تقييم... وأفق مفتوح على المستقبل
مداخلة ختامية

 

ديمتري أڤييرينوس

 

الأخوات والإخوة الأعزاء،

بادئ ذي بدء، أعتذر منكم، بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن جميع الأساتذة والأصدقاء الذين طرأ عليهم ظرف صحي أو نفسي أو عملي اضطرهم إلى التغيب عن الورشة أو إلى المغادرة قبل انتهائها. هذا شيء مما يقع في مجال اللامتوقَّع، ويجب التعامل معه كما يأتي؛ ولا أعتقد أنه أثَّر سلبًا على مسار الورشة الإجمالي. سأبدأ بإيراد ثلاث ملاحظات عامة وأمنية، ثم أحاول فتح أفق رجاء على المستقبل.

في خصوص توزيع البرنامج مسبقًا على المشاركين، أنتم محقون. لكننا، في ورشتنا هذه، لم نستطع وضع البرنامج قبل وصول جان ماري من فرنسا والتنسيق معه، باعتباره المحاضر الرئيسي. ثم انهمكنا في سلسلة من النشاطات رتَّبناها له (محاضرات ولقاءات)، ففاتنا أن نرسل البرنامج إلى الجميع. ناهيكم أن البرنامج عُدِّل عدة مرات بعد اعتذار الأساتذة الأصدقاء عن المجيء. هذا ليس تبريرًا لتقصيرنا، وسنتداركه في المرة المقبلة.

القصور في الطريقة التي أديرَ بها النقاشُ في الجلسات بيَّن أننا في حاجة ماسة، في المرات المقبلة، إلى مدير(ة) للجلسة لتقديم الموضوع قيد المحاضرة و/أو المناقشة، للتذكير بضرورة احترام البرنامج قدر المستطاع والتقيد بالزمن المخصص، لضبط مسار النقاش والحيلولة دون الشطح عنه، وللتوسط في حلِّ النزاعات الممكنة بين المتناقشين "لاعنفيًّا" – وكل ذلك في حزم ومودة في آنٍ معًا!

لوجستيًّا، فيما يتعلق بتوفير المادة المقروءة قبل انعقاد الورشة، بحيث يطلع عليها المشاركون مسبقًا فيخصَّص وقتٌ أطول للحوار، افترضنا أن قاموس اللاعنف (الذي هو المرجع الأساسي المتيسر بالعربية للاطلاع على مجمل فلسفة جان ماري مولِّر ومنهجيته التطبيقية[1]) هو المادة التي يمكن لكلٍّ منَّا الرجوع إليها للاطلاع على مضمون المحاضرات والمداخلات. ومما ذكر عدد من الأصدقاء يبدو أن هناك رأيين: بعضهم [رجا ديب، غياث جازي] يقول بأن المادة يجب أن تكون متوفرة قبل المحاضرة، وبعضهم الثاني [هلا شامية] يقول بأن توفر المادة وقراءتها مسبقًا يستبعد عنصر التشويق ويزيل الدهشة. هناك، إذن، حسنات وسيئات لتوفير المادة مسبقًا. سننظر في الأمر على كلِّ حال.

حبذا لو كانت لدينا الإمكانات المادية لتوفير أجهزة للترجمة الفورية. إذ كان من الممكن لها، لو وُجِدَتْ، أن تختصر مدة كلِّ محاضرة إلى النصف على الأقل، وخاصة مع أخذ عنصر التعب في الحسبان (الإيقاع مساءً يكون أبطأ كثيرًا منه صباحًا) والجهد الذي يبذله الجميع في المراوحة بين اللغتين (والذين يجيدون اللغتين يستمعون مرتين إلى الكلام نفسه ويتعبون أكثر). نتمنى، إذن، أن تُتاح لنا يومًا ما إمكانيةُ توفير مثل هذه الأجهزة، لأنها تخفف عبئًا ذهنيًّا كبيرًا عن المترجم، أولاً، تختصر الوقت، ثانيًا، وتساعد على التفاعل الآني المباشر مع أفكار المحاضر وانفعالاته، ثالثًا. في خصوص اللوح للكتابة، نعدكم بأننا سنوفِّره في المرة القادمة، حتى لا يضطر جان ماري إلى تسويد جدار بيت أكرم!

* * *

البشرية ضعيفة... ولكن الإنسان قوي! – قوي بالأخص إذا كان يعمل من خلال الجماعة الإنسانية المتناغمة، المتكاملة، المتحابة. هناك فارق كبير بين حالتنا البشرية الراهنة وبين الحالة الإنسانية التي يتوق قطعًا إلى تحقيقها كل منا: نحن جميعًا نتمنى أن نصل إلى حالة إنسانية أرقى وأجمل! وبالتالي، مطلوب من كلٍّ منا – وهذا أفق مفتوح على المستقبل – أن يكون حسابه بينه وبين نفسه أعسر، وأدق، وأعمق. وعن نفسي، على الأقل، هذا ما أحاول أن أفعله من الآن.

في خصوص "التوترات" التي حصلت، أعتقد أن سببها بسيط، لكن جذورها عميقة في الوقت نفسه. حالة التوتر والنزاع هي حالة بشرية طبيعية، بل صحية، ناتجة عن الاختلافات فيما بيننا؛ وما من شيء بين مظاهر وجودنا أكثر أصالة من الاختلاف. "الحساب" الذي ذكرتُه لتوِّي يجب أن يبدأ فعلاً بيننا وبين أنفسنا لرياضة أنفسنا وتوطينها على القبول، قبول الاختلاف، شريطة ألا نضطر إلى رفض العنف الذي نتشابه فيه! فالشيء الذي لا يمكن التسامح معه أبدًا – وهو ما يذكره جان ماري في القاموس، وما شدَّد عليه مرارًا في أثناء الورشة – هو العنف، العنف الفكري واللفظي في حالتنا. ولكن مادمنا في حقل الفكر والرأي والخصوصية الإنسانية والتنوع الثقافي – تلك الألوان... التي تزدهي بها حديقة الله الرائعة... التي هي عالمنا العجيب – فنحن في مجال الحوار والتفاعل والاغتناء المتبادل – ولا حوار ولا تفاعل ولا اغتناء أصلاً إلا بين مختلفين!

هناك شيء يجب أن ندركه في عمق، وهو أنه من أجل تحقيق هذه الغاية نحتاج إلى منطق مختلف للتعامل فيما بيننا. المنطق الذي نتعامل به الآن لا يزال المنطق الذي قرَّره أرسطو منذ حوالى 2400 سنة؛ وهو منطق ثنوي dualiste يقوم على ثلاث مسلَّمات:

1.    مسلَّمة الهوية: أ = أ؛

2.    مسلَّمة عدم التناقض: أ نفي أ؛ و

3.    مسلَّمة الثالث المرفوع (المستبعَد) – وهاهنا محل الخلاف – القائلة بأنه لا يوجد حد ثالث ث يساوي أ ونفي أ في الوقت نفسه.

إذًا فالمنطق الأرسطي، في جانب منه، هو منطق صراع، منطق "استبعاد" exclusion، لا يمكن أن تتم من خلاله محاولةٌ للجمع بين الأضداد. "الثالث المرفوع" le tiers exclu، بطبيعته، عاجز عن تحقيق مثل هذا الجمع. فإذا مَوضَعْنا مسلَّمات هذا المنطق على صعيد كلٍّ منا في علاقته بالآخر لصارت:

1.    أنا أنا؛

2.    أنا لست الآخر؛ و

3.    لا يوجد طرف ثالث يوفِّق بيني وبين الآخر.

الأضداد، إذن، في المنطق الأرسطي، ثنائيات متناوئة، يستبعد بعضها بعضًا. وهذا ما يحصل في العالم بين أي طرفين في أية حالة نزاع: فمادام ليس في مقدورنا إيجاد فسحة للتوفيق بين الضدين، سنبقى حبيسي منطق الاستبعاد والصراع. نحتاج، إذن، إلى منطق جديد مختلف. هذا المنطق الجديد وضع مبادئه إپستمولوجي فرنسي روماني الأصل اسمه ستيفان لوپاسكو، وطوَّره صديقنا الفيزيائي بَسَراب نيكولسكو[2]. بحسب هذا المنطق، هناك في الطبيعة، جوهريًّا وفيزيائيًّا، وفي النفس البشرية، وفي العلاقات الإنسانية أيضًا – هناك دائمًا، في كلِّ حالة تضاد، في كلِّ حالة نزاع، حد ثالث ث – "الثالث المشمول" le Tiers inclus – يساوي أ ونفي أ في الوقت نفسه، ولكن ليس على مستوى الواقع نفسه، بل على مستوى واقع أعلى.

اللاعنف هو الثالث المشمول الذي يستطيع أن يوفِّق بين الضدين، أن يحل التناقض بين أنا والآخر، وبين الجبن والعنف، لكن على مستوى واقع أعلى. وهذا يتم من خلال العمل اللاعنفي نفسه، سواء على صعيد النفس، من خلال حضور المسعى إلى الحقيقة في حياتنا (غاندي)، أو على صعيد العلاقات الإنسانية، من خلال الوساطة médiation (مثلاً، لا حصرًا) التي تحدثت عنها هيلين روسييه في مداخلتها عن الحل اللاعنفي للنزاع في المدرسة. هناك دومًا حد ثالث، طرف ثالث، يستطيع التوفيق بين الأضداد، لكنْ من خلال الارتقاء بمستوى الواقع.

في الديالكتيكا الهيغلية–الماركسية ينحل التناقض بين الطريحة thèse والنقيضة antithèse في جميعة synthèse تندرج في سيرورة الزمن، أي تتوالى حدودُها في التاريخ (تذكروا: "غدًا نحلق للزبائن مجانًا"!). لذا لا يمكن لنا أن نصر على البقاء على مستوى الواقع نفسه، ونتوقع أن ينحل الصراع من تلقاء ذاته، لا الآن ولا بعد ألف سنة! أما الديالكتيكا الجديدة فتقترح حل النزاع آنيًّا، وذلك باختيار وسائل من نوع الغاية ومن طبيعتها، في نوع من الاستباق لا يخضع لسيرورة الزمن أي للتاريخ. اللاعنف، بهذا المعنى، "لاتاريخي"، لا يندرج في "الزمن الخطي" le temps linéaire: ماضٍ–حاضر–مستقبل، بل يتحقق الآن. لحظة حل النزاع، في النفس كما في المجتمع، هي برهة لازمنية. والدليل على ما أقول هو ذاك الفرح الذي يغمرنا، الذي نشعر به ينهمر علينا كمطر روحي، حين نعانق الآخر، نضمه إلى صدرنا، ونستضيفه في قلبنا!

الدرس الذي يلقننا إياه اللاعنف، من خلال احترام الخصم، من خلال الشفافية معه، من خلال الرغبة في لقاء الآخر وهدايته إلى اللاعنف، أي إلى تحقيق إنسانيته (بالطبع، لا أقصد "هدايته" إلى دين أو إلى فكر بعينه، بل إقناعه بأن العنف المدمِّر هو شذوذ عن الإنسانية، هو إخفاق في تحقيق إنسانية الإنسان، بصرف النظر عن أية ذريعة تبرِّره) – هذا الدرس هو أن معالجة النزاع وحله لا يتمان إلا على مستوى واقع أعلى. لذا أرجو أن نعي أن ارتقاءنا بأنفسنا في نزاعنا الداخلي – وكل منا خَبِرَ حالة النزاع – لا يتم إلا عبر الارتقاء بهذا النزاع آنيًّا إلى سوية واقع أعلى، حتى نستطيع أن نموضع هذا الواقع الأعلى آنيًّا – في الحاضر الخلاق – على صعيد العلاقات الإنسانية. (ولنتذكر أن غالبية القرارات الحاسمة والفعالة التي اتخذها غاندي واللاعنفيون الكبار كانت بنات لحظتها في حضور نوع من الإلهام الداخلي، "الشاقولي"، اللاَّزمني، قد لا يكون ذا علاقة بمعطيات الواقع القائم "أفقيًّا"، أي تاريخيًّا.)

لا أرى أفق معابر مفتوحًا – لا أرى أيَّ أفق مفتوحًا – على رجاء اللاعنف إلا عبر التزام كلٍّ منَّا العمل بهذا المنطق الجديد، الذي قد يبدو بسيطًا للوهلة الأولى، لكنه متجذِّر في عمق الوجود الإنساني نفسه، الفردي والمجتمعي. لذلك أرجو من أخواتنا وإخوتنا المشاركين الذين يودون مواصلة هذا الطريق معنا، يدًا بيد، أن يطيلوا معي التفكر في هذه المسألة.

شكرًا لكم جميعًا، ولكلِّ واحد(ة) منكم على حدة، وإلى اللقاء في ورشات قادمة.

مرمريتا، 22 حزيران 2008، الجلسة الصباحية

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] جان ماري مولِّر، قاموس اللاعنف، معابر للنشر، دمشق/الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية، بيروت، 2007، بالإضافة إلى إستراتيجية العمل اللاعنفي، حركة حقوق الناس، بيروت، 1999.

[2] راجع: بسراب نيكولسكو، العبرمناهجية: بيان، بتقديم أدونيس، دار مكتبة إيزيس، دمشق، 2000، ص 33-42.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود