قضية تعويضات عن خسائر في بريتوريا، عاصمة الترانسفال في اتحاد جنوب أفريقيا. ما كان للوضع في جنوب أفريقيا، في تلك الفترة من الطفرات الاقتصادية التي تحتدم فيها الصراعات الاجتماعية والعرقية، أن يترك غاندي غير مبالٍ. هناك بدأ المحامي الحَيِيُّ الشاب باكتشاف نفسه. فبينما كان مسافرًا ذات مرة في مقصورة درجة أولى في ناتال أمره رجل أبيض بالمغادرة. امتثل غاندي للأمر ونزل من القطار، ثم وصرف الليلة كلها في محطة قطار متفكِّرًا، وخرج عازمًا على العمل على استئصال التمييز العرقي. لقد راعته كيفية معاملة الجالية الهندية التي كانت آنذاك تعاني التمييز نفسه الذي يعاني منه سكان البلاد الأصليين السود، فشنَّ حربًا لا هوادة فيها على صعيدين: صعيد العمل السياسي، وصعيد الجهاد ضد المظالم الاجتماعية، مطالبًا للهنود بالاعتراف بالحدِّ الأدنى من الكرامة الإنسانية والمدنية، محاربًا التمييز بوجوهه القانونية والاقتصادية والاجتماعية (يصحُّ هذا أيضًا على جهاده اللاحق في الهند). وهذه القضية استبْقته في جنوب أفريقيا ليس سنة، كما كان يفترض، بل حتى عام 1914.

بعيد حادثة القطار دعا غاندي إلى عقد أول اجتماع لهنود بريتوريا حمل فيه على نظام التمييز العرقي. وقد أصاب، بترافعه عن قضية الهنود المظلومين في الناتال والترانسفال، نجاحًا ملموسًا أمام المحاكم. وفي عام 1896 ذهب إلى الهند ليصطحب كاستورباي وابنيه إلى أفريقيا. وقد تسربت أخبارٌ عن خطاباته هناك إلى أفريقيا؛ لذا عندما عاد غاندي إلى جنوب أفريقيا رجمه الغوغاء وحاولوا إعدامه إعدامًا تعسفيًا.

كانت الفترة التي أمضاها غاندي في جنوب أفريقيا من أهم مراحل تطوره الروحي والفكري والسياسي، حيث أتيحت له فرصة تدقيق قناعاته وثقافته الروحية وتعميقها، والاطلاع على ديانات وعقائد مختلفة، ووضع نهج أصيل في العمل السياسي، وتطبيق قناعاته الأخلاقية والسياسية، حتى على صعيد الحياة الأسرية.

هكذا وضع غاندي فنَّ مقاومة جديدًا كلَّ الجدة، يرتكز إلى مقومات روحية واقتصادية وسياسية في آن معًا. ففي عام 1907 حرَّض كافة الهنود في جنوب أفريقيا على تحدي ما يُعرَف بـ"المرسوم الآسيوي" الذي يفرض على كل الهنود تسجيل أسمائهم وبصماتهم في سجلات خاصة. وقد عوقب على هذا النشاط بالحبس مدة شهرين، ثم أُطلِق سراحه بعد أن وافق على التسجيل الطوعي. وقد قرأ وهو يصرف عقوبته الثانية في السجن مقالة الفيلسوف الترانسندنتالي الأمريكي هنري دافيد ثورو (1817-1862) العصيان المدني التي أثرت فيه تأثيرًا عميقًا وعززت قناعته بضرورة رفض الانصياع لنظام جائر. – قانون الضمير أعلى من القانون الوضعي الجائر. والحقيقة هي أن ثورو كان حالة جديدة في الولايات المتحدة لأنه أول إنسان فيها رفض أن يدفع ضريبة للحكومة التي تشن حرب على المكسيك، ورفض أن يدفع ضريبة لحكومة توجد، ضمن قوانينها، قوانين التمييز العنصري. وقد سجن. ولولا صديقه وأستاذه الفيلسوف إمرسن لكان بقي في السجن فترة طويلة -. كما قرأ أيضًا كتاب الروائي الروسي العظيم ليف تولستوي خلاصكم في أنفسكم، الذي رسَّخ معارضته لتبشير أصدقائه المسيحيين (ولاسيما "الكويكرز" منهم)، - يقول تولستوي إن الخبرة الدينية الحية، التجربة الحقيقية، لا يُبشر بها، بل هي شيء يعاش. كان هناك الكثير من أصدقاء غاندي المسيحيين، وخاصة الكويكرز، يحاولون تبشيره، وتولستوي، عبر كتاباته، هو من أقنعه أن هذا بلا معنى. في هذا يقول غاندي ما المعنى من الانتقال من الهندوسية إلى المسيحية مادام الروح الإنساني لاديني. الروح العميق في كل إنسان غير خاضع لأية ديماغوجية دينية، ما يخضع للدين هو الشخصية الظاهرة – ومقالاته التي كان يدعو فيها إلى المقاومة اللاعنفية للسلطة الفاسدة، فكانت بين الرجلين العظيمين مراسلة هامة بين عامي 1909 و1910. قرأ كذلك كتاب المصلح الإنكليزي جون رَسْكن حتى آخر رجل الذي بشَّر فيه المؤلَّف بكرامة العمل اليدوي ونادى بالعودة إلى الروح الجماعية والحياة البسيطة.

نحن نتتبع الآن جملة المؤثرات التي أثرت على غاندي حتى استطاع تشكيل نظرية متكاملة في اللاعنف، وهي:

1.    وحدة التجربة الدينية بمعناها الروحي العميق،

2.    فكرة العصيان المدني ووضع ضمير الإنسان فوق القانون الوضعي الجائر،

3.    تولستوي ومعنى المسيحية الحقيقي كما فهمه، وهو في الواقع اللاعنف بمعناه المطلق،

4.    جون رَسْكن الذي حاول إيجاد مفهوم للمجتمع الصغير البسيط المكتفي ذاتيًا. وسوف نرى كيف استفاد غاندي من هذا عبر تأسيس جماعات صغيرة تحاول العيش من جنى يديها، وحاول تعميم هذه التجربة على القرية الهندية فيما بعد. غاندي كان مؤمنًا باقتصاد القرية، وهذا مبدأ أساسي في، إن جازت التسمية، النظرية الاقتصادية الغاندية؛ إذ يجب الإنطلاق من فكرة الإكتفاء الذاتي في الوحدة الاجتماعية الأصغر، التي هي القرية، إلى الوحدات الأكبر.

مما لا شك فيه، ومهما حاول كل طرف أن يشد غاندي إليه، أن غاندي هو ابن الهندوسية، والتراث الروحي الهندوسي هو الذي زوَّده بالأدوات الفكرية والنفسية والعملية للعمل الداخلي. إن نهجه الحياتي يندرج فيما يُعرَف في الهند بالـكرما يوغا karma-yoga – يوغا العمل؛ وقوامه رياضة يومية دائمة تستهدف سيادة المرء على حواسه وأهوائه وشهواته، بواسطة الاكتفاء بالقليل طعامًا ولباسًا، والصيام البدني والنفسي، والطهارة – طهارة القلب والبدن – والصلاة، وجمع الحواس، والصمت الداخلي (نذر غاندي يوم الاثنين من كلِّ أسبوع يوم صمت)، وعدم التعلق بنتائج العمل، نجاحًا أو فشلاً، والزهد في ثماره، بل تقديم هذا العمل قربانًا للإله. فمن شأن هذه الرياضة أن تشحذ الملكات الفكرية والنفسية والبدنية للمرء، وتُحرِّرها من ربقة الأنانية، بما يجعلها أداة حاضرة طيِّعة لاستقبال التحول الروحي الداخلي وإنفاذ إلزاماته القاهرة في الحياة العملية. ومع ذلك فقد ترك غاندي هامشًا للضعف البشري: "المحبة والاستئثار بالملكية لا يجتمعان [...]. الجسم هو آخر ما نملك. لذا فإن المرء لا يقدر أن يحب محبة كاملة وأن يزهد في كلِّ ملكية ما لم يكن مستعدًا لقبول الموت والتضحية بجسمه في سبيل الإنسانية. لكن هذا يصحُّ نظريًا وحسب. أما في الواقع فلن نقدر أن نحب محبة كاملة لأن الجسم، باعتباره ملكيَّتنا، سيبقى معنا. سيظل الإنسان ناقصًا، وسيكون قدرُه دومًا أن يتشوَّق إلى الكمال."

تبنى غاندي، في البداية، مبدأ اللاتعاون، واستعمل في الفترة الأولى مصطلح اللامقاومة الذي استعمله تولستوي، والمقصود به عدم مقاومة الشر بالشر، وهذا، بنظر تولستوي، التعبير الأبسط عن عمق المسيحية. وجد غاندي أن كلمتي اللاتعاون واللامقاومة لا تؤديان المعنى المطلوب فأطلق على برنامج المقاومة اللاعنفية الجماهيرية الذي وضعه اسم ساتياغراها satyāgraha (ساتيا = "حقيقة"، وأغراها = "قبض")؛ وهذا المصطلح بالسنسكريتية يعني تقريبًا "الاستمساك بالحقيقة" (ترجمه غاندي بـ"القوة النابعة من الروح"، بينما حاول لويس ماسينيون نقل معناه بـ"المطالبة المواطِنية بالحقيقي" revendication civique du vrai). فبما أن الكذب والظلم الناجمين عن الأنانية البشرية يحجبان، بعنفهما، الحقيقة التي فُطِر عليها الإنسان فإن الـساتياغراها لن تقاوم العنف بعنف مماثل. هنا يأتي دور مفهوم أهمسا ahimsā (أ = أداة نفي، وهمسا = أذى) الهندوسي القديم – النابع من المفهوم الأول – الذي تبنَّاه غاندي والذي، برأيه، هو أول قوانين الحياة. أهمسا هو، بالدقة، "كفُّ الأذى" عن كل المخلوقات، وهو، تعميمًا، الرحمة أو المحبة. وحده اللاعنف، بنظر غاندي، قادر على استعادة الحقيقة. وقد كتب بهذا الصدد: "ساتياغراها ليس العصيان المدني حصرًا، بل سعي هادئ لا يقاوَم إلى الحقيقة." لقد كانت الحقيقة طوال حياة غاندي كلها هاجسه الأوحد، كما يعكس عنوان سيرته الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة. الحقيقة بنظر غاندي لم تكن مطلقًا مجردًا مبهمًا، بل مبدأ ينبغي اكتشافه اختباريًا في كل حالة على حدة. الحقيقة، في خبرته، هي الغاية واللاعنف هو وسيلتها. من هنا فقد اهتم بصفة خاصة بالوسائل المستعمَلة لبلوغ الغاية، مؤكدًا أن الوسائل تصنع الغاية بالضرورة. لذا يتخذ اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضه، منها الصوم، والمقاطعة، والاعتصام، والعصيان المدني، والترحيب بالسجن إذ حصل، ورباطة الجأش أمام الموت. كتب أيضًا: "اللاتعاون ليس حركة تبجح ولا هو تظاهُر. إنه امتحان لإخلاصنا. على أتباعه أن يعقدوا العزم على التضحية بأنفسهم. إنه نداء موجَّه إلى صدقنا وإلى مقدرتنا على العمل من أجل الأمة وحركة تهدف إلى ترجمة الأفكار إلى أفعال [...]. من يمارس اللاتعاون يسعى إلى لفت الانتباه وتقديم القدوة الحسنة، ليس بالعنف لكنْ بالتواضع الراغب عن الظهور. فهو يترك عمله المكين ينطق عن إيمانه، وقوته تكمن في ثقته بعدالة قضيته [...]. الكلام، خاصة إذا نطق عن غرور، يشي بنقص في الثقة [...]. لذا فإن التواضع هو مفتاح النجاح السريع." هذا مردُّ دعوة غاندي أتباعَه إلى الانتصار بالمحبة، لأن من شأنها وحدها أن تعطي الساتياغراهي المنعة الروحية، والتواضع، والإقدام، والاستعداد للتضحية من أجل رفع الظلم (= الظلمة) عن الذات وعن الخصم. صحيح أن غاندي يشترط لنجاح هذا النهج تمتُّع الخصم ببقية من ضمير وحرية تمكِّنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع خصمه، لكنه لم يفقد لحظه إيمانه بأنه لا يوجد إنسان واحد على الأرض يعدم هذه الصفات تمامًا.

من هذه المنطلقات قرر غاندي إنشاء تعاونية مشاعية مؤلفة من المقاوِمين المدنيين، أطلق عليها اسم "مزرعة تولستوي"، تيمُّنًا بمعلِّمه الكبير، مستبدلاً بثيابه الأوروبية زيًا هنديًا. وهناك عكف على القيام بأشغال يدوية من أجل العمال غير المأجورين من الطوائف الخارجية وشجَّع كاستورباي على القيام بذلك أيضًا. ويعود إلى تلك الفترة تمرُّسه على الصيام. وفي عام 1906 نذر وزوجَه العفة بعد أن رُزِقا أربعة أبناء، وأشاد بـبراهماتشاريا (= نذر العفة) وسيلة لضبط النسل وللطهارة الروحية، وبدأ أيضًا يحيا حياة فقر إرادي. وعلى الصعيد السياسي، أسَّس صحيفة الرأي الهندي التي صارت لسان حاله.

لن ندخل في تفاصيل النضال، ولكن يجب أن نلاحظ مرونة غاندي الهائلة. فبعكس ما درجنا عليه في مجتعاتنا من اعتبار الخصم عدوًا نسقط عليه كل الصفات الشائنة كان غاندي، من خلال تحليله للجملة الاجتماعية والإنسانية والسياسية والاقتصادية التي يوجد فيها قاس وصارم في نقده لنفسه وجماعته بمقدار ما هو قاس وصارم في نقده الخصم.

كان وجود غاندي في جنوب افريقيا فعالاً جدًا فقد استطاع إلغاء كل القوانين الجائرة التي كانت مفروضة على الملونين. ولكن أهم انجاز حققه هو إعادة الثقة إلى أبناء الجالية الهندية المهاجرة، وتنمية إحساسهم بكرامتهم الإنسانية، وتخليصهم من عقدتي الخوف والنقص.

وعلى التوازي، اهتم غاندي بالتهذيب المعنوي والخلقي – بادئًا بنفسه. لقد كان يعتبر بأن أحد أسباب العداء والنظرة الدونية اللذين يكنُّهما البيض للهنود هو نوع من الصفاقة وعدم الاكتراث بالهندام، وحتى القذارة البدنية، لدى قسم من الجالية الهندية. من هنا اهتمامه الشديد بالطهارة، خلقية كانت أم بدنية (لقد قرَّب طريقة البيض التمييزية في معاملة الهنود من طريقة الهندوس الطائفيين في معاملة "المنبوذين").

على الرغم من مناوئته للحكومة، لم يستنكف عن مناصرتها وقت الأزمات والشدائد – إذ نظَّم مجموعات من المتطوعين الهنود خدموا كممرضين إبان الحرب ضد البووِر والحرب العالمية الثانية – لأنه كان يرى بأن الهنود لم تكن تحق لهم المطالبةُ بحقوق الرعايا البريطانيين ما لم يتحمُّلوا واجباتهم ومسؤولياتهم كاملة كمواطنين. وقد كتب بخصوص الواجب: "المصدر الحقيقي للحقوق كلِّها هو الواجب. إذا قام كل منا بواجبه فإن الحقوق سوف تتوطد من تلقاء ذاتها [...]. العمل هو الواجب، والحق هو ثمرته."

في كانون الثاني من عام 1915، بعد إنجازه مهمتَّه في جنوب أفريقيا، عاد غاندي إلى الهند بعد إقامة قصيرة في بريطانيا. وقد أطلق عليه رابندرانات طاغور لقب "مهاتماجي" الذي عُرِف به مذ ذاك. وإبان السنوات الأولى التي تلت هذه العودة انخرط غاندي في نشاطات متعددة. لقد كان وضع الهند مزريًا يعجُّ بالمظالم الاجتماعية: بؤس يكاد يكون معمَّمًا (ولاسيما في الريف)، الوضع الاجتماعي والتعليمي المتدنِّي للمرأة، وضع المنبوذين، والتعصُّب الديني الأعمى الذي يغلب على العلاقات بين الهندوس والمسلمين.

بدأ غاندي أولاً (1916-1917) بمسح ميداني شامل للريف الهندي، كان من نتائجه أنه ناضل لتحسين المصير البائس للفلاحين الذين كانوا يزرعون النيلة لحساب المُلاك الأوروبيين في منطقة تشامباران، وتصدى للدفاع عن اليد العاملة في صناعة النسيج في أحمد آباد. في كلتا الحالتين استعمل غاندي اللاعنف والعصيان المدني والصوم، ولاسيما في إضراب أحمد آباد الذي استهدف الضغط على أرباب العمل، بمخاطبة قلوبهم، وعلى العمال، الذين كانت عزيمتهم قد بدأت تلين؛ وفي كلتا الحالتين تُوِّج جهاده بالنجاح. في أثناء ذلك كان الناسك الوديع، مرتديًا الـدهوتي وطاعمًا كأفقر الفقراء، معلنًا أن العمل اليدوي لا غنى عنه لمن يريد أن يسير على صراط الحق، يكسب ملايين القلوب في فترة جيشان عظيم، حاثًا إياهم على المقاومة وعلى التجدد الروحي. قال: "إن استغلال الفقراء لا يُزال بالقضاء على بضعة أثرياء، بل بتعليم الفقراء الذين يجب تلقينهم عدم التعاون مع سادتهم. فمن شأن هذا أن يوقظ السادة أيضًا. لا بل إني أتنبأ بأن هذا الإجراء سوف يؤدي إلى جعلهم جميعًا شركاء متساوين. رأس المال ليس شرًا بحدِّ ذاته، إنما استعماله الشرير هو الذي يجعل منه شرًا."

في حادثة أمريتسر، التي قُتل فيها عدد كبير من المصلين في المعبد الذهبي، حُسمت أمور كثيرة بالنسبة لغاندي حيث أكد حينها أن لابد من المطالبة بالحكم الذاتي - لم يكن قد طرح بعد فكرة الاستقلال-. بعد حادثة أمريتسر قال غاندي: "يود البريطانيون أن يجري القتال بطلقات الرشاشات [...]. لذا فإن الوسيلة الوحيدة لضمان انتصارنا هي أن نفعل ما من شأنه أن ينقل المعركة إلى مجال نملك نحن السلاح فيه فيما هم يعدمونه."

وهكذا ردَّ غاندي على تعنُّت بريطانيا باللاتعاون مع المحاكم والمحلات والمدارس البريطانية؛ الأمر الذي اضطر الحكومة إلى إعلان إصلاحات مونتاغو–شلمسفورد. وفي عام 1922 حوكِم غاندي وحُكِم عليه بالسجن مدة 6 سنوات، ثم أطلِق سراحه لإجراء عملية عاجلة لاستئصال الزائدة الدودية (تلك كانت آخر مرة يُحاكَم فيها).

أوضح غاندي، بما لا يدع مجالاً للبس، أن اللاعنف ليس عجزًا أو ضعفًا، ذلك لأن "الامتناع عن القصاص ليس عفوًا ما لم تكن القدرة على القصاص موجودة أصلاً" (هند سواراج)؛ وهو كذلك لا يعني الاستكانة للظلم عن خوف أو عن جبن: "أهمسا والخوف لا يجتمعان." (الهند الفتاة) بل ذهب حتى تفضيل العنف على الجبن والخنوع: "إنني قد أخاطر باستعمال العنف ألف مرة بدلاً من خصاء عرق بشري بأكمله." (هند سواراج) وكتب أيضًا: "أفضل أن تلجأ الهند إلى السلاح دفاعًا عن شرفها على أن تصير أو تبقى، عن جبن، شاهدة عاجزة على هوانها. لكنني أعتقد أن اللاعنف أسمى من العنف بما لا يقاس، وأن العفو أكثر شهامة من القصاص [...]. لكن العفو لا يمكن أن يُمنَح إلا عند وجود المقدرة على القصاص؛ فهو يعدم المعنى إذا أتى من عاجز [...]. لكني لا أحسب أن الهند عاجزة. ولا أعتبر نفسي مخلوقًا عاجزًا. إنما أريد أن أستعمل أسلحة الهند وقوتي أنا في سبيل غاية أسمى." بذلك خرج غاندي، منذ البداية، من الدروب المطروقة.

إن الردَّ على العنف بالعنف – عنف البشر وعنف المواقف إجمالاً – لا يمكن إلا أن يضاعِف الشر – وإن نجم عنه في الظاهر مكسبٌ آني. فبما أن الغاية هي العثور على حقيقة يحجبها عنفُ البشر، أو إظهار حقيقة ما تزال غير منطوق بها لكنها معرضة للتلاشي، فإن الدرب الأوحد الممكن هو الدرب الذي يُحبِط مساعي العنف. ينطوي اللاعنف، إذن، على تقدير للمخاطر من أينما أتت، على قوة معنوية قادرة، من حيث الإمكان، على النضال بالعنف إذا انعدمت الخيارات الأخرى تمامًا؛ لكنه ينطوي أيضًا على قوة إضافية، على تجاوز للعنف، وعلى تركيز بطولي على أن الرهان الحقيقي في أي صراع ليس الفوز بالنصر، بل الإخلاص للحقيقة.

من هنا ينطلق ديالكتيك اللاعنف الذي لا يمت إلى ديالكتيك كلٍّ من هيغل وماركس بصلة؛ إذ إنه ديالكتيك حرية، وليس ديالكتيك الضرورة التاريخية. إن وظيفة أهمسا العليا هي تنبيه الخصم إلى مسؤوليته. بالمقاطعة، والصوم، وقبول السجن، وحتى التضحية بالنفس، لا يبقى للخصم من مخرج إلا في أن يعي أنه متواطئ على وضع غير مقبول إنسانيًا؛ وبما أن الساتياغراهي لا يريد الخسائر، بل يكابدها، فإن تواطؤ الخصم على الجور يتضخم وينفضح. إن الساتياغراهي، بامتناعه عن أيِّ عدوان، لا يتضامن مع العنف، بل يستدعي بقية الحرية التي ما تزال سليمة في نفس خصمه؛ إنه بذلك ييسِّر على الأقل لهذه الحرية، إذا ما كانت ناجية، ألا تتذرع بشيء يحول بينها والمواجهة الداخلية – لا بل "يرغمها" على هذه المواجهة، إذا جاز التعبير – بحيث يمكنها عندئذٍ أن تبادر إلى الحوار. وباختصار، يفتح اللاعنف للآخر طريق الرجوع عن خطئه. ويمكن لمناخ من الموضوعية عندئذٍ أن يقرِّب بين وجهات النظر بغية التفاهم أو التكامل، باسترداد الحقيقة الضائعة أو باكتشاف حقيقة كامنة. هذا التجاوز للعنف يمضي غاندي به حتى نسيان التوتر وجروح المعركة: "العفو حلية المجاهد." (السيرة الذاتية) هذا الفيض من الشهامة هو الذي جعل غاندي يستحق فعلاً لقب "مهاتما" الذي أسبغه عليه طاغور.

من القضايا الأخرى التي اعتنقها غاندي تحسين حال "المنبوذين" – أعضاء الطوائف الدنيا – الذين أطلق عليهم اسم هارِجان Hārijān (= "أبناء الله") واعتبر وضعهم المزري سُبَّة في جبين الهند، لا تليق بأمة تسعى لتحقيق الحرية والاستقلال والخلاص من الظلم؛ فالـسواراج، برأيه كان متعذرًا ما دام هذا التمييز موجودًا. - المنبوذ هو من يولد خارج الطوائف الأربع التي ذكرناها سابقًا. وقد كان الهندوس المتشددون يعدون المنبوذين دنسين لا يجوز التعامل معهم إلا عبر تكليفهم بأعمال يأنفون منها ...

كاجو كاجو: هل طبقة الهندوس طبقة مغلقة؟ أي هل يمكن أن يُعاقب بعض الناس بوضعهم في هذه الطبقة، أو بسبب الفقر مثلاً؟

ديمتري: كلا، يولد المرء في طبقة معينة ويبقى فيها... وقد تصاعد جهاده عندما قررت بريطانيا بعد المائدة المستديرة الثانية تسجيل الـ 50 مليونًا من المنبوذين في قائمة انتخابية على حدة. ففي 20 أيلول 1932، بعد فشل مراسلته مع الحكومة وتبنيها القانون، بينما كان في سجنه، شرع في صيام "حتى الموت" احتجاجًا على قرار الدولة هذا الذي رأى فيه تكريسًا نهائيًا لمنزلة المنبوذين الاجتماعية المتدنية (وبهذا واجه زعيمهم د. بهيمراو أمبدكر الذي كان يؤيِّد انتخابات منفصلة كضمانة سياسية لتحسين حالهم). وفي اليوم السابع، بينما كانت الهند بأسرها، مشدودة صامتة، تتابع تدهور حالة غاندي الصحية، وبعد أن تمكَّن القادة والزعماء الدينيون بصعوبة من ثني أمبدكر عن موقفه، قَبِل البريطانيون بالتنازل الذي وضع حدًا لخطر التمييز السياسي بين المنبوذين وهنود الطوائف وتم التوصل إلى ميثاق بونا الذي قضى بزيادة عدد المقاعد المخصصة للنواب المنبوذين وإلغاء نظام التمييز الانتخابي. وكنتيجة لصوم غاندي فُتِحَت بعض المعابد لطوائف خارجية للمرة الأولى في تاريخ الهند. وقد تواصل جهاد غاندي هذا: رمزيًا عبر مقالاته في أسبوعيَّته هارجان، وفعليًا بضغطه، اعتبارًا من عام 1937، على الوزراء المؤتمريين لكي يلغوا قانونيًا التشريعات التي تحدُّ من تحسين وضع المنبوذين.

ما تلا معرف، وما من شك أن استقلال الهند كان مأساة في نظر غاندي بسبب التقسيم.

السبب المباشر لموت غاندي هو اغتياله على يد هندوسي متشدد، فقد وصل غاندي في "تنازله" للمسلمين حتى لا تنقسم الهند إلى حدود غير "مقبولة"، ذلك أنه طلب من نهرو التنازل عن رئاسة الوزراء لمحمد علي جناح. تأسيس باكستان قصة طويلة ويمكن أن نلفت النظر إلى أنه، إلى جانب تأسيس إسرائيل في العصر الحديث، هي الدولة الوحيدة التي تقوم في تأسيسها على أساس ديني بحت.

أخيرًا، بين المعترضين على حظوظ الانتفاضة اللاعنفية التي وضع غاندي أسسَها من النجاح هناك مَن يختزلها إلى الظروف الاستثنائية التي سمحت بتحقيقها، حجَّتهم في ذلك أن استعمال الديالكتيك الغاندي كان ممكنًا نظرًا لأن الهند وإنكلترا كانتا تشكلان، سياسيًا واقتصاديًا، منظومة مغلقة؛ لكنْ مع العولمة التي تفجر المنظومات المغلقة لم يعد بإمكان هذا الديالكتيك أن يفلح. على هؤلاء نجيب بأن العولمة قد تزيد من حظوظ نجاح اللاعنف، من حيث إن تضامن الشعوب، فيما يتعدى الحدود القومية والدينية، من شأنه أن يضغط على استبداد الحكومات وتعسفها. كذلك فإن العولمة – على علاتها – تنطوي برأينا على أمل حقيقي بانتفاضات لاعنفية إيجابية ضد الحروب، والاحتلال، والتطهير العرقي، وعدوان الدول الكبرى، والهوة السحيقة الفاصلة بين دول الشمال المتقدمة ودول الجنوب التي هي بأمس الحاجة إلى التنمية.

في كتاب على خطى غاندي[3] توجد أمثلة عديدة على حركات لاعنفية استلهمت، بحسب ظروفها وإمكاناتها، الفكرة الغاندية.

يبقى أنه في هذا العالم الذي يتقنَّع فيه العنف كل يوم بوجوه جديدة – تدمير الطبيعة وصيد الأنواع حتى الانقراض، الاستعمال الأرعن للحيوان في التجارب المخبرية، وسائل الإعلام وأفلام العنف، الرياضات "الجماهيرية"، الإدمان المتزايد على المخدرات، تفشي الدعارة المنظَّمة المتعدِّية للجنسيات، ألعاب الفيديو، الإنترنت، الخطر النووي، لعبة الديمقراطية، الإرهاب (الأصولي وغير الأصولي) ومكافحته، بطش القوي ماديًا بالضعيف ماديًا – من واجب الآخذين باللاعنف نهج حياة، بدون أن يتزحزحوا عن موقفهم الداخلي الأساسي، أن يبتكروا أساليب عمل جديدة، وأن تتفتق عبقرية الحقيقة الكامنة في مذهبهم عن تجلِّيات بكر.

ولا ريب أنه، في حال اقتنعت أقلية رائدة بضرورة اللاعنف المصيرية من أجل نجاة الجنس البشري، لن تستطيع هذه الأقلية أن تشق له دربًا في التاريخ، على خطى سقراط والناصري والحلاج وغاندي، إلا بشقِّ النفس وببذل تضحيات جِسام، لا لشيء إلا لأنه لا يفصل جهادَ النفس عن جهاد البشر. فليس عبثًا أنْ قيل في غاندي إنه كان "قديساً بين رجال السياسة، ورجل سياسة بين القديسين".

شكرًا لحسن إصغائكم.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  النص الأصلي للمحاضرة منشور في معابر على الرابط: http://www.maaber.org/eighth_issue/ghandi.htm وقد وجدنا أن نضع المحاضرة هنا كما أُلقيت في الورشة، حيث أنه وبسبب ضيق الوقت، كما بسبب عرض

      فيلم عن حياة غاندي أثناء أعمال الورشة، لم تتم قراءتها بالكامل. (المحررة).

[2]  فلسفة اللاعنف، ديفيد مكرينولدز، ترجمة ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2009.

[3]  على خطى غاندي: حوارات مع مناضلين روحيين اجتماعيين، كاثرين إنغرام، ترجمة أديب الخوري، تدقيق ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود