|
اللاَّعنف: المبادئ الفلسفيَّة 2
جان ماري مولِّر: العنف سمة الإنسان حصرًا. لماذا؟ لأن الإنسان وحده مسؤول، لأنه وحده عاقل وواع. وهو، إلى ذلك، إنسان حقوقي Homo juridicus: إنه في حاجة دائمة لأن يكون "على حق"، في نظر نفسه وفي نظر الآخرين أيضًا. الإنسان يسعى دائمًا في الاقتناع بقوله: "من حقي أن...". من هنا فإن الإنسان العنيف يقنع نفسه بأن "من حقِّه" أن يعنف بغيره، ولذلك يبتني لنفسه كمًّا من العقائد والمذاهب التي تسوغ العنف وتُشَرْعِنُه. الثقافة السائدة توفِّر لنا الكثير من الذرائع المبرِّرة للعنف، ولذلك يجب أن نقوم بقطيعة معها. نقول، عن طيب خاطر، بأن اللاعنف مفهوم جديد، لكنه ليس مفهومًا جديدًا أتى ليُضاف إلى ثقافتنا، بل مفهومٌ يُدخِل قطيعة مع ثقافتنا – ثقافة العنف. ومفهوم "القطيعة" rupture هذا مفهوم أساسي، لأن من الصعب أن "نقطع" rompre مع التقاليد التي ورثناها عن أسلافنا. يتردد الإنسان كثيرًا قبل أن يقطع مع التقليد الذي ورثه؛ فهذه القطيعة كثيرًا ما يُسيء فهمَها الأشخاصُ المحيطون بنا: ففي كثير من الأحيان، من شأن هذه القطيعة أن تجعل المحيطين بنا، المقرَّبين منَّا، ينبذوننا؛ وأحيانًا نُتَّهم بسبب من هذه القطيعة، نوصَم. ومع ذلك، أرى أنها جوهرية. تزداد الصعوبة حين تتعلق هذه القطيعة بإرث ديني. قد نتوسع في هذه الفكرة لاحقًا، لكني يجب أن أقول هنا إن ميراثنا الديني قد تشرَّب كثيرًا إيديولوجيا العنف. كثيرًا ما نُتَّهم بالقطع مع الدين، مع أن الأمر لا يعدو كونه إحداث قطيعة مع بعض تفسيرات الدين.
غاندي يستمع إلى شكاوى مسلمين إبان تصعيد غاندي قال إن اللاعنف يعبِّر عن حقيقة الإنسان، قال إن الحقيقة واللاعنف من ماهية واحدة. وهذا لا يقتصر على الصعيد الإيديولوجي: فاللاَّعنف ليس إيديولوجيا قطعًا، إنه ليس عقيدة؛ اللاعنف حكمة، أي أنه "فلسفة"، لأن الفلسفة philo-sophia هي "محبة الحكمة". ومع أنه [غاندي] يقول بأن اللاعنف هو حقيقة الإنسان، إلا أنه يسارع إلى القول بأن الإنسان لا يجوز له أن يزعم أنه يمتلك الحقيقة. الإنسان الذي يزعم أنه يمتلك الحقيقة إنسان خطر، لأنه سوف يدَّعي أنه مالكٌ الحقيقة؛ والإنسان، عندما يكون "مالكًا"، فإنه يريد أن يذود عن "ملكه"، وكثيرًا ما يستعمل العنف لكي يدافع عنه. إذا لم تكن الحقيقة مطلبًا جذريًّا من مقتضيات الفلسفة سيأتي، لا محالة، يومٌ أدافع فيه عن "فلسفتي" بالعنف؛ إذا لم يكن اللاعنف مطلبًا أساسيًّا من مقتضيات الدين – ديني بالأخص – لا بدَّ أن يأتي يوم أدافع فيه عن "ديني" بالعنف. لكن ثمة تناقضًا جذريًّا بين العنف والحقيقة: إذا اتفق لي أن أدافع عن الحقيقة بالعنف فقد نفيت الحقيقة من أساسها! الحقيقة ليس حقيقة عقائدية، مذهبية؛ إنها حقيقة وجودية، حقيقة علاقتي مع الآخر. وهنا تتماهى الحقيقة مع اللاعنف. سأورد لكم هذا المقبوس عن إريك ڤايل (أقول مرارًا إني "أغار" منه لأنه ابتكر هذه العبارة، وهذا يعني أني لن أستطيع أن أبتكرها!): "الوجه الآخر للحق ليس الباطل، بل العنف." فإذا فهمنا جوهر هذه العبارة نكون قد فهمنا كلَّ شيء! الباطل هو العنف، والباطل هو كل مذهب يبرِّر العنف. وبالتالي، فأن نكون في الحقيقة، أو أن نقوم بـالحقيقة، هو أن نرفض قطعًا كلَّ تواطؤ فكري مع العنف. فالعنف منتصر سلفًا عندما يفوز بالتواطؤ الفكري للبشر. وإريك ڤايل، على غرار غاندي، يقول: "اللاعنف هو مبدأ الفلسفة ومنتهاها." السؤال المطروح هنا هو حول إمكان دوام التوصل إلى حلٍّ لاعنفي للنزاع. غاندي هو أول مَن اعترف بأنه يتعذر علينا أن نحيا لاعنفًا مطلقًا. فاللاَّعنف "المطلق" هو، في النهاية، أشبه ما يكون بخط إقليدس المستقيم، أي أنه خارج الواقع. وهنا أورد عبارة هامة لغاندي: "في الحياة يستحيل أن نتجنب كلَّ عنف." لكن هناك سؤالاً يُطرَحُ عندئذٍ: ما هو الحد الذي لا يجوز تخطِّيه؟ لا يمكن للجواب أن يكون واحدًا عند الجميع. من هنا، إذا كان المبدأ واحدًا في الأساس، فكلٌّ يصنع منه تطبيقًا مختلفًا. قد يتفق لنا ذات يوم أن نوضع في موقف لا نستطيع فيه إلا أن نلجأ إلى العنف لكي نتجنب الأسوأ – وهذا ما يمكن لنا أن نسميه بـ"قانون الضرورة الأسود" la loi noire de la nécessité. قد يبدو لي العنف في لحظة ما "ضروريًّا". ومن هذا المنطلق، يجب أن نتحلَّى بواقعية كبيرة. مثال شائع جدًّا: إذا كنت أتنزه وزوجتي أو أختي أو أمي أو ابنتي، وجاء معتدٍ أثيم ليعتدي عليها... إحدى الحاضرات: لماذا امرأة حصرًا؟! جان ماري مولِّر: ... في الأسئلة التي تُطرَح عليَّ غالبًا ما تكون امرأة حصرًا! بالطبع، تستطيعين أن تصوغي المثال صياغة مذكرة. إذن، إذا كان المعتدي مسلحًا بسلاح ناري، فأغلب الظن أنني لن أستطيع أن أفعل شيئًا؛ أما إذا كان مسلحًا بمدية، وإذا كان من حسن حظي أني تعلمت أحد الفنون القتالية، كالآيكيدو aikido مثلاً، فربما أستطيع باستعمال يديَّ أن أحيِّد المعتدي. (والآيكيدو فن قتالي ياباني اخترعه محاربون قدماء ليتيح للياباني الصغير أن يجرد يابانيًّا كبيرًا من سلاحه ويعطل هجومه.) بذا أستطيع أن أحيِّد عدوانية المعتدي السيئة علي، ولعلي، إذ ذاك، أستطيع أن أكلِّمه كلام إنسان لإنسان. ما لم أتعلم الآيكيدو، وإذا اتفق لي أن أجد في طريقي رفشًا أو معولاً أو أية أداة حادة، فإني سوف أستعمل هذه الأداة وأضرب بها المعتدي. وإذا كنتُ أخرق فقد أؤذيه كثيرًا، وقد أصيب منه مقتلاً. (حتى لا يكون هناك أي لبس، قد يكون المعتدي امرأة!) بذا أكون قد أنقذت حياة جدتي، مثلاً، لكني قتلت إنسانًا – وفي أغلب الأحيان يكون هذا الرجل رجلاً تعسًا، رجلاً كان عاثر الحظ في الحياة، ولعله لم يكن يستحق أن يُقتَل، ربما كانت لا تزال فيه بقية من كرامة إنسانية. وفي المحصلة، فإن قتله سيبقى مأساة، شرًّا، مصيبة. أود هنا أن أسوق نصًّا لفرويد، أبي التحليل النفسي. في العام 1915، كان لفرويد ابنان اثنان مجندان في الجيش الألماني، وكان على وعي بمأساوية تلك الحرب الدموية بين الأشقاء وعبثيتها؛ كان يتخيل يومًا ينتصر فيه طرفٌ ما، وحينذاك يحتفل الجنود بالنصر، ويهتف للنصر أهالي البلد المنتصر. عندئذٍ تذكر فرويد ما قرأه من كتابات بعض الأنثروپولوجيين حول أفريقيا. تبيَّن لهؤلاء الأنثروپولوجيين أنه، في مجتمعات بعينها، عندما يعود الرجال من الحرب "منتصرين" بعد أن قتلوا أعداءهم ذودًا عن القبيلة أو العشيرة، لم يكن يُعاد دمجُهم فورًا في الجماعة، بل كانوا يقيمون عدة أيام في كوخ خارج المجموعة صائمين. وهكذا، بدلاً من أن تحتفل القبيلة بطقوس النصر كانت تحتفي لشعائر الحِداد؛ كانوا يعلنون الحِداد على الذين قتلوهم بأيديهم! وعندئذٍ تساءل فرويد، مقارنًا بين الذين يحتفلون بشعائر النصر وبين أولئك المحتفين لشعائر الحِداد، عمَّن هو "المتحضِّر" وعمن هو "البدائي"؟!
زيغموند فرويد (1856-1939). كل منكم يستطيع الإجابة عن هذا السؤال. فهذه ليست مجرد نكتة أو قصة عابرة! أظن أنه يجب، في مجتمعاتنا، عندما يبدو من الضروري قتلُ إنسان، أن يستطيع المجتمع ابتكار طقس حِداد. أي أنني في اللحظة التي لا أعرف فيها سبيلاً إلى غير العنف، لا بدَّ لي من أن أتذكر أن اللاعنف هو قانون إنسانيتي. وحتى أكون منسجمًا مع نفسي، حتى يكون منطقي متماسكًا، يجب أن أُبقي على التناقض، يجب أن أتذكر دومًا بأن الضرورة لا تساوي الشرعية. في جمهورية أفلاطون، ينبري أفلاطون لدحض السفسطائي الذي يخدع الناس عندما يصف الضروري بـ"الجميل" و"العادل"، لأنه لم يرَ، ولا يستطيع أن يبيِّن للبشر، إلى أي حدٍّ تختلف طبيعة الضرورة عن طبيعة الخير. وسيمون ڤايل، معلقةً على نصِّ أفلاطون، تقول: "هناك مسافة لانهائية بين جوهر الضروري وجوهر الخيِّر." حتى يكون الإنسان حرًّا يجب أن يخرج عن الضرورة. فإذا بررتُ العنف باسم الضرورة، جعلتُ العنف ضروريًّا حتمًا، فحبست المستقبل في ضرورة العنف. وإذا لم أستطع هذه المرة أن أتجنب العنف، يجب عليَّ في المرة المقبلة أن أفعل كلَّ ما في وسعي لتجنبه. نأتي الآن إلى عنصر جوهري جدًّا هو، في آنٍ معًا، فلسفي وإستراتيجي – وهو مسألة الغاية والوسيلة. الغاية التي نزعم أننا نسير إليها غاية "عادلة" دومًا! المذاهب التي تقول بالعنف المشروع هي التي تطلق عليه اسم "الدفاع المشروع عن النفس"، وذلك لأننا نعتبر دومًا أن "الآخر" هو الذي يعتدي علينا! إذا أخذنا، على سبيل المثال، طفلين يتعاركان في باحة المدرسة وسألناهما لماذا يتعاركان، سيشير كلٌّ منهما بسبابته إلى الآخر. ورؤساء الدول (الذين ليسوا، للمناسبة، إلا أطفالاً كبارًا!) يقولون الشيء ذاته. الكل يدافع عن نفسه! لذلك تساءل تولستوي: "إذا كان الجميع يدافع عن نفسه فمن أين يأتي الهجوم؟!"
ليڤ تولستوي (1828-1910). في عقائد "الدفاع المشروع عن النفس" كان يقال: حتى يكون العنف عادلاً يجب أن تكون القضية التي يدافع عنها عادلة. لكن هذا جعل جميع المعسكرات لا تفعل غير تبرير عنفها هي. القضية "العادلة" هي دومًا، بالتعريف، "قضيتي"؛ وبالتعريف، أيضًا، القضية غير العادلة هي دومًا قضية خصمي. آخذ مثالاً من أوروبا إبان الحرب العالمية الأولى بين ألمانيا وفرنسا: حسبنا أن نقرأ المواعظ التي كان يلقيها المطارنة الألمان والفرنسيين على الجنود الذاهبين إلى الجبهة حتى نجد الخطاب واحدًا (الإنترنت لم يكن موجودًا بعد، وكان من الصعب أن يرسلوا النصوص بعضهم لبعض!): جميعهم كانوا يقولون إنهم يدافعون عن "المدنية" ضد "الهمجية"! ماذا يقول السيد بوش اليوم؟ إنه يدافع عن "محور الخير" ضد "محور الشر"؛ والسيد بن لادن يقول الكلام نفسه أيضًا. يقول المثل: "الغاية تبرر الوسيلة." فماذا يعني هذا في سياقنا؟ يعني أن قضية عادلة تجعل من وسائل عنيفة وسائل عادلة. ولكن بما أن قضيتنا "عادلة" بالضرورة، فإننا نستطيع دومًا أن نبرِّر وسائل العنف. وهنا يتدخل غاندي، في تأكيد محوري – وهو تأكيد محوري في سائر فلسفات اللاعنف، ليس من الناحية الأخلاقية وحسب، بل ومن الناحية الواقعية أيضًا؛ أعاود التشديد على هذه النقطة: في اللاعنف هناك نوع من المصالحة بين الأخلاق والواقع. في عبارة أخرى، الوسائل العنيفة تجعل قضيةً، كانت عادلة أصلاً، قضيةً غير عادلة. والأمثلة عديدة جدًّا. وسائل العنف تحط من شأن أعدل القضايا. لاعنفيًّا، لكي أبلغ غاية عادلة يجب أن أستعمل وسائل عادلة أيضًا؛ يجب أن يكون هناك اتساق بين طبيعة الغاية وطبيعة الوسائل المتَّبعة للوصول إليها. هاكم ما قاله غاندي (وكان يخاطب أمريكيين جاؤوا إلى الهند لزيارته): إنكم لترتكبون خطأً فادحًا عندما تظنون أنه ليست هناك علاقة بين الغاية والوسيلة. فمنطقكم أشبه ما يكون بمنطق القائل إنك تستطيع أن تجني وردةً من زرع عشبة ضارة. يمكن للوسائل أن تقارَن بالبذرة والغاية بالشجرة. العلاقة بين الغاية والوسيلة مقايسة للعلاقة بين البذرة والشجرة. والمناضل اللاعنفي لانزا دِلْ ڤاستو Lanza del Vasto لخَّص مقولة غاندي بقوله: "الغايةُ كامنةٌ في الوسائل كمونَ الشجرة في البذرة." في عبارة أخرى، "ما تزرعه إياه تحصد" [بولس الرسول]. ما أريد أن أشدِّد عليه أنه في آناء العمل لا أسيطر إلا على الوسائل التي أستعملها، لستُ مسيطرًا على الغاية؛ فالغاية في المستقبل، في "الآتي" lʼà-venir.
لانزا دِلْ ڤاستو (1901-1981). في المذهب الشيوعي، مثلاً، كان القوم يَعِدون بالمجتمع المثالي، المجتمع من غير طبقات، حيث يزول كل عنف بين البشر، كل جور، كل ظلم؛ وكانت العقيدة تقول إنه يجوز استعمال العنف في الحاضر من أجل الإعداد للمستقبل. العنف يقرن الرجاء بالمستقبل. تعرفون قصة الحلاق الذي خطَّ لافتة فوق دكانه تقول: "غدًا أحلق للناس مجانًا"، لكنه كان ينسى تغيير اللافتة في اليوم التالي؛ أي أن الزبون يجب أن يدفع الفاتورة كلَّ يوم! والعنيف يكتب دومًا فوق دكانه: "غدًا أعدكم بالسلام"، "غدًا أعدكم بالأخوة"، لكنه صبيحة اليوم التالي، ينسى تغيير "لافتته". العنف يعدنا بأصباح مغرِّدة، لكنه في الواقع لا يقدم لنا غير أيام باكية! أما اللاعنف فيريد أن يقرن الرجاء إلى الحاضر. لذا فهو يريد، من الآن، أن يستعمل وسائل هي بداية الغاية. سنتناول الآن أفكارًا أخرى لغاندي، هي الأخرى جوهرية، منها الفكرة المتعلقة بالجبن والعنف واللاعنف. في إيديولوجيا العنف، نظل حبيسي منطق ثنوي dualiste: جبن/عنف. ولذلك كثيرًا ما نقرر أن نكون عنيفين حتى لا نوصَم بالجبن! يجب أن نتصف بالتواضع حتى نعترف بأننا، في كثير من الأحيان، نكون جبناء. نحن مصرون جدًّا على تبرير العنف، لكننا أقل إصرارًا بكثير على أخذ خطر العنف على عاتقنا. لذا يجب علينا أن ننتبه كثيرًا حتى لا نكون عنيفين "بالوكالة". نحن نمجِّد عنف الآخرين! أيام الحروب التحررية في أمريكا اللاتينية – "حروب العصابات" guerrillas – كان الكثير من الطلاب والطالبات يلبسون t-shirt عليه صورة تشي غيڤارا – "محارب العصابات" guerrillero الرائع. كان من السهل حضُّ فلاحي أمريكا اللاتينية على حمل السلاح، لكنهم عندما كانوا يحملون السلاح لم تكن النتيجة إلا المزيد من قمع السلطات القائمة. يؤسفني اليوم أن أرى في فرنسا ناشطين يشجعون الفلسطينيين على الإمعان في العنف، ويبدو لي أن من السهل جدًّا أن نشجع الآخرين على العنف عندما لا نخاطر نحن بالقيام له! إذن لدينا، أمام حالة ظلم، الخيار بين العنف والجبن: نختار العنف تارة، وطورًا نختار الجبن. سأورد نصًّا لغاندي أيضًا، يبقى، على طوله، هامًّا. كتب غاندي ما يلي في العام 1920: أقول إنه عندما لا يكون متاحًا لي الخيارُ إلا بين الجبن والعنف فإني أنصح بالعنف. [وبنظر غاندي، هذا ليس مبدأً مجردًا أو فلسفيًّا؛ إنه يتموضع في حالة الهنود الذين يواجهون الاستعمار البريطاني.] ولهذا أنصح للَّذين يقرون استعمال العنف أن يتعلَّموا استعمال السلاح. فأنا أفضل أن تلجأ الهند إلى السلاح دفاعًا عن شرفها بدلاً من أن تبقى، عن جبن، الشاهدة العاجزة على انتهاك شرفها. [...] يقول: عندما نكون مخيَّرين بين الجبن والعنف فقط، فخيرٌ لنا أن نختار العنف. لكن عبارة غاندي لا تتوقف هنا. أغلب الناس لا يريدون إلا هذا المقطع من عبارته، فينتزعونه من سياقه، حتى يقال، في النهاية، إن غاندي يبرِّر العنف، مثله مثل الجميع، فيما يُتناسى الجزء الثاني، الجوهري، ويُهمَل: [...] لكنني أعتقد بأن اللاعنف أرقى من العنف بما لا يقاس. إن الصفح أكثر إنسانية من القصاص. فاللاَّعنف قانون الإنسان، فيما العنف هو قانون البهيمة. الروح غافية في البهيمة، ولهذا لا تعرف إلا قانون العنف. كرامة الإنسان تقتضيه أن ينصاع لقانون أعلى، لقدرة الروح. [...] غاندي، إذن، يطرح علينا ثورة كوپرنيكية تنقلنا من منطق ثنوي – جبن/عنف – إلى منطق مثلث: جبن/عنف/لاعنف – وهذا يغير كلَّ شيء. غاندي يقدم لنا إمكانية ثالثة هي اللاعنف. ولا تساورنَّنا أوهامٌ فيما يتعلق بنوايا غاندي: فهو لا ينصح بالعنف للجبناء، بل ينصح باللاعنف للجبناء والعنيفين جميعًا، ويقول متابعًا: [...] أسهل على العنيف أن يصير غير عنيف من أن يصير الجبان غير عنيف، لأن العنيف قد يبدي أيضًا شجاعة كبيرة عندما يدافع عن قضية عادلة. لا أريد إطلاقًا أن أدين نوايا الذين يقرون استعمال العنف دفاعًا عن قضية عادلة، لا بل إنني لأبدي إعجابي بشجاعة أولئك الذين يأخذون على عاتقهم جسارة العنف. ولعلَّه ينبغي لي أن أتساءل حول فعالية العنف، ويجب عليَّ أن أتحاور مع العنيف حول هذه الفعالية، لكنني لن أحاكم نواياه، ولا أريد أبدًا أن أظهر بمظهر الواعظ. [...] وإذا واصلنا قراءة نص غاندي نجده يقول: "إن من شأن العنف ألا يسمح بتحرير الهند في النهاية." فهو، إذن، يعتقد أن اللاعنف وحده فعال. وبهذا نستطيع أن نخلص إلى القول بأن اللاعنف مفضل عنده على العنف. إذا كان اللاعنف مفضلاً وممكنًا، يجب علينا أن نفعل كلَّ ما من شأنه أن يجعله ممكنًا. ولعلنا نعتبر العنف "ضروريًّا" لأننا لم نحصل على التأهيل والتدريب اللازمين على اللاعنف. مأساة مجتمعنا هي أنه يسوغ تعليم الشباب استعمال أسلحة العنف. لذا فإن من واجبنا أن نقترح على أولادنا دراسة الحل اللاعنفي للنزاع؛ وبذا يكون بوسعهم أن يخبَروا فعالية الوسائل اللاعنفية. أنا ماضٍ الآن باتجاه خاتمتي... فلتطمئنوا! يقال – وهذا شائع – إننا، حتى نستطيع أن نحيا على وفاق مع الآخر، يجب أن "نحترم اختلافاتنا"، أن نحترم الاختلافات بين الثقافات. لعلنا يجب فعلاً أن نحترم اختلافاتنا. أظنها فكرة فيها شيء من الصحة؛ لكنني أراها أيضًا فكرة واهية، لأن العنف الذي يسيطر على الثقافات كلِّها يُظهِرُ تشابهات مرعبة! لذا، بدلاً من أن نحترم اختلافاتنا، أقول بالحري إننا يجب أن نرفض تشابهاتنا، وذلك لأن العنف هو الذي يجعل ثقافاتنا متشابهة إلى هذا الحد! إن كلاًّ منَّا، في ثقافته الخاصة، مدعو إلى تمييز مزدوج: على كلٍّ منا أن يميز، في ثقافته، أن يفرز منها، كلَّ ما يبرر العنف؛ فثقافاتنا قاطبة تأثرت بإيديولوجيا العنف. وانطلاقًا من هذا، يجب إحداث قطيعة مع كلِّ ما يبرِّر العنف أو يسوِّغه. على كلٍّ منا أن يقوم، في ثقافته، بفعلَي الفرز والقطيعة هذين. لكن ثمة تمييزًا آخر أساسيًّا: يجب أن نميِّز، في ثقافاتنا، أن نفرز منها، كلَّ ما يدعونا إلى احترام الآخر، كلَّ ما من شأنه أن يدعونا إلى الطيبة حيال الإنسان الآخر. في عبارة أخرى، حتى إذا كانت كلمة "لاعنف" غائبة عن ثقافاتنا جميعًا، فهناك دومًا "دعوات" إلى اللاعنف. فبعدما نفرز من ثقافاتنا كلَّ ما يدعو إلى اللاعنف يجب أن نُخلِص الوفاء لهذه الدعوات. إذن، هناك "قطيعة" rupture، من جهة، و"وفاء" fidélité، من جهة أخرى. وإذا قام كل منَّا، في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا والشرق الأوسط، بعملية الفرز المزدوجة هذه – هذا العمل المزدوج من القطيعة والوفاء – لا بدَّ لنا من أن نتلاقى، لا محالة، في "العالمي" lʼuniversel. ستكون القطيعة شديدة ومؤلمة، ولا ريب، لأنها قطيعة مع تقاليدنا، مع موروثنا؛ لكن الوفاء، في المآل، سيكون وفاء للموروث. في هذه المجابهة بين العالم الغربي والعالم العربي (التي كثيرًا ما تُختزَل إلى مجابهة بين المسيحية والإسلام)، إذا قام كلا الطرفين بهذا العمل المزدوج – قطيعة ووفاء – فسوف نبتكر، معًا، العالمي.
الأم تيريزا من كلكتا (1910-1997) خاشعة أمام ضريح غاندي. أود أن أختم بخاطرة جاءتني عفوًا وأنا في طريقي من القدس إلى بيت لحم: العنف لا يعرف سوى بناء الجدران وتقويض الجسور؛ أما اللاعنف فيدعونا إلى تفكيك الجدران وبناء الجسور. لكن المصيبة هي أنه أسهل علينا بكثير أن نبني جدارًا من أن نبني جسرًا. هندسة الجدران من أغبى ما يكون: حسبنا أن نتبع قانون الجاذبية؛ أما بناء جسر، فيتطلب التغلب على الجاذبية، ولهذا فإنه يتطلب مقدارًا لا يقاس من الفطنة والذكاء، ومقدارًا أكبر بكثير من الصبر والشجاعة. فالجدران ليست جدران البيتون التي تشوِّه الجغرافيا فقط، كجدار برلين سابقًا. (ولنتذكر بأن جدار برلين لم يسقط لأن أسلحة الدمار الشامل الغربية هي التي قوَّضته! ففي 9 تشرين الثاني 1989، كنا مبهورين ونحن نشاهد، آنيًّا، انهيار جدار برلين. جدار برلين انهار تحت ضربات النساء والرجال من المجتمعات المدنية في بلاد الكتلة الشرقية.) قبلئذٍ، حين كنا نقول بأن اللاعنف هو أوفر حظٍّ لبلدان أوروبا الشرقية للتحرر من النظام التوتاليتاري الشيوعي، لم نكن نؤخذ على مجمل الجد! كان يقال لنا إن غاندي أمره سهل، بالطبع، لأنه كان في مواجهة الـgentlemen البريطانيين، أولئك الـgentlemen البريطانيين الذين، بتهذيبهم الجم، اعترفوا بحقوق الهند – أما الـgentleman الحقيقي فكان غاندي! ويقال لنا أيضًا إن مارتن لوثر كنغ أمره سهل هو الآخر: فقد كان يعيش في أكثر الدول ديموقراطية في العالم – لكن الديموقراطي الحقيقي كان مارتن لوثر كنغ. ويقال لنا: "اذهبوا وبشِّروا باللاعنف في الدول الاشتراكية" – وكان النقاش يتوقف عند هذا الموقف المستهجِن أو المحتقِر. وذهبنا إلى البلدان الشيوعية... من جانبي، أتيحت لي مناسبة الذهاب إلى پولونيا، وهناك لم "أبشِّر باللاعنف"، بل التقيت نساءً ورجالاً أدركوا تمامًا أن حظَّهم الأوحد في الثورة هو اللجوء إلى اللاعنف. جدار برلين بالأمس، جدار إسرائيل اليوم، الجدار الذي يفصل المكسيك عن الولايات المتحدة، هذه الجدران المرتفعة في بغداد – كلها يجب أن يقوَّض. يجب، إذن، أن نعمل على بناء الجسور لكي يتاح للبشر أن يتلاقوا، أن يتعارفوا، ويبدءوا بفهم بعضهم بعضًا. والجدران ليست جدران الإسمنت المسلح وحسب، بل جدران الكراهية والحقد والاحتقار المشيدة في أذهاننا وقلوبنا. نحن مدعوون، إذن، إلى تقويض جدران البيتون كلها، وجدران سوء الفهم واللاتسامح والكراهية كلها. أخيرًا، أصل إلى آخر فكرة. لا أدري إذا كنتم تعلمون بأن الهيئة العامة للأمم المتحدة اتخذت يوم الثاني من تشرين الأول تاريخًا يُحتفى له "يومًا عالميًّا للاَّعنف". هذا التاريخ هو ذكرى مولد غاندي. بالطبع، خير أن نحتفي للولادات من أن نحتفي للوفيات! هذا العام [2008] أيضًا هو الذكرى الستون لوفاة غاندي الذي اغتيل في العام 1948، وهو أيضًا الذكرى الأربعون لوفاة مارتن لوثر كنغ الذي اغتيل في العام 1968. لن أقرأ عليكم قرار الأمم المتحدة بطوله، لكني سأقتبس منه عبارة واحدة: "الهيئة العامة تعيد التأكيد على السداد العالمي لمبدأ اللاعنف." من المذهل حقًّا أن يقوم ممثلو الدول في الأمم المتحدة بالإجماع على تأكيد عالمية مبدأ اللاعنف؛ وهذا يجعلنا نتساءل عن اللغة التي طُرِحَ بها النصُّ على الهيئة، وعما إذا كانت لغةً يعرفونها أصلاً! يبقى أن في حوزتنا الآن هذه المرجعية المؤسَّسية في الأمم المتحدة. لكني لا أحسبنا يجب أن نتكل كثيرًا على الدول لكي نحتفي لهذه الذكرى السنوية للاَّعنف، بل أظن أن على المواطنات والمواطنين أن يتكلوا على أنفسهم، وأظن أنه في تشرين المقبل في العراق سيُحتفى لأسبوع لاعنفي يبلغ أوجه بحلول الثاني من تشرين الأول، الذكرى السنوية لمولد غاندي. أشكركم على طيبتكم! مرمريتا، 20 حزيران، الجلسة المسائية * * *
|
|
|